أبحاث

النبوءة الثالثة – العظة السابعة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

النبوءة الثالثة - العظة السابعة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

النبوءة الثالثة – العظة السابعة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

النبوءة الثالثة - العظة السابعة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد
النبوءة الثالثة – العظة السابعة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

نبوءة بلعام الثالثة

1ـ الآن بين أيدينا النبوة الثالثة التي هي كلام الرب الذي وُضع بفم بلعام. سنحاول شرح بعض منه بنعمة الرب.

 

الحالات: جبل فغور، قمة اللذات

يتخيل الملك بالاق البائس بأنه بالنسبة للعناته لم يتهيأ المكان المناسب لسحر بلعام وليست الإرادة. إنه يعتقد أنه سوف ينجح بتغيير المكان “هلم ” يقول « آخذك إلى مكان آخر، عسى أن يصلح في عيني الرب أن تلعنه من هناك. فأخذ بالاق بلعام إلى رأس فغور المشرف على وجه البرية » (عد23: 27ـ 28).

الله يضع الذين يدعوهم على قمة جبل سيناء[1]، بالاق؛ وهو عدو الله، يضع بلعام على رأس جبل فغور، حيث فغور تعني لذة. بالاق يضع إذا الرجال على قمة اللذة والتنعم حيث إنه يحب اللذة أكثر من محبة الله ولأجل هذه الرؤية يجعلهم في أعلى نقطة على قمة اللذة والتنعم حتى يبعدهم من الله. إذ أن بالاق يعني الذي يطرد ويفترس. لهذا السبب فغور تشرف على وجه البرية، بمعنى نحو إنشغالات البرية الخالية من الله.

الذبائح

وقال بلعام لبالاق « ابن لي ههنا سبعة مذابح وهيئ لي هنا سبعة ثيران وسبعة كباش ففعل بالاق كما قال بلعام، وأصعد ثورًا وكبشًا على كل مذبح » (عد23: 29ـ 30). فالرسول يعلن حقًا بكل وضوح   « إن ما يذبحه الأمم فإنما يذبحونه للشياطين لا لله » (1كو10: 2). والنبي أيضًا تفوه قائلاً: « ذبحوا لأوثان ليست الله » (تث32: 17)، ومع ذلك فإن ناموس الرب قد أعطى وصايا فيما يخص الذبائح وسلم لأبناء إسرائيل كتابًا في طقوس الذبائح. نستطيع أن نفكر لماذا يجب أن نقدم لله الذبائح التي تبدو إنها ذبائح نذرت للشياطين. الإجابة على هذا ستكون بسيطة، وسريعة. قد بينا سابقًا أن إرادة الرب لم تكن    « بإعطاء كتاب الطلاق » (مت19: 6)، لأن الله لم يرد أن يفرق ما جمعه هو، لكن هو موسى الذي أوصى بهذه الوصية من سلطانه الذاتي من أجل قساوة قلب اليهود. كذلك في هذا نستطيع أن نبين بأن الله كما يقال عنه بفم نبي آخر « لا تأكل لحم الثيران ولا تشرب دم التيوس » (مز50: 13)، وأنه بموجب نص آخر ” لم أكلم آباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة وذبيحةً، أنه موسى الذي من أجل قساوة قلوبهم قد أعطاهم هذه الوصايا في تعاقب عادات سيئة قد بدأت في مصر، وبما أنهم لم يستطيعوا أن يبطلوا الذبائح فليقدموها على الأقل للرب وليس للشياطين. ومع ذلك يجب أن نبحث عما إذا لم يكن هناك سبب أكثر يسرًا وأكثر عمقًا لتقديم ذبائح للرب، إذًا كما قلت الذبائح التي تقدم للرب تبطل تلك التي تقدم للشياطين، حتى أن النفوس، المجروحة بالبعوض ” تشفى الآخرين”. يقال إن الأطباء يؤكدون: أنهم اثبتوا أن سموم الثعابين تزال بالأدوية المستخرجة من الثعابين، كذلك سموم الذبائح الشيطانية تُزال بالذبائح المقدمة للرب. وبنفس الطريقة الموت الذي ماته يسوع لا يدع الموت أن يسود على المؤمنين “منذ القديم كان الزمن قد سمح أن الذبائح صارت مناقضة للذبائح، لكن عندما أتى ذاك الذي هو الذبيحة الكاملة (1بط1: 19) « الحمل الذي بلا عيب » الذي “يرفع خطية العالم” أجمع، فإن الذبائح الخاصة التي كانت تقدم لله أصبحت بلا فائدة، بينما كل عبادة الشياطين قد طردت بضربة واحدة فقط. لكن بلعام سواء كان بإرادة القلب الغير مطهر، أو كان بخضوع الرمز الذي يقدم لشعب الفلاسفة والفريسيين الجاحدين، يقدم أيضًا ضحايا ويجهز الذبائح لأنه في الذبائح يضعون كل رجائهم كذلك الذين قلبهم لا يقبل الإيمان بالمسيح.

