شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج2 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الأول: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج1 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الثالث: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج3 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الرابع: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج4 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الخامس: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج5 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الفصل الرابع
ضد الأنوميين الذين يقولون ان الكلمة الطبيعي في الله الآب هو غير الذي يدعى الابن في الأسفار المقدسة (تعليم أصحاب بدعة أونوميوس).
2- “هذا كان في البدء عند الله”:
هنا لخص الانجيلي كل ما قاله سابقاً، ولكن عندما أضاف لفظة “هذا” فقد كان يصرخ عالياً، الذي كان في البدء الكلمة مع الآب، الإله من الإله، هو وليس آخر، والذي عنه نكتب هذا الكتاب. ولم يكن بلا معنى ان يضيف: “هذا كان في البدء عند الله”. فهو الذي استنار بالروح الإلهي وعرف ما سيحدث في المستقبل. ولم يكن الانجيلي يجهل، ان بعض الهالكين سوف يقعون في فخاخ الشيطان “وينحدرون إلى أعماق الهاوية”. (أمثال 7: 27) وسوف يقتنصون غير العارفين الذين سوف يصغون إلى ما يخرج من قلبهم الشرير. هؤلاء سوف يقومون ويعصون رأسهم المسيح، قائلين ان الكلمة الذي في الله الآب هو وأحد، وان هناك آخر مثل الكلمة الذي في الآب، هذا هو الابن والكلمة الذي بواسطته يعمل الآب كل الاشياء، لكي يعرف انه كلمة الكلمة، وصورة الصورة واشعاع الاشعاع.
وكأن الانجيلي المبارك قد سمع تجاديف هؤلاء، فتحرك لكي يمحو غباوتهم وكتاباتهم، فحدد أكثر من مرة ان الكلمة وأحد، هو وحده من الله الآب، وفي الله ومع الله، ولذلك لخص كل ما قاله في هذا الصدد بجملة خاطفة سريعة مثل غمضة العين.
“هذا كان في البدء عند الله”، اي الابن، الذي هو، مع الآب، والمولود من جوهره، فالابن الوحيد هو الذي يشار اليه بكلمة “هذا”.
وانني اعتقد انه يلزم لنا ان نفضح كفر وتجاديف هؤلاء، من أجل أقصى سلامة ممكنة للبسطاء، (لكي يبتعد من يعلم ضلال هذه الهرطقة كما يبتعد الإنسان عن حية في طريقه). ولذلك سوف أناقش هرطقتهم بطريقة خاصة. فسوف نرد على ضلالهم بشكل منظم، حسب الحكمة التي يعطينا الله اياها من فوق.
رأي أنوميوس في ابن الله:
يقول عن الابن الوحيد، انه ليس “الكلمة” بل هو كلمة من الله الاب يخدمه وهو معه. أما الابن الذي يقال انه مولود من الآب فهو الذي يقبل هذه الكلمة. والابن المولود هذا يعرف كل الاشياء من تعلمه اياها. وبسبب مشابهته للكلمة يدعى “كلمة”.
ولكي يؤيد تجديفه، ينسج بعض أفكاره المتناقضة لكي يتم فيه القول عن الشرير انه يعلق بحبل خطاياه (أم 5: 22)، فيقول انه “لو كان الابن نفسه هو الكلمة من الله الآب الذي هو وأحد في الجوهر مع الذي ولده، فلماذا لا يدعى الآب ايضاً “كلمة” طالما انه وأحد مع الكلمة في الجوهر”. وايضاً “لو فاليهود لم يسمعوا كلمته بل كلمة الله الآب، فكيف لا يكون كلمة قال الآب له “أنت ابني انا اليوم ولدتك” (مز 2: 7)؟ فمن الواضح ان الآب لا يستطيع ان يتكلم معه بدون كلمة، لأن كل ما يقال انما يقال بكلمة وليس بطريق آخر. والمخلص نفسه يؤكد ذلك بقوله “أنا اعرف الآب وأحفظ قوله (كلمته) (يو 8: 55). وايضاً “الكلمة التي تسمعونها ليست لي بل للآب الذي أرسلني (يو 14: 24). كل هذا يؤكد ان الآب عندما يتكلم معه فهو يتكلم معه بكلمة. وها هو نفسه يعترف بذلك. فوأحد يحفظ كلمة الله والآخر هو كلمة الله الذي يتكلم به الآب. فاليهود لم يسمعوا كلمته بل كلمة الله الآب، فكيف لا يكون لدينا يقين بأن الابن ليس هو الكلمة التي تولد في العقل، ومن كل هذا يظهر لنا ان الادعاء بأن الابن هو الكلمة هو أمر مضاد للعقل، لأن الكلمة انما تعبر عن جوهر الآب، بينما الابن ليس كذلك”.
هذا هو المرض الخطير الذي أصاب هذا الإنسان الاحمق “انوميوس” ورغم وضوح الأسفار الإلهية، الا ان هذا الوضوح لا يجعله يخجل من نفسه، لأن الإنسان الشرير عندما يصل إلى أعماق الشر يصاب بخيبة أمل ويحتقر نفسه (أم 18: 3). وحقاً فإن هذا الإنسان المقاوم لله قد أصاب نفسه اصابة بالغة، فقد وصل إلى العدم الذي حفر له حفرة غباوة عميقة وسقط فيها لأنه رفض الطريق المستقيم اي طريق الحق والتفت حوله جذور براهينه ومنعته من التوبة.
ومن ناحيتنا سوف نثبت ان ابن الله الوحيد، وابن الآب، هو كلمته.
الرد على أنوميوس: الهرطوقي بطيء في التعلم لأن “الحكمة لا تدخل النفس الشريرة” (حكمة 1: 4). وهل يمكن ان يكون ما هو أكثر فساداً من هؤلاء الناس الذين يسدون إذانهم عن سماع كلمة الدينونة في الأسفار المقدسة “ويل للذين يتنبأون من قلوبهم وليس من فم الرب” (ارميا 23: 16). ومن يتكلم بكلمة الرب الصادرة من فمه لا يقول يسوع ملعون (أناثيما) (1كو 12: 3). هذا ما يفعله غير المدربين في حمو غضبهم ضد التعليم الصحيح المؤدي للحياة، وكما قال أحد الانبياء “يعوجون كل مستقيم” (ميخا 3: 9). يقولون إن كلمة الله الطبيعي والكائن في الآب هو آخر غير الذي يعرف باسم الابن، ويؤكدون كفرهم بكلام ربنا يسوع المسيح مع اليهود لا سيما قوله “أنا أعرف الآب وأحفظ كلمته” (يو 8: 55). أو ما قيل بواسطة الآب للابن “من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك” (مز 110: 3س). وهكذا يصبون سم أبيهم الشيطان لأنهم يعتقدون ان المتكلم غير الذي يتكلم معه، وان الآب يتكلم مع الابن بواسطة كلمته الذاتي، وهذا يعني ان الكلمة الذاتي غير الابن. وايضاً يقول “طالما ان الابن نفسه يعلن انه حفظ كلمة الآب، فمن يحفظ غير الذي حفظ. هذه النقطة بالذات ليست صعبة لأنه مكتوب “الرب يعطي قوة للمبشرين بالكلمة” (مز 68: 11 سبعينية). وهؤلاء المرضى بالجهل عليهم ان يتذكروا الذي قال “ويل للذين يتركون الطريق المستقيم طريق البر ويسيرون في طرق الظلمة” (امثال 2: 13). أما بالنسبة لنا فعلينا ان نصرخ لمن في السماء ونقول له “حول عيني عن النظر إلى الأباطيل” (مز 119: 37). هذا الباطل والوسخ والذي بلا شيء، هو الذي ينطقون به عن جهل. فهم لم يكتفوا بما يقولون بأن للآب كلمة غير الابن الكلمة، بل يدعون بأن الابن حفظ الكلمة من الآب، وايضاً بأنه عندما جاء في الجسد، أحضر معه الكلمة كمربي، وهذا كله يعني في النهاية ان الابن ليس هو وحده الذي في الآب، والآب فيه، لكن الذي قال “أنا في الآب والآب في” (يو 14: 11)، لا يمكن ان يكون آخر غير الكلمة الذاتي، فهو وحده الذي في الآب، وليس كلمة آخر. “الآب في” وليس “الكلمة في”. لكن ما معنى الكلام الذي قاله لليهود. يقول الحق الذي يشرق على عقولنا ان المخلص كان يعلم اليهود ويجذبهم اليه شيئاً فشيئاً لأنهم شعب غليظ الرقبة وأراد ان يبعدهم عن العبادة حسب الناموس بقوله “أنا الحق” (يو 14: 26). وكان بذلك يدعوهم إلى ان يخلعوا نير الناموس وان يقبلوا العبادة حسب الروح، لأن الظل يجب ان يبتعد والرمز يذوي، والحق يشرق، ولكن بالنسبة لكثيرين لم يبدو لأي منهم انه يعمل الحق، بل أنه يهدم وصايا موسى، بل لقد ظنوا فيه ما هو أسوأ من هذا حتى ان بعضهم صرخ قائلاً لو كان هذا الإنسان من الله، ما كان قد كسر السبت، وكان هذا اتهام بخطيئة لم يرتكبها.
