بعد القتال – العظة السادسة والعشرون من عظات أوريجانوس على سفر العدد
بعد القتال. الميراث عبر الأردن
المعنى الحرفي: درجات المقاتلين
1ـ إن قراءة دقيقة للكتب المقدسة سوف تكشف في أماكن عدة عن درجات مختلفة في تقدم واستحقاقات جماعة المؤمنين. وفي درس اليوم على وجه الخصوص، نستطيع أن نستدل على ذلك من خلال الكلمات التالية:
” ثم تقدم إلى موسى الوكلاء الذين على ألوف الجند رؤساء الألوف ورؤساء المئات وقالوا لموسى عبيدك قد أخذوا عدد رجال الحرب الذين في أيدينا فلم يفقد منا إنسان. فقد قدمنا قربان الرب كل واحد ما وجده أمتعة، ذهب، حُجُولاً، وأساور. وخواتم، وأقراطًا، وقلائد للتكفير عن أنفسنا أمام الرب ” (عد31: 48-50).
وهكذا تكلم صفوة الرجال ” الرؤساء والقواد ” والجند، مع موسى ” وقدموا القرابين ” للرب من أجل الانتصارات التي أحرزوها قائلين: ” نحن عبيدك أخذنا خيرَّة المحاربين من بين بني إسرائيل “. هؤلاء الذين يسمَّون ” صفوة المحاربين “، هم الإثنا عشر ألفًا من الرجال الذين اختيروا من بين أسباط إسرائيل للحرب ضد المديانيين.
يوجد إذًا في شعب الله عدد كبير من المحاربين، ولكن هناك عدد أكبر جدًا من غير المحاربين، ومن بين المحاربين أنفسهم هناك من يسمى ” بصفوة المحاربين ” وهم بالتأكيد أفضل من المحاربين العاديين الذين هم مثل غير المحاربين. وبالمثل توجد شخصيات أكثر عُلوًا من هؤلاء يسمَّون بـ ” صفوة المحاربين “، إذا عرفنا الرؤساء الذين يقودونهم، وكل منهم موَّكل على ألف من هؤلاء المختارين. وهكذا يوجد درجات مختلفة بين صفوف الذين يُدعون بالمحاربين.
غير المحاربين
يوجد كذلك اختلافات حتى بين غير المحاربين، فإنهم لم يدعوا محاربين بنفس المرتبة وبنفس اللقب. بعض منهم لهم نفس المرتبة ولكنهم لن يستطيعوا أبدًا أن يصبحوا محاربين، بل هم مثل الشيوخ والنساء والعبيد. ولكن الأطفال هم غير مقاتلين على رجاء أن يصبحوا يومًا ما مقاتلين عندما ” يصلون إلى قامة الإنسان الكامل” (أف4: 13)، حسب كمال العمر.
إذًا الأطفال كانوا يأملون ليس فقط أن يصبحوا محاربين بدلاً من بقائهم أطفالاً، ولكنهم كانوا يأملون أيضًا في الدخول في عداد ” صفوة المحاربين “، وإن يكونوا منتخبين ومعدودين من بين الاثنا عشر ألفًا المحاربين، بل وأن يحصلوا على وصية ويكونوا رؤساء للمختارين.
المعنى الروحي: هؤلاء الذين ينقذون الآخرين
2ـ تأمل الآن حالة العهد الحالي. انظر كيف تفشت الحرب في كل مكان، الحياة البشرية كلها مُعرضة للحروب الخفية ولهجمات الشياطين. ولكنه يوجد بين شعب الله أفراد هم على درجة كافية من قوة الإيمان ومن التسلح بالفضائل ليحاربوا هؤلاء الأعداء كل يوم.
وهم بكونهم دائمًا مسلحين لا يحفظون أنفسهم فقط بل يحفظون الجميع من فخ العدو، أولئك الذين سواء بسبب الجنس أو السن أو بسبب كونهم عبيدًا لا يستطيعون القتال، ولذلك فهم يشددونهم بالإرشادات وبالقدوة بحياتهم وبنصائحهم المملوءة غيرة بشرط ألا ينقصهم الإيمان. فسواء كان محاربًا أو غير محارب لا يستطيع الإنسان الخلاص بدون إيمان.
