Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

مواقف في الصحراء – العظة السابعة والعشرون من عظات أوريجانوس على سفر العدد ج1

مواقف في الصحراء – العظة السابعة والعشرون من عظات أوريجانوس على سفر العدد ج1

مواقف في الصحراء – العظة السابعة والعشرون من عظات أوريجانوس على سفر العدد ج1

الجزء الثاني: مواقف في الصحراء – العظة السابعة والعشرون من عظات أوريجانوس على سفر العدد ج2

مواقف في الصحراء

مقدمة:

أنواع متعددة من الغذاء في الكتاب المقدس

عندما خلق الله العالم، نوَّع الأغذية وكيفها لتلاءم ميول الناس المختلفة وأيضًا الحيوانات بأنواعها. ولما رأي الإنسان طعام الحيوانات فهم جيدًا أن هذا الطعام قد خُصّص من أجل الحيوانات وليس من أجل الإنسان. وحتى الحيوانات نفسها قد عرفت ما يلائمها من الأطعمة. فالأسد والبقرة والعصافير والأيائل، كل نوع من هذه قد عرف الطعام الذي يناسبه.

والناس أيضًا يختلفون في إختيار الأطعمة. فالذي يتمتع بصحة جيدة يطلب طعامًا قويًا ويثق في أنه يستطيع ” أن يأكل كل شيء” (أنظر رو14: 2) كالرياضيين الأقوياء. والذي يشعر أن صحته معتلة وضعيفة يفضِّل تناول الخضراوات مثلاً ولا يتحمل الطعام القوي.

وماذا عن الطفل الصغير؟ فهذا لا يستطيع أن يتناول سوى اللبن. فضلاً عن أنه لا يستطيع أن يعّبر عن ذلك بالكلام. هكذا كل إنسان يطلب الغذاء المناسب له حسب سنه وصحته وقوته[1].

فالطبيعة الناطقة كلها محتاجة للأطعمة التي تناسب حالتها. فهل نستطيع أن نترك الحقائق الجسدية الآن ونفكر في الروحيات؟ إن الغذاء الحقيقي للطبيعة العاقلة هو كلمة الله. وكما أننا قد سلمنا بأنه يوجد كثير من الاختلافات بين أطعمة الجسد المختلفة، هكذا أيضًا الطبائع العقلية التي تتغذى على كلمة الله. وكما شبهنا إمداد الجسد بالأطعمة المختلفة، هكذا كلمة الله تحمل نظامًا لبنيًا في معرفة وتمييز التعاليم الغريبة وتستعيض عنها بما هو روحي. فعندما نقرأ فصلاً من الكتب المقدسة للمبتدئين، يقبلونه بفرح لأنه ليس فيه أي شئ غامض، كسفر أستير وطوبيا أو مبادئ سفر الحكمة. ولكن عندما نقرأ سفر اللاويين للمبتدئ يخفق قلبه على الفور ويتحول عنه كإنسان يتحول عن طعام ليس هو من ضمن نظامه الغذائي. فقد جاء لكي يسمع عن أحكام الله وعن عدله ورحمته وها هو لا يسمع سوى الأمور المتعلقة بالذبائح وعن نظام التضحيات. فكيف يتحول اهتمامه فجأة، ألا يرفض هذا الغذاء وهو لا يناسبه في نفس الوقت؟

من جهة أخرى، في قراءة الأناجيل والرسائل والمزامير، فهذه يقبلها بفرح وبكل إرادته يتمسك بها ويجهد نفسه في استخلاص ما بها من دواء لأسقامه. ولكن إذا قرأنا له من سفر العدد كما هو واضح في الفصول التي بين أيدينا فسوف يحكم عليها بعدم النفع والفائدة. كما لو لم يوجد بها أي علاج لأسقامه ولا لخلاص نفسه. فسوف يتركها على الفور كالطعام الثقيل العسر الهضم الذي لا يناسب نفس مريضة وعاجزة.

