Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

نصوص وطقوس البصخة (الفصح) في الكنيسة القبطية الأُولى – الأب عمانوئيل لان

نصوص وطقوس البصخة (الفصح) في الكنيسة القبطية الأُولى – الأب عمانوئيل لان

نصوص وطقوس البصخة (الفصح) في الكنيسة القبطية الأُولى – الأب عمانوئيل لان

نصوص وطقوس البصخة (الفصح) في الكنيسة القبطية الأُولى – الأب عمانوئيل لان

 

 

اسم المقالة: نصوص وطقوس البصخة (الفصح) في الكنيسة القبطية الأُولى

TEXTES ET RITES DE LA LITURGIE PASCALE DANS L’ANCIENNE ÉGLISE COPTE

Communication présentée au VIIe Congrès d’études liturgiques de l’institut Saint – Serge

اسم المؤلف: الأب عمانوئيل لان

Emmanuel Lanne, O.S.B.

 

 

 

نصوص وطقوس البصخة (الفصح) في الكنيسة القبطية الأُولى

(ورقة بحث مقدَّمة للمؤتمر السابع للدراسات الليتورجية لمعهد القديس سرجيوس) للأب عمانوئيل لان

لدينا كأساس وقاعدة لعمل بحث حول تطوُّر صلوات أسبوع الآلام في مصر، وثيقة تُعتَبَر واحدة من أهم الوثائق في هذا الشأن، ألا وهي ”مصباح الظلمة“ للعلاَّمة الشهير أبو البركات، والتي يرجع تدوينها إلى السنوات الأُولى من القرن الرابع عشر، بل وربما قبل ذلك بقليل(1).

وكما نعرف ”فالمصباح“ يحوي تجميعاً لمنتخبات من القوانين الكنسية والدراسات الليتورجية، قام بها رجل على قدر عالٍ من العِلم والمعرفة والذكاء. فترك لنا منجماً من المعارف والمعلومات عن الكنيسة القبطية في ذلك العصر. على أن هذا العمل ذو القدر البالغ من الأهمية لم يُنشر بعد للأسف كاملاً. فالطبعْة العربية للنص مع الترجمة الفرنسية لها ظهرت أولاً في P.O. بواسطة الأب فيلكور  Villecourt بالاشتراك مع الكاردينال تيسرون Tisserant(2). ومنذ ذلك الحين؛ بدأت طبعة عربية في مصر لكنها جاءت بدون ترجمة أو تعليق عليها(3). ومن حُسن الحظ؛ فالأب فيلكور قبل أن يشرع في طبعة P.O.؛ والتي ظلَّت لفترة ما غير مُستكْمَلَة، نَشَرَ في ”مجلة Le Muséon“ ترجمة فرنسية تحوي بعض التعليقات والحواشي والمراجع للفصول الرئيسية في ”المصباح“ التي تختص بالليتورجيا؛ ولا سيما كل ما له صلة بأسبوع الآلام بصفة خاصة، والفصح بصفة عامة(4).

هذه الترجمة هي في الواقع أثمن الترجمات، والتي عَوَّلْتُ على الرجوع إليها طلباً للحصول على الأدلة التي سوف أعرض لها الآن في هذا البحث.

خدمات أسبوع الآلام القبطي توجد في كتاب خاص يُدعَى ”كتاب البصخة“(5)، وهو في الواقع عبارة عن قطمارس يحوي بالإضافة لذلك إشارات أساسية (رئيسية) للطقوس والألحان الخاصة بهذا الأسبوع العظيم. ويُعْزي أبو البركات مُصَنَّفهُ بصفة قاطعة للأب البطريرك غبريال بن تريك (1131-1146)(6). ثم يُقدِّم لنا في موضع آخر من ”المصباح“ هذا البطريرك كمُصْلِح ومُجَدِّد، أو بالأحرى كمقنِّن (جامع قوانين) لليتورجيا المصرية(7) … فهل معنى هذا أن أقول إن غبريال هو مؤلِّف ”كتاب البصخة“؟ من الواضح تماماً أنه لم يعمل سوى تقنين بعض الاستخدامات لكي يسوِّي ويوحِّد الاحتفال بالطقس المصري ليكون على نمط واحد.

ولكي يقف ضد الاستخدامات المختلفة والتباين المفرط ما بين مجتمع محلي (مكاني) وآخر، اتخذ البطريرك زمام المبادأة وحاول أن يفرض ما ارتآه أكثر مُلاءمة ومطابقة للتقليد المصري. وهكذا فعل نفس الشيء بالنسبة للثلاثة أنافورات من القداس القبطي، فصارت من ذلك الوقت هي الوحيدة المُستَخدَمة في كنيسة الإسكندرية. على أن هذا الجهد الذي بذله البابا غبريال بن تريك في التقنين، لا يبدو أنه قد جاء -خلال عدة قرون -بالنتائج المنتظرة منه. ويشهد أبو البركات نفسه، وفي عدَّة مرَّات مختلفة، على التنوع الكبير في الاستخدامات الليتورجية في عَصْرِهِ، وخصوصاً خدمات يوم أحد الشعانين (السعف). وأيضاً خدمات أيام البصخة المقدَّسة.

وفي مثل هذه الأحوال؛ فإن دراسة ليتورجية مُقَارَنة تبدو غير مُيسَّرة أو هيِّنة، لأن الإنسان يحاول دائماً أن يُعمِّم سريعاً مباشرات طقسية معينة ليست لها سوى قيمة مكانية وزمنية مؤقتة.

ومع هذا، فإن محاولة أولى لرفع الركام من فوق المعطيات الأساسية للفصح القبطي، لم تكن مستحيلة نهائيًّا. لأنه بالرغم من وجود اختلافات في الاستخدامات، إلا أن مؤلَِّف ”المصباح“ عكف على رفعها بجهد دءوب، فهناك نقاط أساسية وجوهرية أشار إليها في بعض الأحيان بطريقة صريحة واضحة، لدرجة أن جميع كنائس مصر كانت متفقة معه عليها. من ناحية أخرى يمكننا أن نقول إن الطقوس التي عرَّفنا بها أبو البركات تقابل في مجملها تلك الطقوس التي نقلتها لنا كتب الليتورجية التي وصلت إلينا سواء كانت في حالتها الكاملة أو المجزَّأة. وأحد هذه الكتب هو ”المعجم البحيري لأسبوع الآلام المقدَّس“، الذي نشره بورمشتر O.H.E. Burmester في P.O. والكتاب يزودنا بنقاط تعتبر بحق علامة إرشادية ثمينة جدًّا لشرح وتأويل ومراجعة الدلائل التي قدَّمها كاتب ”المصباح“(8).

إن كثيراً من النصوص (الليتورجية) القديمة سواء كانت مُدوَّنة باللغة (القبطية) الصعيدية أو البحيرية بل وأيضاً اليونانية، لطقس البصخة المصري لم تُنشَر حتى الآن. والمجال لا يتسع في هذه الدراسة الحالية لتقديم قائمة مُفصَّلة بها، أو حتى موجزاً مختصراً عنها. ومع هذا؛ فإن واحداً من هذه النصوص وهو مخطوطة قراءات إنجيلية (لطقس البصخة) يوناني -عربي بمكتبة ليدن Leyde، قد أثار انتباه علماء الليتورجيا؛ ألا وهو Scaligerius 342.(9) والواقع أنه ”كتاب بصخة“ يحتوي على فصول قراءات أسبوع الآلام، والأسبوع التالي لعيد الفصح. وقد انخدع العالِم سكاليجيه Scaliger -ومن بعده مؤلِّفو كتالوج مكتبة ليدن -في الكتابة اليونانية المدوَّنة بأحرف كبيرة وبخط يميل إلى استدارة زوايا الحروف في المخطوطة. فرأوا فيها مجلَّداً يرجع إلى ثمانمائة عامٍ على الأقل، أي يعود بالتالي إلى حوالي القرن التاسع.