كان إذا يرد على غباوة اليهود، ولذلك تحدث معهم بطريقة خاصة، استخدم فيها اسلوباً يعتمد على البطء في الإعلان، وتقديم القليل، حتى ان الابن الذي لا يعرف خطية، لا يعمل شيئاً سوى ما هو صالح أمام الله الآب فقط، ودون ان يقول بكل صراحة اني لم أعرف الخطية، لأن هذا معناه ان يجموه على الفور. لأنهم كانوا يفورون بالغضب، وكانوا سيهجمون عليه فوراً قائلين ان عدم الخطية خاص بالله وحده. وكانوا سوف يتهمونه ويقولون له فأنك وانت انسان تنطق بما يخص الله وحده. وهذا ما حدث في مناسبة أرادوا ان يرجموه فيها بسبب واضح عندهم لأنه وهو انسان يجعل نفسه إلهاً (يو 10: 33) وبشكل غير مباشر فان المخلص، كانسان، وتحت الناموس، مع الذين هم تحت الناموس يقول انه يحفظ كلمة الآب، دون ان يعني بذلك انه هو غير كلمة الآب، بل يعني انه لن يتعدى ارادة الآب. لأن تعدي الناموس الإلهي خطية واضحة. ولكنني لا أعرف خطية، لأنني الله بالطبيعة، ومع ذلك سوف لا أتعدى الآب في تعليمي ولن أتعدى ما قاله الآب. ولا يعترض أحد على ذلك الذي هو بالطبيعة معطي الناموس. ولكنه بسبب مشابهته لنا هو حافظ للناموس ولكنه يقول انه يعرف الآب ليس كما نعرفه نحن، وانما لأنه هو الله، يعرف الآب، بسبب وحدة الطبيعة الإلهية. وانما لأنه يعرف ان الآب بلا تغيير، بل لا تقبل طبيعته اي تغيير، يقول لنا انه يعرف ذلك، لكي نعرف نحن انه هو ايضاً بلا تغيير، وهو غير المتغير من الآب غير المتغير. ولذلك الذي لا يعرف اي تغيير. كيف يمكن ان يخطئ؟ ألا يظل بلا خطية لأن كل صفاته إلهية لا تقبل النقص والنمو!! باطل اذن تصور اليهود بأن الابن هو خارج مشورة الله الآب، وانما هو يحفظ كلمة الآب، لأن طبيعته لا تعرف الخطية، ولأنه يعرف ان الآب لا يحتمل ان يخطئ وهو وأحد معه في الجوهر، لأنه ابنه الوحيد. لكن هذا لا يكفي للرد، وانما حيث انهم يضيفون إلى شرحهم النص المعروف “من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك” علينا ان نشرح كلمة التقوى في هذا الموضوع.
ليس لأن الآب قال هذا للابن فيصبح في الآب كلمة ذاتي، غير الابن. بل علينا أولاً وقبل كل شيء ان ندرك ان النبي نطق بهذه الكلمات السرية بالروح، لكي يرشدنا إلى أقنوم الابن، ويدخلنا اليه وهو يسمع الآب قائلاً له: “أنت ابني” وما يتبع ذلك. ومن الحديث نفسه ندرك ان صياغته تتفق مع الصياغة البشرية لأي حديث. لكن حتى هذه الصياغة لا تلزمنا بأن نعتقد بوجود كلمتين، بل يستخدم الحديث طريقتنا نحن البشر في التعبير وهو ما لا يمكن تجاوزه، وان شئنا ان نلوم أحداً عليه فليس أمامنا سوى ضعف الطبيعة البشرية التي ليس لديها كلمات ولا أفكار ولا مصطلحات تخدم بشكل دقيق بلا اخطاء عن الأمور الإلهية، هذا يجعلنا ندرك ان الطبيعة الإلهية أسمى من كل إدراك العقل بل تعلو عليه ولا يمكن التعبير عنها كما هي، بل يمكن الكلام عنها في اطار الادراك البشري.
وإذا لم يفهم الهراطقة غير المقدسين هذا، وحاولوا اساءة استخدام هذه الكلمات او ما يشبهها، فلابد لهم ان يفهموا ان الحديث مقصود منه ان نرك حقائق عالية، ولو حاولوا الادعاء بأن مثل هذه الكلمات يجب ان تؤخذ كما هي حرفياً، فانه لن يوجد ما يمنعهم من تصور ان الآب يلد مثلما نلد نحن، ولن يوجد ما يمنعهم من انكار وجود بطن للآب وآلام الولادة، طالما انه يقول للابن “من البطن ولدتك” ولكن إذا قالوا انه بسبب الشبه بيننا وبين الله، نستخدم الكلمات عن ولادة الابن، وأنها في إطار التقوى يجب ان تفهم. فان هذا يحل المشكلة. لأن التشبيهات يجب ان تؤخذ بشكل غير حرفي مما يقضي على تعليمهم الفاسد والمر.
ان ما ذكرته هنا يكفي، ولكن حيث اننا قررنا ان نقضي تماماً على البراهين الغبية التي يستخدمونها، وان نبني التعاليم المستقيمة، علينا ان نهاجم كل فكرة بلك غيرة وقوة وأن نتسلح بالحق المنتصر دائماً. سوف نسجل اعتراضاتهم أولاً وبترتيب، تم الرد، لكي يكون الرد دقيقاً واجابة على كل فكرة مثل ذلك يجعل استعداد القارئين للتعليم، أكثر.
اعتراضات الهراطقة:
“إذا لم يكن لدى الآب كلمة من جوهره غير الابن الوحيد الذي لا ننكر انه من الآب، والذي يدعى كلمة لأنه يتشبه بالكلمة الذي من الآب، فان قبول النتيجة مستحيل، ونحن الذين نفكر بشكل صائب، نجد أنفسنا مضطرين للاعتراف بأن الآب نفسه كلمة، طالما انه وأحد في الجوهر مع الكلمة، والكلمة وأحد في الجوهر معه.
الرد:
لا يوجد دليل ايها الذكي يلزمنا بأن نؤمن بأن الآب نفسه يجب ان يسمى كلمة لأنه وأحد مع الكلمة في الجوهر. لأنه ليس صحيحاً ان الاشياء التي لها نفس الجوهر والتي لها نفس الطبيعة يمكن ان يتحول كل منها إلى الآخر او ان تتبادل ما بينها إلى حد ان تصبح خليطاً، حتى انها يمكن ان تصبح كلها وأحدة متعادلة بلا تمايز، او تصبح الكثرة فيها وأحداً وتذوب كل مظاهر التمايز. والدليل على ذلك الطبيعة الإنسانية نفسها الواحدة التي رأسها آدم أبينا جميعاً وهو وأحد في الجوهر مع ابنه المولود منه، ولكن هذه الوحدة في الجوهر مع ابنه المولود منه، ولكن هذه الوحدة في الجوهر، لا تجعل آدم ابناً كما لا تجعل ابن آدم أباً لآدم، بل كل فرد في الطبيعة الإنسانية يحتفظ بما له من صفات وقدرات، حتى ان الآب يظل آباً والابن يظل ابناً.
أما إذا كنتم تظنون انكم تهيئون برهاناً ذكياً، وتحاولون ان تفرضوا على وحدة الجوهر الاختلاط، وانعدام التمايز، حتى لا يبقى كل أقنوم كل هو، بل يذوب ويختفي في الآخر، فما الذي سوف يمنع ديان الكل من ان يعاقب الابن على ذنب ابيه. او الآب على ذنب ابنه، مع ان النبي يقول “النفس التي تخطئ تموت” الابن لا يحمل ذنب الآب والا الآب ذنب الابن” (حزقيال 18: 20). ولكن الذي يفضي بالعدل لا يعاقب الآب على ذنوب ابنه رغم ان الآب والابن من جوهر وأحد، لان الآب ليس ابناً، والابن كذلك ليس أباً، وكل منهما له مسئولية خاصة به في الابوة والبنوة، والله يعرف كل منا كفرد في ذاته، فلا يتحول أحد إلى الآخر ويرتفع إلى ذات مكانة الآخر، كما انه لا ينحدر ايضاً إلى مكانة الآخر.
