شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج3 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج3 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج3 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الأول: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج1 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الثاني: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج2 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الرابع: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج4 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الخامس: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج5 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الفصل السابع
“الابن بالطبيعة هو النور، لذلك هو ليس مخلوقاً، بل من جوهر الله الآب، نور من نور”.
– “والحياة كانت نور الناس”:
بهذه الكلمات ايضاً، يرينا الانجيلي ان الابن هو بالطبيعة الله، ومن جوهر الآب ووارث لكل ما للآب الذي ولده من صلاح ذلك الآب. وبعد ان علم الانجيلي ان الابن بالطبيعة هو الحياة، وانه في كل الاشياء التي خلقها، ويحفظها، ويعطيها الحياة بقوته الفائقة فلا تنحل إلى العدم. فيتقدم الانجيلي ومن كل اتجاه يقودنا نحو الحق. فالكلمة في المخلوقات كحياة، ولكن حيث ان المخلوقات العاقلة على الأرض قد نالت العقل والمعرفة، ونالت الحكمة من الله، احتاج لابس الروح – يوحنا – ان يعلن للإنسان، ان الكلمة هو مانح الحكمة التي في الإنسان بل لكي نؤمن ايضاً، ان الله الآب هو ايضاً في كل شيء بالابن، فهو حياة لمن يحتاج إلى حياة، نور وحياة ايضاً لمن يحتاج إلى الحياة والنور، لذلك يقول الانجيلي: “والحياة كانت نور الناس” أي ان الله الكلمة الذي يحيي الكل، وهو الحياة التي في الكل، ينير الكائنات العاقلة، ويهب الفهم للذين نالوا عطية الفهم، لكي يظلوا في البقاء، حسب قوة الكلمات “واي شيء لك لم تأخذه” (1كورنثوس 4: 7). فليس هناك غنى خاص بالطبيعة المخلوقة، بل كل ما نراه فيها وكل ما يخصها، هو بكل يقين من الله، الذي يعطي الوجود ويحدد غاية الحياة.
وحسناً أضاف الانجيلي “كانت” إلى “الحياة” لكي يظهر بوضوح ان الكلمة أزلي، ولكي يقطع الطريق على كل التصورات الفاشلة التي تصدر عن عدم فهم، والتي تحاول ان تجعل الابن من ضمن المخلوقات، وهو ما يتعارض بوضوح مع الأسفار الإلهية كلها.
أما عن أزلية الكلمة مع الآب، فقد ذكرت ما فيه الكفاية في هذا الكتاب، وفي الكتاب المعروف باسم “الكنز”، ولذلك اكتفى بما ذكرت، ولكن الكلمات التي نحن بصددها (يوحنا 1: 4) تقدم لنا فرصة أعظم، لكي نفحص على قدر قوتنا معانيها، لكي نستفيد نحن ويستفيد من يقرأونها فيما بعد، والله هو الذي يفتح الأبواب والفم لكلماتنا.
ماذا سيقول المقاوم للمسيح، عندما يعلم ان “الحياة” الأزلية، أي الله الحي الأبدي الكلمة، هو نور الناس؟ ما هي الحجج التي سوف يرمينا بها، اذ تقدمنا وقلنا: إذا لم يكن الابن بالطبيعة الله، وهو من جوهر الآب الذي ولده، وإذا لم يكن قد اشرق علينا نوراً حقيقياً من نور حقيقي، بل انه مخلوق وخاضع حسب جهلكم، فانه يكون مساوياً في الطبيعة للمخلوقات ويكون بالضرورة مخلوقاً. فكيف اذن يا من امتلأتم من كل الغباء يكون منيراً وكيف ينالون استنارة منه؟ أفليس الذي ينير غير الذي يستنير؟، هذا واضح وجلي لكل وأحد. ولو قلنا ان الذي ينير والذي يستنير هما من الجوهر ذاته، فما هو الفرق بين الذي يملك قوة للانارة، والذي يحتاج للنور؟ فالأول يملك ان ينير، والثاني لأنه بلا استنارة يحتاج إلى ان يأخذ، اما إذا انعدم الفرق حسب تصور الهراطقة، واصبح الكل وأحداً، فما سيأتي من نور، سوف يأتي لكليهما ويوزع عليهما معاً، والمحتاج إلى النور سيكون نوراً، ولن يختلف النور عن الذي يستنير. عظيمة جداً هذه الفوضى وهذا الإضطراب في الأفكار. ان الحاجة إلى الفهم تحتم علينا ان نميز بين الطبائع. وان نضع كل شيء في مكانه ونعطي لكل اسمه الخاص به، فيصبح المانح غير الآخذ. هذا التمييز يجعلنا ندرك ان الابن ليس مساوياً في الطبيعة للاشياء المخلوقة، بل هو كائن في جوهر الآب، وهو نور حقيقي، من نور حقيقي.
وليس من الصعب علينا، ان نقدم نفس الأدلة التي قدمناها في الفصول السابقة، عندما كنا نشرح ان الابن هو الحياة، وانه ليس في عداد المخلوقات، ان نقدم أدلة مشابهة في هذا الفصل بالذات، لكي نؤكد انه النور، ولكن لكي لا نجعل مشقة العمل تقع على الآخرين، ولكي لا يظهر اننا خاضعون للكسل، سوف انقل نفس البراهين لكل ابرهن كما انه هو الحياة، هو ايضاً نور كل انسان، وهذا يعني انه غير الذين يستنيرون به.
“براهين على ان الابن الذي ينير، هو غير الخليقة التي تستنير”.
أولاً:
إذا كان الابن بالطبيعة هو النور. الذي يختلط بنا عندما يمنح الاشتراك للكائنات في النور، فهو غير الكائنات تماماً. واختلافه عن الكائنات يعني امكانية اشتراك الكائنات المخلوقة فيه لكي تستنير به. فكيف لا يكون في هذه الحالة هو الله الكائن على الكل” (رومية 9: 18).
ثانياً:
لو قال مقاوم الله ان الابن الذي هو بالطبيعة النور، موجود في المخلوقات كمخلوق، وانه ينير الذين يحتاجون إلى استنارة، فأول كل شيء سيعتبر الابن موجوداً في نفسه، ثم إلى جانب ذلك سيكون مشتركاً في نفسه وهو نور، وان كان موجوداً في الاشياء المخلوقة فانه سيعتبر هو هو نفسه وأحداً منها:
أما الذي يفتح قلبه للحكمة (مزمور 90: 12) سوف يرى كم هو غير معقول ان يفكر انسان على هذا النحو. لذلك ان كان الكلمة الذي ينير موجوداً في المخلوقات التي تشترك فيه، فلا يكون هو نفسه من بين المشتركين فيه والمستنيرين به ولذلك فهو آخر غيرهم. وان كان كذلك، فهو اذن ليس مخلوقاً، بل هو نور بالطبيعة وهو الله في الاشياء التي ينقصها النور.