أولوية المحبة
ولكن أعتبر أن بين المقاتلين أنفسهم وبين جنود الرب يوجد آخرون مستعدين ومتجردين حتى ” لا يرتبكوا بأعمال الحياة لكي يرضون من جندَّهم ” (2تي2: 4) و ” يلهجون في ناموس الرب نهارًا وليلاً” (مز1: 2)، ها هم الرجال المسمَّون بـ “صفوة المحاربين” لأنه لم يكن الحديث عن عامة المحاربين ” بأنه لم يفقد منهم إنسان”، ولكن كان الحديث عن ” صفوة المحاربين ” فقط.
فهذه الفئة من الرجال لا يوجد بينهم شقاق أو فتنة. مثل هؤلاء هم الذين قيل عنهم: ” وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة ولم يكن أحد يقول إن شيئًا من أمواله له بل كان عندهم كل شئ مشتركًا” (أع4: 32). هؤلاء هم الذين يكونون “صفوة المحاربين” و ” الذي لم يفقد منهم إنسان “. فهؤلاء هم الذين أخذوا في القتال أكبر كمية من الذهب، وقدموا كل هذا الذهب مع كل الزينات التي للرأس أو الذراعين أو حتى للأصابع إلى الرب لأنهم يعلمون أن هذه هي: ” قربانه ووقائده “.
ومن أجل هذه التقدمة لم ينقض أحد منهم الاتفاق لأنهم لن يمكنهم، بالفعل من تقديم قرابينهم للرب وهم على غير وفاق وبينهم انشقاق. هكذا يكون ـ على ما أعتقد ـ أولئك الذين يتبعون بكل دقة الوصية المعطاة لنا من ربنا ومخلصنا يسوع في كتابه المقدس. ” فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فأترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك وحينئذٍ تعال وقدم قربانك” (مت5: 23، 24)، حتى ” ترفع أيادي طاهرة إلى الرب بدون غضب ولا جدال” (1تي2: 8).
هؤلاء هم الذين يقولون ” قد أخذنا عدد رجال الحرب الذين في أيدينا فلم يفقد منا إنسان وقد قدمنا قربان الرب ” (عد31: 49- 50).
التآلف الأخوي:
إنه لواجب مُلح أن ندرس علم قواعد الألحان ووزن الأنغام، لأنه في الموسيقى، إذًا ضُبطت أوتار سلم الأنغام تصبح جاهزة لنغمات اللحن السائغة، وعلى العكس من ذلك إن كان هنالك أي تنافر في نغم القيثارة فإنه يجرح السمع ويضيع بالتالي سحر اللحن. وبالمثل جنود الرب.
إذا كان بينهم انشقاقات واختلافات بغيضة فلن يكون هذا مرضيًا أمام الرب حتى إذا قادوا حروبًا كثيرة ورجعوا بغنائم وفيرة، وقدموا قرابين كثيرة للرب فسوف يقول لهم الرب: ” أترك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك ” حتى يمكنك أنت أيضًا أن تكون معدودًا من بين الذين يشكلون ” صفوة المحاربين ” وأن تقول ” لم يفقد منا إنسان “.
المطابقة مع ناموس الرب:
سأقول أكثر من ذلك. إن لم تستطع ألا تكون على اختلاف مع أية وصية من وصايا الرب، وأن تتوافق مع الفروض الإنجيلية، فلن تستطيع أن تهزم العدو، ولا التفوق على غريمك، فبالفعل، مجرد كونك على اختلاف فأنت مهزوم، وقد تفوق الشيطان عليك في ذات الفعل أن تكون على اختلاف مع الرب. لكن إن أردت أن تهزم العدو وأن تكون من بين ” صفوة المحاربين”، إذًا ” فاتحد مع الرب” كن على اتفاق معه مثل المكتوب: “من سيفصلنا عن محبة المسيح: أشدة، أم ضيق، أم اضطهاد، أم جوع، أم عرى، أم خطر، أم سيف؟ “.
وأيضًا: ” لا حياة ولا موت، ولا أمور حاضرة، ولا مستقبلة، ولا علو، ولا عمق، ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا ” (رو8: 35-39). رجل مثل هذا الرجل ليس لدية أي اختلاف مع الرب، رجل مثل هذا الرجل يستطيع أن يهزم المديانيين وأن ” يبيد جميع أشرار الأرض ” (مز101: 8)، ” ليقطع من مدينة الرب كل فاعلي الإثم ” (مز73: 20).