من هذا يصبح واضحاً انه لا يمكن مطلقاً البرهنة على ان الله الآب بسبب وحدة الجوهر، سوف يتحول إلى الكلمة، فالآب له أقنومه الخاص به الذي لا يمكن ان ينتقل إلى آخر، ورغم انه يلد الابن الكلمة، الا انه يظل كما هو في ذاته، اي الآب، وذلك لكيلا تظهر الأمور الإلهية انها أقل من المستوى الخاص بنا نحن البشر.
برهان آخر يشبه الأول، ويعتمد على استحالة النتيجة التي يصل اليها الخصم:
لا اختلاف بين الابن والآب، لأن الابن هو صورة جوهره ورسم أقنومه (عب 1: 23). والابن يقول لتلاميذه “الذي رآني فقد رأى الآب” (يو 14: 9). فإذا قال الابن ذلك وكانت وحدة الجوهر حسب ادعاء الخصم تعني التحول والاختلاط في الأقانيم، فليس ما يمنع الابن – حسب ادعاء الخصم – من ان يصبح الآب، فليس ما يمنع الابن – حسب ادعاء الخصم – من ان يصبح الآب، طالما ان وحدة الجوهر تعني التغيير والانتقال. وإذا افترضنا ان الابن صار الآب فانه يقول للآب الحقيقي “من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك” (مز 110: 3س)، ويمكنه ايضاً ان يستخدم لنفسه كل كلمة قالها الآب وخاصة بالآب. وإذا تم ذلك فقط وصل كل شيء إلى أقصى حالات الفوضى، ويتقلص الثالوث الكائن منذ الأزل، إلى وحدانية فقط، طالما ان كل ما يميز كل أقنوم قد تبدد وذاب، بسبب وحدة الجوهر (كما يفهمها الخصم)، وبذلك فان تماثل الطبيعة يلغي تمايز الاشخاص (الأقانيم). هذا طبعاً مستحيل. إذا لا يمكن ان يصبح الآب هو الكلمة، بسبب وحدة الجوهر مع الكلمة، بل يظل كما هو متمايزاً كأقنوم رغم شركته في الجوهر مع الكلمة. وبذلك يظهر ان اعتراضهم على التعليم السليم هو لا شيء.
برهان آخر: إذا كانت كل كلمة تصدر من انسان، هي نابعة من قلبه وتظهر على لسانه تصبح هي الشخص نفسه، وبسبب وحدة الجوهر يمكن ان يتحول الشخص إلى كلمة، والكلمة إلى شخص، حسب تفكير الخصم، فكذلك يصبح الآب كلمة، لأنه وأحد في الجوهر مع الكلمة، ويصبح الآب هو كلمته، اي يفقد وجوده تماماً، عندما يصبح كلمة. وهنا يحدث المستحيل، فقد صار الآب كلمة ففقد وجوده كآب، ولم يعد هناك كلمة ايضاً، لأن الكلمة تنسب إلى شخص وهذا الشخص اختفى او تبدد.
لكن الطبيعة الإلهية لا يمكن ان يتحول اقنوم فيها إلى عدم الوجود، او إلى أقنوم آخر. ولذلك لا يمكن ان يتحول الآب إلى الكلمة رغم انه وأحد في الجوهر مع الكلمة، بل يظل الآب كما هو آب، كما يظل الابن الوحيد هو الكلمة.
برهان آخر: إذا كنا نؤمن ان الجوهر الإلهي لا يقبل التغير او التحول، فكيف يمكن لأقنوم الآب ان يتحول عن وضعه كأب. ويصبح الكلمة؟ هذا يعني تغير ويعني ان الآب يتحول عندما يتكلم مع الابن، وبذلك لا يصبح كما كان عليه في البدء. ولكن هذا مستحيل، لأن التغير غريب على الطبيعة الإلهية، فالآب يظل كما هو بدون ان يتحول إلى الكلمة، بل يظل إلى الأبد الآب، بدون تغير او تحول كإله.
برهان آخر مثله: يعلن الكلمة الابن الوحيد انه الإله الحق من الإله الحق اي الآب، ويقول “كل ما للآب فهو لي” (يو 16: 15). ومع ان الابن هو وارث لكل الخصائص في طبيعة الآب لأنه مولود منه بالطبيعة الإلهية، الا انه لم يأخذ الابوة، فالأبوة خاصة بالآب وحده. وبذلك لا ينقص الابن شيئاً مما للآب، مع انه ليس الآب، وانما يأخذ في ذاته كل خصائص جوهر الآب، وإذا اعتبرنا ان نفس المبدأ ينطبق على الآب، فهو له كل خصائص الابن ما عدا البنوة، او ان يصبح الكلمة، ولكن لأنه عديم التغير يظل كما هو مثل الكلمة العديم التغير والذي ظهر منه، اي الابن.
برهان آخر: وجد الله واضع الناموس ان بعض الناس أخطأ فقال عنهم بلسان النبي القديس “لم يميزوا بين الطاهر والنجس” (خر 22: 26). والذين يميزون يدركون الفروق الاساسية بين الطاهر والنجس. ولكن إذا كانت وحدة الجوهر كما يدعى الخصم يمكن ان تختلط، رغم وجود أفراد، ويصبح في قدرة كل فرد ان يأخذ الطبيعة التي يشاء، فمن الذي يمكنه ان يفصل بين الطاهر والنجس، طالما انه لا يمكن التمييز بين الافراد الذين يشتركون في طبيعة وأحدة، وهذا يعني ان يهوذا الخائن يمكن ان يصبح بطرس او بولس، طالما انه وأحد معهم في الجوهر الإنساني، او ان يتحول بطرس إلى بولس. هذا مستحيل اذن وحدة الجوهر، لا تلغي الفروق والتمايز بين الأفراد الذين ينتمون إلى طبيعة وأحدة فإذا كان هذا ينطبق على الطبيعة الإنسانية الضعيفة، فكم يكون بالنسبة للجوهر الإلهي الفائق، وكم يكون خطأ ان نتصور ان الله الآب يصبح الكلمة بسبب وحدة الجوهر. فهو أقنوم الآب منذ الأزل. وهذا ليس اعتداء على كرامة الابن، بل تأكيد على تمايز الابن ايضاً، واعتراف بأن الآب والابن لهما ذات الطبيعة الإلهية الواحدة غير المتغيرة، ولكل منهما صفته الأقنومية الخاصة به التي لا تسمح للابن ان يكون الآب او الآب ان يكون الابن، بل يظل كل منهما أقنوماً متميزاً في وحدة الجوهر.
اعتراض للهراطقة:
يقولون: “أنتم لا تفكرون بشكل صائب، لأنه من الصواب ان نعتقد ان الكلمة الذاتي في الله الآب ليس هو الابن ومع اننا نسمعه يقول “أنا اعرفه وأحفظ كلمته” (يو 8: 55)، فإذا كان كما أكد هو، يحفظ كلمة الآب، فانه من الواضح انه غير الآب، ويجب بالضرورة ان نقول انه يوجد ما يميز الذي يحفظ الكلمة، عن الكلمة التي تحفظ”.
ردود متعددة توضح بشكل قاطع ان الابن هو كلمة الله الآب:
لو كان الابن الوحيد الذي من الآب هو آخر غير الكلمة “الذي يصفونه بأنه الكلمة الذاتي الكائن في الله، فعلى هؤلاء الذين يقولون هذا الرأي المضاد ان يخبروننا، هل هذا الكلمة الذاتي اقنوم ام لا. فإذا قالوا انه كائن بذاته، وله كيان متميز، فان هذا يعني الاعتراف بوجود ابنين، وإذا قالوا انه بلا كيان متميز، إذا لا يوجد وسيط او طرف ثالث بين الآب والابن.
برهان آخر في نفس الاتجاه: حدد المعارضون للإيمان وجود كلمة في الله الآب، وحسب خيالهم المريض فان هذا الكلمة الذاتي هو الذي يشير على الابن ويعلمه وصايا الآب ومشوراته. وسوف نرى غباوة عقيدتهم.