 

بلعام يفهم

2ـ وماذا بعد؟ « فلما رأي بلعام أنه يحسن في عيني الرب أن يبارك إسرائيل لم ينطلق كالمرة الأولى والثانية ليوافي فألا بل جعل نحو البرية وجهه ورفع بلعام عينيه ورأى إسرائيل حالاً حسب أسباطه فكان عليه روح الله، فنطق بمثله وقال … » (عد24: 1ـ 3).

نستطيع أن نتساءل لماذا رأي بلعام بأن ” الأفضل في عيني الرب أن يبارك إسرائيل “، ونفكر بأنه عندما لاحظ من الذبائح التي أحرقها، عندما رأي بأنه لم يتقدم شيطان واحد ولا أية قوة معادية تجاسرت لتظهر بقرب ضحاياه، وأن كل خدام الشر الذين اعتادوا أن يساعدوه في لعناته قد إبتعدوا، استطاع أن يفهم بأنه يحسن في عيني الرب أن يبارك إسرائيل.

 

اليهود سوف يقبلون

لكن الأفضل أن نفهم أن هذا الشعب الذي هو الآن “شعب باطل”، وأن المعلمين الذين ثبتهم في الضلال بعدم إيمانهم بالمسيح سيرون بوضوح في يوم ما، في “اليوم الأخير” عندما يدخل ملء كل الأمم    ” ويبدأ كل إسرائيل بأن يأتي الإيمان بالمسيح ” نعم الذين هم الآن   « لهم أعين ولا يبصرون » (مر8: 18)، وسيرفعون أعينهم نحو الأفكار الأكثر علوًا وروحانية، وسيبصرون ويفهمون بأنه ” يحسن في عيني الرب أن يبارك إسرائيل “الروحي” فسيرونه برتبهم على « حسب عشائرهم وبيوت آبائهم » (عد1: 20). « وكل واحد حسب رتبته ذاهبًا للحصول على مجد القيامة » (1كو 15: 23)، وآخذين رمزهم سيفهمون ما هو مكتوب في الكتاب المقدس، ما هو الآن لا يرونه ولا يفهمونه « بسبب وجود البرقع على قلبهم » (2كو3: 15).

يقول الكتاب المقدس « لم ينطلق كالعادي ليوافي فألا » (عد1:24)، لم يسمح بأن ينجذب على سؤاله العادي بمعاني الخشونة المادية ولم يدرس بعد إرادة الله على الحيوانات غير الناطقة وعلى رؤوس البهائم، كما يفعل الذين ينجذبون مع الفأل، ولكن سيعلم هو أيضًا بأن الله العلي لا يهتم بالثيران (1كو9: 9) ولا الخراف ولا الطيور ولا الحيوانات الأخرى لكن إذا وجد ما قد كُتِبَ عنها فقد كتب لأجل الإنسان.

 

النبوة: بلعام يتنبأ

3ـ فلننظر ما يقوله بلعام في النبوة الثالثة: « فنطق بمثله وقال وحي بلعام بن بعور، وحي الرجل المفتوح العينين، وحي الذي يسمع أقوال الله الذي يرى رؤيا القدير مطروحًا وهو مكشوف العينين » (عد3:24ـ4). ومن المدهش بأن مديح مثل هذا يخصص لبلعام الذي “أخذ كلامه”، ويتفوه بهذه الكلمات على نفسه. كيف أن بلعام مفتوح العينين حقًا، وهو الذي قد سلم نفسه للعرافة وللسحرة، الذي قد مارس السحر، كما قد بينا ذلك؟ ويبدو مستغربًا إذ يقول الكتاب « فكان عليه روح الله، وكلام الرب قد وضع في فمه » (عد24: 2)، لذلك استحق مثل هذا المديح العظيم لأننا لم نجد حتى موسى، ولا أي نبي آخر جعل في مكانة عالية مثل بلعام هذا.