ومن جانبه، فقد نشر العالِم بومشتارك Baumstark مقالتين موثَّقتَين في ”مجلة O.C. Oriens Christianus“ موضِّحاً أن الكتاب يشكِّل أهمية كبرى في دراسة تاريخ الطقس المصري(10). أما من جهة قِدمه الزمني (أي زمن كتابته)؛ فقد كان أكثر تحفُّظاً من العالِم Scaliger لأنه اتخذ من محتوى المخطوطة فقط(11) أساساً ونقطة انطلاق لتقديره. ولأسباب يمكن أن أعرضها فيما بعد، أستطيع أن أضع بدقة كبيرة تاريخ هذه المخطوطة، فهي ترجع إلى زمن متأخِّر جدًّا عن ذلك الذي سبق وافترضه العالِم Scaliger والذين جاءوا بعده. ومن المرجَّح جدًّا أن تكون قد كُتِبَت في دير أبو مقار في عصر البابا بنيامين الثاني، أي في الربع الثاني من القرن الرابع عشر. ومع ذلك فهذا التأريخ لم يحل جميع المعضلات والمشكلات التي أثارها هذا القطمارس لأن وجوده بحد ذاته يبدو مُناقِضاً للأدلة القليلة التي أعطانا إياها أبو البركات والذي كتب قبل ذلك بسنوات قليلة جدًّا عن الاحتفال بالفصح في هذا الدير ذي الأهمية الكبرى في حياة الكنيسة القبطية. لأنه في دير القديس أنبا مقار كان يتم تنصيب البطريرك مرَّة ثانية (بعد رسامته في الإسكندرية)، وكان يقيم فيه لفترات متواترة.

ولأن، كما سبق وقلت، مخطوطة ليدن هي ”كتاب بصخة“ مدونة باللغتين اليونانية والعربية، والترجمتين مرتبتين في عمودين (نهرين) متوازيين، فهذا يؤكِّد أنهم في هذا الدير كانوا يستخدمون هاتين اللغتين في جملة القراءات والطقوس الخاصة بأسبوع الآلام، على الأقل في ذلك الوقت الذي دُوِّنَت فيه المخطوطة. وليس ذلك فقط، بل وأيضاً كانتا مُستَخدمتين في أنافورا الليتورجيا كما نعرف ذلك من مصدر آخر(12).

ويُخبرنا أبو البركات في مرَّة واحدة على الأقل وبكل وضوح أن دير أبو مقار على النقيض من استخدام كنائس مصر الأخرى، لم يكن يفسِّر القراءات عربيًّا؛ ويتضح من السياق أنه كان يتلو القراءات باللغة القبطية فقط. أما مؤلِّف ”المصباح“ فلا يذكر شيئاً عن اليونانية في هذا المضمار، ويبدو أنه أغفل أنها كانت مستخدمة. وبرغم هذا؛ فإن أبو البركات نفسه يحذرنا من أن ننجرف لتأويل صارم قاطع جدًّا لما يقوله لنا عن استخدامات دير القديس مقاريوس لأنه لا يعرفها سوى عن طريق السماع، حيث يكتب قائلاً: ”والبعض ينقل أنه في دير أبو مقار …“(13). وعلى ذلك فلا نستطيع أن نخرج بنتيجة مؤكَّدة لِما أشار إليه، إذ يبدو أنه قد عرفها عن طريق شهادات غير مباشرة وصلت إليه.

وإذا تواجهنا مع استخدامات الكنيسة القبطية الآن، فإن معطيات كل من أبو البركات والقطمارس البحيري الذي نشره بورمشتر Burmester ومخطوطة ليدن للقراءات الإنجيلية، فإنها جميعاً تُقدِّم عدداً كبيراً من النقاط المشتركة والمتلاقية. فبالنسبة لطقوس الكنيسة القبطية اليوم، فإننا نمتلك في الواقع طبعة جيدة من ”كتاب البصخة“ الذي نشره الأقباط الأرثوذكس عام 1949، وهو أكثر تكاملاً ومؤمَّن أفضل من ”كتاب البصخة“ الذي نشره الأقباط الكاثوليك عام 1902. ولذا فقد استخدمتُ هذه الطبعة في دراستي الحالية.

بعد هذا البيان الموجز والذي لا غِنَى عنه، عن حالة الوثائق الخاصة بموضوع بحثنا حول التطور الذي طرأ على ليتورجية أسبوع الآلام القبطي، أود أن أقول بعض كلمات في اتجاهات مختلفة ينبغي أن يُعمَل فيها بحث منهجي منظم نوعاً ما عن الليتورجية المُقارَنة. لأنه من الواضح أن المشكلة المحورية تكمن في ما هي (ماهية) السمات الأساسية الأصيلة للاحتفال بالفصح عند الأقباط؟ ثم ما هي التأثيرات التي تعرَّضت لها نتيجة مصريتهم؟ فقد سبق أن أوضحنا الدور الكبير الذي لعبته كنيسة أورشليم في خدمة صلاة مساء الجمعة العظيمة(14). لكن السؤال هو: هل هذا التأثير جاء مباشرة أو بتوسُّط السريان أو اليونان البيزنطيين؟ الواقع أنه توجد هنا احتمالات كثيرة والإجابة على هذه التساؤلات ليست بالشيء اليسير لأنه توجد عدَّة أسباب مختلفة.

فبدايةً؛ وكما سبق وأشرت عاليه، فموضوعنا محدود للغاية فيما يتصل بالطقس القبطي نفسه، والذي عرف خلال فترة العصور الوسطى اختلافاً بالغاً في الاستخدامات التي تباينت أشكالها بحسب الأماكن المختلفة. وقد اجتهد أبو البركات في ذكر تلك التي يعرفها، بيد أنه لم يكن على دراية بتلك الاستخدامات التي تمارس في كنائس القاهرة، وعلى وجه الخصوص الكنيسة البطريركية المعلقة والمكرَّسة للعذراء والدة الإله الثيؤطوكس. ومع ذلك فهو غالباً ما يذكر أن أهل الصعيد قد حفظوا عدَّة عوائد مختلفة تماماً، لكن مما لا شكَّ فيه أن كنائس الجنوب المصري -والتي أخذت ليتورجيتها تتشابه قليلاً قليلاً مع ليتورجية كنائس الشمال -لم تكف عن أن تسلِّمنا جميع أسرارها؛ هذه التي ينبغي أن نبحث فيها عن العناصر القديمة جدًّا ذات السمات المصرية الخالصة التي يصطبغ بها أسبوع آلام الأقباط(15).

على أن خلاصة كل الليتورجيا المقارنة عن الفصح القبطي، لا يمكن أن تكون سوى أمر مؤقَّت لسبب آخر وهو: حالة الدراسات والأبحاث غير الكافية عن أسبوع الآلام في الطقوس الشرقية الأخرى. وقد تهيأت لنا فرصة الاطلاع على وثيقة على درجة كبيرة من الأهمية عن تاريخ طقوس كنيسة أورشليم مصدر كل تطوير سابق. فأولاً تشهد بذلك مذكرات السائحة إيجيريا المعروفة لدى الجميع بدرجة كافية، حتى لا نحتاج أن نؤكِّد على أهمية شهادتها(16).