كذلك أنا أيضًا، ينبغي أن أقطع من نفسي ومن الأرض التي هي لحمي، ينبغي أن أقتل الفسق، والنجاسة، والهوي، والشهوة الرديئة، والبخل؛ هؤلاء هم ” فاعلي الإثم في أرضي “، الذين لن أستطيع أن أبيدهم وأقتلهم إن لم أتمكن من أن أكون على اتفاق مع وصايا الرب. حينئذ سأكون أهلاً لأن أقدم قرابيني للرب.
مواد الغنيمة: الفضائل
قيل ” كل إناء من ذهب، كل قلادة، طوق للمعصم، خاتم، سوار، أو سلسلة ” القلادة هي زينة الحكمة، فقد قيل بالفعل عن الحكمة في الأمثال أن الذي يقتنيها يلبسها كـ ” قلادة لعنقه ” (أم9:1). طوق المعصم والخاتم هما زينة للأيادي، وهما رمز للأفعال، وبالمثل السوار. أما السلاسل فهي تعني رباطات ” الكلمة ” والتعليم العقيدي.
الشفاعة عن طريق الفضائل والأعمال الصالحة:
” من أجل عمل تكفير لأجلنا أمام الله “. إذا قلنا إن الإنسان بتقديمه الذهب يسترضى الله. هذا مستحيل، فماذا أقول؟ هذا كُفْر. ونحن نعتبر هذا أمرًا ينبغي شجبه حينما يقبل الرجل الثري أن يكون ثمن رضاه على مرؤسيه هو ” الذهب “، بالأحرى لا يليق بنا أن نفتكر نفس الشئ بالنسبة لله.
ولذلك من الأفضل في اعتقادي أن نتتبع التفسيرات المسلَّمة لنا في الكنيسة وأن نتعلم أن نرى في رمز الذهب فضائل الروح وإتمام الأعمال الصالحة وهي وحدها القرابين اللائقة بأن يقدمها الإنسان لله وهي الوحيدة التي من خلالها فقط ينال الإنسان رضى الله عنه.
تذكار الاستحقاقات
3ـ قيل ” فأخذ موسى وألعازار الكاهن الذهب منهم من عند رؤساء الألوف ورؤساء المئات وأتيا به إلى خيمة الاجتماع تذكارًا لبني إسرائيل أمام الرب ” (عد31: 51). ونحن نرى أن كلمات الكتاب المقدس لا تتعلق بالمظهر المرئي ولكن بالتذكار الروحي. مغبوط هو الرجل الذي يتذكر قيامه بعمل مبرور أمام الرب وتقديمه القرابين التي تُرضى الله ألا وهي فضائل الروح وزينة التقوى.
ميراث السبطين ونصف: تفسير الكتاب المقدس
فيما يلي قصة الميراث ” رأوبين وجاد ونصف سبط منسى “.
نحن نقصد التعليق على بعض النقاط ولكننا نريد أولاً أن نوقّظ انتباه المستمعين ونثير النفوس للتأمل في المعنى الروحي. لا ينبغي فحص كل كلمة بمفهومها في سياق العظة التي تُلْقى، ولكن يجب أن يؤخذ في الاعتبار الشخص الذي يقولها. فعلى سبيل المثال، إذا كان طفل هو الذي يتكلم فإننا نهيأ أنفسنا لسماع حديثًا صبيانيًا.
وعلى العكس من ذلك، إذا كان المتحدث رجلاً فإننا نأخذ على الفور بعين الاعتبار الكلمات المنطوقة على أنها تليق برجل، وإذا كان المتحدث عالمًا فإننا نفحص كلماته في ضوء علمه، أما إذا كان – على العكس – المتحدث رجلاً جاهلاً وبدون تعليم فسوف نستقبل كلماته بطريقة مختلفة. وبالمثل إذا كان المتحدث شيخًا وكانت له معرفة واسعة ومُخْتبرة لإنسان شاخ بين أبحاث العالم فسوف ننتظر منه أكثر من مجرد كلمات.
لماذا كل هذه المقدمات قبل أن نعلق على قصة ميراث رأوبين وجاد ونصف سبط منسى؟ سوف نعرف أن راوي الأحداث التي نقرأ قصتها ليس طفلاً مثل الذي تكلمنا عنه، ولا رجلاً من النوع الذي تحدثنا عنه، ولا شيخًا ولا بأي كيفية من جنس بني آدم.