 

إسرائيل يري

كذلك أفضل أن أنسب هذا الشعب القديم، للزمن الذي كان فيه     « قد رجع إلى الرب يرفع البرقع الموضوع على قلبهم… وأما الرب فهو الروح » (2كو3: 15ـ 16). لهذا السبب يقول إنه “مكشوف العينين” فقد كانت العينان مغلقتان والآن بروح الرب الذي كان عليه ” رُفع البرقع، قد كشف “.

إذًا إنها الآن اللحظة التي فيها ” يرى ويسمع حقيقة أقوال الله ”   و ” يرى رؤيا القدير ” بمعنى أنه سيرى ملء الزمان الذي أشير إليه في “أحلام” دانيال النبي ويرى الرؤيا التي أعطيت له في “حلم” (دا1:7)، بمعنى أنه سيفهمها ويراها بعيون مكشوفة. سيصبح حقًا مماثلاً للذي قد قال عنه الرسول: « ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح » (2كو10: 18).

 

النظرة الجسدية والنظرة الروحية

مع ذلك أريد أن أبحث ما هي “هذه العيون” التي قيل عنها “إنها مكشوفة”؟ ألا تكون حسب نصوص كتابية أخرى هي عيون أرضية، أو العيون التي يسميها بولس الرسول “الذهن الجسدي” عندما يعلن لبعض الأشخاص « باطلاً منتفخًا من قبل ذهنه الجسدي » (كو18:2). أعتقد أن الحية قالت  لحواء عن هذه العقوبة بأن « الله عالم إنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما” “فأكلت” “فانفتحت أعينهما » (تك3: 5) لكن يوجد نوعان من الأعين: عيون تنفتح بالخطية، والأخرى هي للرؤية لكي تفيد آدم وحواء. قبل أن تنفتح هذه الأعين (تك3: 7) الكتاب المقدس لم يقل في اللحظة التي فيها أعينهما لم تنفتح للخطية:        « فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر. فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل فانفتحت أعينهما » (تك3: 6ـ 7). حقًا كيف إذًا لم تكن أعينهما قد انفتحت بعد، أكانت المرأة قد رأت ” أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون “. وعن أي عيون قد قيل بأن ” الشجرة شهية للنظر “.

« لكن أنا أسمع كلام ربي يسوع المسيح، أفحص سلطانه ولطفه وأفهم كلامه: لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذي يبصرون » (يو9: 39). أعلم بأن الخطاة لا يبصرون بعيون من النوع الصالح والتي سميت “ذهن الجسد”، والتي قد انفتحت على نصيحة الحية. إذًا إنه عمل حميد أن مخلصنا وربنا لا يجعل الذين لا يبصرون الصالحات يبصرون بأعين من النوع الصالح. أما العيون التي تشتهي الشر فهى عيون انفتحت على نصيحة الحية، وبالعكس الذي لا يرون تضليل الحية، تنفتح أعينهم ويبصرون خيرات الرب يسوع مخلصنا، لأن العين التي تفتح أمام الشر لا تفتح أمام الخير. لذلك أستطيع أن أفهم كلام الرب اللطيف. هذا « من صنع للإنسان فمًا أو من يصنع أخرس أو أصم أو بصيرًا أو أعمى؟ » (حز4: 11). البصير هو الذي يرى بعيون المسيح، الأعمى هو الذي لا يرى نصيحة الحية القاتلة وقد ذكرنا كل هذا لكي نوضح ما هي “الأعين” المغلقة وما هي الأعين “المكشوفة” وفي نفس الوقت حتى في كلمة النبي: « ابصروا إبصارًا ولا تعرفوا » (إش9:6)، نعم بأي عيون إبصار يرى وبأي أعين البصيرة لا يرى، يبدو إذًا أن عيونه قد كشفت. لذلك بلعام يدعو نفسه “البصير الحقيقي” وقال: ” يقول ما سمعه من كلمات القوى “. لأن بنفس الطريقة هناك بعض الأعين قد أغلقت وبعض أعين أخرى قد انفتحت، نفهم من هذا بأن بعض ” الأذان يجب أن تكون مغلقة وبعض آذان أخرى يجب أن تكون مفتوحة “. لكن إذا أردنا أن نقبل هذه الكلمات بالمعنى التاريخي، نستطيع أن نقول هكذا: فقد رأي بأنه “قد حسن في عيني الرب أن يبارك إسرائيل”. بلعام يثبت بأن “عينيه انفتحت” وإنه أصبح “نبيًا حقيقيًا” وإنه رأي فعلاً مستقبل إسرائيل ويعقوب الحقيقي ويقول الكتاب المقدس أيضًا بأن بلعام سمع كلمات القدير عندما أتى الرب إليه وقال له في حلم: « الكلام الذي قد وضعته في فمك لتكن متنبئًا وتعلنه » (انظر عد22: 35)، مثلما ستكون “رؤيا الرب التي رآها في حلم” وسيؤكد بأن بفضل هذه الأحلام عيناه قد انكشفت لأنه استطاع أن يرى ما رآه. هذا لأجل أن نفهم كيف تنبأ بلعام عن نفسه.