بادئ ذي بدء يبدو حسب رأيهم ان اسم الآب لا علاقة له بالمرة بالابن، والا ما معنى الآب بالنسبة للابن، او الابن بالنسبة للآب، طالما ان هناك طرف ثالث بينهما يفصل الابن عن الآب. اذن فليس الآب أباً، ولا الابن ابناً، إذا اعتقدنا بأن ارادة الله الآب في كلمة ذاتي غير الابن، وهذا الكلمة الذاتي يتوسط بين الآب والابن. والنتيجة النهائية هي ان ارادة الآب ليست في أقنومه، ولا ارادة الابن في اقنومه، بل في الطرف الثالث الذي اخترعوه.
لكن إذا افترضنا ان الطرف الثالث الذي اخترعوه ليس له اقنوم فان الابن يصبح في الآب دون وسيط، فاين يبقى مكان الكلمة الذاتي الذي اخترعوه.
برهان آخر يؤكد استحالة الافتراض الذي اخترعه الهراطقة:
نحن نؤمن بأن الثالوث القدوس المسجود له له جوهر وأحد، رغم جنون الهراطقة الذي يمنعهم من الايمان. ووحدة الجوهر تفترض وجود مساواة في الخصائص الطبيعية بين الأقانيم، فإذا عدنا إلى افتراض الهراطقة الذي يتوهم وجود كلمة في الآب غير الابن الكلمة، فان المساواة تفترض ايضاً وجود كلمة ذاتي في الابن، طالما ان الابن مثل الآب في كل شيء وهو صورة جوهره ورسم اقنومه (عب 1: 3)، وايضاً الروح القدس هو ايضاً طالما انه مساوي للآب والابن فيه كلمة ذاتي. وهذا يعني ان الثالوث صار سداسياً، واصبحت الطبيعة الإلهية مركبة. وهذا مستحيل، فالجوهر بسيط غير مركب، لا يوجد فيه الا ثلاثة أقانيم، ولا يوجد وسيط بين كل أقنوم وآخر، بل هو جوهر وأحد للثالوث القدوس لا اختلاط فيه بين الأقانيم.
برهان آخر: عندما تستعمل الاسفار المقدسة اسماء وتضيف اليها أداة التعريف “ال” فهي تقصد ان تتحدث عن كائن معين وليس آخر. وعندما لا توجد أداة تعريف “ال” فان الاسم يصبح عاماً يمكن ان يشترك فيه أكثر من وأحد. ومثال على ذلك، يوجد كثيرين دعوا إلهة. ولكن عندما يكون المقصود هو الله فان أداة التعريف تستخدم للدلالة عليه هو بذاته وليس آخر، فان عدم استخدام أداة التعريف “ال” معناه وأحد من هؤلاء الذين بالنعمة دعوا إلهة. وعلى نفس القياس، يوجد بشر كثيرين، ولكن عندما يستخدم المخلص أداة التعريف “ال” ويتحدث عن ابن الإنسان، فهو يقصد الكلام عن نفسه، كوأحد مخصص ضمن آلاف فإذا كانت الاسماء تعامل هكذا في الاسفار المقدسة، فكيف تفهم هذه العبارة، “في البدء كان الكلمة”. إذا كان المقصود من هذا كل كلمة من كلمات الله، فدع الخصوم يعرفوننا ذلك. لكن إذا كان الانجيلي يستخدم أداة التعريف “ال”، ويخصص الكلام عن وأحد معين، هو المقصود به “الكلمة” فان هجومهم قد أصاب لا شيء، بل بدلاً من الايمان بالكلمة، اخترعوا بديلاً له في الآب لكي يفصلوا الابن عن جوهر الآب. أما وقد ظهر ان هذا مستحيل، فاننا لا نملك الا ان نرفض مشورة الهراطقة.
برهان آخر يوضح ان الكلمة هو الابن نفسه المساوي للآب وانه ليس كلمة ذاتي غيره:
لو كان الابن الوحيد، ابن الله دعي – حسب زعم الهراطقة – كلمة لأنه يأخذ المشورة من كلمة ذاتي في الآب، فلماذا لم يقل المخلص للتلاميذ “أنا وكلمة الآب وأحد” “والذي رآني فقد رأى كلمة الآب” ولكن حيث انه لا يوجد كلمة آخر غيره، بل هو وحده الابن الوحيد، فالابن ينسب نفسه للآب فقط، دون وسيط بل للآب الذي ولده من جوهره.
اعتراض من الخصوم:
يقولون “لقد وجدنا ان الابن غير الكلمة الذاتي وهذا ليس اختراع وأوهام عقولنا بل ما تؤكده الأسفار المقدسة. ماذا نقول عندما نسمع الابن يقول للآب “مجد ابنك” (يو 12: 28).
والآب يجيبه “مجدت وسوف أمجد ايضاً”؟ ألا يستدعي هذا الافتراض بأن الآب يجيب على الابن بكلمة؟ أليس الكلمة الذاتي هو المقصود والذي به يجيب الآب على الابن”.
ردود مختلفة مرتبة على هذا الاعتراض:
ان الهراطقة غير المقدسين يستحقون النوح والدموع، بل وايضاً العجب، بل علينا ان نقول ما قاله النبي “لا تبك على الموتى ولا تندبهم، بل ابك بحرقة على كل من” يفكر ويتفوه بهذه الكلمات على الابن الوحيد (أرميا 22: 10) فهل يوجد من هو أكثر شقاوة من هؤلاء، لأنهم لو تصوروا ان هذا فعلاً صوت الآب نفسه الذي لم يسمعه فقط المخلص، بل والجموع الواقفة من اليهود، بل جماعة التلاميذ انفسهم؟ لقد كان بالأحرى ان يتصوروا الأمور التي تليق بالله وبكرامته وليس اخضاع هذه الأمور العالية إلى القوانين الخاصة بالحياة الإنسانية.
ان السماع بالاذن يتطلب صوتاً يخرج من الفم إلى إلهواء او الذي لم يسمعه فقط المخلص، بل والجموع الواقفة من اليهود، كما لو كان مثل حركة العقل، والابن وحده يعرفها الذي هو في الآب بالطبيعة وهو حكمة الآب.
أما الافتراض بأن الله يستخدم صوتاً مكوناً من مقاطع، فهذا ما لا يقبله العقل، طالما اننا نحفظ للطبيعة الإلهية كل ما يخصها ويجعلها تتفوق وتعلو على الخليقة. كما ان ربنا يسوع المسيح نفسه لم يقل ان هذا صوت الآب، وقيل ان هذا الصوت لم يحدث لأجله هو، بل انه لا يحتاج لآخر لكي يعلمه ارادة الآب ولذلك قال “أن هذا الصوت لم يصر لأجلي، بل لأجلكم” (يوحنا 12: 30) وكان الأجدر به ان يقول يا أصدقائي الأعزاء – لو كان رأيكم على صواب “لقد سمعتم معي صوت الآب” ولكنه قال العكس، وأعلن انه لا يحتاج إلى هذا الصوت، وانما جاء الصوت لأجل الواقفين.
وهذا يعني ان الآب لم يتكلم، كما يتكلم البشر، وانما اعطى هذا الصوت لأجل الجموع. وإذا كان الآب يعمل كل شيء به اي بالابن، فقد تم هذا بالابن ايضاً، اي كان هو الصوت والاعلان وليس المحتاج إلى المشورة وإلى ان يتعلم ارادة الآب، التي يعرفها كابن، وانما جاء الصوت لكي يسمع الواقفون ويؤمنوا به.
برهان آخر: لو صح كلامهم بان الابن يحتاج إلى كلمة ذاتي غيره في الآب لكي يعلم مشيئة الآب ومشورته فكيف نفهم قول بولس “المسيح قوة الله وحكمة الله”؟ (1كورنثوس 1: 24). كيف يكون الابن هو كلمة الله، وهو ناقص الحكمة ومحتاج ان يتعلم مشورة الله وان ينمو إلى الكمال الذي يحصل عليه من آخر ولو صح كلام الهراطقة لوجب علينا ان نقول ان عبارة بولس السابقة تعني ان حكمة الآب ناقصة، وإذا كان الابن هو حكمة الآب، فكيف تكون ارادة الآب معروفة لآخر غير الابن. لأن هذا يعني ان ارادة الله الآب ليست كاملة بالحكمة، اي الابن. ما أعظم هذا التجديف، وما أشد هذا الكفر. فليس هو الابن الذي يقبل ارشاداً من آخر لكي يعلم ارادة الآب، بل هو حكمة ومشورة وارادة الله الآب، لأنه يفحص كل شيء حتى أعماق الله، كما هو مكتوب عن الروح القدس ايضاً (1كو 2: 10).
