خطايا القديسين – العظة العاشرة من عظات أوريجانوس على سفر العدد
غفران الخطايا
1ـ الطوباويون دائمًا تؤخذ عليهم أخطاء وخطايا مرؤوسيهم، وفي هذا المعنى قال الرسول: ” فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء” (رو15: 1). إذا ارتكب إسرائيلي، بمعنى علماني، خطية فلا يستطيع أن يمحوها بنفسه لكنه يبحث عن لاوى أنه يحتاج لكاهن. ماذا أقول؟ أنه يبحث عن شخص أفضل وأكثر علوًا: إنه يحتاج للكاهن الأعظم ليحصل على غفران خطاياه لكن إذا أخطأ الكاهن أو الكاهن الأعظم فهو يستطيع أن يطهر نفسه إن لم يكن قد أخطأ ضد الله.
خطايا من هذا النوع نحن لا نجد بسهولة، في نص الشريعة وسيلة لغفرانها، فقد قلنا ذلك بصدد القطعة التي سبق أن قرأت “وقال الرب لهرون أنت وبنوك وبيت أبيك معك تحملون ذنب المقدس” (عد18: 1)، نستطيع أن نشرح هذا النص هكذا: إنه يتعلق بالتقدمة المقدمة بواسطة الكاهن الأعظم لغفران الخطايا عن الجميع لتطهير الشخص الذي لأجله يقدم التقدمة، لهذا السبب قد كتب “أنت وبنوك تحملون ذنب المقدس” لكن اعتقد أنه ليس بدون قصد كتب عن ذنب المقدس.
المكرسون وخطاياهم
في كثير من نصوص الكتاب المقدس يوجد هذا التعبير. إذًا يجب أن نبحث كيف يستطيع هؤلاء أن يدعوا رجالاً مكرسين وتكون لهم خطايا. فالواقع أنه ليس صحيحًا كما يظن البعض أنه منذ أن يصبح الإنسان قديسًا لا يستطيع أبدًا أن يخطئ، وهكذا يعتبر كأنه معصوم من الخطية. فإن كان حقًا أن القديس لا يخطئ فإنه يكون قد كتب عبثًا “بأنكم يحملون ذنب المقدس”.
فلو كان القديس معصومًا من الخطية لما كان السيد الرب قد قال بفم إشعياء النبي لملائكته ” بأنهم يرسلون لمعاقبة الخطاة وأنكم ستبدأون بقديسين” (إش9: 5). إذا كان القديسون معصومين من الخطية لما كان الكتاب المقدس قد قال أبدًا ” البار يبدأ أن يتكلم باعتراف عن نفسه” (أم18: 17)، وإذا كان القديسون معصومين من الخطية لما قال بولس الرسول أبدًا ” لا تنقض لأجل الطعام عمل الله” (رو14: 20)، ولأهل رومية قد كتب في أول رسالته ” إلى جميع أحباء الله مدعوين قديسين” (رو1: 7).
الرسول نفسه في رسالته إلى أهل كورنثوس قال أيضًا ” بولس المدعو رسولاً ليسوع المسيح” (1كو1:1ـ2)، وبعد ذلك بقليل يقول ” إلى كنيسة الله التي في كورنثوس المقدسين في المسيح يسوع المدعويين قديسين” إذًا فهو يدعوهم المقدسين وقديسين لكن انظر بأية خطايا يوبخهم، أنه يقول بعد ذلك ” بما أنه يوجد بينكم حسد وخصام فأنتم بعد جسديون وتسلكون بحسب البشر” (1كو3:3)، ” وأيضًا أنكم قد استغنيتم ملكتم بدوننا وليتكم ملكتم لنملك نحن أيضًا معكم” (1كو4: 8).
وأيضًا ” فأنتفخ قوم كأني لست آتيًا إليكم” (1كو4: 18)، وبعد ذلك بقليل “يسمع مطلقًا أن بينكم زنى وزنى هكذا لا يسمى بين الأمم” (1كو5: 1ـ2)، وبعد ذلك ” فأنتم منتفخون وبالحرى لم تنوحوا” أنه لم يستثن أحدًا، أنه يتهم البعض بالزنى والآخرين بالكبرياء، ثم بعد ذلك يعاتبهم بأنه عندهم محاكمات بعضكم مع بعض” (1كو 6: 7).