 

المساكن والخيام

فلنرَ الآن ماذا يقول بعد هذا « ما أحسن مساكنك يا يعقوب، خيامك يا إسرائيل، كأودية ممتدة كجنات على نهر كشجرات عود غرسها الرب كأرزات على مياه » (عد24: 5ـ 6)، مساكن يعقوب الحسنة التي يمدحها لم تكن هي كما أظن مساكنهم الأرضية لأنه لم يلاحظ طرفهم شيئًا أحسن من التي للأمم الأخرى، ولكن فلنصغ بانتباه: الشعب قد قسم « بعشائرهم وكل عشيرة إلى أسباط والأسباط بدورهم إلى الأنساب والأنساب إلى بيوت الآباء وهؤلاء بدورهم قد أحصوا بعد الأسماء وبرؤوسهم، كل ذكر من ابن عشرين سنة فصاعدًا، كل ذكر خارج للحرب » (عد1: 3ـ 4، 20). ألا تكون هذه “المساكن” التي يمجدها بلعام مساكن بالروح؟ لكن لا يجب أن يعتبر هنا فقط المعنى الحرفي حيث إن بلعام  يقول « بعد أن أخذ أمثاله (رموزه) » (عد24: 1). فلنسمع كذلك برموز ما قد قيل حقًا إذ اعتبرنا التقسيم والرتب، سيعمل بها في يوم القيامة في الشعب الإسرائيلي الحقيقي، عندما يقوم كل واحد « يوم القيامة في رتبته » (1كو15: 32).

إذا استطعنا أن نرى “هذه العشائر، هذه الأسباط والأنساب” حيث إن أقل الأنساب أُحصوا في الجسد والدم عن الذهن والنفس، حينئذ سيُفهم ما “أحسن مساكن يعقوب” “وخيام إسرائيل”.

 

التأمل اللانهائي

ما هو الفرق بين “المساكن والخيام” بين يعقوب وإسرائيل؟ المسكن هو شئ ثابت قائم، محدد بحدود ثابتة. بينما الخيام هي مساكن الرُحَّل أثناء تنقلهم الدائم، وهم الذين لم يجدوا مسكنًا ثابتًا كنهاية لرحلاتهم. هكذا إذًا يعقوب يمثل الإنسان الكامل في الأفعال والأعمال، وفي إسرائيل نجد الباحثين عن الحكمة والمعرفة. التدريبات النشطة تقف في حدود معينة.

كمال الأعمال ليس نهائيًا للذي قد أكمل كل واجبه ووصل إلى حدود الكمال في الأعمال إذًا هذا الكمال في الأعمال فيه مسكنه، مسكنه الحسن. وبالعكس فإن الذين يعملون في الحكمة والمعرفة لا توجد نهاية لمجهوداتهم، لأنه أين هي حدود حكمة ربنا؟ كلما نقترب لحكمة ربنا كلما نكتشف أعماقًا أخرى، كلما نبحث أكثر كلما نفهم أمورًا فائقة الوصف وغير ممكن إدراكها لأن حكمة الله لا يمكن إدراكها ولا يمكن تقديرها. هذا للذين كما أقول يتقدمون على طريق حكمة الرب، أما بلعام لا يمدح منازلهم حيث إنهم لم يصلوا بعد إلى نهاية الرحلة، لكنه يتعجب من الخيام التي بها ينتقلون باستمرار ويتقدمون دائمًا، وكلما تقدموا كلما وجدوا أن طريق التقدم الذي يسيرون فيه يمتد ويؤدي إلى لا نهاية. هذا هو السبب الذي من أجله يسمى الذين تقدموا بالروح خيام إسرائيل.