برهان آخر: تقدم لنا الأسفار المقدسة الابن على انه صورة ورسم جوهر الآب، والمخلص نفسه يقول “الذي رآني فقد رأى الآب” ولكن إذا كان الابن مثل الآب ومساوياً له. ولا يعرف ذاته ولا من هو، فعليه ان لا يتكلم ويعلن الآخر، بل عليه ان ينتظر حتى يتعلم من الآب. بل ان هذا يقودنا إلى ان نقول نفس الشيء عن الآب، طالما انه مساوي للابن .. وهذا مستحيل .. لأنه ادعاء بأن الجهل من صفات الطبيعة الإلهية، ولما كان من الكفر ان نفكر بهذا الشكل فعلينا ان نقبل التعليم الصحيح فهو نافع ومعين لنا.
برهان آخر: يقول بولس عن الروح القدس “انه يفحص كل شيء، حتى أعماق الله” ويضيف “لا يعرف الإنسان الا روح الإنسان الذي فيه، كذلك أمور الله لا يعرفها أحد الا روح الله” (1كورنثوس 2: 10-11) فإذا كان الروح القدس يميز بدقة ويفحص كل شيء، والروح ليس روح الآب فقط، بل هو روح الابن ايضاً، فكيف يكون فيه الروح بسبب وحدة الجوهر، ويظل لا يعرف كل شيء، بل لا يعرف ارادة الآب؟ هراء هذا الادعاء الباطل ضد الحق، لأنه واضح لكي من يريد ان يعرف، ان الابن لا يتعلم ارادة الآب. وبذلك يهلك تماماً الادعاء بأن الابن يحتاج لكلمة ذاتي لكي يتوسط بينه وبين الآب ويعلمه الحكمة. وهذا يجعل مشورتهم الباطلة المؤسسة على عدم ادراكهم تتبدد تماماً، لأن الابن يعلم كل شيء من ذاته.
برهان مبني على استحالة رأي الخصم:
الذين يتهجمون على أقنوم الابن الوحيد وجوهره قائلين انه لا يعرف ارادة الآب، وبالتالي احتاج لأن يتعلم من معلم آخر وهو الكلمة الذاتي الذي اخترعوه، فان عليهم ان يقولوا لنا، هل سيظل رأيهم قادراً على الثبات، خصوصاً إذا سألناهم، هل الكلمة الذاتي الذي اخترعوه، مساو للابن، وعلينا ان نعترف معهم انه له أقنوم وكيان خاص به، وان كانوا هم لم يحددوا سواء أكان الكلمة الذاتي أقل او أسمى من الابن. إذا قالوا انه أعظم وأسمى من الابن، فان هذا اتهام ذو حدين موجه للابن والآب معاً، أولاً اتهام وكفر بالآب لأنه ولد من هو أقل منه، بينما سمح بوجود كلمة ذاتي أعظم وأسمى. أما ما هو أعظم استحالة، هو انهم يدعون ان الآب أقل من الكلمة الذي اخترعوه، لأن الآب مساو للابن، والكلمة الذاتي أعظم من الابن، وبالتالي أعظم من الآب.
ولكن أغلب الظن انه سوف يتراجع الهراطقة عن هذا التجديف ويقولوا لا ان الكلمة الذاتي، مساو للابن في الجوهر، وهنا تصل إلى النقطة الأخيرة في الموضوع كله.
كيف يعلم الكلمة الذاتي الابن وهو مثله ومساو له؟ وكيف مع المساواة في الجوهر يصبح وأحد يعلم والآخر لا يعلم بل ويحتاج إلى تعليم؟
ان تعليم هؤلاء الناس ضعيف جداً في كل الجوانب حيثما هاجمته ولقد ثبت الآن ان الابن هو في الله الآب، والابن هو الله الكلمة “الذي كان في البدء”.
برهان آخر: يقول المبارك بولس الرسول عن الابن “مذخر فيه كل كنوز الحكمة والعلم” (كولوسي 2: 3). فإذا صح هذا القول فكيف يمكن الافتراض بأن هناك آخر يعلم الابن. ومن هو الآخر الذي سوف نطلبه لكي نتعلم منه المعرفة الكاملة؟ وكيف يمكن ان يوصف الابن بأن فيه كل كنوز الحكمة، وهو لا زال محتاجاً لآخر يعلمه؟ كيف صار الحكمة حكيماً بواسطة آخر؟
كل هذه أسئلة يستحيل الاجابة عليها، وعلينا نحن ان نصغي إلى قول الروح القدس، وليس إلى أقوال الهراطقة، لأن الروح يقول على لسان بولس ان “فيه كل كنوز الحكمة والعلم” ولأنه في الآب فهو يعرف كل شيء. لأنه حكمة الآب الذي لا يحتاج لأحد آخر لكي يعلمه.
الفصل الخامس
“الابن بالطبيعة خالق مع الآب، وهو من جوهر الآب،
ولا يعمل مع الآب مثل خادم”
3- كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان:
بعد ان قضى الانجيلي المبارك تماماً على كل تراكيب الاعتراضات التي قدمها الهراطقة غير المقدسين، وبعد ان أكمل كلامه الدقيق عن الابن الوحيد يصل الآن إلى أحد فخاخ الشيطان القديمة الخادعة، شوكة تعدد الإلهة، الخطأ الجسيم الذي جرح كثيرين وألقاهم صرعى في طريق الدينونة وفتح باب الموت الرهيب على مصراعيه، وجمع في داخله كثرة لا تحصى من نفوس البشر في جماعات وقطعان في الهاوية، فصار كل هؤلاء طعاماً دسماً للشيطان “ولحماً مختاراً” قدم اليه (حبقوق 1: 16س).
ان ابناء اليونانيين الذين اشتغلوا بحكمة العالم، والذين سكنهم روح رئيس هذا العالم، وحملهم إلى خطأ تعدد الإلهة، مما أفسد جمال الحق، فصاروا مثل الذين يسيرون في الضباب تحيط بهم الظلمة، فسقطوا في حفرة الجهل، وعبدوا الإلهة التي بلا حياة، “وقالوا للخشب أنت أبي، وللحجر انت الذي ولدتني” (ارميا 2: 27) أما غيرهم فقد سقطوا مثلهم، بعد ان اخترعوا خطأ آخر صقلوه صقلاً ممتازاً، “فعبدوا المخلوق دون الخالق” (رومية 1: 25). وقدموا المجد اللائق بالخالق وحده إلى العناصر المخلوقة، لأجل كل هذا يقدم لنا الانجيلي الابن الوحيد كخالق وصانع: “كل شيء به كان” وايضاً “وبغيره لم يخلق شيء” وبذلك أغلق إلى الابد المدخل إلى خداع تعدد الإلهة، ويعلن الابن الوحيد، للذين لم يعرفوه كخالق الكل. وبهذه الكلمات يقول ان الخليقة قد خلقها الابن الوحيد، لكي يظهر انه لم يأت أحد إلى الوجود الا بقوة الابن الوحيد، لكي يظهر انه لم يأت أحد إلى الوجود الا بقوة الابن الوحيد، فهو القوة التي أتت بكل الكائنات من العدم إلى الوجود. لأنه من الممكن “عن طريق جمال الخليقة ان ننظر الخالق” (حكمة 13: 5)، وان نعرفه الذي هو الإله الحق الذي به خلقت كل الاشياء، بل به تستمر في البقاء.
صاغ الانجيلي هذه الكلمات في افتتاحية الانجيل ضد العبادة المزيفة التي اخترعها اليونانيون، ولذلك عينه نحن نؤمن ان الابن الوحيد قد قدمه لنا الانجيلي صانعاً وخالقاً.
من اللائق لكي نواجه اختراعات الهراطقة وخيالاتهم المنحرفة ان نقول أكثر مما قلناه.
“كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان”:
يضع الانجيلي الكرامة الإلهية الخاصة بالابن لكن يوضح بشكل واضح انه وأحد في الجوهر مع الله الذي ولده، وان كل ما يخص الآب يخص الابن ايضاً، ولذلك يجب ان نعتقد انه الإله الحق، وليس كمن نال لقب الالوهية التي تعطى لنا (*) بالنعمة وحدها، حسب الكلمات “أنا قلت إنكم إلهة، وبني العلي كلكم” (مزمور 82: 6)، أما هو فغير ذلك تماماً، “لأن كل شيء به كان” وعندما يقول الانجيلي “كل شيء به كان” فهو لا يعطي اي استثناء لأي من الكائنات مهما كان. وليس المبارك قد فهم معنى كلمة “كل شيء”، لأنه عندما كان يتكلم عن المخلص قال ان “كل شيء قد أخضع تحت قدميه” (عبرانيين 2: 8)، وبيقين فائق يؤكد “وعندما يقول الكل، فهو لم يترك شيئاً غير خاضع له” (عبرانيين 2: 8). ولأننا نؤمن ان كل شيء قد خلق بواسطة الابن، فلا نستطيع ان نحسبه كوأحد من الكل (المخلوقات)، بل هو غيرها تماماً، لأنه ليس ضمن الطبائع المخلوقة، بل نعترف انه وحده بالطبيعة الإله الحق.
ومن الذي يمكن ان يتوسط بين الله والمخلوق؟ أنا لا أعني الجوهر، فما أكثر الفروق، وانما أعني المكانة، ولذلك ما هي مكانة الابن وهو الذي يفوق كل المخلوقات، بل هو الخالق الذي لا يمكن مقارنته بها. “كل شيء به كان” لأنه القوة، وحكمة الله الآب، وليس مثل كلمة الإنسان وقوته الكامنة والمختفية، والتي تعتبر أحدى صفات الإنسان، وانما هو متميز بذاته، ولكنه مولود من الآب، بشكل فائق، حتى ان حكمة الآب وقوته تدرك انها هي حقاً الابن.
ومع ان الانجيلي المبارك قال “كل شيء به كان”، فان هذه العبارة لا تعني بالمرة ان الابن أقل من الآب. فهي لا تعني ان الابن خدم أو يعمل من أجل آخر. منفذاً ارادته، وهو ما يتنافى مع الاعتقاد بأنه خالق، فهو لم ينل قوة من آخر لكي يخلق، وانما هو قوة الله الآب، الابن الوحيد، الذي يعمل كل شيء مع الآب والروح القدس، لأن كل شيء من الآب بالابن في الروح القدس.
ونحن نؤمن بأن الآب هو مع الابن، وليس كمن بلا قوة تقدر على ان تخلق من العدم، وانما هو فيه تماماً، بسبب عدم تغير الجوهر، وبدون ان يكون بينه وبين الآب اي وسيط في ولادته الطبيعية من الآب. بل كمن يقول ان رائحة الزهرة هي مع الزهرة والزهرة دائماً مع الرائحة، لا سيما عندما تنتشر الرائحة، ولكن الرائحة من الزهرة طبيعياً. وقوة هذا التشبيه بسيطة بالمقارنة بالكلام عن الطبيعة الفائقة التي تفوق الإدراك.
لذلك كيف نفهم “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يوحنا 5: 17)؟ ليس لأن الابن منفصل عن الآب قال “أبي يعمل وأنا أعمل”، او كأن الابن يعمل والآب يستريح، لأن الخالق في هذه الحالة لن يكون وأحداً، بل اثنين، إذا كان كل أقنوم يخلق منفصلاً عن الآخر. وبالإضافة إلى ذلك يصبح الآب محتاجاً إلى قوةلأن الابن منفصل عنه، وليس حاضراً فيه دائماً، كذلك الابن يصبح محتاجاً إلى قوة، لأن الآب ليس حاضراً فيه دائماً، كذلك الابن يصبح محتاجاً إلى قوة، لأن الآب ليس حاضراً فيه دائماً. ولو كان ممكناً ان يخلق الآب منفصلاً عن الابن، وان يخلق الابن منفصلاً عن الآب، لما استطاع الابن ان يقول “أنا في الآب والآب في” (يوحنا 14: 10).
وما قلناه لا يعني فقط ان الجوهر وأحد، بل لا يسمح بالمرة لأن يكون الابن شبه الآب، او اننا نرى الابن في الآب كما نرى الصورة والأصل، بل اننا نرى الابن مولوداً دائماً مشرقاً من جوهر الآب، وهو فيه، وبه، متميزاً عن الآب لأنه الله الكلمة وايضاً نرى الآب في الابن، كما هو مولود من الجوهر نفسه، مثله في الطبيعة الإلهية، متميزاً عنه كأقنوم، لأن الآب يظل الآب، رغم انه مثل الابن في الطبيعة، ويشترك معه في ذات الجوهر، وهو في الابن مثل الشمس والشعاع. والابن ايضاً يظل هو الابن، رغم انه مثل الآب في الطبيعة ويشترك معه في ذات الجوهر، وهو في الآب مثل الشعاع في الشمس. وباعتقادنا بأن الآب هو الآب بالحق، والابن هو الابن، والروح القدس الذي له مكانه الخاص به معهما كأقنوم يصل الثالوث القدوس إلى اللاهوت الواحد نفسه.
وكيف يكون الله وأحداً، لو انفصل كل أقنوم وانفرد تماماً عن الأقنومين الآخرين، او كيف يمكن ان يقال لكل أقنوم، الله، إذا انفصل تماماً عن مماثلة الطبيعة والمشاركة الجوهرية، مع الآخر؟ لذلك يجب علينا ان نؤمن بالآب والابن والروح القدس، كل اقنوم متميز، دون ان نخلط الأقانيم او الاسماء، بل يظل كل اقنوم كما هو، وفي نفس الوقت الذي تتميز فيه الأقانيم، تظل الطبيعة الإلهية الواحدة، بدون انفصال، لأن الابن دعي الكلمة والحكمة والبهاء، ورسم صورة الآب وقوته، فلا يعني هذا، ان الابن منفصل.
الابن هو الكلمة والحكمة، لأنه هو كذلك بدون وسيط بينه وبين الآب، فهو من العقل وفي العقل، وبسبب قبول كل أقنوم للآخر وحضوره في الآخر، وبسبب وحدة الجوهر، يمكن ان نرى العقل في الكلمة والحكمة، وكذلك الكلمة في العقل، دون ان توجد قوة متوسطة قادرة على ان تفصل بين الاثنين.
ويدعى الابن قوة الآب، لأنه القوة الكائنة في الآب، بدون انفصال او وساطة، حتى اننا لا نستطيع ان نفصل بين القوة والآب مثلما لا نستطيع ان نفصل بين الإنسان وقوته الا إذا دمرنا أحدهما.
ورسم الجوهر (الأقنوم) ايضاً خاص بالابن، لأنه مثل الآب تماماً، لا يمكن ان ينفصل عن الجوهر الذي يعلنه أي الذي صار رسمه.
كان هذا يقودنا إلى الإيمان بأن كل أقنوم في الآخر بشكل طبيعي، يعتمد على وحدة الجوهر، فعندما يعمل الآب، يعمل الابن، لأن الابن هو قوة أقنوم الآب، الخاصة به وبجوهره، وايضاً عندما يعمل الابن، يعمل الآب ايضاً، فالآب أصل الكلمة الخالق، وطبيعياً هو كائن في الابن مثل النار في الحرارة الصادرة منها.
من الواضح ان كل الآراء التي قالها الخصوم عن الابن الوحيد هي باطلة لا سيما أولئك الذين يقدمونه للآخرين كمخلوق، تعلم الحكمة او كخادم، كل هذه الآراء الباطلة قد حكم عليها الانجيلي المبارك بقوله “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان”.
انني مندهش من الهراطقة غير المقدسين، فكل ما يبدو لهم انه ضد الوهية الابن الوحيد، وما يجعله اقل من الآب، أو الثاني بعد الآب، يجمعونه بكل غيرة ومن كل جهة يحشدون سمومهم القتالة، اما ما هو حقيقي ومفيد ونافع مما يؤكد ان الابن شريك لمجد الآب، يدفنونه في صمت تام. فليس لدى هؤلاء سوى هدف وأحد، وهو ان ينالوا من مجده ولكن هيهات، فكل الخليقة تمجده.