ثم يأتي القطمارس الأرمني وبالأخص القطمارس الجيورجي، والذي اعتنَى بمهارة فائقة كل من ب. تارشينشيفللي
P. Tarchnischvili، م. ج. جاريت  M.G. Garitte(17) بنشر طبعاته المختلفة المُنَقَّحة. وبناء على هذا؛ يمكننا أن نقول إنه أصبحت في متناول أيدينا جميع المعلومات المرجوَّة والمطلوبة عن الطقس الأورشليمي لأسبوع الآلام منذ نهاية القرن الرابع وحتى القرن الثامن بالتمام، هذا بالإضافة إلى شهادة شهود آخرين أفادونا بطريقة جيدة عن التطور الذي حدث قبل هذا التاريخ(18).

أَمَا وقد تَـزَوَّدنا بهذه الأدوات (العلمية) اللازمة للبحث، فما هي إذن العناصر الرئيسية التي يمكننا أن نبرزها عن أسبوع الآلام القبطي؟ لبلوغ هذا الغرض؛ رأيت أن أبسَط الطرق وأيسَرها هو أن نتأمَّل وندرس في عجالة سريعة أحداث يوم فيوم من أيام الأسبوع المقدَّس، والمعطيات الرئيسية لشهودنا. وسوف نرى أن هذه المعطيات سوف تثير مشكلات كثيرة يصعب حلها، إلا أن هذه المشكلات عينها أو بالأحرى الاستنتاجات أو النظريات والافتراضات، هي التي أريد أن أتصدَّى وأعرضها في هذه الدراسة:

 

[1] أحد الشعانين (السعف):

لقد أسهب أبو البركات واسترسل طويلاً في وصف الاحتفال بأحد السعف، والاستخدامات المختلفة والمتباينة للغاية لموكب السعف (دورة الشعانين) في كنائس مصر المختلفة. ويلزمنا في البداية أن نلاحظ أن هذا الطقس موجود في كل مكان، وأنه تعرَّض لنمو وتطوير كبير جدًّا. بينما نراه من ناحية أخرى قد اختفى من الطقس البيزنطي بعد القرن 10-11، إلا أنه ربما يكون قد استمر في بعض كنائس العالم اليوناني في وقتٍ متأخِّر(19).

أما بالنسبة للأقباط، فهذا الاحتفال المهيب بالسعف يأتي منفصلاً (مستقلاً) عن البصخة بحصر المعنى. لأنه بخلاف ما أشارت إليه مذكرات السائحة إيجيريا، فإن بصخة الأقباط تبدأ من ليلة الاثنين بعد انتهاء أحد الشعانين؛ ويمكننا أن نلاحظ ذلك من العناوين المختصة بالأسبوع العظيم كما بيَّنها مؤلِّف ”المصباح“(20).

والاحتفال المهيب بأحد السعف يتميَّز بطقسين: موكب السعف، وصلاة الموتى (التجنيز).

والخدمة من عشية وحتى المساء تتوافق مع فصل إنجيل معيَّن ألا وهو ”وليمة عشاء بيت عنيا“ (يو 12: 1-11)، التي صُنِعَت قبل الفصح بستة أيام، حيث دهنت (مسحت) مريم يسوع بالطيب. وبينما لم يتكلَّم أبو البركات عن هذه الخدمة، نجد أن القطمارسات الثلاثة القبطية، التي نستخدمها كشاهد، تذكرها. ثم نفس هذا الإنجيل نجده في قطمارس أورشليم تحت سبت لعازر. هنا ويلزمنا أن نسجِّل هذا التوافق (الانسجام) لأن الطقس البيزنطي يُرحِّله إلى يوم الاثنين من البصخة.

وعلاوة على هذا؛ فإن موكب السعف (دورة الشعانين) في الطقس القبطي يحتوي على نقط مشتركة أخرى مع الطقس الأورشليمي. صحيح أن مؤلِّف ”المصباح“ يبدو مندهشاً من التنوُّع الكثير في استخدامات الكنائس المحلية (المكانية) في مصر لهذا الموكب، لكن هذا التنوُّع الظاهر يخفي وراءه وحدة غاية في العمق: فالموكب يُجرَى في عدد معيَّن من المحطات (الوقفات) يتم خلالها قراءة فصول من الأناجيل، أو يرتِّلون ألحاناً مناسبة. هذا الترتيب لاحظه العالِم بومشتارك Baumstark لأنه هو أيضاً نفس الطقس المُستخدَم في أورشليم، والذي سبق وشَهَدَت على صحته إيجيريا، وأكده قطمارس جورجيا(21). كذلك لحن ”مبارك الآتي باسم الرب“ هو أيضاً من ممارسات أورشليم، ولكن ليس بمقدورنا أن نجزم بأنه إحدى البصمات المباشرة للطقس القبطي (على الطقس الأورشليمي).

ومع هذا نلمح وجود الخاصية المصرية خلال الأسبوع العظيم: فتُقرأ الروايات الأربعة الإنجيلية لحادثة الدخول المسيَّاني ليسوع للمدينة المقدَّسة. هذه الخاصية توجد في القطمارس الذي طبعه Burmester وأيضاً في دلال البصخة للطقس القبطي الحديث. وتورد أيضاً مخطوطة ليدن للقراءات الإنجيلية (لطقس البصخة) إشارة للروايات الأربعة، لكن على ما يبدو أنها لا تضع قاعدة لقراءة كل واحدة منها. أما أبو البركات فهو لا يُحدِّد أية قراءة (من القراءات الأربعة) هي التي تُقرأ إحياءً لذكرى الشعانين، ويظهر أن خدمة الصلاة التي يصفها لا تستخدم سوى قراءة واحدة فقط منها؛ أما الأناجيل الأُخرى التي يشير إليها فهي لا تختص بالعيد نفسه، وإنما تتعلَّق بالأماكن التي تُجرى فيها الوقفات (المحطات) المختلفة لموكب الشعانين.

من ناحية أخرى، ففي نهاية القداس وعند التناول، فإن جميع شهودنا من الأقباط قد عرَّفونا بوجود طقس خاص، وهو صلاة تُقام مُسْبَقاً من أجل الأموات. وهذا الطقس كما يشرحه أبو البركات عبارة عن صلاة تجنيز تُقام مُسبقاً لأجل الذين ينتقلون أثناء أسبوع البصخة المقدَّسة(22). لأنه خلال هذه الأيام غير مسموح بالتعميد أو خدمة الصلاة على الموتى. وهذا الاستخدام هو علامة أكيدة على أن الفصح لم يبدأ بعد بالنسبة للأقباط، بخلاف ما يُراعَى في أورشليم.

 

[2] أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء (من البصخة):

يتضح مما سبق أنه من ليلة الاثنين تبدأ البصخة بحصر الكلمة بالنسبة للأقباط، وخلال هذه الأيام الثلاثة لا يُحتَفَل بإقامة الإفخارستيا، فهل كان ذلك معمولاً به من قبل؟ لا يبدو ذلك على الأقل بالنسبة ليوم الثلاثاء من البصخة، كما سأحاول أن أُبيِّن ذلك:

نشر الأب فيلكور Villecourt عام 1923 رسالة لمكاريوس أسقف ممفيس، في مجلة ”Le Muséon“ عن الليتورجية القديمة للمعمودية والميرون تشهد لاستخدام واضح جدًّا بحفظ طقس الإفخارستيا في الأيام الثلاثة الأُولى من الأسبوع الكبير(23). فيقرر قائلاً: ”إننا قد وجدنا مكتوباً أنه عندما سُئل البطريرك أنبا ميخائيل الكبير عن هذه العادة، أجاب وقال: إنه في أيام (زمن) الرسل كان يُؤمَر أن لا يكون الشعب بدون تقدمة (أي بدون إفخارستيا).