في الحقيقة كل من يتقدم في المعرفة ويحصل على بعض الخيرات في مجال يعرفه جيدًا. بعد أن يصل بتأملاته في بعض الأسرار الروحية تهدأ النفس … وبعد أن يصل إلى تقدم ذهني فإنه يطوي خيمته بأي طريقة ثم ينصبها في موضع أكثر علوًا وهناك يثبّت مسكنًا لروحه في ثبات الفهم. وبعد أن يرحل من جديد من هناك تكتشف روحه معاني روحية أخرى تظهر بعد الأولى، إنه دائمًا يكون كما يقول الكتاب المقدس « أمتد إلى ما هو قدام » (في3: 13). يبدو إنها تتقدم كالبدو بخيامهم. لا تأتي أبدًا اللحظة التي فيها تستطيع النفس المشتعلة بنار العلم أن تمنح الوقت لنفسها، وأن تستقر بل هي دائمًا تتجه في الصلاح نحو الأفضل، ومن هذا الأفضل إلى الأكثر سموًا.

 

الرحلة نحو الحكمة

من هذه الرحلة المتجهة نحو حكمة الرب، يعطينا بلعام صورة ساحرة وعجيبة « كأودية ممتدة، كجنات على نهر، كشجرات عود (كخيام) غرسها الرب. كأرزات على مياه » (عد24: 6). الذين يتبعون هذا الطريق يسيرون خلال “الأشجار المظللة” لأن الأشجار المظللة، هي جماعة الأبرار وطغمة الأنبياء القديسين، أرواحهم تتذوق الرطوبة تحت  ظل المعاني التي تجدونها في كتاباتهم وهم يتلذذون من عمق الأشجار. إنهم أيضًا يجدون “جنات على النهر” هذه “الجنات على النهر” هي صورة “للفردوس” حيث هناك “شجرة الحياة”. وفي هذه الأنهار نستطيع أن نرى كتابات الإنجيل والرسل، كذلك المعونات المرسلة بواسطة الملائكة والسلاطين السمائية لهذه الأرواح. وهذه الأرواح تتغذى بكل العلم والمعرفة الخاصة بالأمور السمائية. أما مخلصنا فهو نهر « يفرح مدينة الله » (مز46: 5). والروح القدس ليس فقط مثل نهر، بل أيضًا مثل ينبوع ماء “من البطن للذين قد أعطى لهم” والله الآب يقول: ” تركوني أنا ينبوع المياه الحية “، هو مصدر الأنهار (المياه). هذه الأنهار هي التي سقت خيام الإسرائيليين كمثل “الخيام” التي غرسها الرب (عد24: 5).

ونقرأ أيضًا « ما أحسن مساكنك يا يعقوب خيامك يا إسرائيل » (عد24: 5ـ 6)، “مساكن يعقوب” هي الناموس “وخيام إسرائيل” هي الأنبياء. بلعام لا يمدح يعقوب في شخصه، لكن مساكنه، ولم يمدح إسرائيل نفسه لكن خيامه … ويمدحها عندما “انكشفت عيونه”. طالما يغطي البرقع عينيه (2كو3: 14) عن معرفة الناموس والأنبياء فهو لا يرى أن الخيام حسنة، ولا المساكن جيدة، لكن “عندما يرفع البرقع” وعندما نبدأ في الرؤية ونعرف بأن « الناموس روحي » (رو7: 14)، والأنبياء كذلك، حينئذٍ تكون مساكن يعقوب حسنة وعجيبة، وخيام إسرائيل تكون مدهشة أيضًا، عندما يبعد “الحرف الذي يقتل” سنبدأ بأن نبصر « الروح الذي يُحيي » (2كو3: 6).