وعندما يسمع الهراطقة ان “كل شيء به كان” تأخذهم الحمى فيسرعون ويطلقون عليه اسم الخادم، ويحلمون بأن الابن، عبد، وليس حر، وعابد وليس الرب. ولكن عندما يسمعون “وبغيره لم يكن شيء مما كان” لا يفكرون فيما يليق بعظمة وكرامة الابن. ولكن إذا كان الآب لا يخلق الا بالابن أي بحكمته، وقوته، والانجيلي يقول لا شيء مما كان قد خلق بدون الابن، فان النتيجة النهائية ان الابن الوحيد هو مجد الله الآب، (لأنه يمجد كخالق بالابن)، لأن الابن يعمل كل شيء ويحضر من العدم إلى الوجود كل الكائنات.
وحسناً يفعل كل من يدرك عمق هذه الكلمات “بغيره لم يكن شيء مما كان” إذا تأمل جيداً ما قيل عن خلق الإنسان. لقد كتب “نخلق الإنسان على صورتنا وكشبهنا” (تكوين 1: 26)، لأن هذه الكلمات بالذات لا تعبر عن الابن كأقل او كخادم حسب تعبير الهراطقة. لأنه واضح ان الله الآب لا يأمر الابن الكلمة “أخلق الإنسان” بل كوأحد معه بالطبيعة وغير منفصل عنه لأن له ذات الطبيعة الإلهية وشريك له في العمل، وشريك له في المشورة الخاصة بالخلق، دون ان يعني هذا ان الآب كان يتوقع ان ينال معرفة من الابن، وانما بسبب وحدة الجوهر، الابن يعمل مع الآب، مثل العقل غير المنفصل، والذي لا يخضع لفترات زمنية تفصل بين فكرة وأخرى، بل كما تقوم الكلمة في العقل دون انفصال عنه كذلك الابن الكلمة الكائن في الآب دائماً، والذي يعمل معه في الخلق.
ولا يليق بنا ان نقدم تشبيهاً عن هذا الأمر، فما يليق بالله لا يمكن تصويره. وانما عندما نقول انه يعمل مع الابن، فنحن لا نعتقد باثنين منفصلين، لأن هذا يؤدي إلى الايمان بإلهين، اجتمعا معاً وصارا وأحداً، بل مثل اجتماع النور والاشعاع في وحدة طبيعية، لأن مثال النور والاشعاع يؤكد التمايز، لأن الاشعاع الذي يشرق ويحمل جمال النور، ليس هو النور، ولكن الطبيعة وأحدة، والتمايز بين النور والاشعاع الذي يشرق لا يسمح بانفصال وأحد عن الآخر.
ومع ذلك فالله فوق كل هذه التشبيهات وأعظم منها، ولا يوجد في المخلوقات من هو مثله، كما لا يوجد في الطبائع المخلوقة من يمكن ان نأخذه مثالاً للثالوث بدون ان نقع في أخطاء في العقيدة، لأن أي تشبيه لا ينطبق تماماً على الحق.
وإذا ظن الهراطقة ان “كل شيء به” تحدد استعمال “به” بأن الابن اقل من الاب في الجوهر، وانه ليس رسم جوهره، بل هو خادم وليس خالقاً، أصبح من الحتمي على هؤلاء المجانين ان يقدموا اجابة على سؤالنا هذا: ماذا يجب علينا ان نعتقد في الآب نفسه؟ وماذا يكون الآب الذي تنسب اليه ايضاً “به” لأن كلمات الاسفار الإلهية واضحة، “أمين هو الله الذي به دعيتم إلى شركة ابنه” (1كورنثوس 1: 9) وايضاً “بولس رسول يسوع المسيح بإرادة الله” (2كورنثوس 1: 1) – (أفسس 1: 1) وايضاً “إذا لست عبداً، بل ابناً، وان كنت ابناً فوارث بالله” ([1]) (غلاطية 4: 7). فكل هذه النصوص خاصة بأقنوم الله الآب، ولست أظن ان أحداً سوف يسرع بجنون شديد ليقول ان الآب صار خادماً هو ايضاً لأن هناك أمور تتم “به”. فالأسفار الإلهية لا تهتم بالكلمات ولا تعامل الموضوعات الا بشكل يعتمد على المعنى العام أكثر من الاعتماد على استخدام خاص بالكلمات لا سيما حروف الجر، خصوصاً إذا كان الكلام عن الله ظاهر معناه. ولكن من المناسب ان نضيف هنا ان “مجد الرب تحجبه الكلمات” (أمثال 25: 2 سبعينية) فالكلمات مهما كانت قوية، هي قليلة جداً، خصوصاً إذا كانت تشرح مجد الله الفائق. علينا ان لا نتضايق لندرة ما كتب، بل ان نعتبر مجد هذه الأمور التي تفوق التعبير، وشهوة كل عقل واشتياقه للطبيعة الإلهية الفائقة هي التي تجعلنا اتقياء بدرجة ليست قليلة.
الفصل السادس
“الابن هو بالطبيعة الحياة، ولذلك هو غير مخلوق، بل من جوهر الآب”
4- “مما كان، فيه كانت الحياة”:
يقدم لنا الانجيلي المبارك تعليمه عن الله الكلمة، فيشرح لأجل منفعتنا كل ما يخصه بالطبيعة كإله، لكي يسقط هجوم الهراطقة، ويعضد الذين يرغبون في النمو في الايمان الصحيح، ويعطي كل هذا ليس بكلمات وبراهين مأخوذة من الحكمة العالمية المنتفخة، بل “ببرهان الروح” يقدم جمال الحق (1كورنثوس 2: 4).
وما يريد ان يعلمنا اياه بهذه الكلمات هو: لقد أرانا الآن ان الابن بالطبيعة هو الخالق والصانع “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء”، فليس من الكائنات جميعاً كائن وأحد دعي للوجود من العدم بدون الكلمة. وحيث انه يمنح الخليقة نعمة الوجود، يعطي ايضاً نعمة البقاء، ويمنح من عنده الابدية، لكل الكائنات التي بطبيعتها ليست أبدية، فيصبح بذلك هو الحياة لكل من جاء إلى الوجود لكي يبقى في الحياة حسب حدود طبيعته. لذلك كان من الضروري ان يقول: “ما خلق فيه كانت الحياة” ولم يكتف بالقول “كل شيء به كان” وانما أضاف “كل شيء به كان فيه الحياة”، أي ان الابن الوحيد الله الكلمة، بدء وأصل ([2]) كل الكائنات المنظورة، السمائية والأرضية وما دون ذلك. فهو نفسه بالطبيعة الحياة، ويهب لكل الكائنات الكثير: الوجود والحياة والحركة، دون ان يعني هذا انه يقتطع من ذاته ويعطي، او انه هو نفسه يصير هذه الكائنات ويتحول من كائن إلى آخر. وانما كل كائن على حدة يصوره الكلمة بقوته وحكمته كخالق. وبينما وأحد فقط هو الحياة، وهو الذي يقدم الحياة للكل بالشكل الذي يتناسب مع طبيعة كل كائن وبالشكل الذي يليق به للاشتراك في حياة الكلمة. وحيث ان كل ما دعي من العدم إلى الوجود بالضرورة يتداعى وينحل، وكل ما له بداية، يسرع نحو النهاية، ما عدا الواحد وحده أي الطبيعة الفائقة التي لم تسبقها بداية، وهي حرة تماماً من النهاية، وبحكمة الخالق الذي يعلم ضعف المخلوقات يصنع لهم ابدية، لقد شاء ان يجعل كل جنس يظل حياً يتعاقب افراده بالتناسل وبالنمو، مما جعل الخليقة ظاهرة وباقية تحت سلطان الله خالقها. وحكمة الخالق: ان كل كائن يحتوي على بذار تزرع. فتثمر مثل جنسها وشبهها، حسب القرار الإلهي غير المسموع. هذا معنى “فيه كانت الحياة” وهذا هو موضوعنا.