ثم يضيف؛ ونحن نأمر أن التقدمة التي توضع على المذبح لكي يتم تقديسها في يوم أحد الشعانين، يُقسَّم منها جزء كبير كجسد مقدَّس يُغمس في الدم الموضوع في الكأس الذي قُدِّس في ذلك اليوم، فيكون كجسد مرشوم بغمس الخبز في الخمر، وبعد حتى يوم الثلاثاء لكي يتناول منه الشعب“. ثم يضيف مكاريوس الذي من ممفيس ويقول: ”إنه بحسب رأيه هو كان يعمل تقدمته (تقدمة الخبز) في الإسكندرية حيث المقر البطريركي، وفي الأديرة مواضع الآباء القديسين، وينبغي أن نتناول منها بدون أدنى شك“.

هذا النص الذي يشير إلى طقس حقيقي عند تقديس سابق ليس مفهوماً على الإطلاق، لأنه من الواضح -كما لاحظ ذلك الأب فيلكور -أنه يرجع إلى استخدام مصري قديم، إذ لا يحتفظ إطلاقاً بالإفخارستيا خارجاً عن دائرة الاحتفال بإقامة القداس. والأب العالِم قد لاحظ أيضاً أن حِفظ ذخيرة الإفخارستيا من يوم أحد السعف للتناول منها أيناء أسبوع البصخة، كانت هي (المرة) الوحيدة من نوعها التي عرفتها الكنيسة القبطية، وكذلك يبدو أنها لم تُسلَّم لباقي الأماكن. ويقول أبو البركات صراحة: ”إنه لا يستطيع أحد أن يحتفظ بالإفخارستيا“ وعلى ذلك يظهر جليًّا أنه إذا كان البطريرك قد استشعر الحاجة إلى تقنين هذا الاستخدام بناء على تقليد رسولي، فإن الكثيرين قد عارضوا وأنكروا شرعيته.

ومع هذا فإننا نلاحظ خاصية عجيبة، ففي التفسير الذي قدَّمه ميخائيل الأول، والذي نقله عنه مكاريوس أسقف ممفيس، نجد أن ذخيرة الإفخارستيا المحفوظة إنما قد جُعِلَت (عُمِلَت) ليوم الاثنين من البصخة. بينما النص السابق يذكر في الواقع أن الخبز المقدَّس إنما قد أُعِدَّ حتى يوم الثلاثاء؛ فهل معنى ذلك أن نقول إنه كان يُحتَفَل بالليتورجيا يوم الثلاثاء من البصخة؟! أمر آخر يدعو للدهشة يظهر من دراسة قطمارس بحيري محفوظ في المتحف البريطاني، وصفه العالِم كرّم Crum في كتالوجه. فقد أشار هذا المُصنَّف إلى أنه بعد الساعة التاسعة من يوم الثلاثاء من البصخة يتم الاحفال بصلاة ليتورجية اللقان، تلك التي تتكرَّر يوم الخميس من البصخة (خميس العهد)، والتي تُتْبَع مباشرة بالقداس. فإذا كان كل من مكاريوس أسقف ممفيس ومؤلِّف ”المصباح“ يقيم علاقة وثيقة العُرى ما بين معنى غسل الأقدام والإفخارستيا، فهذا يعني أنهما لا يستطيعان فهم الواحدة بمعزل عن الأخرى، وأنهما يَرَيان فيهما صورتين مختلفتين لنفس الحقيقة(24).

من جهة أخرى فنحن نعرف أيضاً من مكاريوس نفسه (أسقف ممفيس) أن احتفال يوم خميس العهد قد طرأت عليه تغييرات خطيرة جدًّا في القرن العاشر نتيجة لتأثيرات مباشرة من الطقس السرياني عليه. لأنه في هذا العصر تمَّ ترحيل الاحتفال بتكريس الميرون من يوم الجمعة السابقة لأحد الشعانين (أي جمعة ختام الصوم)، إلى يوم خميس العهد. وهذا الاستخدام الجديد قد فَرَضَ نفسه (على الطقس القبطي) بطريقة نهائية قاطعة في ا لربع الثالث من القرن العاشر في عهد البطريرك أفرام السرياني. إذن، فربما يكون أيضاً في هذا العصر قد تمَّ ترحيل صلاة اللقان من يوم الثلاثاء إلى يوم الخميس من البصخة المقدَّسة، وبالتالي اختفى الاحتفال بالإفخارستيا من يوم الثلاثاء. والحق أن هذا مجرَّد افتراض يحتاج إلى أبحاث أخرى لاحقة لتأكيده، ولكنه لا يبدو لي من غير المحتمل، خاصة وأن ليتورجيا أورشليم لا تقدِّم لنا أيَّة معلومات محققة حول هذه النقطة.

هناك سمة أخرى جديرة بالملاحظة عن أسبوع الآلام القبطي، وهي أن جميع خدمات هذه الأيام تُقام خارجاً عن المذبح بل في وسط الكنيسة، باستثناء قداس الخميس (خميس العهد) والسبت (سبت النور). ويقدِّم لنا أبو البركات سبباً لذلك حيث يقول القديس بولس: «فلنخرج خارج المحلة حاملين عاره»(25).

أما العلامة المميِّزة جدًّا لتطور الخدمات خلال الأيام الثلاثة الأُولى من الأسبوع المقدَّس، فهي الاستطالة في نظام القراءات. فالقطمارس الذي نشره بورمشتر Baurmester يحتوي على فصل من قراءة إنجيلية لكل ساعة من ساعات الليل والنهار، بالإضافة إلى أن الساعة الأُولى والساعة التاسعة من النهار تحتوي أيضاً على مجموعة من النبوات مأخوذة من الأسفار القانونية الثانية. وقد حُفِظَ هذا النظام بالكامل في القطمارس الحديث ولاسيما الفصول الإنجيلية المُشار إليها، وفصول أخرى قليلة العدد جدًّا أُضيفت إليها. وقد أبدى مؤلِّف ”المصباح“ ملاحظة واضحة وهي أنه في عصره لم تكن تُقرأ النبوات إلاَّ في الساعة الأُولى والساعة التاسعة من النهار.

ولكنه التـزم الصمت فيما يخص الأناجيل. علماً بأنه كشف من جانب آخر أن كنيسة سندمنت Sandamant كان لها نظام مختلف، حيث كانت تُقرأ فيها النبوات في جميع ساعات النهار والليل(26). أما مخطوطة ليدن اليوناني/ العربي للقراءات الإنجيلية (لطقس البصخة)، فلم تذكر شيئاً عن النبوات وإنما تورد فقط فصل إنجيل للصباح والمساء؛ الأمر الذي يتطابق بالضبط مع استخدام أورشليم. وعلى العكس من ذلك، فإن المخطوطة العربية للأناجيل الأربعة والمحفوظة في الفاتيكان تحت رقم (ar. Nº 15) تشتمل على فصل من الإنجيل لكل ساعات الليل والنهار من يوم الاثنين وحتى يوم الخميس من البصخة (يوم الخميس مشمول أيضاً). وقد لاحظ بومشتارك أن ذلك يوجد في طقس السريان اليعاقبة(27)، وبالطبع يمكننا أن نلحظ تأثير هذا الطقس على الليتورجية المحلية (الموضعية) في مصر.