وهو يتهم أيضًا الذين سماهم قديسين بأنهم يأكلون لحم المذبوح للأصنام، وينطق الحكم ضدهم بهذه الطريقة: “وهكذا إذ تخطئون إلى الأخوة وتجرحون ضميرهم الضعيف تخطئون إلى المسيح”، إنه لم يتهمهم فقط بأكل لحم التقدمات بل أيضًا بأنهم يشربون من كأس الشيطان “ لا تقدرون أن تشربون كأس الرب وكأس الشياطين” (1كو10: 21)، لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة الشياطين.
إنه يقول لهم أيضًا ” لأني أولاً حين تجتمعون في الكنيسة أسمع إن بينكم انشقاقات أيضًا” (1كو11: 18)، وأيضًا ” لأن كل واحد يسبق فيأخذ عشاء نفسه في الأكل فالواحد يجوع والآخر يسكر” (1كو11: 21)، لأجل كل هذه الأخطاء يقول ” من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون.
لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حكم علينا” (1كو11: 30ـ 31)، وعلاوة على ذلك، فهي لم تكن خطايا ضد العادات فقط بل خطايا ضد الإيمان أيضًا، فيقول “كيف يقول قوم بينكم أن ليس قيامة من الأموات” (1كو15: 12، 17)، وأيضًا ” إن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم أنتم بعد في خطاياكم“.
إنه سيطول بنا الحديث وليس هنا المقام أن نثبت جميع الشواهد أن الذين قد أعلنوا قديسين لا يجب لهذا السبب أن يعتبروا معصومين من الخطايا، هذا هو رأى القراء الغافلين والسطحيين للكتاب المقدس. إذ أنه يعلمنا أنه توجد اختلافات كثيرة بين القديسين مثلما سبق أن قلنا بأكثر إسهاب في عظات أخرى. سنقول هنا فقط ما يلزم لشرح النص. فالذين يكرسون لله يدعون قديسين وهم أيضًا خطاة، وهم الذين ابتعدوا عن الانشغالات العادية لخدمة السيد الرب.
فالإنسان يدعى قديسًا لأنه ابتعد عن كل أنشطة أخرى وكرس نفسه لخدمة السيد الرب، ولكن يمكن أن يحدث أنه وهو يخدم السيد الرب لا يسلك كما يجب ويرتكب أخطاء وخطايا. فالذي ينفصل ويبتعد عن كل أنشطة أخرى لمزاولة العلوم كالطب أو الفلسفة مثلاً لا يكون كاملاً، فهو عندما يتقدم لهذه الدراسات، يرتكب بعض الأخطاء أو بالأحرى يرتكب أخطاء كثيرة ولا يصل إلى الكمال إلا بمشقة كبيرة، مع أنه بمجرد أن يدخل في هذه المدارس سيحسب بدون شك من بين الأطباء أو الفلاسفة.
كذلك القديسون فعندما يلتزم شخص ما بدراسات القداسة يجب منحه لقب قديس، بحسب الهدف الذي يقصده، ولكن بما أنه سيرتكب أخطاء إلى أن تنزع منه عادة الخطية، لذلك يسمى أيضًا خاطئًا، وكما قلنا أيضًا، إذا لم نقدم القداسة كهدف وإذا لم نسع لدراسات القداسة فلن نعرف أن نقدم الندامة على الخطية عندما نرتكبها، ولن نعرف أن نبحث عن الدواء للخطاة الذين ليسوا قديسين ويموتون في خطاياهم. أما القديسون فيندمون على خطاياهم ويشعرون بسقطاتهم وجروحهم ويدركونها، ويذهبون للكاهن ويطلبون منه الشفاء ويطلبون أن يتطهروا من الكاهن الأعظم.
لهذا السبب تعبّر الشريعة بطريقة حكيمة ومحددة عن هذه الفكرة بأن الكاهن الأعظم، واللاويين ” لا يحملون الذنوب” (عد18: 1) لكل شخص لكن فقط ذنوب القديسين، فالقديس هو الذي قد سلّم خطيته لعناية الكاهن الأعظم.
من الذي يغفر الخطايا
2 ـ لكن لنرجع إلى حبرنا، إلى كاهننا الأعظم الذي اجتاز السموات يسوع سيدنا الرب، ونشاهد كيف حمل على ذاته مع أولاده الرسل والشهداء خطايا القديسين. وأولاً إن سيدنا يسوع المسيح قد جاء ليرفع خطية العالم وبموته غفر خطايانا. لا أحد يجهل هذا إذا كان مؤمنًا بالمسيح، لكن كيف يغفر مع أولاده الرسل والشهداء، خطايا القديسين. هذا ما سنحاول أن نثبته من الكتاب المقدس.
أنصت أولاً إلى ما أعلنه بولس ” كل سرور انفق وانفق لأجل أنفسكم” (2كو12: 15). وفي موضع آخر ” ني الآن أسكب سكيبًا ووقت انحلالي قد حضر” (2تي4: 6)، إذًا بولس الرسول يقول بأنه قد انفق وقد ضحى لأجل أنسبائه. حينما نقدم ذبيحة على نية شخص فأن هذا يكون لكي يحصل على غفران خطاياه.
وفي موضع آخر يوحنا الرسول يكتب في سفر الرؤيا بأن الشهداء الذين قتلوا من أجل سيدنا يسوع موجودون تحت المذبح. إذًا الموجود في المذبح، أخشى أنه بأعمال كهنوتية التي هي التضرع لأجل خطايا الشعب، لذا أخشى أنه منذ اختفاء الشهداء وأبطال ذبيحة القديسين المقدمة كذبيحة لأجل الخطايا، لا نحصل على غفران خطايانا، أخشى بالتالي بأن خطايانا تبقى فينا، وأن يحدث لنا نفس الذي حدث لليهود إذ ليس لديهم مذبح ولا معبد ولا رتب كهنوتية، وبالتالي لا يقدمون بعد الذبائح لخطاياهم ولذلك فخطاياهم باقية والغفران لا يأتي بعد.
ونحن أيضًا يجب أن نقول بما أن الشهداء لم يقدموا بعد كضحايا لأجلنا، فخطايانا تبقى فينا. أننا لا نستحق أن نكون مضطهدين لأجل المسيح ولا أن نموت لأجل اسم ابن الله[1]، لهذا السبب أيضًا فالشيطان الذي يعرف أن الخطايا تغفر بواسطة الشهداء، لا يريد أن يثير ضدنا الاضطهادات الوثنية الرسمية حيث إنه يعرف أننا إذا كنا نقدم أمام السلاطين والحكام لأجل اسم المسيح “للشهادة” “أمام اليهود والأمم” سنشعر بفرح وببهجة “لأن أجرنا يكون عظيمًا في السموات”.
فالعدو لا يثير الاضطهادات سواء لأنه يضمر الشر لمجدنا، أو ربما لأن الذي يرى كل شئ والذي يعرف كل شئ مقدمًا[2] يعلم أننا لم نكن جديرين بأن نتحمل الاستشهاد، ” يعلم الرب الذين هم له” (2تي2: 19). والذين ليسوا من أهله. هم كنوز عنده، حيث إن الله لا يرى بنفس طريقة الإنسان. إنه لا يوجد شك أنه يوجد في هذا الجمع من يعرفهم الله وحده.
والذين قد اصبحوا شهداء أمامه بشهادة ضميرهم وهم مستعدون إذا طلب منهم أن يسكبوا دماءهم لأجل اسم السيد الرب يسوع المسيح، لا شك أنه يوجد من قد أخذوا صليبهم وتبعوه. هذا الاستطراد يبدو أنه ضروري لكي نفهم كيف يتم بواسطة الكاهن الأعظم وأولاده غفران الخطايا.
الكهنوت
3 ـ بعد ذلك تأتي الكلمات “ أنت وبنوك تحملون ذنب كهنوتكم، وأيضًا أخوتك سبط لاوى سبط أبيك قربهم معك فيقترنوا بك ويوآزروك أنت وبنوك قدام خيمة الشهادة فيحفظون حراستك وحراسة الخيمة” (عد18: 1ـ3)، تنفيذ الوصايا بانتباه هو أمر واجب خصوصًا بالنسبة للذين لهم نعمة الكهنوت، “أي الأساقفة”، يجب عليهم أن يعلموا ما تعطيهم الشريعة الإلهية لتتميمه ” أنت وبنوك معك، قدام خيمة الشهادة، احفظ حراسة المذبح والخيمة“، إنها أوامر ملزمة وواضحة يجب أن نحفظ حراسة الخيمة والمذبح والكهنوت.
لكن من هو الذي يتمم ويقوم بخدمة واجبات الكهنوت؟ من هو الذي له رتب ومنصب الكهنوت بدون أن يتمم الأعمال ورسالة الكهنوت؟ هذا يستطيع أن يعرفه “ فاحص الكلي والقلوب” (مز 7: 10).
الواجب لا يتضمن فقط حفظ الوصايا الخارجية ” لكن تحفظون كهنوتكم مع ما للمذبح وما هو داخل الحجاب” (عد18: 7).