ولنعد ثانية إلى مثال الأشياء الجسدية. فالأسد مثلاً إذا أعطيناه العقل فرضًا فلن يشتكي من كثرة العشب في الكون، بحجة أنه يتغذى على اللحم الطازج، ولن يقول إن هذا العشب لا فائدة له وأن الخالق قد أوجده بلا نفع. هكذا الإنسان فبحجة أنه يستخدم الخبز والمأكولات المناسبة له، لا يجب أن يشتكي ويقول لماذا خلق الله الثعابين وهو لا يعرف أنها تُستخدم كغذاء للأيائل. هكذا الدابة والبقرة لا يجب أن تشتكي من الذي يُعطي للحيوانات الأخرى من أكل اللحم، بحجة أن العشب يكفي فقط لغذاء الدابة والبقرة.

هكذا الحال بالنسبة للأغذية الروحية أو العقلية. وأعني هنا نصوص الكتب المقدسة. فلا يجب أن نُلقي عنا نصوص الكتب المقدسة التي تبدو أكثر غموضًًا وأكثر صعوبة في الفهم ولا نتهمها بالصعوبة والغموض. ونحتفظ فقط بالنصوص التي تناسب المبتدئ المريض الأكثر ضعفًا الذي لا يستطيع فهم هذه النصوص فهو كالطفل الصغير. ولا تستطيع الأسفار بالنسبة لهؤلاء أن تساهم في تكوينهم وليست لها فائدة ولا تساعد على خلاص أنفسهم. ولكن علينا أن نضع في الاعتبار ما يلي: أن الثعبان والشاه والإنسان، كل هذه هي مخلوقات الله. وأن هذا التنوع في الكائنات الحية يقود لتمجيد وشكر الخالق. وأن الغذاء بكل أشكاله قد أُعدَّ لكي يتناول منه كل كائن حي حسبما يناسبه في طبيعته وصحته وقوته. هكذا كل واحد حسب صحته وقوته يستخدم نصوص الكتاب التي هي كلام الله حيث يكون التنوع الذي فيها طعامًا مناسبًا وموافقًا لكل ميول النفوس المختلفة. وهنا تعالوا لننظر هذه الأمور عن قرب:

فمثلاً عند قراءة الإنجيل أو تعاليم الرسول بولس يبدو عليك الإعجاب بها وتعتقد أنك قد وجدت الطعام الأفضل موافقة والأكثر مناسبة لك. ولكنك لم تعرف بعد الأسرار التي ينبغي أن تعرفها إذا درست وتعمقت في أحكام الله! أما إذا تجنبت ما يبدو لك مبهمًا وغامضًا وهربت منه، فحتى الأسفار السهلة بالنسبة لك والتي توحي لك بثقة في فهمها، سوف تجد فيها صعوبة أكثر وغموضًا أكثر. فالكتاب يحتوي على الكثير من الكلمات الواضحة والبسيطة القادرة على بناء السامع حتى الأقل ذكاءً.

إننا بهذه المقدمة قد بدأنا بإيقاظ قلوبكم لأن الدرس الذي بين أيدينا هو من هذه الدروس التي تبدو أكثر صعوبة في الفهم، وتبدو أيضًا أنها بلا فائدة. ولكننا لا نقدر أن نقول إنه يوجد في كتابات الروح القدس شئ غير نافع حتى لو بدا الغموض في بعض نصوصه. وعلينا بالحري أن نحّول عيون قلوبنا نحو الذي أمر بهذه الكتابة ونطلب منه فهم المعنى. فإذا وجد في أنفسنا ضعفًا فهو قادر أن يشفينا من هذا الضعف، وهو ” الذي يشفي كل الأمراض “، ” الذي يغفر جميع ذنوبك الذي يشفي كل أمراضك” (مز103: 3).