في الساعة التاسعة من يوم الثلاثاء -كما يشهد بذلك مؤلِّف المصباح وجميع شهودنا من الأقباط -يُقرأ الفصل المطوَّل من الحديث الإسخاتولوجي الذي ورد في إنجيل متى (مت 24، 25). وتخبرنا السائحة إيجيريا أن هذا الاستخدام كان معمولاً به من قبل في المدينة المقدَّسة (أورشليم) حيث كان يُقرأ هذا الفصل في مغارة Eléona باعتبارها الموضع الذي نطق فيه يسوع بهذا الحديث، وذلك في ليلة الثلاثاء صابح الأربعاء. ومن المحتمل أن يكون في هذه الممارسة تأثير أورشليمي أيضاً على الطقس القبطي، لأننا سوف نلاحظ أن فصل إنجيل هذا الحديث الإسخاتولوجي ليوم الثلاثاء قد فرض نفسه بنفسه، لأن المسيح نطق به قبل الفصح بيومين كما يشهد بذلك متى الإنجيلي.

على صعيدٍ آخر؛ من الصعب علينا ألا نرى علاقة مباشرة مع أورشليم في اختيار الفصول الإنجيلية ليوم الاثنين من البصخة، صباحاً ومساءً، لأنها تتطابق في مخطوطة ليدن وفي القطمارس الجيورجي، وهذه المطابقة تكون أقل وضوحاً للغاية ليوم الأربعاء، ولكن كما ذكرنا آنفاً، فمن المحتمل أن تكون خدمة الثلاثاء والأربعاء من البصخة قد تعرَّضت في الطقس القبطي إلى تغييرات ضخمة في غضون القرن العاشر. ولذا فعمل بحث منهجي منظَّم في الوثائق والمخطوطات العتيقة جدًّا، قد يكون هو السبيل الوحيد للوصول إلى رؤيا أوضح في هذا الشأن.

 

[3] يوم الخميس من البصخة المقدَّسة (خميس العهد):

يوم الخميس من البصخة المقدَّسة في الطقس القبطي له مسحة توبة حزينة مُميَّزة للغاية. ويخبرنا أبو البركات أنه في باكر (سحر) خميس العهد يُفتح الهكيل الذي ظلَّ مقفولاً خلال الأيام الثلاثة الأُولى من البصخة المقدَّسة؛ حيث كانت الخدمة تُباشَر في وسط (منتصف) الكنيسة، والهيكل يتشح بكسوة سوداء. والمزمور الذي يلي قراءة أعمال الرسل (الإبركسيس) ويقابل Graduel latin  يُرتَّل باللحن الجنائزي (الأدريبي). والإنجيل باللحن الحزايني.

بعد قراءة الإنجيل تأتي ”الطوبحات“، وهي عبارة عن 18 طلبة يسبقها نداء الشماس: Klinomen tagonata anastwmen (Kl. T.) kai anastwmen. واثنتي عشرة سجدة يصنعها الشعب، وتُكرَّر حتى يُكسر الصوم بعد ليتورجية الإفخارستيا. ثم يلي هذه السجدات 48 كيرياليسون مقسَّمة إلى 12 رباعية.

وفي هذا اليوم، وتذكاراً لعشاء الرب والفصح الجديد، يوزَّع على الشعب خبز مختمَر، ثم بعد الساعة التاسعة يبدأ طقس اللقان mandatum. ويصمت تماماً طقس أورشليم المبكِّر الذي وصفته إيجيريا عن هذه الاحتفالية الخطيرة جدًّا في الطقس القبطي، والتي سبق وتكلَّمنا عن المشكلات التي أثارتها. بينما في المقابل يذكرها قطمارس أورشليم بعد سنكسار الإفخارستيا، في حين أنها ترد متقدِّمة عليه (أي قبلة) في جميع وثائقنا القبطية، ويذكرها صراحة مصباح الظلمة مقدِّماً سبباً لذلك(28).

وحول هذا الاحتفال بطقس غسل الأقدام، تُقرأ فقرة من رسالة معلمنا بولس الرسول الأُولى إلى تيموثاوس؛ وهي تتكلَّم عن واجبات الأرامل حيث ينبغي أن يقمن بإضافة الغرباء وغسل أرجل القديسين (1تي 5: 10)، وأيضاً يُقرأ فصل من إنجيل القديس يوحنا (13: 1-17). وبينما يُقدِّم أبو البركات والقطمارس الذي طبعه برومشتر Burmester هذه القراءات من 6 أسفار من العهد القديم، نجد أن طقس أورشليم لا يعرف في المقابل سوى فصل الإنجيل فقط.

وصلاة اللقان في الطقس القبطي التي تسبق القداس، تحوي في حد ذاتها بِنْية حقيقية لليتورجية الإفخارستيا التي نجدها على سبيل المثال في طقس تكريس الزيوت المقدَّسة(29)، ويخبرنا كاتب ”المصباح“ أنها تبتدئ بصلاة الشكر، وتقدمة البخور، تليها القراءات، المزمور، فأجيوس، فالإنجيل. ثم تأتي بعد ذلك صلاة تبريك الماء بالصليب، ثم الصلوات التوسُّلية (الأواشي). أخيراً صلاة المقدِّمة؛ التي تماثل صلاة مقدِّمة أنافورا الإفخارستيا (محبة الله الآب … مستحق وعادل)، والصلاة على حوض اللقان. ثم يبدأ طقس غسل الأقدام، حيث يغسل الكاهن أقدام وأيادي الشعب. كما يقول أبو البركات، وهو يُسلِّم على كل فرد قائلاً: ”ليُحييكَ الرب“. يرتِّل الشعب لحناً يلائم التناول في بْنية القداس، ثم يُختَتم الطقس بصلاة شكر على اللقان، وعندئذ يبدأ القداس.

هذا القداس -الذي أَلْمَحنا إليه سابقاً -إنما يتميَّز بسمتين يسترعيان الانتباه: فلا يُسمح أولاً بتقبيل الإنجيل ولا يُعطَى الأسبازموس. ويشرح أبو البركات أن السبب في ذلك يرجع إلى تذكار قُبلة يهوذا. غير أن هذا التفسير غير مناسب على الإطلاق، لأن ليتورجية الإفخارستيا ليوم السبت الكبير (سبت الفرح)، تتجاهل قبلة السلامة، لذا فنحن نرى بالأحرى في ذلك إشارة إلى تقليد قديم مهجور. وهذا ما تؤكِّده لي السمة الأخرى التي تميِّز هذا القداس؛ فهو لا يحتوي إلا على قراءة واحدة من كتابات الرسل ألا وهي (1كو 11: 23-26)، هذه التي يحكي فيها القديس بولس رواية تأسيس الإفخارستيا، بينما القداس القبطي العادي يشتمل في العادة على ثلاثة قراءات من العهد الجديد تُقرأ قبل الإنجيل وهي: البولس، وواحدة من الرسائل الجامعة، ثم فصلاً من أعمال الرسل.