لكن يا سادتي الأعزاء، يمكن ان يحذر أي منا الهرطوقي ويقول له: والآن ماذا عندك ضد هذا القول، ها أنت تسمع الانجيلي يخبرنا بالحق وشهادة الروح الذي فيه يقول “فيه” نالت كل الكائنات التي خلقت “الحياة”، أي من الكلمة الذي كان في البدء! هل يتجاسر أحد ويقول ان الابن ليس من جوهر الآب، بل انه يحسب مخلوقاً من المخلوقات؟ فكيف لا نصرخ بالحق محتجبين على هذا القول؟ لأنه لو كان الكلمة موجوداً في الاشياء المخلوقة “كحياة” بالطبيعة، والمخلوقات تشترك فيه، فهو اذن آخر غير تلك المخلوقات التي يوجد فيها. ولكنه إذا كان بالطبيعة غير الكائنات المخلوقة فكيف لا يكون هو الله الكائن على الكل؟
أما إذا لم يخجل الهراطقة، ولم يكفوا عن تخيل الابن مخلوقاً، وهو مانح الحياة في المخلوقات، فبذلك اولاً يعتبر الابن شيئاً كائناً في نفسه، وثانياً فانه يكون مشتركاً في نفسه، والتناقض هنا: انهم يكادون ان يدعوا بأن الابن وهو الحياة الذي اعطى الحياة، يصبح هو نفسه بعد ذلك كمخلوق محتاجاً إلى الاشتراك في حياته هو، وهل يوجد أغرب من الادعاء بأن “الحياة” توهب للكائنات، ثم نعود ونحسب “الحياة” انها من ضمن هذه الكائنات التي تنال “الحياة”. يا ليت الذين يقاومون الله يرون الاستحالة التامة لما وصلوا اليه. فلا يمكن ان يكون الكلمة الذي يحيي الكل ويهب المخلوقات الحياة هو من ضمن المخلوقات. وهكذا، فهو ليس مخلوقاً، بل هو بالطبيعة حياة كل المخلوقات.
وسوف نرى من البراهين التالية صحة هذا:
البراهيــن
أولاً:
لو كان الابن ليس من جوهر الآب بل هو من خارجه لصار خاضعاً للآب كالمخلوقات. فكيف اذن يحيي كل الاشياء، وهو من بين الاشياء المخلوقة؟ او نفس السؤال بشكل آخر: ما هو الفرق بين الخالق والمخلوق؟ وكيف نفهم كلمات الرسول بولس الخاصة بطبيعة الله “الذي يحيي الكل؟” (1 تيموثاوس 6: 13) لو كان الابن مخلوقاً، وهو قادر على ان يحيي الكل، لأصبحت الخليقة قادرة على ان تحيي نفسها، وليست محتاجة بالمرة إلى الله. ولم يعد في الطبيعة الإلهية ما يميزها عن المخلوقات، وأصبحت المخلوقات مثل الله قادرة على ان تفعل ما يفعله الله. وهذا مستحيل. اذن الابن ليس مخلوقاً، بل هو الله ولذلك فهو بالطبيعة الحياة ايضاً.
ثانياً:
يتعجب المرنم في المزامير من الطبيعة الإلهية، وينسب اليها الكرامة الفائقة بقوله: “عندك ينبوع الحياة” (مزمور 36: 9). وحسب ادعاء الهراطقة جعل الآب الابن أقل منه، وليس من طبيعته ومع كل هذا يظل الابن يحيي الكائنات، وبالطبيعة الحياة الذي يحيي لماذا يتعب المرنم وهو يعلن ان ينبوع الحياة هو عند الله وحده؟ وطالما ان الابن مخلوق وأقل من الآب ومحيي، تصبح كل الخليقة قادرة ان تمنح الحياة حسب المشورة الرديئة للهراطقة. ولكن هذا مستحيل. اذن الابن هو بالطبيعة “الحياة”، إله من إله، حياة من حياة.
ثالثاً:
لو كان الابن بالطبيعة “الحياة”، وفي نفس الوقت مخلوقاً وليس من جوهر الآب، حسب تصور الهراطقة، فان طبيعة المخلوقات تصبح مثل الابن وتدعى هي ايضاً الحياة، وبذلك تصبح كل المخلوقات محييه، حتى وان لم تمارس توزيع الحياة، بل تصبح ايضاً واجبة الوجود. فإذا صارت الخليقة كذلك، فماذا يبقى من الصفات التي تميز الله، ولماذا يشير الابن باطلاً إلى نفسه “أنا هو الحياة” (يوحنا 14: 6)؟ كان ألاجدر به ان يقول “أنا معكم الحياة”، وهذا يكون صحيحاً لو كان المخلوق هو الحياة.
ولكن حيث انه هو وحده الحياة، وهذا هو صلاحه الخاص به، فمن الواضح انه لا يحسب نفسه مع المخلوقات، وانما مع جوهر الآب، الذي له هو ايضاً الحياة.
رابعاً:
الذي يشترك في الحياة، ينالها، ولا تصبح الحياة حقه الطبيعي، بل تأتيه من مصدر آخر، فإذا كانت كل المخلوقات تشترك في حياة الابن، فالحياة تأتيها من الابن، وبذلك يصبح هو غير المخلوقات التي تشترك في حياته. اذن فهو ليس مخلوقاً، بل الله المحيي الذي نعترف بأنه من جوهر الآب وبذلك نعبد إلهاً وأحداً، ولا نسجد الا له وحده.
خامساً:
إذا كنا نميز الأمور جيداً، فليس لدينا سوى الله والخليقة فقط وهذا يعني ان كل ما هو ليس الله بالطبيعة فهو بكل يقين مخلوق، وكل ما هو خارج أطار المخلوقات، يكون بكل يقين من دائرة الالوهية. فإذا تيقناً من هذا، فعلى الهراطقة ان يقولوا لنا، إذا فصلنا الابن عن جوهر الله الآب، فكيف يهب الحياة؟، لأننا على يقين من ان الطبيعة الإلهية لها الحياة كخاصية لها وهي لا تعطيها لغيرها. ولكن ان كان الابن مخلوقاً، وهو الحياة ايضاً، صارت نعمة وهبة الحياة خاصة بكل المخلوقات، وتصبح كل المخلوقات بالطبيعة، “الحياة”. فأي حاجة تدعو للاشتراك في الابن؟ وماذا يكسب الهراطقة من ذلك؟ ان ادعاءهم قادهم إلى ان يكونوا هم ايضاً “الحياة”. وهذا مستحيل، لأنهم بالضرورة يحتاجون إلى الحياة بالاشتراك في الابن. اذن الابن الوحيد وحده هو بالطبيعة الحياة، ولذلك لا يحسب مع الخليقة، بل مع ذاك الذي ولده الذي هو بالطبيعة الحياة أي الآب.
سادساً:
إذا كان الابن هو بالطبيعة الحياة، فهو: أما غير الخليقة او مثل الخليقة. فإذا كانت له طبيعة مساوية لطبيعة الخليقة، فكيف لا يكون كاذباً عندما يقول: “أنا هو خبز الحياة، الذي نزل من السماء، والواهب الحياة للعالم” (يوحنا 6: 33، 35)، وحسب ادعاء الهراطقة تصبح الخليقة حية بذاتها. ولكن ان كان الابن غير مساو لطبيعة الخليقة، فانه يكون غير مخلوق، محتفظاً بصلاحه الخاص به. لأن الخليقة ليست هي بالطبيعة، الحياة بل بالحري تحتاج للحياة وتشترك في الحياة.
سابعاً:
لو كان الابن هو بالطبيعة الحياة، ومساو للمخلوقات، بسبب عدم كونه من جوهر الله الآب، حسب ادعاء الهراطقة، فلماذا يقول المرنم في المزمور ان “السماء تبلى وتعتق مثل الثوب” (مزمور 102: 26) أما للابن فهو ينسب الصفات الإلهية ويصرخ بصوت عال “أنت أنت وسنوك لن تفنى” (مزمور 102: 27)، واما ان يفنى الابن ويشيخ معنا كمساوي لنا في الطبيعة، فهذا يعني انه ليس الحياة، او انه الحياة التي لا تفنى ولا تشيخ. لذلك فالابن ليس مخلوقاً مثلنا، وحيث انه الحياة بالطبيعة، فهو سيهب الحياة ايضاً لكل الاشياء التي يريد ان يهبها الحياة.
ثامناً:
إذا كنت الاشياء لا تستطيع ان تشترك في حياتها لتأخذ حياة من حياتها، بل الخليقة تشترك في الابن لأنه الحياة، اذن الابن ليس مخلوقاً، ولا الخليقة حياة، بل الابن وحده هو الحياة.
تاسعاً:
ان تهب الحياة مختلف تماماً عن ان تحصل على الحياة، فالأول عطاء والثاني أخذ. والابن يهب، فهو معطي، والخليقة تأخذ فهي تصير حية، لذلك فالابن ليس مثل الخليقة، لأن المحيي لا يكون مثل من ينال الحياة.
(*) تحسب لنا.
([1]) عدد من المخطوطات الرئيسية القديمة وجدت فيه الآية هكذا “وارث بالله” بدلاً من “وارث لله بالمسيح”.