ثالثاً:
إذا لم يكن الابن من جوهر الله الآب، بل مخلوقاً خاضعاً حسب رأيهم، فهو يكون اذن مبتدئاً ومخلوقاً، فكيف يكون اذن موجوداً في المخلوقات وينيرها؟ وماذا سنجده مميزاً الجوهر الإلهي بعد ذلك؟ وكيف يقول المرنم وهو يرى ان هذا شيء عجيب يستحق الإعجاب في ذلك الذي هو بالطبيعة الله “بنور نعاين النور” (مزمور 36: 9)، وإذا كان الابن كمخلوق ينير كل الاشياء المخلوقة، اذن الخليقة تنير نفسها، ولا تحتاج لنور الله خالقها. بل لا يوجد اذن في الله شيء يزيد على ما في الخليقة، بل ان عمل الخليقة ليس أقل من الله. وهذا غير معقول. اذن الابن غير مخلوق، بل بالحري الله، ولذلك فهو بالطبيعة النور مثله مثل الآب تماماً.
رابعاً:
إذا كان الابن هو نور الله الآب كما هو مكتوب: “بنورك نعاين النور” وايضاً “ارسل نورك وحقك” (مزمور 43: 3)، ومع ذلك يقال عنه انه مخلوق وجاء من العدم إلى الوجود، فعلى هذا القياس لا يوجد ما يمنع أي مخلوق جاء من العدم، ان يدعى نور الله الآب، وإذا كانت طبيعة المخلوقات تسمح بذلك، فان هذه الامكانيات ستصبح متاحة لكل المخلوقات، ولا يصبح النور هو خاصية الابن وحده، وهذا غير معقول. لأن الابن وحده هو الذي يليق به ان يدعى وان يكون نور الله الآب، اذن فهو ليس مخلوقاً، وانما هو النور، إله من إله، وهو الذي ينير كل الاشياء التي تحتاج إلى النور.
خامساً:
إذا كان الابن الذي هو بالطبيعة النور، ليس من جوهر الآب، بل هو من خارجه وخاضع له حسب الرأي الفاسد لمحاربي الله، فالنتيجة الحتمية هي ان يكون مساوياً للطبائع المخلوقة ويسقط من الجوهر الإلهي. فكيف يدعى النور ويكون هو النور؟ بينما قيل عن يوحنا المعمدان “لم يكن هو النور” (يوحنا 1: 8)، رغم ان يوحنا لديه امكانية ان يكون نوراً، وليس هو وحده بل كل المخلوقات إذا قبلنا رأي الهراطقة بأن الابن وهو مخلوق يمكن ان يكون بالطبيعة النور؟ لأن ما يعطي لطبيعة من الطبائع يصبح عاماً وملكاً لكل من يشترك في هذه الطبيعة حسب قانون الطبيعة. ولكن يوحنا لم يكن هو النور، بل الابن هو النور. اذن الابن بالطبيعة مختلف عن المخلوقات وليس مساوياً لها في الطبيعة.
سادساً:
إذا كان الابن الذي هو بالطبيعة النور، هو مبتدئ ومخلوق وليس له كيان جوهر الله الآب، كما يدعي البعض، فان الطبائع المخلوقة يمكن ان تكون وان نسميها نوراً، وتصبح كلها نوراً حسب القانون الخاص بالامكانيات. لأن كل من يملك في طبيعته ان يكون شيئاً ما، فاني افترض بالتأكيد ان يصير هكذا ولو فيما بعد. وحيث ان امكانية النور تصبح عامة لطبيعة كل الاشياء المخلوقة، وليس خاصة بأحد المخلوقات، فلماذا يتعب الابن نفسه ويصرح قائلاً “أنا هو النور”؟ لأنه كان من الأجدر به في هذه الحالة ان يقول “أنا معكم ومثلكم نور”. ولكن حيث انه هو وحده الذي ينفرد بذلك، ولا يوجد من يشاركه في هذا الصلاح الخاص به، فهو لا يضع ذاته مع المخلوقات، بل مع جوهر الله الآب، الذي يختص به وحده بالطبيعة فيكون هو بالحقيقة النور.
سابعاً:
الذي يشترك في النور، ليس في ذاته نوراً، لأنه من الواضح وجود اختلاف بين المصدر والآخذ. فإذا كان الابن هو المصدر الذي تشترك فيه الخليقة لتنال النور، فهو مختلف عن الآخرين الذين يأخذون منه النور وهم محتاجون للنور. لذلك فهو ليس مخلوقاً، ولا يحتاج للاستنارة مثل باقي المخلوقات بل هو الله الذي له قدرة الانارة، ولذلك علينا ان نعتقد انه نابع من جوهر الله الآب، لأننا نعبد إلهاً وأحداً ولا نخدم غير الإله الحقيقي.
ثامناً:
نحن نميز بكل دقة بين طبائع الاشياء، وليس لدينا سوى الله والخليقة. فكل ما لا يمكن ان يكون الله، هو بتمامه مخلوق، وكل ما لا ينطبق عليه خصائص المخلوقات، هو بكل تأكيد داخل دائرة الالوهية. فإذا اتفقنا على ذلك، فعليهم ان يقولوا لنا من الذي يمكنه ان يفصل الابن عن جوهر الله الآب، وكيف ينير الابن كنور، والنور خاص بالطبيعة الإلهية وحدها ولا تشترك فيه الكائنات الأخرى.
وإذا كان الابن مخلوقاً حسب ادعائهم، وهو النور، فان هذه النعمة الفائقة سوف تغمر كل المخلوقات، وتصبح كل المخلوقات بالطبيعة هي النور، فلماذا يحتاجون بعد ذلك إلى الاشتراك في الابن؟ او ماذا سيكسبون من هذا الاشتراك، بعد ان اصبحوا هم بالطبيعة نوراً، مثل الابن؟ ولكن الخليقة تحتاج إلى الذي ينيرها، اذ ليس لها نور من ذاتها. اذن فان الابن هو بالطبيعة الله، ولذلك فهو النور الذي يستطيع ان ينير الاشياء التي تحتاج للنور.
تاسعاً:
إذا كان الابن بالطبيعة “النور” فهو: اما مختلف تماماً عن المخلوقات في الطبيعة، او مساو لها. فإذا كان مثلنا وله ذات الطبيعة المخلوقة، فباطل اذن قوله لنا “جئت نوراً للعالم” (يوحنا 12: 4)، لأن الخليقة لها نورها الذاتي: ولكن النور لا يشترك في النور، وذلك لكي يفهم انه نور في ذاته.
أما إذا كان الابن مختلفاً عنا في الجوهر، والطبيعة تحتاج إلى النور الذي فيه “فأي شيء لك لم تأخذه؟” (1كورنثوس 4: 7)، فالابن بعيد عن ان يكون مخلوقاً، وبالتالي عدم الايمان به إلهاً سوف يحرم الطبيعة من صلاحه، إذا الخليقة ليست نوراً في ذاتها بل هي تحتاج إلى نور الابن وتشترك فيه.