ويذكر أبو البركات هذه الخاصية مُبيِّناً أن البعض قد أضافوا قديماً القراءَتين  الأخريين، لأنه عثر على مخطوطة تحوي بالإضافة إلى البولس، فقرة من رسالة بطرس الرسول الأولى ومن الأعمال. أما مخطوطة ليدن فقدَّمت من جانبها قراءة من رسالة يهوذا وأخرى من الأعمال. وهذه القراءة الأخيرة تتطابق تماماً مع تلك التي ذكرها ”مؤلِّف المصباح“، أما الاختلاف بين هذين الشاهدين إنما هو في اختيار فصل الرسائل الجامعة (أي بطرس الأُولى ويهوذا) والقراءة الثانية يبدو لي أنها تؤكِّد حداثة عهد هذين الفصلين الإضافيين. ونلاحظ أيضاً أن قطمارس أورشليم يحوي هو الآخر نفس قراءة الأعمال التي تلي تسريح الموعوظين لكنها تأتي قبل فصل (1كو 11).

ونستنتج من ذلك أن الليتورجيا المبكِّرة الأُولى للأقباط للاحتفال بإفخارستيا خميس العهد، لم تكن تحوي سوى قراءة بولس، وفقرة من إنجيل القديس متى عن تأسيس الإفخارستيا، وأنه تحت تأثير كنيسة أورشليم، وفي بعض الكنائس وفي عصر معين أُلحِقَ بها قراءة الأعمال التي أُضيف إليها أخيراً فصل من الرسائل الجامعة، التي مازال الاختيار منها موضع حيرة وتردُّد. ومع هذا فإن الطقس القبطي الحقيقي القديم للقراءة الوحيدة قبل إنجيل قداس هذا اليوم، مازال باقياً في القطمارس الحديث (العصري) الذي حَفَظَ -مع غياب القبلة الأسبازموس -هذين التقليدين العتيقين لطقس إفخارستية خميس العهد.

 

[4] يوم الجمعة العظيمة:

ليتورجية يوم الجمعة العظيمة تتميَّز بصفات خاصة كثيرة، لعل أبرز واحدة منها هي مجموعة القراءات الإنجيلية الأربعة التي تُقرأ في كل ساعة من ساعات الليل والنهار. ويُقرِّر ذلك جميع شهودنا؛ حتى أن مؤلِّف ”المصباح“ يرى فيها العلامة البارزة التي تتسم بها خدمة هذا االيوم. وهذه القراءات الأربعة لكل ساعة تقابل الروايات الأربعة التي جاءت في الأناجيل عن الآلام. وعلى النقيض مما يحدث في الطقس البيزنطي الحالي، لا تُقرأ بتاتاً الفصول التي سبق قراءتها في ساعة سابقة، بحيث أن قصة الآلام تُروَى متوازية بواسطة القراءات الأربعة بطريقة متتابعة غاية في الدقة والإحكام، ودون أي تكرار.

ومع هذا؛ ففي الساعة الأُولى من الليل، عوض أن يُقرأ مقطع من كل واحد من الإنجيليين الأربعة، تُقرأ الأصحاحات المطوَّلة من الحديث الذي قيل بعد العشاء والذي جاء في إنجيل يوحنا من أصحاح 13: 33 إلى أصحاح 17: 26، وتُقرأ هذه الأصحاحات مقسَّمة على أربعة أجزاء. ويوجد في هذا الترتيب تطابق واضح مع الطقس الأورشليمي الذي سبق وشهدت بها إيجيريا، وإن كان المرء لا يستطيع أن يرى فيه بيقين، تأثيراً مباشراً لاستخدامات المدينة المقدَّسة. فهذه القراءات تفرض نفسها في الواقع على مساء يوم خميس العهد كتوطئة وتمهيد للدخول للآلام، ولاسيما أن البنية العامة للطقس القبطي ليوم الجمعة العظيمة، لها نـزعة خاصة واضحة مستقلة إذا ما قُورنت بأورشليم، على الأقل فيما يختص بالطقس الذي يصفه لنا قطمارس جيورجيا.

وفي مصر؛ فمنذ بداية الليل يستطيع المرء أن يتابع ساعة بساعة آلام المسيح كما ترويها الأناجيل الأربعة، ”لكي تُستَخدم بالتبادل كشهود، كما يقول لنا أبو البركات“. أما في أورشليم؛ فعلى الخلاف من ذلك، إذ بدءًا من منتصف الليل يتم اختيار الفصول الإنجيلية التي لها ارتباط وثيق بالأماكن التي جرت فيها أحداث الآلام في المدينة المقدَّسة.

وفي خدمة كل ساعة من ساعات الليل، في قطمارس بورمشتر والقطمارس العصري الحديث فإن فصل الأناجيل الأربعة تسبقه قراءة مقطع أو اثنين منتخبين من نبوات العهد القديم. وتصمت مخطوطة ليدن عن ذكر أي شيء في هذا الخصوص، أما أبو البركات فإنه لا يشير إلى ذلك بطريقة مباشرة.

وفي باكر يوم الاستعداد (الجمعة)، وقبل قراءة الأناجيل الأربعة، نجد أن الخدمة تحتوي على مجموعة من 7 فصول من الأنبياء وذلك في القطمارس العصري. وأما عن هذه القراءات، فمؤلف المصباح ومخطوطة ليدن لا يذكران كلاهما شيئاً عنها بالمرة. من ناحية أخرى، ففي كل ساعة من ساعات النهار، فإن قطمارسينا الاثنين الأكثر حداثة، يشيران إلى عدَّة قراءات من الأنبياء، تلك التي يسكت عنها دائماً المصباح والـ Scaligerius، أما أبو البركات فهو يشير إشارة عابرة غير مباشرة عن هذه النبوات في معرض إعداد وتجهيز الصليب (أيقونة الصلبوت) في باكر يوم الجمعة(30).

وهذه القراءات تثير في الواقع مشكلة جديرة بالاهتمام، لأنه من الثابت في الواقع أن الكثير منها (أي النبوات) يوجد في خدمة أورشليم الطويلة المدوَّنة في القطمارس الجيورجي، الذي يحتفل من الساعة السادسة وحتى الساعة التاسعة بآلام المخلِّص. وتركيبة هذه الخدمة الخاصة بالمدينة المقدَّسة هي غاية في العجب وتوجد على مدى الصوم الأربعيني بطوله، حيث نقرأ فيها قطعاً متنوعة من الأنبياء والرسائل التي تدل على الآلام بحسب القديس متى، ثم تُستأنف قراءة من إشعيا، ومن الرسالة إلى العبرانيين والجزء الرئيس عن الآلام كما ورد في إنجيل القديس مرقس.

بعد ذلك تأتي قراءة من إرميا وقراءة ثالثة من العبرانيين التي تختم قصة صلب يسوع وموته بحسب إنجيل القديس لوقا. وفي النهاية قراءة من زكريا ومن الرسالة الأُولى إلى تيموثاوس، وصلب يسوع وموته وطعنه بالحربة كما رواها القديس يوحنا. وهكذا تقدِّم هذه الخدمة نوعاً ما من التشابه مع ساعات يوم الجمعة العظيمة عند الأقباط، الذي قد فرش خدمته على مدى النهار بأكمله، بينما تتركَّز خدمة هذا اليوم في أورشليم على الساعة السادسة والساعة التاسعة. هذا التطوُّر في القراءات غير الإنجيلية، هل كان يوجد في عصر أبو البركات؟ هذا ما لا يمكن تأكيده في الحالة الراهنة بسبب الوثائق المتاحة لنا، لكن من المحتَمَل على أي حال أن يكون قد حدث هذا التطوُّر نتيجة للتأثير المباشر أو غير المباشر لخدمة أورشليم.

ومن صباح يوم الجمعة العظيمة؛ يبدأ إعداد الكنيسة وتجهيزها لطقس تمجيد أيقونة الصلبوت. ويخبرنا أبو البركات أنه يتم تعليق الستور على باب الهيكل، وعلى الحجاب الذي يفصل بين الخورس الأول والخورس الثاني، كما توضع 7 مجامر على باب الهيكل نفسه، ثم تُنصَب أيقونة الصلبوت خارج الهيكل. وتُحاط صورة (المسيح) المصلوب بأعشاب خضراء ذات رائحة ذكية(31).

ويقدِّم لنا قطمارس من المتحف البريطاني (nº 774, Or. 5286) وصفاً مماثلاً لهذا الإعداد لتكريم أيقونة الصلبوت؛ فبعد قراءات باكر يوم الجمعة العظيمة يذكر قائلاً: ”بعد ذلك يبدأون في تجهيز أيقونة الصليب المقدَّسة، فتُنصَب على قاعدة مرتفعة، ويوضَع أمامها الإنجيل المقدَّس، والصليب والشمعدانات والشاروبيم والسيرافيم
Les Rhipidia(«) ووردة يمكن استبدالها إذا لم يتيسَّر الحصول عليها، بعشب أخضر وزنابق عطرة. والكنيسة تُزيَّن بستور حريرية ومجامر. وعندما يحين وقت الساعة الثالثة تبدأ الخدمة كما هو مذكور“(32).

ومؤلِّف ”المصباح“ يتابع من جانبه الشرح ويقول إنه في الساعة السادسة، وبعد قراءة النبوات والتسبيح الجهاري (تسبحة البصخة ثوك تاتي جوم)، تُجهَّز المجامر ويَرفَع الكهنة البخور، ويُبخِّرون أمام أيقونة الصلبوت بحسب رُتبهم المختلفة. ثم يُقرأ فصل البولس بلحن التجنيز من (غلا 6: 14) وهو يتكلَّم عن المُصالحة التي تمَّت بالصليب، والقطع الخاصة بالساعة السادسة من الجمعة العظيمة. كل هذه التفاصيل التي يمكن ملاحظتها ليست بدون تحقيق ومقارنة مع الاحتفال الأورشليمي ومع استخدامات الطقس البيزنطي.

بعد الانتهاء من قراءات الساعة السادسة، يبدأ تذكار اعتراف اللص اليمين بالإيمان؛ وهذا ما يُسميه كاتب ”المصباح“ بأمانة اللص، وهي عبارة عن قطعة شعرية منظومة عن كلمات اللص تُرتَّل بالقبطي واليوناني بالتناوب. ثم تُطفأ جميع المصابيح (الأنوار) حتى وقت الساعة التاسع تذكاراً للظلمة التي حدثت على وجه الأرض لحظة موت الرب بالجسد.

بعد الساعة الحادية عشرة من النهار، والتي تُقابل عادة الغروب في الطقوس الأخرى تأتي الساعة الثانية عشرة من هذا اليوم حيث نتذكَّر فيها تكفين جسد يسوع. وطقوس هذه الخدمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بطقوس أورشليم مع بعض الملامح الخاصة. وإذا كان البطريرك هو الذي يرأس الخدمة، فإنه يقرأ إنجيل يوحنا (19: 38-42) الذي يروي قصة تكفين جسد يسوع بواسطة يوسف الرامي. ثم يأتي رفع الصليب والسجود له وذلك بحسب طقس يكاد يتطابق مع طقس رفع الصليب الذي يُجرَى في 14 سبتمبر في الطقس البيزنطي. وبعد ذلك يقول لنا أبو البركات، إن البطريرك أو أقدم الكهنة الخُدَّام يبدأ بترتيل ثلاثة مزامير ثم الشعب من بعده. وهكذا تبدأ بدون احتفال شعائر الدفنة. ومؤلِّف ”المصباح“ يتابع كلامه قائلاً: ”ويلف الكهنة الصليب في قطعة من القماش بغرض تكفين جسد ربنا ثم تُرص الورود والنباتات العطرية كمثال لتطييبه بالحنوط“.

عندئذ تبدأ قراءة سفر المزامير بأكمله حيث تشغل الليلة بطولها. ومجموعة هذه القراءات: أي هذه القراءة من المزامير، وتلك التي تُقرأ في ليلة أبوغالمسيس يوم سبت الفرح، وإنجيل يوحنا الذي يُقرأ ليلة الفصح، تبدو أنها الآثار المتبقية من استخدام (ديري) رهباني مصري لقراءة الكتاب المقدَّس بأكمله على مدى الأسبوع العظيم، والتي كانت تُمارَس على سبيل المثال في دير أبو مقار، في الزمن الذي كَتَبَ فيه مؤلِّف المصباح كتابه(33).

ويقرأ الأسقف أو كبير الكهنة الثلاثة مزامير الأخيرة من كتاب سفر المزامير، أما البطريرك فإذا كان حاضراً فهو يقرأ المزمور الـ 51. بعد ذلك يُلف سفر المزامير في لفافة من الحرير ويحمله شماس فوق رأسه ويطوف الشعب معه الكنيسة حاملين في أياديهم الشموع وهم يرتِّلون لحن كيرياليسون. بعد هذا الطواف تأتي مباشرة تسابيح سَحَر سبت الفرح.

 

[5] سبت الفرح، وسهرة الفصح:

هنا تبرز مشكلة جديدة، فالتسابيح التي ذكرها أبو البركات هي أناشيد السحر. ونحن نعرف أن الكنيسة القبطية، وبحسب شهادة أبو البركات نفسه، كانت تُقَسِّم مجموعة التسابيح التسعة أو تسابيح صلاة باكر في الكنيسة البيزنطية Orthos grec، على أيام الأسبوع المختلفة. فهي ترتِّل بالإضافة لتسبحة اليوم، تسبحة الثلاثة فتية القديسين، وتسبحة مريم العذراء (تعظِّم نفسي الرب magnificat) على غرار نظام ليس بغريب كلية عن نظام التريودس في الكنيسة البيزنطية Triode byzantin. أما في يوم الأحد فقط فهي ترتِّل كل مجموعة التسابيح.

ومؤلِّف المصباح يقول لنا بوضوح إنه بالنسبة لسحر يوم سبت النور، تُقال أيضاً كل التسابيح واحدة بعد الأخرى. وفي كنائس جنوب مصر (الصعيد)، فرئيس الشمامسة هو المنوط به أن ينشدهم جميعاً، أما في كنائس الشمال (بحري)، فهو الذي يقوم بتفسيرها عربيًّا، أو مَنْ يهبه هذا الشرف. وعندما يصل القارئ في تسبحة الخروج إلى الكلمات: ”فلنسبِّح الرب“، عندئذ يرد الخورس وهم يرتِّلون بهذا القرار (المرد): ”لأنه بالمجد قد تمجَّد“. ومن الواضح أن هذا الاستخدام له علاقة مع استخدام الطقس البيزنطي الذي له مَرَد مشابه لتسبحة الخروج يُقال بعد قراءة فصل عبور البحر الأحمر فيما كان يُعرَف قَبلاً بسهر فصح اليونانيين. وكذلك أيضاً بالنسبة لتسبحة الثلاثة فتية حيث يُخبرنا أبو البركات أن المرتِّلين يقولون باليونانية بعد كل رُباعية: … eulogetie pantata والمقصود هنا أيضاً نفس التسبحة مع نفس القرار، مثل ذلك الذي يلي قراءة قصة الثلاثة فتية في الطقس القديم لسهرة الفصح اليوناني.

والمشكلة الحادثة نتيجة لهذا التشابه تدفعنا لأن نسوق ملاحظة تختص بالسهر الفصحي القبطي. ففي جميع الشهادات التي وصلت إلينا، لا نجد للسهر الفصحي أيَّة علاقة مباشرة مع طقس المعمودية. فمع أنه توجد سلسلة قراءات من الأسفار القانونية الثانية (8)، لكن ليست لها علاقة بتلك القراءات الخاصة بأورشليم، ولا بالطقس البيزنطي في غروب سبت الفرح، وبالإجمال مع جميع الطقوس المسيحية القديمة للسهر الفصحي. وربما يمكن تفسير ذلك بالتفوق الفائق الذي مارسته الخدمات الديرية الرهبانية في الكنيسة القبطية، والتي فرضت تركيبة ليتورجية استُبْعِدت منها وحُذِفَت سمة المعمودية تماماً.

ويحتفل يوم السبت هذا بكامله بقيامة الرب، لذا فهو يحمل الاسم الرائع ”سبت الفرح“. فبعد الساعة السادسة يبدأ طقس القراءة الجهارية لسفر الرؤيا، وتتخلل هذه القراءة تسابيح تشرح النص المقدَّس وتفسِّره. وحالما يصلون لرؤية الأربعة والعشرين شيخاً، يرفعون البخور، وعندما تنتهي قراءة سفر الرؤيا، تُقرأ الساعة التاسعة وتقدمة القداس، الذي تُعلن قراءاته الأربعة عن خبر قيامة الرب. وعلى هذا النحو تكون لدينا -كما في الطقس البيزنطي القديم -ليتورجية إفخارستيا لمساء يوم سبت الفرح، وواحدة أخرى تلي سهرة الفصح بحصر المعنى. ومذكرات السائحة إيجيريا في بداية القرن الخامس، قد سبقت وشهدت أنه كان يوجد في أورشليم احتفالان بالقداس. والواقع أنه بعد الساعة التاسعة كانوا يحتفلون بالسهر الفصحي (في موضع أو كنيسة) Martyrium، الذي تجرى خلاله المعمودية وتُرفع تقدمة القرابين. ثم يتوجَّهون بعد ذلك إلى (كنيسة) الأنسطاسيس Anastasis، وبعد قراءة فصل إنجيل القيامة جهراً، كانت توجد من جديد صلاة، فتقدمة للقرابين ثم تسريح، على أن يتم هذا كله سريعاً، كما لاحَظَت إيجيريا هذا بنفسها(34).

سبق وذكرنا للتو عدم وجود أيَّة إشارة مباشرة في الفصح القبطي إلى طقوس معمودية. ونعرف من رسالة مكاريوس الذي من ممفيس، أنه قبل القرن العاشر الميلادي كان يتم تكريس الميرون ليس في يوم خميس العهد، وإنما في يوم الجمعة التي تسبق أحد السعف (جمعة ختام الصوم)، وفي هذا اليوم أيضاً كان يتم عماد الموعوظين. ولذا فغياب المعمودية في الطقس الفصحي هو أمر سحيق القدم. لأنه كما ذكرنا آنفاً، قد تغيَّر تحت التأثير السرياني موعد تكريس الميرون إلى يوم خميس العهد، دون أن يكون له ارتباط من جديد مع منح المعمودية في الفصح(35).

 

الخلاصة والنتائج:

من هذا العرض لأسبوع الآلام القبطي؛ ومما نعرفه عن تاريخه، سوف نحاول في الختام أن نوجز بعض الخصائص المميِّزة التي استطعنا أن نتوصَّل إليها:

1 -هناك داعٍ قوي للتشديد على حقيقة أن الحالة الحاضرة للوثائق المتوفرة لدينا، لا تمكننا سوى من معرفة حالة معطاة مسبقاً، وغاية في التعقيد عن تطور ونمو أسبوع الآلام في هذا الطقس. فقبيل القرن الرابع عشر وحتى الآن، لا نمتلك سوى معطيات قليلة العدد جدًّا.

2 -إن التنوُّع والاختلاف الكبير جدًّا في الاستخدامات المحلية (المكانية) للكنائس المصرية المختلفة، قد استمر ودام خلال عِدَّة قرون. غير أنه من المحتمل أن الجنوب كان تأثُّره بالطقوس الشرقية أقل، ونتيجة لذلك يمكننا أن نجد في الوثائق الصعيدية التي لم يسبق نشرها، العناصر الأكثر قِدَماً.

3 -خلال هذا العرض؛ فإن المقابلات التي لاحظناها بين الطقس القبطي وطقس أورشليم من القرن الخامس وحتى القرن العاشر، لهي كبيرة جدًّا وبالغة الأهمية لدرجة أنه من المستبعد أن تكون قد جاءت من قُبيل المصادفات.

4 -من المحتمل كذلك أن تكون الكنيسة السريانية قد مارست هي الأخرى تأثيراً على نمو وتطوُّر الطقس القبطي للفصح. وهذا أمر متوقَّع لأن الرهبان السريان كان لهم ديرهم في نيتريا، والتبادل المشترك بين الكنيستين غير الخلقيدونيتين كان ثابتاً ودائماً.

5 -نقاط التطابق في بعض الاستخدامات القبطية والاستخدامات البيزنطية تُحمِّلنا أيضاً على الاعتقاد بوجود تأثير متأخِّر جدًّا لليونان، مشهود على صحته في موضع آخر(36).

6 -مع ذلك تظل العناصر المصرية الخالصة لطقس الفصح كثيرة جدًّا، وفي الحقيقة لم أذكر شيئاً عن الإبصاليات حتى لا أكون قد انجرفت بعيداً. لأنه على ما يبدو لي أنها لم تلعب سوى دوراً ثانوياً في تطوُّر طقوس أسبوع الآلام عند الأقباط.

وعلى العكس من ذلك، فالسمة الأساسية التي تظهر لي، هي المكانة العظيمة التي تحتلها القراءات الكتابية، والتي لم تتوقَّف عن الازدياد والنمو على مدى قرون. وبحسب علمي، لا يوجد طقس لكنيسة أخرى يعطي للقراءات الكتابية هذه المكانة الكبيرة في أسبوع الآلام. هذا بخلاف القراءة المستمرة La lectio continua لكل الكتاب المقدَّس خلال هذه الأيام الستة، والتي ملأت الفترات فيما بين الخدمات والتي هي الأخرى مزدحمة للغاية. ولعلنا نجد في ذلك دون أدنى شك إشارة رهبانية مصرية أساسية يلزمنا أن نؤكِّد على أهميتها. لأن كثرة عدد ساعات الخدمة خلال هذه الأيام المقدَّسة، وزيادة حجم القراءات الكتابية، وهذا التواجد المكثَّف للكتب المقدَّسة والذي يرجع إلى تأثير الرهبان، كان هو السبب وراء اختفاء المعمودية من خدمة الفصح. والطقس القبطي، أكثر من أي طقس آخر، يبدو أن كل شيء فيه يتمركز حول شهادة العهد القديم والجديد، فيما يختص بموت الرب وقيامته.

الأب عمانوئيل لان O.S.B.

(«) الـ Rhipidia هي المراوح الطقسية التي يُروِّح بها الشماس على الذبيحة، أما في الطقوس فهي القرص المعدني الذي يُرفع على قصبة ومرسوم عليه الشاروبيم والسارافيم ويطوفون به أثناء دورة الصليب في عيد رفع الصليب.

نصوص وطقوس البصخة (الفصح) في الكنيسة القبطية الأُولى – الأب عمانوئيل لان

Exit mobile version