فماذا أقول؟ فهو ليس ملاكًا، ولا قوة سمائية، أن الراوي هو الروح القدس. وذلك حسب تقليد القدماء، وبالفعل، كيف كان يمكن لموسى أن يتكلم عن أصل العالم وظروف موته هو شخصيًا إن لم يكن بوحّي من روح الرب؟ كيف كان يمكن له أن يتنبأ عن المسيح لو لم يكن الروح القدس هو الذي يتكلم فيه؟ والمسيح يشهد له قائلاً: ” لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني، فإن كنتم لستم تصدقون كُتب ذاك فكيف تصدقون كلامي؟ ” (يو5: 45-47).
من المؤكد إذن أن هذه الكلمات موحى بها من الروح القدس. وبناءً عليه ينبغي فهمها تبعًا لكرامة – أو بالأحرى – عظمة من تكلم بها. يبدو أن هذا هو الوقت لاستدعاء الكلمات عندما طلب الغني وهو في العذاب أن يُرسل لعازر إلى الأرض لتنبيه أخوته أن يعيشوا بالتقوى ” لكيلا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هذا “، فقال له إبراهيم: ” عندهم موسى والأنبياء ليسمعوا منهم ” (لو16: 23-31). ” موسى والأنبياء ” لم يكونوا بالنسبة له رجالاً أحياء يكسوهم جسد، ولكن كتابات موسى الموحاة من روح الرب.
منفعة ضعيفة للمعنى الحرفي
وقد يقول قائل طبقًا لهذا النص، إذا كان إبراهيم يرجعني إلى كلمات موسى، حتى بقراءتها أستطيع تجنب “موضع العذاب،” فبماذا سيساعدني على الهرب من جهنم بقراءتي كيف أن ” بنو رأوبين وبنو جاد ونصف سبط منسى” (عد32: 1-5س)، أخذوا من موسى جزءً من الميراث عبر الأردن لأنهم كان لديهم مواشي كثيرة وافرة أكثر من الأسباط الأخرى؟ أو أن أقرأ ماذا قال لهم موسى احترسوا من عدم إثارة غضب الرب ضد الأسباط العشر الذين ” أُرْسلوا ” مع يشوع وكالب ” لينظروا الأرض “، والذين قالوا إن الأرض كانت بهذه الكيفية أو تلك، وأننا لن نستطيع أن نقهرها؟ (عد32: 6-15).
أو أن نقرأ أن ” بنو رأوبين “، والآخرون الذين انضموا إليهم أجابوا على ذلك قائلين: أعطنا هذه الأرض ” مُلْكًا ” و “أننا لا نملك عبر الأردن”، مع أخوتنا ولكننا نترك هنا “مواشينا وأمتعتنا” نسائنا وأطفالنا وأما نحن فنتجرد مسرعين قدام جيش بني إسرائيل ونعبر الأردن؟ (عد16:32ـ27).
ثم نقرأ بعد ذلك أن موسى يعطي أمرًا بخصوصهم ” ليشوع بن نون وألعازار الكاهن ” واضعًا هذا الشرط ذاته أن بني رأوبين وبني جاد يذهبون مع بني إسرائيل ويحاربون معهم ضد الأعداء عبر الأردن حتى تنجو البلد منهم ويتسنى لهم الحصول على الأرض التي طلبوها ” تلك التي للملك سيحون والملك عوج ” (عد32: 28-33).
وأن نعرف أنهم وحدهم يحصلون على جزء من الميراث من تلك الجهة من الأردن بينما يعطي يشوع للآخرين جزءًا عبر الأردن؟ وقد يقول قائل: وما الفائدة من كل ذلك مادامت النهاية التي حددها إبراهيم: ” عندهم موسى والأنبياء ليسمعوا منهم ” لماذا؟ حتى إذا ما قرأوا كتاباتهم وسمعوها ” لا يأتوا إلى موضع العذاب؟ ” (لو16: 29).
النص بالمعني الروحي
لقد قلنا كل هذا، لإيقاظ قلوب المستمعين، لكي يعطوا انتباهًا أكثر حذرًا للقراءات والكلمات، ولكي “ برفعهم البُرقع ” (2كو3: 16)، عن الحرف في كتاب موسى سيفهمون النص جيدًا ويكتشفون في كل نص: تعليمًا يقودهم – إذا فهموه بذهنهم ولاحظوه – ليس إلى “موضع العذاب” حيث طُرح الغني الذي أزدرى بسماع أسرار الكتاب المقدس، بل في “حضن إبراهيم” حيث لعازر يستريح، فلندعُ الله إذًا بأن ” ينزع من قلوبنا البرقع “، الذي يغطي ” قراءة العهد القديم “، حتى يمكننا رؤية ما هو خفي وسري في كتاب موسى متبعين في ذلك تحذير النبي “ إن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة ” (إر3: 17).
ولكي يكون لهذا النص معني سريًا وإلهيًا، فإني أعتقد على ضوء ما ترتب، أن لا أحد يستطيع أن يشك فيه مهما كان ملآنًا ” بالخرافات اليهودية “، ومع ذلك لا أحد يستطيع أن يعارضه فإنه لا يستطيع أحد معرفة الرموز الكامنة في هذه القصص، والوجه الحقيقي للأشياء المغطاة بهذا البرقع، إلا الروح القدس الذي أوحي بهذه النصوص ـ عن ربنا يسوع المسيح ـ الذي قال عن موسى: ” أنه كتب عني ” (يو5:5)، وإلا الله القدير الذي لم يعلن تدابيره الأولية للجنس البشري بطريقة مجردة ولكن تحت برقع الحرف.
أما من جهتنا نحن، فلندعُ من أعماق قلوبنا، ” كلمة الله ” الذي هو ” ابنه الوحيد ” و الذي أعلن عن الآب لأولئك الذين أراد أن يعلن لهم أن يتكرم بإعلامنا نحن أيضًا بهذه الأشياء لأنها تحوي السر الخاص ” بالوعود التي أُعطيت لمن يحبه، حتى نعرف نحن أيضًا الأشياء الموهوبة لنا من الله” (1كو2: 9-12). ساعدونا أنتم أيضًا بصلواتكم وأعطوا كل انتباهكم ليس لنا نحن المتحدثين بل للرب الذي ينير أولئك الذين يجدهم أهلاً لنوره، صلوا لكي يُنعم لنا بأن ” يُعطي لنا نحن أيضًا كلام عند افتتاح الفم ” (أف6: 19).
فإذا رفعتم قلوبكم إلى الرب وطلبتم منه أن ينير كلمته المقدسة فلنقبل على دراسة المعنى الذي قد يكون مخفيًا.
ازدواجية الرمز في سِفْر الخروج
الارتداد والرحيل إلى العالم الآخر
4ـ رمز الخروج من مصر يُفْهم بطريقتين، أسلافنا ذكرهما ونحن أنفسنا رددناهما كثيرًا. عندما تُقْتاد من ظلمات الخطية إلى نور المعرفة، عندما ترجع من الحياة الأرضية إلى بدء الحياة الروحية، فأنت تخرج من مصر وتصل إلى الصحراء وهو نوع من الحياة حيث السكون والهدوء، تتدرب فيها على الشرائع الإلهية وتتشرب بالوحي الإلهي، ثم عندما تتقبل تشكيلها وتوجيهها لك، وبعد عبور الأردن فأنت تسرع إلى أرض الميعاد، أي أنك بنعمة المعمودية تصل إلى الوصايا الإنجيلية.
ولكن الخروج من مصر كما قلنا، يصَّور تخلى النفس عن ظلمات هذا العالم وعن العَمى الملازم للطبيعة البشرية وارتحالها إلى عالم آخر، عُرض علينا مرة “كحضن إبراهيم” في مثل لعازار، ومرة ” كالفردوس” في واقعة اللص الذي اهتدى على الصليب، ومرة كما يعلم الله أية مواضع ومساكن تصلح لعبور النفس المؤمنة بالله حتى تصل إلى ” سواقيه تفرح مدينة الله ” (مز46: 4)، وتمتلك الميراث الموعود به لآبائها.
ميراث موسى وميراث يسوع
إذا أخذنا في الاعتبار ازدواجية الرمز في الخروج من مصر، وفي الرحيل إلى الصحراء وتملك ميراث الأرض المقدسة، فلنرَ الآن ماذا يفعل هنا ” رأوبين وجاد ونصف سبط منسى “. الميراث الذي أعطاه لهم موسى والذي خصصه لهم في عبر الأردن له علاقة مع الرمز الذي من خلال الأسباط الاثنى عشر يضم بطريقة خفية وسرية الجنس البشري بأكمله أو على الأقل كل البشر الذي وصلوا إلى معرفة الرب.
فجزء منهم يحصل على حصته من الميراث عبر الأردن، وجزء آخر على الشاطئ الآخر من الأردن في أرض الميعاد، بفضل يشوع (يسوع). أولئك الذين خُصصت لهم حصة عبر الأردن هم “الأبكار” ولو أنهم أقل نُبْلاً، وهم لم يكونوا بلا عيب” ومع هذا فهم ” الأبكار” رأوبين هو “ بكر يعقوب ” (تك35: 23)، ولو أنه ” دنَّس مضجع أبيه ” (تك 49: 3)، ولكنه ” بكى”.
وجاد، بالرغم من أنه وُلد من جارية، إلا أنه هو أيضًا ” بْكَر” (تك35: 26)، منسى أيضًا الذي منه نصف السبط الذي حصل على حصة عبر الأردن، وبالرغم من أنه وُلد من مصرية، إلا أنه ” بكر” (تك41: 51)، أيضًا. كلهم ” أبكار”، وهكذا فهم يمثلون شعب العهد القديم الذي لا يحصل على حصة ميراثه من يسوع (يشوع) ربنا، ولكن من موسى عبر الأردن.
تأمل بانتباه السبب الذي من أجله حصل الوارثون القدماء على نصيبهم عبر الأردن منفصلاً عن كل الآخرين: قيل ” لدينا مواش كثيرة وافرة جدًا ” (عد32: 1ـ4)، فهذا هو السبب الذي من أجله لم يتمكن شعب العهد القديم من الوصول إلى تَمَلْك الأرض التي ” تفيض لبنًا وعسلاً ” وهي شهد بجانب أي أرض أخرى.
هذا هو السبب الذي من أجله لم يستطيعوا معرفة ” الكلمة صار جسدًا “، لأنهم كان لديهم ” مواشي كثيرة وافرة جدًا “، ” الإنسان الطبيعي لا يقبل الأشياء الخاصة بروح الله ” ولا ” أن يحكم روحيًا ” لأن ” الإنسان في كرامة لا يبيتُ يشبه البهائم التي بدون عقل ” (مز49: 13).
ولذلك حصل على حصة من الميراث خارج مجرى الأردن وصار غريبًا عن الأرض المقدسة وهكذا حصل هذا الشعب على ميراث من موسى، ولكنه لم يحصل إلا على أراضي ملكين لأن موسى لم يستطيع قتل أكثر من اثنين من الملوك وتوزيع أراضيهما على الشعوب التي لديها كثير من المواشي والأغنام. وعلى النقيض من ذلك، يشوع [يسوع] هو الذي وزع الأرض على أولئك الذين عبروا الأردن، وإن كانوا هم أيضًا لديهم مواشي وأغنام، إلا أنهم لم يكن لديهم بالقدر الكافي الذي يمنعهم من عبور الأردن.
فأنه يبذلون ما في وسعهم لعبور الأردن مع زوجاتهم وأطفالهم الصغار ويصلوا إلى الميراث الموعود به لآبائهم. أما الآخرون فلم يستطيعوا بسبب مواشيهم وأغنامهم ونسائهم وأطفالهم أن يعبروا الأردن ويدخلوا الإيمان بالمسيح الذي هو أرض الميعاد.
المعاهدة
5ـ ومع ذلك انفجر موسى في عتاب وقال لبني رأوبين وبني جاد: ” هل ينطلق أخوتكم إلى الحرب وأنتم تقعدون ههنا؟ فلماذا تصدُّون قلوب بني إسرائيل عن العبور إلى الأرض التي أعطاهم الرب” (عد32: 6-7). وبعد أن وجه لهم هذا العتاب ” اقترب بنو رأوبين وبنو جاد إليه وقالوا نبني صير غنم لمواشينا ههنا وحدنا لأطفالنا، وأما نحن فنتجرد مسرعين قدام بني إسرائيل حتى نأتي بهم إلى مكانهم” (عد32: 16-17).
وبهذه الوعود هدأ موسى حتى أنه أوصى يشوع [يسوع] وألعازار الكاهن لأنه مكتوب ” فأوصى بهم موسى وألعازار الكاهن ويشوع بن نون ورؤوس آباء الأسباط من بني إسرائيل وقال لهم موسى إن عَبَر الأردن معكم بنو رأوبين وبنو جاد كل متجرد للحرب أمام الرب فمتى أُخْضعت الأرض أمامكم تعطونهم أرض جلعاد مُلكًا ” (عد32: 28-29).
الأرض واليابسة: عقم روحي وخصوبة روحية
إن كلمة ” أرض” لها معاني مختلفة. أولاً الأرض التي نعيش فيها وهي التي كانت في البدء وتسمى في الكتاب المقدس بـ “اليابسة”، وفيما بعد هذه المسماة من قبل بـ “اليابسة” حصلت على اسم ” أرض”. وبالمثل السماء المرئية لم تكن تسمى “بالسماء” في البدء، ولكنها كانت تسمى بـ ” الجلد” ثم تسمت بـ ” السماء”، ومع ذلك فلقد قيل: “في البدء خلق الله السموات والأرض” ثم ” اليابسة” ثم ” الجلد”.
هل تريد الدليل على أن في الكتاب المقدس اليابسة شييء والأرض شئ آخر. اسمع ما يقول النبي حجي “ هي مرة بعد قليل فأزلزل السموات والأرض والبحر واليابسة ” (حجي6:2). انظر كيف يذكر النبي شيئين مميزين مختلفين ” الأرض ” و ” اليابسة “. وفي نصوص أخرى كثيرة من الكتاب المقدس تُذكر ” الأرض” بطريقة حسنة ولكننا لا نقرأ مطلقًا أي ثناء على ” اليابسة “.
آدم وهو مذنب يُطرد بعد الخطية إلى مكان يُدعى ” اليابسة “، وهو لم يكن قبل ذلك موجودًا على اليابسة بل كان على الأرض. ومن ناحية أخرى فإن الوعد الذي أعطاه الله ” للودعاء” في الكتاب المقدس لم يكن ” اليابسة ” بل “الأرض”، ” طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض “. وفي الكتاب المقدس أيضًا الذي يعطي مائة، وستين، وثلاثين، لما يسمى بـ “الأرض” وليس “اليابسة”. ويبدو أنه يعتبر تدرجًا أن يمر المرء من اليابسة إلى الأرض.
كما كان تقدمًا أن هذه “اليابسة” تسمى بـ ” الأرض “. ونحن كلنا مادمنا عقماء ولم نأتٍ بأي ثمر من بر وطهارة وتقوى، فنحن “اليابسة” ولكن إذا بدأنا بتثقيف أنفسنا، وبإيقاظ الخصوبة، في أعماق أنفسنا الكسولة لتثمر فضائل، فسوف نصبح بدلاً من ” اليابسة “، أرضًا تتكاثر عندما تُزرع بكلمة الرب وتعطى حصادًا وفيرًا.
المعنى طبقًا للإيمان بالآخرويات
يوجد في ملكوت الله ” أرضًا ” موعود بها للودعاء، أرض تسمي بـ ” أرض الأحياء “. أرض موضوعة على مرتفعات والتي قال عنها النبي بحق: ” فيرفعك لترث الأرض ” (مز34:37). هذه هي الأرض التي ترثها النفس المؤمنة بالله بعد الخروج من مصر هذا العالم. والمقصود بها هنا أولئك الذين عاشوا بدون الناموس. وهنالك الذين وضعتهم العناية الإلهية وتدابيرها في الإيمان والنعمة بيسوع المسيح.
أما أولئك الذين يحسبون الأوائل ويعتمدون على تدبير موسى لن يمتلكوا الميراث المخصص لهم والذي ربحوه تحت قيادة موسى إلا إذا مرّوا هم أيضًا تحت قيادة يسوع [يشوع] وتدبيره وقاتلوا مع خاصته ضد الأعداء وأقاموا عندهم، حينئذ سيملكون الميراث الذي ربحوه تحت قيادة موسى. ولو لم يكن هذا مثبتًا في الكتب المقدسة لبدا خيالاً بحتًا.
ولنأخذ بولس الرسول كشاهد على هذه الحقائق وهو الذي في رسالته إلى العبرانيين وبعد أن ذكر كل الآباء والبطاركة والأنبياء الذين أرضوا الرب بإيمانهم، يضيف كخاتمة في نهاية هذا السرد: ” فهؤلاء كلهم مشهودًا لهم بالإيمان لم ينالوا الموعد إذ سبق الله فنظر لنا شيئًا أفضل لكي لا يكملوا بدوننا ” (عب11: 39)، وكأن التسعة أسباط ونصف يقولون إذا كان السبطان ونصف لم يحصلوا على هذه الأرض التي وُعدُوا بها عبر الأردن والمخصصة لهم من موسى فلأن الرب سبق ونظر لنا شيئًا أفضل لكي لا يكملوا بدوننا.
ولذلك فأنهم يعبرون النهر معنا مجردين للقتال ويساعدوننا في محاربة ومهاجمة الأعداء. ولكن الذين يعبرون النهر هم المقاتلون المسلحون، الرجال الشجعان الأقوياء، أما الآخرون، وهم جماعة جبناء بلا شجاعة، فيبقون فيما وراء الأردن. ولكن من بينهم رجال شجعان وهم الذين تركوا مواشيهم وأغنامهم وأمتعتهم وحاربوا معنا حتى هزمنا أعدائنا وتملكنا الأرض الطيبة “أرض تفيض لبنًا وعسلاً”.
حقيقة من يشك في أن كل البطاركة القديسين لا يساعدوننا بصلواتهم ويقودننا ويشجعونا بأفعالهم التي تركوها لنا مثالاً، وبكتاباتهم أيضًا التي تركوها لنا والتي من خلالها نتثقف ونتعلم كيف نحارب قوات الخصم، ونعضد قتال المصارعين. هم يحاربون أيضًا من أجلنا ويتقدمون مسلحين أمامنا في الخط الأول بهذه القدوة وبرؤية إقدامهم الروحاني نتسلح ونصارع ضد ” أجناد الشر الروحية في السماويات ” (أف6: 12).
وهكذا أولئك الذين يحاربون تحت قيادة يسوع [يشوع] يصرعون ثلاثين ملكًا وأكثر ويتقاسمون أراضيهم وبعد أن يطرحوا ” أجناد الشر الروحية في السماويات ” يحصلون على قسمة الرب يسوع وهي ميراث ملكوت السماوات.
درجات في الكنيسة
6ـ يمكن أن نجد تفسيرًا ثالثًا إذ يوجد من بين بني إسرائيل، أي بين شعب الكنيسة، أناس روحانيون يرثون من هذا الجانب من الأردن من ” الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً “، وتسمع أنهم يحصلون على ملاذ الحكمة والعلم. هؤلاء أرضهم محاطة ومروية بنهر الرب وتفيض بمياه العقل الإلهي.
كما يوجد من بين شعب الكنيسة من هم جسديون الذين لديهم المواشي والأغنام بوفرة هؤلاء الذين قال عنهم الرسول: ” أهكذا أنتم أغبياء. أبعد ما أبتدأتم بالروح تكملون الآن بالجسد” (غل3:3)، وقال أيضًا ” أيها الغلاطيون الأغبياء من رقاكم حتى لا تذعنوا للحق؟ ” (غل1:3).
وكل واحد منا أيضًا إذا لم يتسلح ويطرد الأفكار الشرسة والحيوانية ويسرع إلى الذهن الروحي فإنه سيبقى في هذا الجانب من الأردن ولن يستطيع أن يعبر ” نهر الحكمة الذي يفرح مدينة الله “، وهذا يعني حالة الروح التي تكون أهلاً “بالرب” فهو لن يصل إلى الثروات الداخلية الكامنة في كلمات الرب، هذه الثروات الأحلى من العسل وشهده، ولكنه لن يصل إلا إلى الأرض التي قُتل فيها ملكين وسيقولون له: ” لأني لم أعزم أن أعرف شيئًا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبًا ” (1كو2:2).
ولكن من يستطيع أن يعبر الأردن ، وينفذ إلى الأعماق الداخلية، فإنه سيقتل ثلاثين ملكًا وأكثر ـ هؤلاء بلا شك هم الذين قيل عنهم: ” قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه ” (مز2:2).
وبعد أن يكون قد طرد هؤلاء الملوك، سيعرف الأسرار الخفية جدًا، حتى يصل إلى الموضع العالي حيث عرش الله، ” أورشليم مدينة الله الحي ” (عب22:12) ولبست تلك المستعبدة مع بنيها على الأرض، بل المدينة السمائية الحرة التي هي أمنا جميعًا (أنظر غلا26:4)، إلى هذا الميراث يقودنا رئيسنا وإلهنا وربنا يسوع المسيح، ” الذي له المجد والسلطان إلى دهر الدهور أمين ” (انظر رؤ5:1).