نستطيع أن نقول بمعنى آخر أن أجساد وأرواح الشعب المؤمن والكامل الذي جمعه المسيح من بين الأمم هم أيضًا موضوع المديح، وسميت أجسادهم مساكن يعقوب لأن يعقوب هو مسكن إسرائيل، وسميت أجساد هذا الشعب يعقوب وروحه إسرائيل، كذلك سميت أجساد الأبرار المساكن الحسنة. حقًا جسد يعقوب يستحق المديح مزينًا بالزهو والطهارة، وأحيانًا بالاستشهاد. نستطيع أيضًا أن ننسب “الخيام” إلى النفوس الكاملة التي تستحق اسم إسرائيل مادامت ترى الله.

 

الاقتداء (بالخيام) السماوية

حيث إن هذه الخيام هي « كأودية ممتدة، كجنات عود غرسها الرب » (عد24: 6)، فإنه يجب أن نخرج من هذا العالم لنرى ما هي هذه “الخيام التي غرسها الرب”. إنها هي الخيام التي أظهرها الرب لموسى، عندما كان يبني الخيمة في الصحراء قائلاً له: ” انظر فأصنعها على مثالها الذي أظهر لك في الجبل ” إنه إذًا على مثال “الخيمة المغروسة من الرب”. الخيام التي يجب أن يعملها إسرائيل، وكل واحد منا يجب أن يحضر ويقيم خيمته.

أيضًا ألم يكن بمحض الصدفة أن يكون بطرس واندراوس وأبناء زبدي “صيادون” (مر10: 35؛ مت4: 18ـ 21؛ مر2: 16ـ 19). وبولس صانع خيام (أع 18: 3) فالأولون سمعوا الدعوة عندما كانوا يصطادون السمك، وأصبحوا “صيادي الناس”. بموجب كلام الرب « هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس » (مت4: 19)، وبولس “المدعو” هو أيضًا من ربنا يسوع المسيح قد خضع لتحويل مناسب لمهنته، فالأولون أصبحوا صيادين للناس بدلاً من صيد السمك، وأصبح بولس صانع الخيام السمائية بدلاً من الخيام الأرضية، إنه قام حقًا بتعليم كل واحد طريق السلام، طريق المراحل الطوباوية. صنع بولس الرسول خيامًا أيضًا « من أورشليم وما حولها إلى إلليريكون قد أكمل التبشير بإنجيل المسيح » (رو12: 19). وبناء الكنائس، بولس يصنع الخيام، السمائية التي قد « أظهرها الله لموسى في الجبل » (خر25: 40).

كان آباؤنا قد سكنوا تحت الخيام في البرية، وقد أقيم العيد يوم الخروج من مصر بعمل الفصح والفطير (عد28: 16ـ 17؛ عد29: 12)، وكذلك كان يقام في البرية عيد المظال أو عيد الخيام. من أي مادة يجب عمل هذه الخيام؟

من كلمات الناموس والأنبياء والمزامير وكل ما يحتويه الناموس ومن الكتب المقدسة، تنمو النفس عندما « أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام » (في3: 13)، بترك البقاع السفلى، ننمو ونتقدم نحو ما هو أعظم للنمو في الفضائل وتغيير الإقامة التي بواسطتها نتقدم، ويمكننا بأن نقول إننا نسكن في الخيمة « التي غرسها الرب » (عد6:24). أليست هي أيضًا الخيام التي ذكرها المخلص في إنجيله عندما قال: « اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية » (لو16: 9). وقد قال إن الخيام « غرسها الرب لأنها ليست محمولة بكل ريح تعليم » (أف4: 14).

 

الأرزات: ملائكة

هذه الخيام هي أيضًا ” كأرزات على مياه “. الأرز هنا ليس الذي يزدهر فيه كبرياء ردئ، لكن “أرز الله” (عد24: 9؛ مز37: 35)، هو الذي يسند « فروع الكرمة التي نقلت من مصر » (مز80: 1)، وحيث ينضج الثمر “حيث يغطى الظل الجبال”. إذا كنت قد فهمت قيمة السلام الذي يجلبه طريق الحكمة، وأي نعمة وأي وداعة تنالها فلنطرح كل تهاون وكل تغافل، ولندخل في هذا الطريق ولا نتراجع أمام قفر البرية. إنه بمكوثك في هذه الخيام تحصل على المن السماوي « تأكل خبز الملائكة » (مز 78: 25).

عليك أن تبدأ فقط ولا تخاف، كما قلنا عن قفر البرية، بعد قليل سيأتي الملائكة وهؤلاء الملائكة، على ما يبدو لي، تمثلهم صورة الأرزات.