هذا ما نقوله إن الكهنة ينشغلون في نفس الوقت بأن يتمموا وصايا الشريعة الإلهية ونفحص انتباههم إلى أسرار الله المختبئة والمحجوبة. من جهة أخرى إذا أردنا أن نطلق على الإنسان ما قد قيل عن خيمة الاجتماع كما يعطي بولس اسم الخيمة لجسد الإنسان، عندما يقول: ” فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها” (2كو5: 4)، إذا طبقنا على الإنسان ما قد قيل عن الخيمة، سنقول إن الجزء المغلق بواسطة الحجاب الذي يغطي الأشياء التي لا يمكن الاقتراب منها، هذه هي أهم خواص القلب الذي وحده يستطيع أن يستقبل أسرار الحق ويحوي وحده أسرار الله.
بينما بالنسبة للهيكلين الداخلي والخارجي، فإن الهيكل هو رمز الصلاة، وهذا كما أظن هو معنى ما قاله الرسول ” أصلي بالروح كما بالذهن” (1كو4: 15)، عندما أصلي حقًا من القلب أقترب من الهيكل الداخلي. وهذا هو ما قاله أيضًا السيد الرب في الإنجيل ” أما أنت فمتى صليت فأدخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصلي إلى أبيك الذي في الخفاء” (مت6:6)، إذًا فالذي يصلي بالطريقة التي قلتها يقترب من مذبح البخور الذي هو في الداخل.
لكن عندما يرفع صلاته نحو الله بصوت عال وبكلام واضح لكي يجذب السامعين، فهو يصلي في الهواء. وتقدم الصلاة بطريقة ما صحيحة على المذبح المقام في الخارج للمحرقة للشعب، ويجب إذًا أن تكون عناية القسوس وسهرهم متجهة بالأخص إلى ما هو مغطى بالداخل خلف الحجاب حتى لا يوجد شئ دنس أو شئ غير طاهر، بمعنى أنه يجب الاهتمام بالإنسان الداخلي وبالأجزاء المخفية بالقلب حتى تكون بدون عيوب.
أما الكاروبان والمائدة فتعني معرفة الثالوث، لأن الكاروبان تعني كثرة أي كمال المعرفة. وهل يوجد كمال المعرفة أكثر من معرفة الابن والروح القدس. فعلى القسوس إذًا السهر على حفظها بدون دنس ولا أذى من أي نوع.
التابوت الذي فيه الغذاء السماوي من المن هو كنز الكلمة الإلهية – تابوت الذهب حيث يوجد لوحا الشهادة. هما بحسب رأيي عقلنا حيث يجب أن ننقش فيه شريعة الله، هذا العقل يجب أن يكون من ذهب أي نقي وثمين. لأن شريعة الله منقوشة دائمًا عليه، وكما يقول الرسول: ” مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية” (2كو3:3).
وهذا ما يقوله بولس عن البعض ” الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم” (رو2: 15). إذًا من الذي كتب في القلوب؟ الله هو الذي كتب بأصبعه في كل الضمائر الشريعة الطبيعية التي أعطاها للجنس البشري. فيها نبدأ وبها نأخذ بذور الحق للتعمق، هذه البذور التي إن اعتنينا بزراعتها تأتي فينا بأثمار جيدة بالمسيح يسوع الذي له المجد والقوة إلى دهر الدهور آمين.
[1] أوريجينوس لا يقصد استبدال ذبيحة المسيح بموت الشهداء ولكن ظروف عصر الاستشهاد، واستشهاد والده شخصيًا جعلته يرى في موت الشهيد مساهمة في هدم قوة الشيطان (انظر تفسيره ليوحنا 6: 54)، وفي هدم قوة الشر نوع من أنواع الخلاص للناس وتحريرهم من سلطان القوى الشريرة التي تستعبدهم، وحينما تضع الكنيسة عظام الشهداء تحت المذبح فإنها تؤكد العلاقة الوطيدة بين ذبيحة المسيح وامتدادها إلى موت الشهيد.
[2] بمعنى أن المسيحي في رأينا عندما يتركه الله لعمل المجرب يعطيه السماح ليضطهدنا ونكون نحن مستعدين، لكن عندما يريد الله أن يبقى لنا الاضطهاد سنعيش في سلام غريب مع هذا العالم الذي يكرهنا ونحن سنستريح بثبات في الذي قال ثقوا أنا قد غلبت العالم والذي قد غلب العالم قبلنا. لهذا السبب العالم ليس لديه استطاعة إلا في الحدود التي يريدها الذي قد غلب العالم لأنه قد سمح الآب بأن يغلب العالم.