هل نحن مازلنا في مرحلة الطفولة العقلية؟ إن الرب وهو حارس الأطفال، هو الذي يرافقنا ويطعمنا ويقودنا إلى قياس قامة ملء المسيح حسب المكتوب، “ إلى قياس قامة ملء المسيح” (أف4: 13). فباستطاعتنا إذًا العبور من المرض، وأن نعبر منه إلى الصحة، وأن نعبر أيضًا من الطفولة إلى الرجولة. وفي استطاعتنا أيضًا أن نطلب ذلك من الله لأن الله يحب أن يعطي الذين يطلبون وأن يفتح للذين يقرعون.. ولنكتفِ بهذه المقدمة.

 

هناك فائدة نستخلصها منه:

هيا بنا الآن لنبدأ درس اليوم! وبمعونة الرب نستطيع أن نشرح وأن نقطف منه ما هو مهم حسب ما يوضح لنا المعنى. وقال النص هنا “ هذه رحلات بني إسرائيل الذين خرجوا من أرض مصر بجنودهم على يد موسى وهرون. وكتب موسى مخارجهم برحلاتهم حسب قول الرب، وهذه رحلاتهم بمخارجهم ” (عد33: 1-2).

هل سمعتم؟ ” وكتب موسى ذلك حسب قول الرب”. ولماذا أراد الله أن يُكتب ذلك؟ فكتابة رحلات بني إسرائيل لابد إذًا أن تعيننا على أي حال! أليس كذلك، ومن يجرؤ ويقول إن الوثائق المكتوبة بيد الله هي بلا فائدة ولا تساعد على خلاص النفس؟ وما الذي يعود علينا من مجرد سرد الحديث؟ إن هذا الرأي خاطئ وضد الإيمان المستقيم. ولنترك هذا للذين يدّعون ويقولون إن إله الناموس ليس هو إله الأناجيل. بل هو “الله أبا ربنا يسوع المسيح” الذي نمجده بنفس واحدة وبفم واحد” (انظر رو15: 6). إذًا فبالإيمان نستطيع أن نستخلص أفكارًا واضحة وجلية من هذه الرحلات. وسنحاول توضيح المعنى الرئيسي بإيجاز بقدر الإمكان وبقدر الوقت.  

الخروج من مصر له مفهومان

لقد أتحنا الفرصة في العظة السابقة للكلام عن خروج بني إسرائيل من أرض مصر. وقلنا إنه في المعنى الروحي نستطيع الخروج من مصر بطريقتين: إما ترك الحياة الوثنية للوصول إلى معرفة الناموس الإلهي. أو عندما تترك النفس مسكنها في هذا الجسد. هذان هما المفهومان اللذان يناسبان الآن المراحل التي سردها موسى “حسب قول الرب”.

 

المنازل بعد الحكم

لقد قال الرب في الإنجيل: “ في بيت أبي منازل كثيرة وإلا فإني كنت قد قلت لكم. أنا أمضى لأعد لكم مكانًا ” (يو14: 2). فهذه المنازل سوف تشغلها النفوس التي تحررت من الجسد أو بالحرى التي لبست جسدًا ممجدًا. إذن هناك طرق كثيرة تقود إلى الآب. فلماذا قررت النفس ذلك وما هي الفائدة؟ وماذا وجدت من ضوء في هذه الأمور؟ إن الوحيد الذي يعرف ذلك هو ” رب الدهر الآتي “. الذي قال عن نفسه ” أنا هو الباب” (يو14: 6). ” لا أحد يأتي إلى الآب إلا بي “، إذًا فكل طريق من هذه الطرق يبدو لكل نفس بابًا، فسوف ندخل به وسنخرج ونجد مرعى، ومن هنا سندخل في طريق آخر ثم في منزل آخر أيضًا حتى نصل إلى الآب نفسه.

وهنا سوف ننسى هذه المقدمة قليلاً ونهيئ عقولكم مقدمين لها أفكارًا عالية وسامية. ولنعد إلى ما حدث بيننا وفينا.

المنازل في الحياة الحاضرة

عندما كان بنو إسرائيل في خدمة فرعون في مصر، كانوا فريسة ” للطين واللبن….” حتى اللحظة التي صرخوا فيها بأنين إلى الرب، فاستجاب لشكواهم، وأرسل لهم كلمته عن طريق موسى وأخرجهم من مصر. ونحن أيضًا عندما نكون في مصر أقصد في خطايا هذا العالم وظلمة الجهل وعندما نعمل لحساب الشيطان متمرغين في شهوات الجسد، فإن الرب يشفق على ضعفنا وهو الذي أرسل لنا الكلمة، ابنه الوحيد لكي يخرجنا من الجهل والخطية ويقودنا إلى نور تعاليمه الإلهية.

 

موازاة بين تجسد المسيح وتقديس البشر:

لنتأمل عن قرب الترتيب الحسابي لهذا السر

إننا سوف نجد 42 موقف لخروج بني إسرائيل خارج مصر إذا دققنا في ذلك. وبالتالي إن مجئ إلهنا ومخلصنا لهذا العالم قد تم في 42 جيل.  ولقد أعلن متى الإنجيلي ذلك في (مت1: 17)، هذه الاثنان والأربعون جيلاً هي الوقفات التي اجتازها المسيح لينزل إلى مصر هذا العالم. ولقد أعلن موسى ذلك بالضبط حين قال عن خروج بني إسرائيل من أرض مصر: “ هذه رحلات بني إسرائيل الذين خرجوا من أرض مصر بجنودهم عن يد موسى وهرون ”             (عد33: 1).

ما هي قوتهم سوى المسيح الذي هو ” قوة الله ” (2كو1: 24)، هذا  ” الذي صعد هو الذي نزل إلينا ” وهو إتجه للصعود من حيث نزل. فقد نزل إلى العالم لا عن اضطرار بل عن عطف لكي يحقق ما قيل. ” الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل” (انظر أف4: 10)، هكذا بنو إسرائيل قد اجتازوا اثنين وأربعون رحلة حيث بدأوا في امتلاك ميراثهم. فمن خلال 42 جيل قد نزل إلينا المسيح حسب الجسد. وهذا هو نفس عدد رحلات بني إسرائيل حتى وصلوا إلى مكان الميراث المسموح لهم.

فإذا كنت قد أدركت أي سر ينطوي عليه هذا العدد للصعود والنزول، تعال الآن لنبدأ في الصعود عن طريق مراحل نزول المسيح إلينا. فأول وقفة لنا هي ميلاده من بطن العذراء. ونحن أول وقفة لنا هي أن نترك عبادة الأوثان وعبادة الشياطين التي ليست آلهة إذا أردنا الخروج من مصر. ونؤمن بميلاد المسيح من العذراء والروح القدس وأن ” الكلمة صار جسدًا وحل بيننا ” (يو1 : 14). ثم نحاول أن نصعد درجات الإيمان درجة، درجة. وهكذا درجات الفضائل فإذا واظبنا على ذلك فترة طويلة جدًا كي نصل إلى الكمال نستطيع أن نقول إننا في كل درجة كانت لنا رحلة نتهذب فيها ونتقدم إلى أن ننال أرض الموعد.

 

طريق العالم الآخر

4ـ إن النفس عندما تترك مصر هذه الحياة لتصل إلى أرض الموعد عليها أن تتبع عدة طرق. واعتقد أن النبي قد أشار إلى ذلك حين قال: ” لماذا أنت منحنية يا نفسي ولماذا تئنين فيَّ. ارتجي الله لأني بعد أحمده لأجل خلاص وجهه ” (مز42: 5).

هذه هي الطرق، هذه هي ديار الرب، قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي ” (مز 84: 1ـ2)، ” العصفور أيضًا وجد بيتًا والسنونة عشًا لنفسها حيث تضع أفراخها. مذابحك يارب الجنود ملكي وإلهي”. ونفس هذا النبي قال أيضًا: “ طال على نفسي سكنها” (مز120: 6)، فإذا أردت أن تفهم هنا هذه الأمور، فهذه هي رحلات النفس واغترابها… الأنين… الاشتياق… الدموع. أي أن ترى النفس نفسها قد ارتبطت بهذه الأمور زمانًا طويلاً. ولكن التفكير في رحلات هذه الغربة يُظلِم ويضعف النفس كثيرًا. ولكنها ستفهم وترى الحق أفضل عندما تتحول إلى راحتها أي إلى وطنها الذي هو الفردوس. وقد تأمّل النبي في هذه الحقيقة بطريقة سرية عندما قال: ” ارجعي يا نفسي إلى موضع راحتك لآن الرب قد أحسن إليك ” (مز116: 7). فالنفس تتغرب وتسافر وتتمم رحلاتها بلا أدنى شك لأن التدبير الإلهي يجهز لها فائدة عظيمة كما قال النص “…. لكي يذلك ويجربك ليعرف ما في قلبك أتحفظ وصاياه أم لا ” (تث8: 2-3). هذه هي الرحلات التي عن طريقها نعبر من الأرض إلى السماء. فمن ذا الذي سيحوز على كثير من التقدم ويلم بكثير من الأسرار الإلهية لكي يحصى مراحل هذه الرحلة وهذا الصعود للنفس، ولكي يصف المشقات والراحة التي وجدها في كل مرحلة؟

وكيف نشرح إذًا أنه بعد أول وثاني رحلة أكمل فرعون والمصريين المطاردة، وأن المصريين وإن لم يستولوا على الهاربين، إلا أنهم مع ذلك استمروا في مطاردتهم، ولكنهم (أي المصريين) قد اُبتلعوا في البحر. كيف نفهم إذًا كيف أن شعب أُنقذ فجأة من مطاردة فرعون بعد الرحلات الأولى وأنشدوا هذا النشيد: ” أرنم للرب فإنه قد تعظم. الفرس وراكبه طرحهما في البحر” (خر15: 1). ولكنني قلت قبل ذلك أن الذي تجاسر على موقف تلو الآخر يكتشف أسرارًا وبدراسة أسماءهم يستخرج معانيها الخاصة! إنني لا أعلم كيف أن عقل الواعظ لا يعجز أمام كثافة هذه الأسرار. وكيف استطاع عقل السامعين قبولها! كيف نشرح الحروب المتنوعة وكيف نتكلم عن الذين سقطوا في القفر وكثرتهم. فما حدث ليس هو لبني إسرائيل بل لأبناء بني إسرائيل الذين وصلوا إلى الأرض المقدسة. ففي الواقع إن كل الشعب الذي عاش وسكن مع المصريين قد سقط، وأن الوحيدين الذين بلغوا المملكة الجديدة، هم الذين تجاهلوا المصريين، عدا الكهنة واللاويين! فإذا استطعنا أن نأخذ مكانًا بين الكهنة واللاويين وألا نمتلك أي مكان على الأرض، وإذا كان الرب وحده معنا، فإننا لن نسقط في القفر بل سنبلغ الأرض الموعود بها.

إذن إذا أردت بلوغ الأرض الموعود بها لآبائك وأن لا تسقط في القفر، فلا يكن لك نصيب على الأرض، ولا شركة مع الأرض، وليكن الرب هو نصيبك فلن تسقط أبدًا. وبالصعود من مصر إلى أرض الميعاد قد تعلمنا ـ بشكل رمزي ـ صعود النفس إلى السماء وسر قيامة الأموات.

5ـ لقد انطوت هذه الرحلات على مسميات. وليس من المناسب أن يكون لكل مكان تحت السماء اسم أو شهرة، في الجبل أو السهل مثلاً. ورحلات صعود النفس نحو ملكوت الله ليس لها “أسماء”، بل تتكون هذه الرحلات من كلمات سرية، ومرشد هذا السمو للنفس ليس هو موسى ” لأن موسى لم يكن يعلم إلى أين يذهب ” (انظر عب11: 8)، ولكن المرشد هنا هو “عمود سحاب” و “عمود النار” (انظر خر13: 21). أي أن ابن الله والروح القدس هما المرشد لهذه النفس كما قال المزمور “وهداهم بالسحاب نهارًا والليل كله بنور نار” (مز 78: 14). فهذا هو صعود النفس المغبوطة حينما تبتعد عن المصريين وعن الأوثان وعن كل الذين يعوقونها. وهي تعبر الطرق طريقًا تلو الآخر. وهذه الطرق هي من عند الآب. فسيأتي وقت تضئ فيه هذه النفس شيئًا فشيئًا. وفي اجتيازها من طريق إلى آخر، سوف تبحث دائمًا عن الأكثر إنارة وسوف تكون هي أيضًا نورًا، حتى تعتاد من  تلقاء نفسها أن تستند على النور الحقيقي الذي يضئ لكل إنسان…” (انظر يو1: 9)، وأن تستمر وتتشجع بنور جلاله الحقيقي.

 

قدم النفس في هذه الحياة

لنعد الآن إلى تفسيرنا الثاني الذي أشرنا إليه ولنرَ فيه منهجًا لتقدم النفس في هذه الحياة متخلية ومتحوله عن المعيشة في الوثنية ” وهي تتبع الكاهن الأبدي الأعظم “( أنظر عب6: 20)، وليس موسى وهرون حتى تصل إلى حد الكمال … وكي تختبر النفس ذاتها في وصايا الله وتختبر إيمانها في شتى الحروب، فهي تظل في قفر هذا العالم. فهل هزمت النفس في إحدى هذه الحروب؟ هل اختبرت إيمانها؟ هل سقطت في حرب أخرى ثم اجتازت منها لحرب أخرى ولرحلة أخرى؟ هل نجحت فيما قابلته من صعوبات؟ هل احتملت التجربة بأمانة؟ لو كان الأمر هكذا فسوف تحلق النفس في التجربة التي تليها. وبهذه الحروب المتوالية في الحياة، وبمراحل تقدم النفس هذه نستطيع أن نقول إنها اجتازت رحلات، وفي كل مرة اكتسبت فضيلة جديدة. وحققت ما قاله الكتاب: ” يذهبون من قوة إلى قوة يُرون قدام الله….” (مز84: 7). وأخيرًا سوف تصل إلى أعلى درجة في الفضيلة وستعبر نهر الله وتأخذ الميراث الأبدي.

6ـ فحسب هذا التفسير المزدوج، علينا أن نعتبر كل هذه القائمة للرحلات طريقًا تكتسب النفس منه فائدة مزدوجة لتتعلم كيف تعيش حسب ناموس الله. ففيما نجد النفس ترفض الخطية فهي بذلك تتبع ناموس الله. فكم من المواعيد ومن الرجاء تنتظر هذه النفس بعد القيامة. وحسب رأيي نستطيع أن نجد في هذه النصوص تعاليمًا جديدة تليق بوصايا لروح القدس.

وفيما نحن نعرف كيف يُسمىَ نصيب العالم حيث سكن فيه بنو إسرائيل في ذلك الوقت، فيجب أن نعرف كم من الفوائد يؤول ذلك لتقديسنا. كم من ربح يناله الذين “ يلهجون في ناموس الرب نهارًا وليلاً ” (مز1: 2).

والآن نرى مقدار الأهمية التي أعطاها الرب لهذه الرحلات وبإظهارها لنا، فهذا هو الإحصاء الثاني الذي قدمه لنا الناموس الإلهي. فقد أشير إلى هذه الأسماء قبل ذلك ولكن مع بعض التنويع، حينما رأينا بني إسرائيل يتركون هذا المكان ويسكنون في ذاك. ولكننا نرى موسى يأخذ الآن أمرًا بالإحصاء من جديد ” حسب كلام الله “. وكون هذا الإحصاء قد تم مرتين فهذا يتطابق مع السر المحتوى، فيما قدمناه من الشرح السابق. وكون هذه الأسماء قد أعيد إحصاءها مرتين، فهذا إشارة إلى أن النفس لها رحلتان تكملهما أثناء أقامتها في هذا الجسد. وحينما تقتني النفس الفضائل وتصعد على سلم الفضيلة وهي تتبع ناموس الله، فهي بذلك تتمم رحلات لتقدمها الروحي في هذه الحياة. وسوف تكمل ذلك بعد القيامة كي تصل إلى السموات… إذًا فتقدم النفس يأخذ درجات هنا ويمتد في الحياة الأخرى… وفي كل مرة ستكون النفس متألقة، ومنيرة. وفي كل مرة سيغمرها نور الحكمة حتى تصل أخيرًا إلى “أب الأنوار” نفسه.

 

الخروج من مصر يقضي على الرذائل

لقد خرج بنو إسرائيل بجنودهم” (انظر عد33: 1)، فمصدر هذه القوة التي كانت معهم هو الذي قال: ” سأنزل معك إلى مصر” (تك 4:46)، ولأن هذه القوة كانت معهم فقد قال النبي في المزمور:       ” فأخرجهم بفضة وذهب ولم يكن في أسباطهم عاثر” (مز105: 37). لقد خرجوا ممسكين بيد موسى وهرون. فلكي يتم الخروج من مصر، لا تكفي يد موسى وحدها بل يد هرون أيضًا. فموسى يمثل علم الشريعة وهرون يمثل فن العمل في الذبائح والتقدمات. ونحن أيضًا في الخروج من مصر نحتاج إضافة إلى الشريعة والإيمان، ثمر الأعمال التي ترضى الله. وإذا كان من الضروري هنا يد موسى وهرون، فهذا للتعبير عن الأعمال بقوة الكلمة. فنتائج الخروج من مصر، إذا التجأتُ إلى الله هي: التخلي عن الكبرياء بتقديم ذبيحة ثور قوي لله بيد هرون. وإذا تركتُ عدم النظام وحِدّة الهجوم أعتبر أنني ذبحت تيسًا للرب بيد هرون، وإذا انتصرتُ على الشهوة الجسدية أقدم ثورًا ذبيحة… وإذا تركت الحماقة أقدم خروفًا.

فعندما تتنقي النفس من خطاياها فهنا نجد “يد هرون” أي الذي يعمل فينا. أما يد موسى فهي معنا عندما نفهم هذه الأمور، فنحن بذلك نستنير بنور الشريعة. إذن هذه القوة المزدوجة هامة جدًا لمن يخرجون من مصر حتى نجد فيهم الإيمان والعلم قد تجاوزا حد كمال الأعمـال.

أما يد موسى ويد هرون فهما ليسا يدان، بل يدٌ واحدة. فالرب هو الذي جذبهم من مصر. إذًا هي يد الرب وليست يدا موسى وهرون. لأن هذه اليد المزدوجة لها عمل واحد وهدف وحيد نحو الكمال.

 

السفر الروحي

وكتب موسى مخارجهم برحلاتهم حسب قول الرب ”            (عدد33: 2). لقد كُتِبْت هذه الأمور ” حسب كلام الله “. غير أننا رأينا في قراءتها كم من المراحل تنتظرنا في السفر إلى الملكوت. فكم ينبغي أن نستعد لهذا الطريق الذي علينا أن نقطعه ولا نترك أنفسنا للتكاسل والجمود في مدة حياتنا. ولا يجب أن تعيقنا أباطيل العالم.  لذلك فلا نقبل أن نتلذذ بكل ملذاته سواء بالسمع أو بالشم أو بالتذوق حتى لا تهرب منا الأيام. وحتى لا يمر الوقت دون أن نُسرع في اكتشاف مسافة هذه الرحلة ونضعها في الحسبان. وحتى لا نعجز في الطريق ولا نعاني نفس مصير أولئك الذين لم يستطيعوا الوصول إلى المرفأ. إذ قد ” سقطت جثثهم في القفر” (عب3: 17). فرحلة حياتنا في هذا العالم هي لكي نسعى ” من فضيلة إلى فضيلة ” (أنظر مز84: 7)، وليس وجودنا على هذه الأرض هو لكي نرتبط بالأشياء الأرضية، كما قيل في الإنجيل عن ذلك الرجل: ” وقال اعمل هذا، اهدم مخازني وأبني أعظم وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي وأقول لنفسي، يا نفسي لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكلي واشربي وافرحي. فقال له الله، يا غبي في هذه الليلة تؤخذ نفسك منك فهذه التي أعددتها لمن تكون” (لو12: 18-20). فالذي حدث لهذا الرجل حدث للمصريين في نصف الليل: ” فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير الذي في السجن وكل بكر بهيمة” (خر12: 29).

فهذا الرجل أحب العالم وأضاع الحياة عند: “ ولاة عالم الظلمة ” (أنظر أف6: 14). ولقد سُمى هذا العالم بالظلمة والليل بسبب الذين يعيشون فيه بالجهل ولم يأخذوا نور الحقيقة. فهؤلاء هنا لم يخرجوا من رعمسيس ولم يذهبوا إلى سكوت.

عيد الانطلاق

لنرَ متى رحل بنو إسرائيل من ” رعمسيس. في أول الشهر في اليوم الخامس عشر من الشهر ” (عد33: 3). ويكون ” اليوم الرابع عشر من الشهر” حسب كلام الرب(أنظر خر12: 3)، حين احتفل بنو إسرائيل بالفصح في مصر، وذبحوا الحمل في عشية “الرحيل” وبدأوا الاحتفال بالعيد احتفالاً أكيدًا قبل أن يتركوا مصر. وفي اليوم التالي الذي هو أول ” الفطير” ” اليوم الخامس عشر من الشهر” رحلوا من رعمسيس ووصلوا إلى ” سكوت ” كي يحتفلوا بالعيد ” الذي هو عيد الفطير”، ” إننا نعرف بعض المعرفة ونتنبأ بعض التنبؤ ” (1كو13: 9)، ” فلا يحكم أحد علينا في عيد أو هلال أو سبت ” (انظر كو2: 16)، لأن كل عيد يحتفل به الناس على الأرض لا يكون الاحتفال به كاملاً بل احتفالاً جزئيًا، ولا يحمل معنى كمال العيد: ” إذًا لنعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخمير الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق”         (1كو5: 8). إذًا سوف تحتفل بعيد حلول الروح القدس في “القفر”، فحينئذ ستبدأ في تناول الغذاء السماوي من المن. وتحتفل أيضًا بكل الأعياد التي تحدثنا عنها على قدر استطاعتنا. ولنعرف أنه بعد الاحتفال بعيد الفصح هذا في مصر، سوف نجد أن عيد الفصح يُحتفل به مرة أخرى في الصحراء حيث أعطيت الشريعة. ومرة أخرى أيضًا بعد أن ارتفعنا وزدنا في العدد. ولن يُحتفل بعد ذلك به في أي مكان آخر إلا في أرض الموعد.

” إذن اليوم الخامس عشر من الشهر الأول ” هو اليوم الذي يلي الفصح. والذي هو أول يوم العيد الفطير. في هذا اليوم رحل بنو إسرائيل من رعمسيس كما قال الكتاب انظر (خر33: 3)، ” وتحت أعين كل المصريين “. فما هي هذه اليد الرفيعة؟ فعندما يتم عمل إلهي لا عن طريق بشر ولا بطريقة أرضية، فهذا يعني أن هذا العمل قد تم “بيد رفيعة”، فقد رحل بنو إسرائيل بيد رفيعة أمام أعين كل المصريين.

[1] إن جسدنا لا يبدأ بتناول الأطعمة. ففي سن التكوين لا يأخذ سوى اللبن هكذا الحال بالنسبة للنفس. فالدراسات العميقة التي أعدت لتناسب الناضجين الذين يسلكون نحو الفضائل ويسعون إليها، هذه لا تناسب الأطفال الصغار.

مواقف في الصحراء – العظة السابعة والعشرون من عظات أوريجانوس على سفر العدد ج1

Exit mobile version