 

ملكوت المسيح

5ـ لنفحص الآن نبوءة بلعام بشأن المسيح لأنه يقول عنه:      « سيخرج رجل من ذريته ويتسامى ملكه على أجاج وترتفع مملكته وستنمو مملكته. الله أخرجه من مصر له مثل سرعة الرئم »      (عد24: 7ـ 8).

هذا هو المسيح الذي خرج من ذرية إسرائيل بحسب الجسد. كيف سيملك على كل الأمم، هذا لا يحتاج إلى شرح خاصة إذا قرأنا ما قاله له الآب: « اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وأقاصي الأرض ملكًا لك »[2] (مز2: 8).

“يتسامى ملكه على أجاج” ماذا تعني أجاج؟ يعني فوق السطوح “وتنمو مملكته”. تتسامى من فوق السطوح هذا يخص الكاملين. النمو يخص جميع المؤمنين وعند الكاملين، مملكة المسيح تتسامى فوق السطوح بمعنى فوق الذين يشغلون الأجزاء الأفضل ويسكنون الأماكن العليا. ربما توجد حقيقة “في السماويات” كائنات تساعد على التقدم وعلى الارتفاع لأغراض المسيح. لهذا السبب أعتقد أن المخلص عندما يقول « والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا » (مت24: 17). إنه يحذر الذين يسيرون نحو الكمال والعلو بأن لا ينزلوا مرة ثانية إلى الأماكن السفلى والدنيئة لهذا العالم، هنا سميت البيوت. وعندما يقول المسيح « الذي تسمعونه في الأذن نادوا به على السطوح » (مت10: 27)، يفسر بنفس الطريقة. إذًا ” يتسامى ملكه على أجاج وترتفع مملكته ” أي ترتفع مملكته وتتزايد الكنائس ويزداد عدد المؤمنين، مملكته ترتفع حتى اللحظة التي فيها « يضع الآب جميع أعدائه تحت قديمه. آخر عدو يبطل هو الموت » (1كو25:15ـ16).

بعد هذا قد كتب أيضًا عن المسيح: « الله أخرجه من مصر » (عد24: 8). يبدو أن ذلك تم بعد موت هيرودس أنه دعى من مصر ويشير الإنجيل إلى ذلك « من مصر دعوت ابني » (مت2: 15)، هذا الكلام يبدو لبعض المفسرين أنه استخرج من هذا النص ودَّون في الأناجيل، والبعض الآخر يعتقد أنها أخذت من هوشع النبي (هو1:11). كذلك نفهم مجازيًا أن بعد مجيئه (المسيح) في مصر هذا العالم، قد أخرجه الآب من مصر وجعله يأتي إليها ليفتح الطريق للذين من مصر ليصعدوا نحو الله.

” له مثل سرعة الرئم ” يأتي المسيح لإخضاع كل ممالك إبليس، لأن المسيح هو الرئم الحقيقي الذي قد أسس مملكته الوحيدة في المجد والبهاء. وقد سبق أن أشرنا بأن القرن يعنى مملكة.

 

يأكل أممًا مضايقيه

كذلك يقول بلعام عنه: « ويقضم عظامهم ويحطم سهامه » (عد8:24)، يأكل أمما مضايقيه بمعنى أن أعداءه الذين يملكونها سيهدموا سلطانهم و ” تقضم عظامهم “، أي بتقليل كل الأفكار الجسدية الغليظة فيهم بتحويلها نحو الإدراك الروحي لأن الغلظة تُعتبر عيبًا في الكتب المقدسة. كما جاء في هذا النص « قلب هذا الشعب قد غلظ » (أع 28: 27)، وفي هذا النص الآخر « سمنت وغلظت واكتسيت شحمًا فرفض الإله » (تث32: 15).

” يأكل إذًا أممًا ” وطعامه هو (هداية) الذين يؤمنون به كما يؤكده الإنجيل « طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني » (يو4: 34)، حيث إن مشيئته هي أن تهتدي الأمم إلى الأيمان. إذا قلنا بأن “الغلظة” تتعلق بالخطأ، فالدقة تتعلق بالخير لأن روح الحكمة قد كتب عنه هو “عاقل، مقدس، وحيد، ومتنوع” ويقال أيضًا إنه “دقيق”.