عاشراً:
إذا كانت الاشياء لا تستطيع ان تشترك في نورها الذاتي (بفرض ان لها نورها الخاص)، والابن هو النور الذي تشترك فيه الخليقة. اذن الابن ليس مخلوقاً، ولا الخليقة هي نور، بل الابن فقط هو النور.
حادي عشر:
ان تستنير شيء وأن تنير شيء آخر، فهو عطاء وأخذ، الابن ينير، والخليقة تستنير، اذن فالابن والخليقة ليسا وأحداً، فالواحد يعطي والآخر يأخذ.
يوحنا 1: 5 – والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه (تعرفه):
يشرح لنا الإنجيلي بالتفصيل ما سبق وأعلنه. فهو لم يكتف بما قال، حتى لا يخطئ السامعون في معرفة الله الكلمة كنور حقيقي “ينير كل انسان” إذا توقف عند “والحياة كانت نور الناس” حتى لا يفترض أحد، ويقف معلناً ان الكلمة نور فقط، ولا يعطي نوره لأحد، بل الحق انه يعطي نور الإدراك لكل من يريد، بعد ان يمتحن استحقاقه لعطية الاستنارة الباهرة.
لقد افترض الهراطقة ان الخليقة العاقلة، اما انها تأخذ القدرة على الفهم من كيانها الذي تحمله البذرة الطبيعية، او ان يزرع الله الآب عقلاً وادراكاً فيها، كما لو كان الابن غير قادر على ان يفعل ذلك. ولكن لكي يظهر بجلاء ان الله الكلمة الذي في الله الآب هو حياة ونور ليس للبعض فقط دون غيرهم، بل بطريقة مشاركة تفوق الوصف، كحكمة وفهم (وهو ما يسمى نوراً في المخلوقات العاقلة)، عاقلة، والكائنات التي تقبل الحواس، يصير لها حس، وهو ما لم تكن تستطيع ان تحصل عليه بأية طريقة أخرى. ولهذا يقول الرسول “والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه”.
وكأن الرسول يصرخ بصوت عال محذراً سامعيه، ويقول يا سادة لقد علمتكم الحق بكل قوة وهو “الحياة كانت نور الناس” حتى لا يفترض الذين يظنون انفسهم صالحين انهم اخذوا حياة واستنارة من آخر، او نالوا ذلك كمكافأة على الحياة التي عاشوها، وانما لأن الكلمة هو الحياة، وكل الكائنات أخذت الحياة منه، فهو كذلك النور، وهو يعطي الذين ينالون الادراك، والذين ينالون الحس، كل منهم ما هو خاص به. لأن الله الآب بالابن في الروح القدس هو كل شيء لكل أحد.
“الظلمة” هي الطبيعة التي تحتاج إلى استنارة، اي الطبيعة المخلوقة، ولأنه سمى الكلمة النور، فقد أوضح ان الخليقة العاقلة التي تحتاج إلى الاستنارة. هي مختلفة تماماً عن الكلمة. وهنا يستعمل الاسم الثاني للطبيعة العاقلة المخلوقة اي الظلمة لكي يوضح الحقيقة الاساسية وهي ان يعلن ان الخليقة العاقلة بدون الطبيعة الإلهية هي ظلمة، فهي عاجزة عن ان تلد شيئاً من نفسها وبقدراتها. وهي تدعى ظلمة لأنها مختلفة عن النور. وطبقاً لما قيل “أي شيء لك لم تأخذه” (1كورنثوس 4: 7) هذه الطبيعة تنال من الله الاستنارة، دون ان يكون النور خاص بها من ذاتها وكل ما ليس من ذاته نوراً، كيف لا يكون العكس، او كيف لا يدعى “ظلمة”؟
“والنور يضيء في الظلمة” هو وصف معقول وضروري يوضح لنا الفرق بين الكلمة والخليقة العاقلة، فالكلمة وحده هو النور والخليقة هي ظلمة وعندما تقبل الطبيعة المخلوقة كلمة الله وتشترك فيه كنور، فانها ترى نفسها ظلمة، فالابن يشرق فيها اي يشرق مثل النور في الظلمة، ومع ذلك تظل الظلمة عاجزة عن ادراك النور، وهذا هو معنى الكلمات “والظلمة لم تدركه (تفهمه)”. فالكلمة يشرق على كل الاشياء القادرة على ان تستقبل اشعاعه وانارته، وينير – بدون استثناء – الاشياء التي لها طبيعة مستقبلة لانارته. ولكن الابن الكلمة غير معروف عند الظلمة، لأن المخلوق العاقل على الأرض – اي الإنسان – “عبد المخلوق دون الخالق” (رومية 1: 25)، انه لم يدرك النور، لأنه لم يعرف الخالق، ينبوع الحكمة، بدء الفهم، واصل كل حس. ومع ذلك، فإن الاشياء المخلوقة تنال النور، من محبته للبشر، وتزود بالقدرة على الإحساس التي تزرع فيها منذ خلقتها.
وهنا ندرك انه لا يوجد مجال بالمرة لأي فكرة من اي نوع او اي تصور بأن الابن مبتدئ او مخلوق، بل في كل شيء هو يفوق مقايسنا، ويعلو على طبيعة الخليقة وهو آخر تماماً غير المخلوقات وبعيد عنها كلية من نايحة نوع جوهره، مثل ارتفاع النور وسموه على الظلمة، وبما لا يسمح بالمقارنة، وبعد ان شرحنا وقدمنا البراهين الكافية الخاصة بهذا الجزء، علينا ان ننتقل إلى ما يليه:
يوحنا 1: 6-7 “كان انسان مرسل من الله اسمه يوحنا. هذا الإنسان جاء للشهادة لكي يشهد للنور”.
بعد ان قدم الانجيلي المبارك ما يكفي لإظهار ان كلمة الله هو بالطبيعة ابن الله الآب، يدعم ايمان السامعين بهذه الكلمات، وحسبما قال الله لموسى “على فم شاهدين او ثلاثة تقوم كل كلمة، (تثنية 19: 15)، يضم الانجيلي بحكمة شاهداً آخر اليه وهو يوحنا المعمدان، ويقدمه لنا شاهداً ثانياً معه، وشهادته مستحقة القبول، ولم يفترض الانجيلي ان عليه ان يقدم شهادته وحده، عن المخلص، رغم ان شهادة حقة، حتى لا يتعدى الناموس، وحتى لا يؤمن الناس بشهادته وحده فقط، خصوصاً وهو يعلن اموراً عاليه على الادراك، بل يضم معه يوحنا المعمدان.
ولذلك يشهد الانجيلي المبارك ان “في البدء كان الكلمة. والكلمة كان عند الله. وكان الله الكلمة. كان هذا في البدء عند الله”. وان “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” وانه هو “الحياة” بالنسبة لكل المخلوقات وان هذه “الحياة هي نور الناس” كل هذا لكي يعلن ان الابن بالطبيعة هو الله. ويضم الآن يوحنا المعمدان إلى شهادته صارخاً “أعدوا طريق الرب، اجعلوا الطرق التي تؤدي إلى الله مستقيمة” (اشعياء 40: 3). وبكل سهولة يمكننا ان نرى انه الإله الحق، الذي فيه كل سمو الربوبية وهو ما لا يمكن ان ينكره أحد لأن “لنا إله وأحد الآب، ورب وأحد يسوع المسيح” حسب شهادة بولس (1 كورنثوس 8: 6) ومع انه يوجد من يدعون “إلهة” بالنعمة، “وأرباب” في السموات وعلى الأرض، الا ان الابن الوحيد وحده مع الآب هو الإله الحق.
وما أجدر ان نسمع لهذين الشاهدين، ونعطيهما الثقة الكاملة في كل ما قالاه، فكلاهما نال ملء شهادة الناموس، ومشهور لهما بالنبل شخصياً. فالانجيلي لم يتكلم عن نفسه، ولا مدح ذاته، والا كان قد سمع “انت تشهد لذاتك، وشهادتك ليست حقاً” (يوحنا 8: 3). ولذلك يترك الحكم على ما قاله لمن يعرفونه، ولكنه يذهب لمن يحمل ذات الاسم، ليقول انه يؤكد كلامه، والذي يقول عنه انه “مرسل من الله”. ويليق بالانجيلي ان يخبرنا انه ليس من ذاته وبدافع من غيرته الذاتية يشهد يوحنا المعمدان عن المخلص، بل بطاعة الوصية التي من فوق، وخدمة لإرادة الآب الإلهية، وهذا معنى كلامه “كان انسان مرسل من الله اسمه يوحنا“.
لكن علينا ان نقرأ بدون سرعة، ونلاحظ دقة التعبيرات التي استخدمها الانجيلي في الكلام عن اختلاف الطبائع عند الكلام عن الله الكلمة. “كان” هو أفضل تعبير يناسب الكلام عن أزليته. وكيف هو قبل كل الكائنات، وبذلك قضى تماماً على كل رائحة الله الكلمة. “كان” هو أفضل تعبير يناسب الكلام عن ازليته، للكلام عن خلق الكلمة، لأن ما هو كائن دائماً، لا يمكن ان يكون مخلوقاً. اما عند الكلام عن المعمدان، رغم انه استخدم “كان”، الا انه ربطها بكل دقة بما جاء بعدها “انسان مرسل من الله”، اي له طبيعة مخلوقة، وهكذا يبدو لي ان الانجيلي لم يستخدم “كان” بنفس الشكل الذي استخدمها للكلام عن الكلمة، بل وضع معها “انسان” لكي يقضي تماماً على خرافات وادعاءات البعض.
فقد شاع كلام مستتر عند البعض بأن يوحنا المعمدان لم يكن حقيقة “انسان” بل وأحد من الملائكة القديسين في السماء، استخدم جسداً وأرسله الله لكي يعظ الناس. وهذه الخرافة تعتمد على عدم ادراك لما قاله الله “ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيء الطريق امامك” (متى 11: 10 – ملاخي 3: 1). وخطأ هؤلاء الذين ابتعدوا عن الحق هو عدم فهمهم لمعنى كلمة “ملاك” فهو يعني خادم او رسول، دون تحديد لحقيقة جوهر هذا الخادم، ونرى ذلك في تاريخ أيوب المبارك عندما وصله عدة “رسل” ([1]) وأحد بعد الآخر، لكي يبلغه خبر آلامه ومصائبه، وفي هذا الإطار نفسه يشرح بولس الحكيم حقيقة الملائكة “أليس جميعهم أرواح خادمة مرسلة لخدمة العتيدين ان يرثوا الخلاص” (عبرانيين 1: 14).
وإذا دعي يوحنا المعمدان بفم الرب “ملاكاً”، فهذا لا يعني تغيير في طبيعته، بل كخادم ورسول ارسله الله لكي يصرخ عالياً “أعدوا طريق الرب”، وإذا كان الرب قد وصف يوحنا المعمدان بأنه ملاك، فهذا لائق جداً، لأنه أراد ان يعلن لنا ان شهادته صادقة جداً، لأن الذي أرسله الله لكي يبشر، لن ينطق بأي شيء يختلف مع ارادة الذي أرسله، لأنه خاضع له، وصادقة هذه الشهادة لأن الله هو الذي علمها. وفي نفس الإطار يقول بولس الحكيم ان الذي ارسله هو يسوع المسيح (غلاطية 1: 1) مؤكداً انه لم يتعلم قوة السر من أحد بل “باعلان” (غلاطية 1: 12) من الذي أرسله، وبذلك حدد نوع الإعلان ومعناه بكلمات قليلة جداً اي ان يسوع المسيح هو الذي ارسله. وكل الذين يرسلون من الله هم الذين يتعلمون منه، هؤلاء احرار من الكذب، لأنهم لا يعرفون هدفاً سوى ان يكونوا خداماً للحق بلا شك.
يقول الانجيلي ان اسم الإنسان “يوحنا”، لكي يعرف الناس الاسم وهذا يعطي ثقة في الشهادة. ولذلك عندما جاء من يبشر زكريا اخبره باسمه جبرائيل الواقف في حضرة الله (لوقا 1: 19)، وهو ما جعل للبشارة المفرحة التي أخذها زكريا اي ميلاد يوحنا من اليصابات وقعاً خاصاً. فهنا يؤكد الانجيلي اسم يوحنا المعمدان ليس كشاهد فقط، بل كمن اخذ اسمه من الملاك حسب قصد الله فوق كل مديح؟ لذلك السبب كان من الضروري ان يضع اسم يوحنا المعمدان. ولأن الانجيلي قال ان المعمدان قد ارسله الله لكي “يشهد للكل” لكي يؤمن الكل بشهادته، فإننا سوف نواجه السؤال الذي يضعه المقاومون بغباء “لماذا لم يؤمن الكل بمن ارسله الله؟ كيف يمكن ان ينال انسان هذه المسئولية بارادة الله ويصبح عاجزاً عن ان يقنع أحد؟ من الصواب يا سادة ان لا نلوم يوحنا، على عجز، او نقص في غيرته، بل علينا ان نسأل عن عناد الذين لا يؤمنون. لأنه من الواضح ان المبشر، ورسالته كانا من فوق، وان الكل سمعه، وكان يجب ان لا يبقى أحد في عدم ايمان، ولكن لأن كل انسان له سلطان على ارادته الحرة فالبعض رفض الايمان ولم ينتفع. وعلينا ان نقول لهؤلاء ما قاله النبي “من يسمع فليسمع، ومن يحتمل فليحتمل” (حزقيال 3: 27).
هذا الإنسان جاء للشهادة، لكي يشهد للنور:
كلمة “هذا” مملوءة باعلان الفضيلة وكفاءة الإنسان. لأن الذي ارسل من الله، والذي ضرب كل اورشليم واليهودية بالخوف، وبحياته القاسية، وممارسته للفضيلة، وهو ايضاً الذي سبق فأخبر عنه صوت النبي اشعياء “صوت صارخ في البرية” (اشعياء 30: 4)، وفي داود يقول “هيأت سراجاً لمسيحي” (مزمور 132: 17 س). “هذا الإنسان جاء للشهادة لكي يشهد للنور”، وهو هنا يدعو الله الكلمة، النور، ويبين انه هو وحده النور الحقيقي بذاته والذي ليس هناك أحد آخر معه بالطبيعة له خاصية لادارة، وانه ليس محتاجاً للنور. فالكلمة ليس مخلوقاً، بل غريب تماماً عن طبيعة المخلوقات، فهو وحده النور الحقيقي، الذي تشترك فيه كل المخلوقات. وبذلك التعبير “هذا” يميز الانجيلي بين النور ومن يشهد للنور، فالنور لا يمكن ان يحسب في عداد المخلوقات، بل هو في دائرة اللاهوت ومملوء بالطبيعة الصالحة لذاك الذي ولده.
يوحنا 1: 8 لم يكن هو النور، بل ارسل لكي يشهد للنور:
فضل المعمدان ان يعيش في الصحراء بعيداً عن ترف المدن، وأعلن عن عزم ثابت في ممارسة الفضيلة، وارتقى إلى قمة البر الذي يمكن ان يصل اليه انسان، مما جعل البعض يندهش من اسلوب حياته بل ان البعض تخيلوا انه هو المسيح؟ وحقاً ارسل اليه رؤساء اليهود بعدما اندهشوا من تقدمه في الفضيلة، ليسألوه ان كان هو المسيح، ولم يجهل الانجيلي كل هذه الأمور، وبسبب هذا وضع عبارته “لم يكن هو النور” لكي يقتلع الخطأ، وفي نفس الوقت يعطي فرصة للثقة في ذاك الذي “ارسل من الله لكي يشهد”. ولأن يوحنا المعمدان سامي المقام، وعظيم المكانة، ومستحق للمديح، ذاك الذي لبس الفضيلة، وفاق كثيرين في البر، وتشبه بالمسيح وجمال تقواه المتميز، حتى تخيل البعض انه النور نفسه. ولذلك يقول الانجيلي “لم يكن هو النور” بل “ليشهد للنور”. وعندما قال “النور” وأضاف أداة التعريف ال فقط اعلن انه النور الواحد، وهو كذلك بكل حق. ومع ان المعمدان وباقي القديسين يمكن ان يقال انهم نور، وهذا لا ننكره، لأن المخلص نفسه قال عنهم “أنتم نور العالم” (متى 5: 14) وايضاً قيل عن يوحنا المعمدان لقد “اقمته سراجاً لمسيحي” (يوحنا 5: 35). ومع ان القديسين يقال عنهم انهم نور، ويوحنا سراج، فإننا لا نجهل النعمة التي نالوها من “النور”. لأن النور في السراج ليس من السراج، ولا نور القديسين هو من القديسين، بل باستنارة الحق، صاروا “أنواراً في العالم متمسكين بكلمة الحياة” (فيلبي 2: 15-16). وما هي الحياة التي يتمسكون بكلمتها والتي جعلتهم يوصفون بالنور؟ أليست بالحق هي الابن الوحيد الذي قال “أنا الحياة”. وحقاً وأحد هو النور الحقيقي، الذي ينير، ولا يستنير، والذي كل من يشترك فيه ويتشبه به يمكن ان يدعى نوراً.
الفصل الثامن
“ابن الله وحده هو النور والخلائق ليست هي النوربالمرة بل تشترك في النور كمخلوقة”.
يوحنا 1: 9 كان النور الحقيقي:
يجمع الانجيلي الإلهي كل ما قاله سابقاً، ويحدد بشكل آخر الحق الخاص بالنور، اي الابن الوحيد، ويفصل بينه وبين الخليقة، على نحو بارز، اي ما هو بالطبيعة – اي الحق – وما هو بالنعمة، بين المصدر الذي يشترك فيه الكل، والمشتركين فيه. بين الواهب والذي يعطي من عنده، والذين يأخذون من الغنى الوافر. كل هذا في عبارة وأحدة، “كان النور الحقيقي”. وإذا كان الابن هو النور الحقيقي، فليس آخر غيره هو النور حقاً، فلا يوجد من يملك امكانية ان يصبح النور، ولا تملك الكائنات ان تعطي من طبيعتها النور، لأنها خلقت من العدم، ولا تستطيع ان تجود بما لا تملك، ولا ان تتطور وتصبح النور. فمن كان أصله العدم، لا يملك ان يجود، وانما ينالون اشعة النور الحقيقي، الذي يشع فيهم عندما يشتركون في الطبيعة الإلهية (2 بطرس 1: 4)، وعندما يتشبهون بالطبيعة الإلهية يدعون نوراً ويصيرون نوراً.
فكلمة الله هو جوهرياً “النور”، وهو ليس كذلك من قبل النعمة بالمشاركة، ولا نال هذه المكانة عرضياً، ولا وهبت له كنعمة، وانما النور هو الصلاح غير المتغير للطبيعة غير المخلوقة، وهو ينطلق من الآب إلى وارث جوهره.
والمخلوق لا يستطيع ان يحتمل ان يصبح النور، وانما يقبل النور مثلما تقبل الظلمة الاشعة، او كما توهب النعمة، وهذه هي المكانة التي اعطاها الابن بسبب محتبه للإنسان. واذن فهو وحده النور الحقيقي، والباقين ليسوا كذلك. ولأن الفرق بين الابن والمخلوقات عظيم جداً، أصبح تمييز ابن الله عن الخليقة، عظيماً هو ايضاً، لأن الطبائع مختلفة. فكيف لا يتراجع الاغبياء، او بالحري الذين وضعوا أنفسهم خارج دائرة الادراك السليم، اولئك الذين قالوا انه مخلوق، وجعلوا خالق الكل مثل المخلوقات، دون ان يدركوا الكفر العظيم الذي وقعوا فيه ولا الخطر الرهيب المحدق بهم، لأنهم “لا يفهمون ما يقولون، ولا ما يقررونه” (1 تيموثاوس 1: 7).
والذين تدربوا على اختبار دقة الكلمات والحق الذي فيها، يعلمون ان الابن الوحيد لا يمكن ان يكون مخلوقاً، لأنه “النور الحقيقي”، وهذا لا يجعله مساوياً في طبيعته لأي مخلوق. وإذا تطلعنا إلى هذه الحقيقة من كل الزوايا المحيطة بها، يمكننا ان نرى الأفكار الخفية التي تدور حول أفكار هذه الحقيقة وهذا ما يجب ان نعرضه الآن.
مبادئ تعلمنا ان الابن وحده هو النور الحقيقي، ولا يمكن لأي مخلوق ان يكون النور الحقيقي، ولذلك فطبيعة الابن ليست مثل طبيعة المخلوقات:
أولاً:
إذا كان الابن هو بهاء (اشعاع) مجد الله الآب، ولذلك هو النور الحقيقي، فهو ليس من طبيعة مثل طبيعة المخلوقات، لئلا يصبح المخلوق هو ايضاً بهاء (اشعاع) مجد الله الآب، او لئلا يظن أحد ان المخلوق يمكن ان ينال هذه الامكانية مستقبلاً إذا كانت له طبيعة مماثلة لطبيعة الابن.
ثانياً:
لو كانت الخليقة كلها تملك القدرة على ان تكون النور الحقيقي، فلماذا يعطى هذا اللقب للابن وحده؟ لأنه يجب بسبب المساواة بين الخلائق ان ينال الكل لقب النور الحقيقي. ولكن لا يوجد بين الكائنات من هو مؤهل لذلك، والوحيد الذي يمكن ان ينسب اليه هذا هو جوهر الابن الوحيد، وبالحقيقة اذن ومن الصواب ان ينسب اليه وحده وليس للمخلوقات على الإطلاق. فكيف يقال انه مثل الخليقة في الطبيعة وليس بالحري ينتمي إلى ما هو فوق الخليقة، لكونه فوقها مع الآب.
ثالثاً:
إذا كانت المخلوقات التي جاء من العدم ليست هي النور، فان العكس ينطبق على النور الحقيقي غير المخلوق. والمناداة بأيهما يقود إلى نتائج مختلفة. فالابن هو النور الحقيقي، وهذا هو الحق، والمخلوقات ليست هي النور الحقيقي، لأن الاختلاف هو اختلاف الطبائع، وهذا يعني عدم وجود مماثلة.
رابعاً:
لو كان الابن الوحيد ليس وحده النور الحقيقي، بل تشاركه المخلوقات في هذا، فكيف “ينير لكل انسان”؟ فلو كانت المخلوقات تمتلك هذا، لما احتاجت إلى ان تستنير بالابن. وحقاً هو النور الذي يشترك فيه الكل، وهذا يعني ان جوهر الابن غير جوهر المخلوقات، لأن الذي يشترك ليس مثل الذي يشترك فيه.
خامساً:
إذا لم يكن الابن وحده هو النور الحقيقي بالطبيعة، بل كانت المخلوقات ايضاً لها هذا، الا يعد قولاً بلا لزوم ما جاء في المزمور “انظروا اليه واستنيروا” (مزمور 34: 5). فمن هو النور كلية بالحق، لا يمكن ان يصير نوراً بالمشاركة في آخر، ولا يمكن ان يستنير بانارة آخر، بل هو يتمتع بنقاوة كاملة من طبيعته الخاصة. ولكننا نرى ان الإنسان يحتاج إلى النور، لأنه مخلوق، وحقاً صرخ المرنم في المزامير بصوت عال إلى الله الكلمة “لأنك أنت تضيء سراجي، الرب إلهي ينير ظلمتي” (مز 18: 28). اذن نحن لسنا النور الحقيقي، وانما نحن بالحري مشتركون في الكلمة الذي ينير، وطبيعتنا غريبة عن النور الحقيقي، الذي هو الابن.
سادساً (مثله):
إذا كان عقل الإنسان يدعى سراجاً، وهو ما يشير اليه المزمور “انت تضيء سراجي” فكيف يقال عنا اننا نحن النور الحقيقي؟ لأن السراج يحصل على نوره من مصدر آخر. أما إذا كان الابن الوحيد وحده هو الذي ينير الظلمة التي فينا، فهو النور الحقيقي، اما نحن فلسنا بالمرة النور الحقيقي. وإذا كان الأمر غير ذلك فكيف تكون طبيعة الابن مثل المخلوقات، وهو الذي يفوقها بغير قياس؟!
سابعاً:
إذا كانت الخليقة تملك ان تكون النور الحقيقي مثل الابن، فالإنسان يصبح النور الحقيقي اذ هو جزء منها. فإلى من يوجه الله الآب كلامه وهو يعد الانبياء القديسين قائلاً: “ولكم ايها المتقون اسمي تشرق شمس البر” (ملاخي 4: 2)؟ فلماذا يحتاجون إلى نور الابن لو كان البشر هم حقاً النور بذواتهم. لكن الله الآب وعد ان يعطينا هذا النور، نحن المحتاجين لهذا، ونحن قد قبلناه واستنارت عقولنا، فالابن ليس مثلنا ومثل الخليقة له طبيعة مخلوقة، بل هو في جوهره الابن الوحيد، اذ هو النور الحقيقي الذي ينير كل من يحتاج للنور.
ثامناً:
لو لم يكن الابن وحده هو النور الحقيقي، وكانت الخلائق تشترك معه في هذه الصفة ايضاً، فان هذا ينطبق علينا نحن ايضاً، فلماذا صرخ القديسون بصوت عال طالبين من الله “أرسل نورك وحقك” (مزمور 43: 3). ولماذا فكروا ان يطلبوا هذه المعونة لنا بهذه الكلمات؟ لأنهم ان كانوا قد عرفوا ان الإنسان يحتاج إلى النور، وان عليه ان يطلبه من آخر، فأي وأحد يستطيع ان يقول انه هو ايضاً النور الحقيقي؟ ولكن ان كان الإنسان غير محتاج إلى الكلمة الذي ينير، فلأي غرض يطلب منه القديسون ان ينيرهم ان كان لا يستطيع ان يساعدهم؟
ولا يستطيع أحد ان يقول ان عقل القديسين لم يعرف الحق او ان الله الآب ارسل ابنه النور الحقيقي لمن لا يحتاجون إلى النور.
اذن الابن الوحيد مختلف بالطبيعة عن المخلوقات، اذ هو النور الذي يضيء الذين بلا نور.
تاسعاً:
إذا قلنا ان المخلوقات ينقصها النور، وان الابن الوحيد هو الذي ينيرها. فالمخلوقات لا تجد النور في ذاتها، اذن هي ليست النور الحقيقي مثل الابن.
عاشراً:
إذا كان من هو بالطبيعة وبالحقيقة النور، وليس فيه ظلمة البتة، والابن الوحيد هو النور الحقيقي، وبالمثل كانت المخلوقات هي النور الحقيقي فلماذا يقول الكتاب عن الابن “والظلمة لم تدركه” بينما يقول بولس عن البشر “الذين فيهم إله هذا العالم قد أعمى اذهان غير المؤمنين” (2كورنثوس 4: 4) والمخلص نفسه يقول “سيروا في النور ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام” (يوحنا 12: 35). فواضح اذن للكل انه ما دام البعض يمكن ان تدركه الظلمة ما كان المخلص قد أشار إلى ذلك. فكيف يكون الابن الوحيد والمخلوقات، اذن، من ذات الطبيعة؟ وكيف يكون غير المتغير مع المتغير، والذي لا يقبل اي تبديل مع الذين يمكن ان تدركهم الظلمة ويحتاجون لنوال النور الذي ينالونه كعطية وليس نابعاً من طبيعتهم.
حادي عشر:
إذا لم يكن الابن الوحيد هو وحده النور الحقيقي بل المخلوقات ايضاً، كمساوية له في الطبيعة، فكيف نصرخ نحن لله الآب قائلين “بنورك يارب نعاين النور” فلو كنا نحن النور الحقيقي، فكيف نستنير من آخر؟ ولكن ان كنا نحتاج إلى النور من آخر، فنحن بكل وضوح لسنا النور الحقيقي. لذلك ليس لنا طبيعة مثل طبيعة الكلمة لأنه بالطبيعة هو يفوقنا بغير قياس.
ثاني عشر:
يقول ربنا يسوع المسيح في الانجيل “وهذه هي الدينونة، ان النور جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة، لأن كل من يفعل الشر يبغض النور، ولا يأتي إلى النور” (يوحنا 3: 19-20) ولكن إذا كان الابن الوحيد هو النور الحقيقي، والمخلوقات قادرة بالمثل على ان تكون النور الحقيقي، فكيف جاء هو لكي ينيرها، وقد أحبت الظلمة؟ فكيف تأتي الخليقة إلى النور ان كانت هي النور الحقيقي. لأن كل ما هو من الطبيعة ونابع منها هو ملك لها، اما الاشياء التي تختارها الارادة فهي ليست اصلاً ملكاً لها، وكمثال على ذلك ليس بالإرادة الذاتية يستطيع الإنسان ان يصبح انساناً عاقلاً، لأنه يكون له ذلك بالطبيعة، ولكن من يكون انساناً يمكنه بارادته الخاصة ان يكون صالحاً او شريراً، فالإرادة قادرة على ان تجعل الإنسان يحب الصلاح او العكس. فإذا كانت المخلوقات هي النور بطبيعتها، لأن هذا هو معنى “الحقيقي”، فكيف لا تأتي إلى النور؟ وكيف تحب الظلمة؟ فواضح انها بطبيعتها ليست النور الحقيقي، بل تصير نوراً باختيارها ان كانت تميل إلى النور او العكس برفضها للنور.
فعلى المقاومين لنا ان يختاروا بين قولين! أما ان الخصائص التي تفوق الخلائق ليست كائنة طبيعياً في الابن، وهذا تجديف علني، يقول عنه الكتاب “الرب يستأصل الشفاة الكاذبة واللسان الناطق بالعظائم” (مزمور 12: 3) او ان اعترفوا يقيناً بأن خصائص الصلاح التي في الابن هي نابعة من جوهره، فعليهم ان لا يجعلوه وأحداً مع الخليقة او مثل الخليقة في الطبيعة، كما شرحنا.
ثالث عشر:
لو كان كلمة الله ليس وحده النور الحقيقي، بل تملك الخليقة ايضاً ان تكون النور الحقيقي مثله، فلماذا يقول هو “أنا هو نور العالم؟” (يوحنا 8: 12) او كيف نحتمل ان يسلب أحد منا أسمى امتيازات طبيعتنا، ان كان ممكناً – بأية طريقة – ان نكون نحن ايضاً “النور الحقيقي”، اذ تملك الطبيعة المخلوقة هذا ايضاً؟ ولكن ان قال الابن الوحيد حقاً “أنا هو نور العالم”، يكون واضحاً انه بواسطة الاشتراك فيه تكون الخليقة نوراً – وليس غير ذلك. وإذا صح ذلك، فالخليقة ليست من ذات طبيعته.
رابع عشر:
إذا لم يكن الابن وحده بالحق هو النور، بل هذا يخص الاشياء المخلوقة ايضاً، فماذا نقول عما كتب عنا “ولكنكم أنتم جنس مختار، كهنوت ملوكي. أمة مقدسة، شعب مختار، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بطرس 2: 9). فما هي الظلمة التي فينا، أو ما هي الظلمة التي كنا فيها، ان كنا نحن بالحقيقة النور؟ وكيف دعينا إلى النور ونحن لم نكن في الظلمة؟ ولكن المبشر بالحق لم يكن يخبرنا بالكذب لأنه كان صريحاً في قوله “هل أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم في” (2 كورنثوس 13: 3). فنحن قد دعينا من الظلمة إلى نوره العجيب. وإذا كان هذا حقاً، فالمخلوق ليس حقاً هو النور، بل الابن وحده بالحقيقة وبالضبط هو النور، اما المخلوقات فهي تصير نوراً باشتراكها فيه، ولذلك فهي ليست من ذات طبيعته.
“مختارات من الأسفار المقدسة، تجمع القراء ببساطتها إلى الاعتراف بأن ابن الله وحده هو النور الحقيقي، وان الطبائع المخلوقة تستنير بواسطته، دون ان تكون هي النور جوهرياً مثل الابن”.
اولاً:
يقول المرنم “قد أضاء علينا نور وجهك يا رب” (مزمور 4: 6س)، فما هو نور وجه الآب الذي اضاء علينا اليس هو بكل يقين الابن الوحيد، ابن الله، رسم جوهر الآب ولذلك هو يقول “الذي رآني فقد رأى الآب” (يوحنا 14: 9)؟ وقد أضاء علينا، لأنه جعلنا مثله، فقد حفر انارته التي هي بواسطة روحه الخاص كصورة إلهية على الذين يؤمنون به، لكي يدعوا الآن مثله إلهة وابناء الله. لكن لو كانت المخلوقات هي النور الحقيقي، فكيف اضاء النور علينا؟ لأن “النور يضيء في الظلمة” (يو 1: 5) حسب صوت لابس الروح الذي لا يكذب. اذ كيف يظهر النور في وسط النور؟
ثانياً:
يقول المرنم “نور أشرق للصديقين” (مزمور 97: 11) فإذا كان الصديقون في ذواتهم نوراً ولا ينقصهم النور فهو قول زائد بلا لزوم. ولكن إذا كان النور يشرق على من ليس فيه نور، فالابن الوحيد وحده هو النور، والمخلوق يشترك فيه، ولذلك فالمخلوق غريب عنه بالطبيعة.
ثالثاً:
يقول المرنم “لأنهم اخذوا ارضاً لم تكن ملكاً لهم ولم يأخذوها بالسيف، ولم تخلصهم ذراعهم، وانما يدك اليمنى وذراعك ونور وجهك”. فنور وجه الآب هنا هو اعلانه عن ذاته بالابن في الروح القدس، وتدبيره الذي حققه عندما خلص اسرائيل وحررهم من عبودية المصريين. فإذا لم يكن الابن الوحيد وحده هو النور الحقيقي بل يشاركه اي مخلوق في هذا، فلماذا لم يخلص اولئك بالنور الذي فيهم بل احتاجوا إلى النور الذي يأتيهم من مصدر آخر؟ ولكن من الواضح ان الابن الوحيد أشرق بنوره على كل المخلوقات التي تحتاج إلى النور، فهو وحده النور الحقيقي الذي تأخذ منه كل المخلوقات كنعمة منه، فإذا صح ذلك فكيف تكون المخلوقات مساوية للابن في الطبيعة.
رابعاً:
يقول المرنم “طوبى للشعب العارفين هتاف الفرح، بنور وجهك يسلكون يارب” (مز 89: 15). فلماذا لا يسير هؤلاء بنورهم؟ لماذا يطلبون النور من آخر؟ وكيف لا يخلصون الا بنور من آخر هو نور وجه الله الآب اي الابن؟ وهذا واضح جداً ان الكلمة هو الذي يعطي الاستنارة لكل المخلوقات لأن الكل يحتاج إلى الاستنارة، وكل المخلوقات تخلص بنوال ما ليس لها. فكيف يمكن اعتبار الابن الوحيد والاشياء المخلوقة بواسطته جميعاً من نفس الجوهر؟
خامساً:
يقول المرنم “نور أشرق في الظلمة للأبرار” (مز 112: 4). فكيف يقول ان الابرار في الظلمة اذ هو النور الحقيقي ان كانت طبيعة المخلوقات تملك نفس النور مثل الابن الوحيد؟ ولكن إذا كان النور قد أشرق للأبرار لأنهم يحتاجون اليه فلسنا نحتاج إلى كلمات كثيرة. لأن طبيعة الاشياء المخلوقة ذاتها تصرخ عالياً معلنة انها ليس لها ذات الجوهر الكامل الذي له، وان المعطي بسخاء ليس من نفس جوهر الاشياء المحتاجة للعطاء.
سادساً:
“قومي قومي يا اورشليم لأن نورك قد جاء ومجد الرب قد أشرق عليك” (اش 60: 1) إذا كانت طبيعة الاشياء المخلوقة لها النور من ذاتها وهو ما يخص الابن الوحيد كنور حقيقي فلماذا احتاجت اورشليم إلى النور؟ ولكن حيث انها اخذت الاستنارة كنعمة، فالابن الوحيد الذي يشرق عليها ويعطيها ما ليس فيها هو وحده النور الحقيقي. فهو ليس من ذات الطبيعة لأن الذي يمنح اورشليم لا يمكن ان يكون كأورشليم.
سابعاً:
“ها أنا اجعلك عهداً مع الشعب، ونوراً للأمم” (اش 42: 6). فكيف يحتاج المخلوق العاقل على الأرض إلى نور لو كان النور الحقيقي من كيانه الطبيعي؟ لأن الله الآب يعطي ابنه كالنور الحقيقي للمخلوقات. لأن هذا النور ليس من طبيعة المخلوقات التي اذ تنإله تعلن بذلك عن فقر طبيعتها وعن غنى كرامة ذاك الذي ينيرها.
ثامناً:
“يا بيت يعقوب، تعال لنسير في نور الرب” (اش 2: 5)، فلماذا يسير هؤلاء في نور الرب وليس في نورهم، ولكن أليس الابن الوحيد هو الذي يشرق عليهم ويزرع فيهم صلاح جوهره؟ لأنهم لا يملكون شيئاً.
تاسعاً:
يقول المخلص “أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة” (يو 8: 12). فمن المخلوقات يمكنه ان ينطق بمثل هذا دليلاً على انه ولا وأحد منهم هو النور الحقيقي وعلينا الاعتراف بأن الابن هو النور الحقيقي.
عاشراً:
يقول الرب: “ما دام لكم النور آمنوا بالنور لكي تصيروا ابناء النور” (يو 12: 36). ألا يفقد هؤلاء النور إذا لم يؤمنوا بالنور، ان كان ممكناً – بأية طريقة – للجوهر المخلوق ان يكون النور الحقيقي؟ وكيف يكون النور من طبيعة المخلوقات؟ ولكن حيث انهم ينالونه من آخر، فمن الممكن ان يفقدوه بالتكاسل. وطالما ان الارادة هي التي تعمل لكي تناله، فانه يمكن ان يستنير المخلوق ويمكن ان يفقد النور دون ان يتلاشى. مثلما يحدث في حالة انسان عاقل يعمل في بناء السفن، اتقن هذه الصناعة بإرادته، إذا اصيب بعارض في جسده فهو لا يفقد طبيعته العاقلة ولكن قد يفقد قدرته على بناء السفن، ولكن إذا استطاع ان يحصل على علاج وان يدفع عنه هذا العارض بواسطة الادوية امكنه ان يعود مرة ثانية لبناء السفن. وهذا يعني ان الاشياء التي هي من جوهره تظل فيه على الدوام، أما ما يتعلمه المخلوق فيمكن لأسباب كثيرة ان يفقده. وقياساً على ذلك لو كان النور من وبيعة المخلوقات وجوهرها، فكيف يفقد الذين لا يؤمنون النور، او كيف يصبح الذين يؤمنون ابناء النور؟ لو كانوا بالطبيعة، النور، لصاروا ابناء لذواتهم اي النور الذي فيهم. وماذا تكون مكافأة الذين يؤمنون لأن الذين لا يؤمنون يظلون ايضاً ابناء لذواتهم. من هذا الاعتبار يمكننا ان ندرك الحق ونقول ان الابن الوحيد وحده هو النور الحقيقي والمخلوقات تحتاج إلى النور لأنها من طبيعة مختلفة عنه.
حادي عشر:
قال يسوع: “النور معكم زماناً قليلاً فسيروا في النور ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام” (يو 12: 35). وهذا القول بالذات يمكننا ان نصيغه بنفس صياغة البرهان السابق، لأن الذي هو النور بطبيعته لا يمكن ان تدركه الظلمة.
ثاني عشر:
يقول يوحنا “الذي يقول انه في النور وهو يبغض اخاه فهو في الظلمة” (1يو 2: 9). اذن النور فينا بإرادتنا الحرة. فهو بالإرادة وليس بالجوهر حاضر في الاشياء المخلوقة. ولذلك كل من يكره اخاه هو في الظلمة. فالابن الوحيد هو بالطبيعة النور، وليس النور فيه بإرادته وكثمرة لحرية الاختيار. لذلك هو ليس من ذات الطبيعة المخلوقة بل هو فوق الكل بغير قياس.
ثالث عشر:
قيل “من يحب أخاه يثبت في النور” (1يو 2: 10) اذن المحبة تعطي المخلوقات ما ليس فيها اي النور، اما الابن الوحيد فهو النور لذلك فهو ليس مثل الآخرين الذين هو فيهم بالمحبة.
([1]) باليونانية Angeloi اي ملائكة او رسل.