” وسهامه، سترشق على مضايقيه “، سهامه هي الكلمات التي غلب بها الشيطان وقهره بها ونفذت كذلك في كل أعدائه ومخالفيه. حيث إن كل  خاطئ هو عدوه مادام يخطئ. ولكن إن سمع كلمات الرب واعترف بخطاياه التي تنفذ وتخدش، واهتدى للتوبة وحفَّر كلام الرب فيه حتى الجوف، يقال إنه قد نفذ سهامه.

بلعام بعد ذلك يشير إلى الآلام: ” جثم كأسد ربض كشبل من يقيمه؟ ” إنه جثم كأسد عندما كان على الصليب « جرَّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه (أي في الصليب) » (كو15:2).

إنه “كشبل” عندما قام من نعاس الموت، وصار يشبه بأسد وشبل في آن واحد. وذلك ما نستطيع أن نفهمه من الواقع بأن المسيح سُمى بأسد في الكاملين، وشبل بالنسبة للمبتدئين والأحداث[3]. أما بالنسبة للسؤال من “سيقيمه؟” يُقال تارة بأنه قد قام بواسطة الآب السماوي (رو8: 11)، وتارة يُقال بأنه « بعد ثلاثة أيام » (مت26: 21)، سيقيم هيكل جسده بنفسه، النمط الاستفهامي مناسب كلية هنا.

« مباركك مبارك ولاعنك ملعون » (عد24: 9). إنه من المؤكد الذين “يباركهم” المسيح، “يكونون مباركين ومفعول البركة الأبوية يصلهم” و “الذين يلعنهم يكونون ملعونين”. حقًا ننظر لهذا الشعب الذي يلعن المسيح سنجده ملعونًا لدرجة البكاء. ماذا يمكن أن يحدث أيضًا للذي يلعن « الحكمة والحق والحياة » (1كو1: 24؛ يو11: 6). إلاّ أن يصير منفيًا من كل هذه الصالحات؟ حيث إن المسيح هو كل هذا والذي يلعن المسيح لاعنًا كل هذه الصالحات يحكم عليه بلعنة أبدية. لكني أرى أن الذي يلعن المسيح ليس هو فقط الذي يقول ضده كلمة اللعنة، لكن الذي هو تحت غطاء اسم مسيحي يسلك سلوكًا فاضحًا، وبكلماته أو أفعاله القبيحة، إذ « يجدف على اسم المسيح بسببكم بين الأمم » (رو2: 24). وبالعكس ليس فقط الذي يبارك السيد الرب بكلمات يجب أن ينظر له كمبارك لكن بأعماله وبحياته وتصرفاته “يبارك اسمه بواسطة كل العالم”. إنه بالأحرى تكتمل بذلك معنى نبوة بلعام الثالثة، بأن ” الذين يباركهم المسيح سيكونون مباركين، والذي سيلعنهم المسيح سيكونون ملعونين “. لذلك فبالأحرى ألا نجدف بأعمالنا على اسم المسيح، لكن بالأحرى نعمل بالطريقة التي بها نستحق بأن يكون لنا نصيب في بركاته.

له “البركة والمجد والكرامة والسلطان إلى آبد الآبدين. آمين”.

 

[1] جبل سيناء هو رمز الكمال في تقليد الآباء وهو موجود عند فيلون ومستمر حتى أغريغويروس النيسي مرورًا بأوريجينوس.

[2] فيما يختص بملكوت المسيح انظر عظة 16 فقرة 6 من نفس الكتاب.

[3] أوريجينوس يرى أن المسيح هو الابن المتحد بالآب وهو رأس كل خليقة وهذه المظاهر في شخصية المسيح تنعكس في علاقته بكل مؤمن، فحسب الدرجة التي يوجد فيها المؤمن، يظهر المسيح في داخله بصورة تلائم تقدمة أو عدمه فهو شبل في نفس مظهر وأسد في نفس مظهر آخر. المسيح يحمل كل فضائل اللوغوس من حكمة وبر، وتقدمنا في هذه الفضائل هو عبارة عن إزدهار للمسيح فينا، والمسيح أيضًا هو المعرفة وهو العقل وكل كمال لمعرفتنا هو بُعد عن الأفكار الجسدية وهو إزدهار للمسيح فينا.

النبوءة الثالثة – العظة السابعة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد