التطور التاريخي لمصطلحات الجدال اللاهوتي في الكنيسة في العصور الأولى
مقدمة
منذ العصور الأولى للمسيحية، وجدت الكنيسة نفسها مضطرة لاستخدم المصطلحات والأفكار اليونانية بكثرة لشرح مضمون ومفاهيم الإيمان، إلاّ أن الفكر اللاهوتي المسيحي قام بإعادة صياغة وتشكيل هذه المصطلحات والأفكار من أساسها، فصارت للمصطلحات اليونانية معانٍ مختلفة تماماً عما كانت تعنيه هذه التعبيرات في فكر الفلاسفة اليونانيين، أي أنه قد تم في الحقيقة ’إلغاء يونانية‘ تلك المصطلحات بصورة جذرية.
ومن هنا نستطيع أن نقول أن الفكر اللاهوتي المسيحي لم ينشأ من تحول مسيحية الكتاب المقدس إلى الهللّينية، بل على العكس فهو يمثل إعادة صياغة وتشكيل أنماط الفكر الهللّيني الشائعة لتصير أداة جديرة بالكرازة، تُمكِّن الكنيسة من شرح ـ وإعطاء تعبيرات راسخة عن ـ عقيدة الثالوث وعقيدة التجسد وبقية العقائد الأساسية الأخرى.
وعلى الرغم من أن تلك المصطلحات لم ترد في الكتاب المقدس، إلا أن الآباء وجدوا أنفسهم مضطرين لاستخدامها من أجل التعبير بأقصى دقة ممكنة عن معنى النصوص الكتابية نفسها.
وعند اتهامهم بأن هذا يعد خروجاً عن الكتب المقدسة، أكد الآباء أنهم أُجبروا ـ بسبب ضلال التفسيرات الخاطئة ـ أن يصيغوا ويستخدموا مصطلحات جديدة لكي يحافظوا بها على الحق وعلى أسس الإيمان السليم، ولكي يحموا هذا الإيمان من سوء الفهم. وكما أوضح ق. أثناسيوس، فإن أهم ما في الموضوع ليس هو كلمات أو مصطلحات محددة وردت في الكتب المقدسة، بقدر ما هو المعاني التي تنقلها والحقائق التي تشير إليها هذه الكلمات والمصطلحات.
وكانت هناك مصطلحات بعينها لعبت دوراً بارزاً في الجدال الأريوسي في القرن الرابع وفي الجدال الخريستولوجي في القرنين الخامس والسادس. وهذه المصطلحات هي: ’أوسيا‘ (ου̉σία)، و’هيبوستاسيس‘ (υ̉πόστασις)، و’فيزيس‘ (φύσις)، و’بروسوبون‘ (πρόσωπον).
وفي الحقيقة كان الغموض الذي صاحب المعاني التي قصدت تلك المصطلحات أن توضحها، والتغير في مدلول هذه المعاني على مر العصور، هما السببان الهامان وراء الكثير من الجدال اللاهوتي داخل الكنيسة.
ولذلك فإن محاولة فهم أبعاد ذلك الجدال بمعزل عن معرفة المعاني المقصودة من تلك المصطلحات لدى كل تقليد وفي كل عصر، تعتبر عملية مستحيلة المنال. ومن هذا المنطلق سنحاول في السطور التالية أن نقدِّم عرضاً مختصراً لتطور مدلول تلك المصطلحات عند الآباء واللاهوتيين في الكنيسة الأولى.
البابا أثناسيوس الرسولي ومجمع نيقية (325م):
كان مصطلح ’أوسيا‘ (ου̉σία) هو مصطلح يوناني يعني ’الوجود‘ أو ’الكينونة‘ (Being) أو ’الحقيقة الداخلية‘ (الجوهر) للشيء، وهو يقابل في المعنى المصطلح اللاتيني (Substantia). وكانت القاعدة الذهبية عند ق. أثناسيوس أن الكلمات والمصطلحات تختلف عند الحديث عن الله، أي عندما تحكمها طبيعة الله الفريدة، عنها عند الحديث عن المخلوقات بطبيعتها الزائلة.[1]
لذلك ميَّز ق. أثناسيوس بين الأوسيا الإلهي والأوسيا عند المخلوقات، فتحدث عن الأوسيا الإلهي بأنه يعني “الكائن” كما جاء في (خر 3: 14)، أو “الجوهر غير المدرك، والذي فوق كل إدراك”،[2] وأنه هو الكائن بمعناه الحقيقي لأنه هو الكائن بذاته أما أي كائن آخر فهو كائن عرضي أو اعتمادي. ومن هنا نفهم أن الأوسيا الإلهي عند ق. أثناسيوس كان يعني “الكيان الداخلي الحقيقي الفائق لكل إدراك”. وكان ق. أثناسيوس ينظر إلى الأوسيا الإلهي بكونه يحوي ضمناً العلاقات الأقنومية في داخله، أي أن له مدلول شخصي، ولذلك استخدم ق. أثناسيوس مصطلح (ενούσιος λόγος) أي اللوغوس الذي في الأوسيا. والله له أوسيا واحد، وطبيعة (فيزيس) واحدة وهي الطبيعة الخاصة بهذا الأوسيا.
وكان ق. أثناسيوس يقول إن اللاهوت بكامله هو في الابن وفي الروح القدس كما هو في الآب، ولذلك فالثلاثة هم ربوبية واحدة ومبدأ واحد ورئاسة واحدة، لأنهم واحد في ذات الأوسيا ’هوموأووسيوس‘. وكان مفهوم الوحدانية في ذات الجوهر ’هوموأووسيوس‘ عند ق. أثناسيوس وآباء نيقية هو مفتاح الوحدانية في الثالوث وكان هذا المفهوم يحمل في طياته أيضاً مفهوم التواجد (الاحتواء) المتبادل للثلاثة أقانيم الإلهية داخل جوهر الله الواحد.[3]
أما عند الحديث عن المخلوقات فإن ’الأوسيا‘ يعني “الحقيقة الداخلية الجوهرية العامة” لنوع ما من المخلوقات، وقد استخدم ق. أثناسيوس مصطلح أوسيا في رسالته إلى أبكتيتوس للدلالة على الحقيقة العامة المجردة للجنس البشري حيث قال: “لو كان الكلمة من نفس ’أوسيا‘ الجسد،… فإن الآب نفسه أيضاً يكون من نفس ’أوسيا‘ الجسد الصائر من الأرض. فلماذا إذاً تلومون الأريوسيين الذين يقولون أن الابن مخلوق، وأنتم أنفسكم تزعمون أيضاً أن الآب من نفس ’أوسيا‘ المخلوقات”.[4]
أما مصطلح ’هيبوستاسيس‘ (υ̉πόστασις) فينقسم في تحليله اللغوي إلى هيبو (υ̉πό) أي تحت، وستاسيس (στασις) أي قائم، فيعني بذلك الذي ’يقوم تحت‘ الشيء أو ’الأساس الذي يتوقف عليه‘ الشيء، وبهذا المدلول يقترب مفهوم الهيبوستاسيس من مفهوم الأوسيا في معناه اللغوي. وقد يكون هذا التشابه هو السبب في استخدام المصطلحين بالتبادل في الفلسفة اليونانية.
وقد بدأ التمييز بين المصطلحين منذ مجمع الإسكندرية عام 362م حيث أصبح ’الأوسيا‘ يفيد المعنى الذي ذكرناه سابقاً، أما ’الهيبوستاسيس‘ فأصبح يعني “كيان شخصي أساسي متمايز في داخل جوهر الله” (ε̉νυπόστατος)، أي أن الثلاثة هيبوستاسيس الإلهية لها وجود شخصي حقيقى، وأنها في تلازم وتواجد (احتواء) متبادل في جوهر الله الواحد. وحيث إن الأقانيم هي ’هوموأووسيوس‘ (أي لها ذات الأوسيا الواحد) مع بعضها البعض فهي بالتالي ’هوموفيس‘ (ο̉μοφυής) أي لها ذات الطبيعة الواحدة الخاصة بالأوسيا.
وكان الفكر اللاهوتي السكندري هو أول من بدأ في التمييز في المعنى بين الأوسيا والهيبوستاسيس ابتداءً من أوريجانوس،[5] ثم ديونيسيوس السكندري (في رسائله إلى ديونيسيوس الروماني)،[6] كما نجد ذلك أيضاً عند ديديموس الضرير.[7]
ولكن هذا النضج في التفريق بين مدلولي المصطلحين لم يكن قد وصل إلى نفس المستوى خارج الإسكندرية، إذ بقي مفهوم الهيبوستاسيس لا يخرج عن مفهوم الأوسيا في أبسط معانيه، ولذلك أصر مجمع نيقية في قراراته على ذكر المصطلحين معاً كمترادفين دون أي تفريق بينهما وقد اضطر السكندريون للتغاضي عن ذلك على مضض.[8]
وظل الحال على ما هو عليه إلى أن جاء مجمع الإسكندرية عام 362م حيث أعلن ق. أثناسيوس للعالم إمكانية التفريق بين مصطلحي أوسيا وهيبوستاسيس، وأنه يصح أخذ مصطلح هيبوستاسيس بمعنى “الكيان الشخصي المتمايز في جوهر الله”. ومع مرور الوقت اتفق العالم شرقاً وغرباً على الأخذ بلاهوت الإسكندرية الرصين.[9]
أما بالنسبة لمصطلح ’فيزيس‘ (φύσις) أو ’طبيعة‘ فيدل على الخصائص الجوهرية التي تميِّز (أو تشكِّل) شيء ما ليكون هذا الشيء وليس أي شيء آخر. وقد استخدم الآباء مصطلح طبيعة بمدلول الأوسيا، كما استخدموه أيضاً بمدلول الهيبوستاسيس.
وحين كان الآباء يتكلمون عن الطبيعة بمدلول الأوسيا فقد كانوا يعنون الطبيعة التي يتضمنها الأوسيا أو الخاصة بهذا الأوسيا، وحين كانوا يتكلمون عن الطبيعة بمدلول الهيبوستاسيس فقد كانوا يعنون الطبيعة التي يتضمنها الهيبوستاسيس أو الخاصة بهذا الهيبوستاسيس. وسيتضح هذا المعنى أكثر حين نأتي إلى ق. كيرلس والبطريرك ساويروس.
وإذا نظرنا إلى مصطلح ’بروسوبون‘ (πρόσωπον) فسنجد أنه في أصله اللغوي يعني ’ينظر نحو‘، وقد استُخدم هذا المصطلح قبل المسيحية ليشير إلى “القناع” الذي يلبسه الممثل ليمثل ’شخصية‘ ما، ثم أصبح يشير إلى الدور الذي يقوم به الممثل (المشخصاتي) ليعبر عن الشخصية التي يمثلها.
ويأتي هذا المصطلح في الكتاب المقدس بمعاني متعددة ولكنها كلها بمدلول ’الوجه‘ أو ’الحضور‘، وحينما جاء بمعنى ’الشخص‘ (2 كو 11:1) فكان لا يعني مجرد الفرد ولكن ’الذي ينظر إلى الآخر‘ أو الذي ’يتجه للآخر‘.
وقبل هرطقة سابليوس كان الآباء يستخدمون هذا المصطلح للتعبير عن أقانيم الثالوث، وعندما استخدم سابليوس هذا المصطلح بمعنى ’الحالة‘ واعتبر أن الثالوث هو ثلاث حالات (بروسوبا) لأقنوم واحد، اضطر الآباء إلى الابتعاد عن استخدام هذا المصطلح للتعبير عن الأقانيم واستخدموا مصطلح ’هيبوستاسيس‘ بدلاً منه،[10] ومع ذلك ظل لمصطلح ’بروسوبون‘ شأن كبير في الجدل الخريستولوجي في القرن الخامس والسادس كما سنرى فيما بعد.
الإباء الكبادوك ومجمع القسطنطينية (381م):
لم يفرِّق الآباء الكبادوك بين استخدام ’الأوسيا‘ و’الهيبوستاسيس‘ في الحديث عن الله وبين استخدامهما في الحديث عن المخلوقات، وطبقوا المعنى الذي يستخدم مع المخلوقات على الأوسيا والهيبوستاسيس الإلهي. فلم ينظروا إلى الأوسيا الإلهي بمدلوله الشخصي بكونه الجوهر الذي يتضمَّن العلاقات الأقنومية، ولكنهم أخذوه فقط بمعنى الحقيقة العمومية التي في الثلاثة هيبوستاسيس واعتبروا أن علاقة ’الأوسيا‘ بـ ’الهيبوستاسيس‘ هي مثل علاقة العمومي (أو المشترك) بالخصوصي (أو المميَّز).
وتبعاً لهذا الشرح اقترب مدلول الأوسيا الإلهي عند الآباء الكبادوك من مدلول الأوسيا في المخلوقات، ولم يعد مفهوم الوحدانية في ذات الجوهر ’هوموأووسيوس‘ بما يتضمنه من الوجود (الاحتواء) المتبادل للأقانيم هو المدخل لفهم الوحدانية في الله، ولكن صار التركيز على الأقانيم المتمايزة والموحدة من خلال أقنوم الآب حيث سعى هؤلاء الآباء إلى تأكيد وحدانية الله من خلال ربطها بالآب بكونه هو المبدأ الواحد (الرأس) أو ’العلة‘ أو ’المصدر‘ للابن والروح القدس.[11]
ورغم أنهم أكدوا أنه لا يوجد أي فاصل بين ’العلة‘ و’المعلول‘، وأن صدور الابن والروح القدس من الآب هو بلا بداية، إلاّ أن ذلك المدخل أدى إلى تفريق بين ألوهة الآب ’غير المستمدة‘ وألوهة الابن والروح القدس ’المستمدة‘. ورغم أن أسلوب الآباء الكبادوك قد ساعد الكنيسة على فهمٍ أغني وأعمق لأقانيم الثالوث القدوس إلاّ أن هذا كان على حساب استبعاد المعنى الحقيقي للأوسيا بكونه ’الجوهر في علاقاته الداخلية‘، وعلى حساب إفراغ مفهوم الأوسيا من مدلوله الشخصي العميق الذي برز بشدة في مجمع نيقية.[12]
ورغم أن فكر ق. غريغوريوس النزينزي حول الثالوث القدوس، كان يتفق في شكله العام مع ما قدمه ق. باسيليوس، وق. غريغوريوس النيصي، إلا أنه عاد وتبنى مفهوماً أكثر قرباً للقديس أثناسيوس[13] واتخذ مفهوم ’هوموأووسيوس‘ مدخلاً لشرح وحدانية الله، ونظر إلى الثلاثة هيبوستاسيس بكونها تشير إلى علاقات كائنة أزلياً وجوهرياً داخل الله وفقـــــــاً لما هـم في ذواتهم ووفقاً لما هم في علاقاتهم المتبادلة مع بعضهم البعض.
وهذه العلاقات بين الأقانيم هي جوهرية أو كيانية، بحيث إنهم يكونون ’في ما بينهم‘ بالضبط تماماً نفس ما هم ’في ذواتهم وبذواتهم‘، ولذا فالآب هو ’آب‘: بالتحديد في علاقته الكيانية غير المنفصلة مع الابن والروح القدس، والابن والروح القدس هما ابن وروح قدس: بالتحديد في علاقتيهما الكيانية غير المنفصلة مع الآب ومع بعضهما البعض. ويمكننا القول إن فهم ق. غريغوريوس لعقيدة الثالوث، كان يعتبر تعمقاً ملحوظاً في مفهوم ق. أثناسيوس للـ ’أوسيا‘ بكونه الجوهر الإلهي في علاقاته الداخلية (أي المتضمِّن العلاقات الإقنومية في داخله).[14]
وقد أكد ق. غريغوريوس النزينزي مثل ق. أثناسيوس أن وحدة المبدأ (الرأس) (Μοναρχία) ليست محدودة بأقنوم واحد: لأن الوحدة قائمة في الثالوث وبالثالوث.[15]
ومن الجدير بالذكر أنه كان هناك دور كبير للآباء الكبادوك في مجمع القسطنطينية وبالأخص ق. غريغوريوس النزينزي الذي رأس الاجتماعات الأولى للمجمع. وقد حرص مجمع القسطنطينية على عدم إدخال إلا أقل تعديل ممكن في قانون الإيمان (الذي وُضع في نيقية)، كما التزم المجمع كذلك في العبارات التي أُضيفت عن الروح القدس أن يسير في نفس الخط اللاهوتي ومدلول المصطلحات الذي تبناه مجمع نيقية بدون أن يتأثر بما قد حدث في الفترة ما بين نيقية والقسطنطينية.
وكان التعليم الذي قدَّمه ق. أثناسيوس بعد مجمع نيقية عن الروح القدس ـ والذي أخذه عنه بعد ذلك ق. إبيفانيوس وامتد به ـ هو الأساس الذي حسم الأمر في مجمع عام 381م.
البابا كيرلس السكندري ومجمع أفسس (431م):
كان ق. كيرلس السكندري بالحقيقة هو ختم الآباء[16] لأنه جمع في تعليمه كل غنى التراث الآبائي السابق له، بل أفضل ما قدَّمه الآباء الذين أتوا قبله، وقد وصل الفكر اللاهوتي على يديه إلى كمال نضجه.
وبالنسبة لمعاني المصطلحات اللاهوتية، كان ق. كيرلس حذقاً في استخدام مدلول تلك المصطلحات حيث تحدث عن الفرق بين الأوسيا والهيبوستاسيس بكونه مثل الفرق بين العام والخاص،[17] إلا أن هذا كان فقط لشرح مبدأ الاختلاف الأساسي بين مدلول المصطلحين، ولم يكن ذلك أبداً على حساب مفهوم الأوسيا الإلهي الذي يحوي العلاقات الهيبوستاسية.
وقد تبنى ق. كيرلس مفهوم ’هوموأووسيوس‘ (وليس أقنوم الآب) كأساس لشرح وحدانية الثالوث، فنجده يقول في الحوار الأول حول الثالوث: “فالجوهر هو حقيقة مشتركة بينما الأقنوم يُطلق على الأقانيم المشتركة في هذا الجوهر،…. والوحدانية في ذات الجوهر ’هوموأوسيوس‘ تتعدى تمايز الأقانيم في الآب والابن وتقدمهما بشكل موحد غير منقسم، ولا نستطيع أن ننزع عن كل أقنوم ما هو خاص به”.[18]
أي أنه من حيث التفريق الأساسي أظهر أن الأوسيا هو الحقيقة الجوهرية (بما له من وجود وطبيعة) والتي تميّز نوع ما عن أي نوع آخر والهيبوستاسيس هو الواقع الخاص المتمايز الذي لهذا النوع (بما له من وجود وطبيعة)، ولكن عند الحديث عن الله أخذ ق. كيرلس السكندري تعليم ق. غريغوريوس النزينزي عن الثلاثة هيبوستاسيس الإلهية بكونها علاقات ديناميكية كائنة على الدوام في أوسيا الله الواحد.[19]
وضمَّه مع تعليم ق. أثناسيوس عن السكنى المتبادلة للأقانيم الثلاثة، ليقدَّم مفهومه العميق عن التواجد (الاحتواء) المتبادل للثلاثة هيبوستاسيس في داخل الأوسيا الإلهي.[20] كما تبنى ق. كيرلس مفهوم ق. أثناسيوس وق. إبيفانيوس عن وحدة المبدأ (الرأس) (Μοναρχία) ليس بكونها في أقنوم الآب وحده ولكن بكونها وحدة في ثالوث وثالوث في وحدة.[21]
وكان مصطلح ’بروسوبون‘ يُستخدم في بعض الأحيان كمرادف للهيبوستاسيس ويُقصد به ’الشخص المتمايز‘، ولكن ’البروسوبون‘ لا يعني في الحقيقة الشخص بالمعنى الكامل للمصطلح، وإنما يدل على الناحية الخارجية للكائن التي تميِّز الواحد عن الآخر. أي أن ’الهيبوستاسيس‘ هو الشخص من جهة حقيقته الداخلية، أما ’البروسوبون‘ فيمثل الهيئة الخارجية (أو الوجه الخارجي) فقط. وكان لهذا التفريق الدقيق أهمية قصوى في الجدال الخريستولوجي بين التقليد السكندري والتقليد الأنطاكي كما سنرى.
وبالنسبة لمصطلح ’فيزيس أو طبيعة‘، استخدم ق. كيرلس المصطلح بمدلول ’الأوسيا‘، كما استخدمه أيضاً بمدلول ’الهيبوستاسيس‘ سواء في الحديث عن الله أو عن الإنسان. ففي خطابه الرابع ضد نسطوريوس قال ق. كيرلس: “إن طبيعة اللاهوت الواحدة تُعرف في الثالوث القدوس والواحد في ذات الجوهر”، ونجد هنا أنه استخدم مصطلح ’طبيعة‘ بمدلول ’الأوسيا‘، ولكن في خطابه إلى الأميرة استخدم ق. كيرلس نفس المصطلح كمرادف للهيبوستاسيس حيث كتب: “نحن نؤكد أن الكلمة، خالق العالمين، الذي فيه وبه يكون كل شيء، النور الحقيقي، ’الطبيعة‘ التي تعطي حياة للجميع، الذي هو ابنه الوحيد، قد ولد من جوهر الآب بطريقة لا توصف”.
وعند الحديث عن الإنسان كتب ق. كيرلس في خطابه الثالث ضد نسطوريوس: “إنه بسبب خطية آدم، سقطت طبيعة الإنسان إلى اللعنة والموت”، وهنا يشير المصطلح إلى مدلول الأوسيا، ولكن في كتابه ضد أندراوس السموساطي استخدم ق. كيرلس مصطلح ’طبيعة‘ كبديل للهيبوستاسيس حيث قال: “وبالنظر إلى البروسوبون الواحد والطبيعة الواحدة، أي الهيبوستاسيس (الواحد)، فإننا حينما نفكر في هاتين (الطبيعتين) اللتين يتركب منهما طبيعياً، فإن العقل يجعلهما معاً ويميزه كواحد مركب، وليس كمنقسم إلى إثنين”.
وكان مصطلح ’طبيعة‘ ـ والذي يعني الخصائص الداخلية التي تميِّز الشيء ـ حين يُستخدم بمدلول الأوسيا فيُقصد به الطبيعة في معناها العام أي طبيعة هذا الأوسيا التي تميزه عن غيره، وحين يُستخدم بمدلول الهيبوستاسيس فيُقصد به الطبيعة في واقعها المتفرد المخصخص (أو الهيبوستاسي).
وكان التقليد الأنطاكي (الذي مهد للهرطقة النسطورية) يستخدم مصطلح ’طبيعة‘ بمدلول ’الشخص المحدد‘، ويتبنى مفهوم أن المسيح هو ’طبيعتين بعد الاتحاد‘ بمعنى ’شخصين محددين‘ لذلك فإن الاتحاد بينهما لا يمكن أن يكون غير مجرد اقتران (سينافيا) لهذين الشخصين، وبالتالي فإن ’الله الكلمة‘ و’الإنسان المُتَخَذ‘ كانا بالنسبة للفكــر الأنطاكي هما مركزين للوجــود والفعل (two centers of being and activity). وكان اتحاد الطبيعتين من وجهة نظرهم هو في نطاق (أو على مستوى) ’البروسوبون‘ فقط، لذلك فإن المسيح هو طبيعتين متحدتين في بروسوبون واحد.[22]
وأمام هذا التفسير أصر السكندريون على أن اتحاد الطبيعتين كان اتحاداً داخلياً حميماً بحسب ’الهيبوستاسيس‘ (أي اتحاد هيبوستاسي) وليس مجرد اتحاداً خارجياً في نطاق البروسوبون. لذلك فإن المسيح هو هيبوستاسيس واحد مركب (أي مركز واحد للوجود والفعل)، وطبيعة واحدة مركبة، وبروسوبون واحد.
فالطبيعتين الإلهية والإنسانية ظلتا محتفظتين بخواصهما دون أي نقصان أو تغير وقد اتحدتا بصورة داخلية حميمة بدون اختلاط أو انفصال لدرجة أن المسيح لم يكن “طبيعتين بعد الاتحاد”؛ فهو “من طبيعتين” ولكنه مع ذلك “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة”. وفي الحقيقة كانت تلك الرؤية السكندرية هي الأساس اللاهوتي الذي تمت على أساسه إدانة نسطوريوس كهرطوقي في مجمع عام 431م.
مجمع خلقيدونية عام 451م:[23]
كان الأساس اللاهوتي لمجمع خلقيدونية يتركز في طومس ليو واعتراف الإيمان الذي قام المجمع بصياغته.
(1) طومس ليو:
كانت الفقرة المحورية في طومس ليو هي التي تقول: إن الله الابن الأزلي قد اتخذ ناسوتاً، بحيث إن “خواص كلتا الطبيعتين والجوهرين محفوظة ومتواجدة معاً في شخص واحد”. وأن ابن الله “نزل من عرشه السماوي” ولكنه في نفس الوقت “بدون أن يتنحى عن مجد الآب”، ودخل في هذا العالم وولد بطريقة جديدة.
وبهذا الميلاد (الزمني) لم يتغير اللاهوت إلى ناسوت، ولا ابتُلع الناسوت في اللاهوت، ولكنهما كانا متحدين تماماً بحيث إن “كل طبيعة تقوم بما هو ملائم (proper) لها (أو مختص بها) وهي في شركة (communion) مع الأخرى؛ فعلى سبيل المثال كان الكلمة يقوم بما هو ملائم للكلمة، وكان الجسد ينفذ ما هو ملائم للجسد”.
فكإنسان كان يمكنه أن يشعر بالجوع والعطش وأن يتعب وينام؛ ولكن كإله أشبع الآلاف من الناس بخمس خبزات كما صنع معجزات أخرى. والحق أنه “في الرب يسوع المسيح، يوجد شخص واحد لله والإنسان، ومع ذلك فإنه من حيث التألم الذي هو مشترك لكليهما فإن هذا شيء، ومن حيث المجد الذي هو مشترك (أيضاً) لكليهما فإن هذا شيء آخر؛ لأن الناسوت الذي أدنى من الآب هو له منا، واللاهوت المساوي للآب هو له من الآب”.
ومن هنا فإن وحدة الشخص “ينبغي أن تُفهم بكونها كائنة في طبيعتين”، ولذلك يمكننا أن نقول أن ابن الإنسان أتى من السماء، وأن ابن الله أخذ جسداً وولد من العذراء.
ومن الفقرة السابقة نرى أن طومس ليو قد تحدث عن ’شخص واحد‘، فماذا كان يعني البابا ليو بهذا التعبير خاصة أنه في السياق التاريخي للقرن الخامس كان اللاهوتيون الشرقيون يستخدمون الكلمتين ’بروسوبون‘ و’هيبوستاسيس‘ اليونانيتين بما يكافئ كلمة ’برسونا‘ عند اللاتين؟ فهل كان البابا ليو يعني بتعبير ’شخص واحد‘ أنه ’هيبوستاسيس واحد‘ أم أنه ببساطة مجرد ’بروسوبون واحد‘؟.
وقد رأى القادة الذين تربوا على التقليد اللاهوتي السكندري في عبارة ’شخص واحد كائن في طبيعتين‘ ما يتضمن فقط معنى ’البروسوبون‘، كما رأوا في عبارة ’كل طبيعة تقوم بما هو ملائم لها وهي في شركة مع الأخرى‘ ما يحمل معنى ’الهيبوستاسيس‘. وهكذا فهم السكندريون أن ليو يؤمن بأن ’الهيبوستاسيسين‘ أي الله الابن ويسوع الإنسان اتحدا في ’بروسوبون‘ واحد.
وهذا بالتحديد ما كان الأنطاكيون يعلِّمون به طوال الوقت. وحينما قارن السكندريون الطومس مع رسائل البابا كيرلس التي أرسلها إلى نسطوريوس وبالأخص الرسالة (الثالثة) التي احتوت على الحروم، وجدوا تناقضاً حقيقياً بين تعليم ق. كيرلس السكندري وطومس البابا ليو.
لأن ق. كيرلس على سبيل المثال كان قد أوضح تماماً أن الأقوال والأفعال يقوم بها الهيبوستاسيس الواحد المتجسد، بينما يذكر الطومس أن الأقوال والأفعال تقوم بها الطبيعتان، فإذا أُخذ مصطلح ’الطبيعة‘ بمعنى ’الهيبوستاسيس‘ ـ وهو المعنى الوحيد المنسجم مع سياق النص ـ فسيكون من العسير قبول هذا الموقف بالتحديد.
(2) إعتراف الإيمان الخلقيدوني:
تحدث إعتراف الإيمان الخلقيدوني عن أن “ربنا يسوع المسيح هو بالنسبة لنا نفس الابن الواحد، الكامل في اللاهوت، والكامل في الناسوت؛ إله حقيقي وإنسان حقيقي…؛ هو نفس المسيح الواحد، والابن الواحد، والرب الواحد، والمولود الوحيد؛ يُعترف به في طبيعتين بغير اختلاط ولا تغيير ولا انقسام ولا انفصال؛ ولم يلغي الاتحاد اختلاف الطبيعتين أبداً بل بالأحرى حُفظت خواص كل طبيعة، و(كلاهما) يتواجدان معاً في بروسوبون واحد وهيبوستاسيس واحد؛ وليس كما لو كان قد تجزأ أو انقسم إلى بروسوبونين، ولكنه الابن الواحد نفسه والمولود الوحيد، الله الكلمة الرب يسوع المسيح …”
ومن هنا نرى أن تعريف الإيمان الخلقيدوني كان يحوي عناصراً مأخوذة من كلا التقليدين السكندري والأنطاكي، ومع ذلك ذهب إلى أبعد من حدود التقليد الأنطاكي في تأكيده أن “الطبيعتين متواجدتان معاً في بروسوبون واحد وهيبوستاسيس واحد”، كما ذهب أبعد من حدود التقليد السكندري في إصراره أن المسيح ينبغي “أن يُعترف به في طبيعتين”.
البطريرك ساويروس الأنطاكي والجانب غير الخلقيدوني:
كان البطريرك ساويروس تلميذاً مخلصاً للقديس كيرلس السكندري وكان بالفعل هو اللاهوتي الأبرز والمدافع الأعظم عن التعليم الخريستولوجي غير الخلقيدوني في القرن السادس. وقد قام البطريرك ساويروس بشرح معنى المصطلحات اللاهوتية في كتابه ’ضد النحوي غير التقي‘ وفي العديد من رسائله العقائدية وكتاباته الأخرى.
وكان البطريرك ساويروس يأخذ ’الأوسيا‘ الإلهي مثل ق. أثناسيوس بمعنى الكائن (بذاته)، وقد شرح الإختلاف الأساسي بين ’الأوسيا‘ و’الهيبوستاسيس‘ بأن “’الأوسيا‘ يدل على ما هو عام، بينما يدل ’الهيبوستاسيس‘ على ما هو خاص”.[24] وقام البطريرك ساويروس بتوضيح وجهة نظره من خلال قوله إن “مصطلح ’إنسان‘ يدل على الجنس وعلى الانتماء العمومي لكل الجنس البشري”،[25] وأشار إلى دليل كتابي في سفر التكوين، حين تكلم الله إلى نوح وبنيه قائلاً: “سافك دم الإنسان، بالإنسان يُسفك دمه، لأن الله على صورته عمل الإنسان” (تك 6: 9)، وأكد البطريرك ساويروس أنه في تلك الآية لم تكن الإشارة إلى إنسان محدد، ولكن إلى أي إنسان ينتمي إلى كل الجنس البشري.
ولكن من الناحية الأخرى حينما نطلق على شخص محدد ـ مثل يعقوب أو ألقانه ـ أنه إنسان، فنحن نقصد أنه ينتمي إلى الأوسيا (إلى الجنس البشري)،[26] وكل من يعقوب وألقانه هو هيبوستاسيس، لأن كل منهما استقبل وجوده المحدد (concrete existence) بصورة منفصلة وخاصة.
وكان البطريرك ساويروس ينظر إلى ’الأوسيا‘ بمعنى الحقيقة الديناميكية العامة المجردة، وبالتالي فإن ’الأوسيا‘ إذا لم يصبح ’محدداً‘ فلا يكون له وجود فعلي في عالم الزمان والمكان، أي أن ’الأوسيا‘ هو الحقيقة (العامة) التي عندما تتخصخص أو تتفرد (individuated) ينشأ واقع خاص (particular) محدد (أو حقيقة خاصة) الذي هو ’الهيبوستاسيس‘.
وإذا انتقلنا إلى مصطلحي ’هيباركسيس‘ و’فيزيس‘ فسنجد أن مصطلح ’هيباركسيس‘ يشير إلى ’الوجود‘ ومصطلح ’فيزيس‘ يشير إلى ’الطبيعة‘. ووفقاً لذلك فإن كلا المصطلحين يمكن أن يُستخدم إما بالمعنى العمومي أو بالمعنى الخاص. وعلى سبيل المثال، فإن أي ’أوسيا‘ يكون له وجوده من ناحية، كما أن له أيضاً طبيعته الخاصة من الناحية الأخرى. و’الهيبوستاسيس‘ كذلك بكونه ’الأوسيا‘ الذي تخصخص أو تفرد فإن له أيضاً ’الهيباركسيس‘ و’الفيزيس‘ الخاصين به.
وكان البطريرك ساويروس قد تعامل مع معنى مصطلح ’فيزيس‘ أو ’الطبيعة‘ في أكثر من عمل من كتاباته، وفي كل مرة كان يقر بأن هذا المصطلح يعني في بعض الأحيان ’الأوسيا‘ وفي البعض الآخر ’الهيبوستاسيس‘،[27] وكان يستدل على ذلك من أقوال ق. كيرلس السكندري التي سبق أن أشرنا إليها.
وبالنسبة للبابا ساويروس أيضاً كان مصطلح طبيعة حين يُُستخدم بمدلول الأوسيا فيُقصد بها الطبيعة في معناها العام أي طبيعة هذا الأوسيا التي تميزه عن غيره، وحين يُستخدم بمدلول الهيبوستاسيس فيُقصد بها الطبيعة في واقعها المتفرد المخصخص (أو الهيبوستاسي). وفي كل المرات التي استخدم فيها البطريرك ساويروس مصطلح ’طبيعة‘ وهو يتحدث عن أي كيان مخصخص ومتفرد سواء كان بسيطاً أم مركباً فكان يقصد به مدلول ’الهيبوستاسيس‘.
وتتضح هذه النقطة عند الإشارة إلى الإنسان الذي يتكون من جسد وروح، فحين نقول عن الإنسان (وهو كيان متفرد) أنه “من طبيعتين” فإننا نقصد أنه “من هيبوستاسيسين”، لأن الجسد والروح لا يوجدان في الإنسان كـ ’إثنين أوسيا‘ (أي كحقيقتين عامتين مجردتين) ولكن كـ ’هيبوستاسيسين‘ (أي كواقعين متفردين)، ولكن حيث إن ’الإثنين أوسيا‘ (أي أوسيا الجسد وأوسيا الروح) قد أصبحا متفردين ومتخصخصين وهما في الاتحاد معاً، لذلك لا يوجد الإنسان في ’هيبوستاسيسين‘ أو ’طبيعتين‘.
ولو كان يمكن للجسد في أي وقت ما، أن يأتي إلى الوجود بدون الروح أو الروح بدون الجسد، لأمكن أن يكون كل منهما ’هيبوستاسيس بسيط‘ مستقل أو’طبيعة بسيطة‘ وأن يكون له ’البروسوبون‘ الخاص به، ولكن ’أوسيا الجسد‘ و’أوسيا الروح‘ ـ كحقيقتين ديناميكيتين ـ تخصخصا وتفردا معاً في الاتحاد، وكل منهما ظل بكماله الذي حسب أصل مبدأه (جوهره)، والتقيا ’الاثنان أوسيا‘ معاً في تكوين ’هيبوستاسيس واحد مركب‘ له بروسوبون (واحد).
أما الفرق بين مدلول مصطلحي ’هيبوستاسيس‘ و’بروسوبون‘ عند البطريرك ساويروس فهو أمر دقيق للغاية، حيث كتب: “إن آباء الكنيسة وصفوا ’الهيبوستاسيس‘ بأنه ’البروسوبون‘”،ومع ذلك فإن هناك فرق في المدلول بينهما لأنه “حينما يصبح الهيبوستاسيس وجوداً محدداً خاصاً ـ سواء كان بسيطاً أم مركباً ـ فإنه يُعبِّر عن بروسوبون متمايز”.[28] وستتضح هذه النقطة أكثر من شرح البطريرك ساويروس للفرق بين الهيبوستاسيس ’البسيط‘ و ’المركب‘.
فبالنسبة للنوع ’البسيط‘ أشار البطريرك ساويروس إلى الثلاثة هيبوستاسيس الإلهية، فكل من الآب والابن والروح القدس هو هيبوستاسيس بسيط (simple hypostasis)، أما الإنسان فهو هيبوستاسيس مركب (composite hypostasis) لأنه يتكون من جسد وروح. وفي حالة الإنسان، فمنذ أول لحظة من تزامن وجود ’أوسيا الجسد‘ و’أوسيا الروح‘، يأخذ الإنسان وجوده ككيان جسدي روحي، ويستلم ’بروسوبون‘.
ولا يلتقي ’الاثنان أوسيا‘ معاً في صورة ’الأوسيا‘ ـ لأن الأوسيا بكونه هو الحقيقة العامة إذا لم يصبح محدداً فلا يكون له وجود فعلي في عالم الزمان والمكان ـ ولكنهما منذ بداية وجودهما معاً يصبحان واقعين هيبوستاسيين (hypostatic realities). ويقول البطريرك ساويروس:
“ويحافظ كل من الجسد والروح ـ اللذان يتركب منهما الإنسان ـ على الهيبوستاسيس الخاص به، دون أن يختلطا أو يتحول أي منهما إلى الآخر. وعلى الرغم من ذلك، فبما أنهما اتخذا وجودهما المحدد في الوضع المركب وليس بشكل منفصل مستقل، فلا يمكن أن يُخصص ’بروسوبون‘ متمايز لأي منهما (على انفراد) “.[29]
ويمكننا أن نُفسر كلام البطريرك ساويروس في هذه النقطة كما يلي: ’الهيبوستاسيس‘ هو الكيان المحدد (concrete being) الناتج من تخصخص أو تفرد (individuation) ’الأوسيا‘. وفي هذا التخصخص والتفرد يأخذ ’الأوسيا‘ بكماله وجوداً محدداً (concrete existence)، وعندما يحدث هذا يكون للهيبوستاسيس ذلك ’البروسوبون‘ الخاص به.
ومن هنا نستطيع أن نقول أن ’الهيبوستاسيس‘ ـ بكونه ’الأوسيا‘ الذي تفرد وتخصخص ـ فإنه يمثل الحقيقة الداخلية الخاصة للشيء، و’البروسوبون‘ هو الهيئة الخارجية (أو الوجه الخارجي). وعلى سبيل المثال، كل عضو من أعضاء نوع (class) معين هو الأوسيا الذي تفرد وتخصخص بكامله، ومن ثم لا يمكن تمييزه كهيبوستاسيس عن أي عضو آخر من نفس النوع، ولكن أعضاء النوع (الواحد) تتمايز عن بعضها البعض بواسطة البروسوبون.[30]
ويمكننا أن نتبين مفهوم البطريرك ساويروس عن ’البروسوبون‘ بطريقة أوضح إذا رجعنا إلى إجابته عن السؤال: لماذا لا يمكن أن نعترف أن المسيح هو “من بروسوبونين” (from two prosopa)؟. وكان البطريرك ساويروس يصر أن المخلص “من هيبوستاسيسين” أو “من طبيعتين” ولكنه ليس “من بروسوبونين”، حيث كتب: “عندما تتخذ مجموعة من ’الهيبوستاسيس‘ وجودها المحدد الخاص، وتكون منفصلة الواحد عن الآخر، فإن كل واحد منها يكون له ’البروسوبون‘ الخاص به.
ولكن حينما يلتقي ’هيبوستاسيسان‘ في إتحاد طبيعي ويكملان إتحاداً للطبيعتين والهيبوستاسيسين بدون أي اختلاط ـ كما نرى في الإنسان ـ فلا يمكن أن يُنظر إلى هذين الإثنين اللذين حدث منهما الاتحاد، بكونهما (وجودين) محددين مستقلين، أو أن يُعتبرا كبروسوبونين، وإنما ينبغي أن يُؤخذا كـ (بروسوبون) واحد”.[31]
وفي تطبيق هذا المفهوم على المسيح، يشرح البطريرك ساويروس وجهة نظره كما يلي: إن الله الكلمة الذي هو قبل العالمين، حينما وحَّد بنفسه (to himself) ناسوتاً بدون تغيير، لم يكن من الممكن أن يُنسب بروسوبون خاص (مستقل) لا إلى لاهوت المولود الوحيد[32] ولا إلى الناسوت الذي اتحد به، لأنهما أُدركا (معاً في المسيح) وهما في الوضع المركب وليس كما لو كانا قد اخذا وجودهما المحدد (في المسيح) بصورة منفصلة. وباتحاد اللاهوت والناسوت معاً، تكوَّن هيبوستاسيس واحد (مركب) من الإثنين ومعه أخذ الكلمة المتجسد البروسوبون الخاص به.[33]
وقد استمر اللاهوت والناسوت اللذين تركب منهما عمانوئيل كل في حالته الهيبوستاسية التي له بدون تغيير.[34] ولا ينبغي هنا أن يُساء فهم موقف البطريرك ساويروس، لأنه في تأكيده على الحقيقة الأقنومية لناسوت المسيح لم يكن يقر أن هناك مركزين للوجود والفعل في المسيح الواحد كما يفعل الأنطاكيون، حيث أصر على أن الناسوت أصبح في الحالة الأقنومية فقط في الإتحاد مع الله الكلمة، كما أكد كذلك على أن المسيح هو هيبوستاسيس واحد ’مركب‘ (composite).[35]
وكان ’الهيبوستاسيس‘ بالنسبة للبطريرك ساويروس هو الأوسيا المخصخص وهو الشخص المعني بالأفعال، لذلك كان يتمسك بأن المسيح له ’إرادة واحدة‘ و’فعل واحد‘،[36] لأن ’الإرادة‘ و’الفعل‘ من وجهة نظر الجانب غير الخلقيدوني كانا هما التعبير (expression) عن ملكة الاختيار وملكة العزم (على الفعل) الموجودتين في كل طبيعة (volitional and conative faculties)، ولكن الشخص أو الهيبوستاسيس هو الذي يظهرهما.
ففي المسيح الواحد كانت توجد كلتا الخواص والقدرات الإلهية والبشرية بدون أي نقصان (ويمكن التمييز بينهما على مستوى الذهن) وكان أقنومه المركب الواحد هو الذي يقوم بالتعبير عنهما، ولم يكن التقليد السكندري يتحدث عن ’إرادتين طبيعيتين‘ و’فعلين طبيعيين‘ مثل الخلقيدونيين، لأن ذلك من وجهة نظر التقليد السكندري كان يتضمن تقسيماً للمسيح الواحد إلى مركزين للوجود والفعل.
فالإرادة في المسيح على سبيل المثال، هي التعبير المتحد(united) للقدرات الإرادية التي للاهوت والناسوت معاً، وكذلك ’الفعل‘ هو التعبير المتحد لقدراتهما العزمية ـ وكل من ’الإرادة‘ و’الفعل‘ يعبر عنهما (أو يُظهرهما) الشخص الواحد المركب.
ونستطيع أن نلخص تعليم البطريرك ساويروس عن مدلول المصطلحات اللاهوتية على النحو التالي: يدل مصطلح ’أوسيا‘ على الحقيقة العامة الديناميكية التحتية (underlying) للشيء، وبهذا يتضمن ’الأوسيا‘ كل من ’الكينونة‘ أو الوجود من ناحية، و’الخصائص‘ (properties) التي تعطي الأوسيا طابعها وهويتها من الناحية الأخرى، وهذان الإثنان هما ’الهيباركسيس‘ و ’الفيزيس‘ على الترتيب.
و’الهيبوستاسيس‘ هو الشخص المتفرد، والمعني بالأفعال (subject of actions) الذي فيه يأخذ الأوسيا ـ بما يتضمنه من ’هيباركسيس‘ و ’فيزيس‘ ـ وجوده المحدد. وعندما يتفرد ويتخصخص الأوسيا مُوجداً هيبوستاسيس، فإن الهيبوستاسيس يستلم سمته المميزة والتي بها يختلف (يتمايز) عضو (member) من أعضاء نوع (class) معين عن عضو آخر من نفس النوع، وهذا هو ’البروسوبون‘.[37]
يوحنا النحوي والجانب الخلقيدوني في القرن السادس:
كان يوحنا النحوي هو أحد أهم القادة الخلقيدونيين في القرن السادس الذين تولوا الدفاع عن مجمع خلقيدونية ضد البطريرك ساويروس الأنطاكي. ويعتبر يوحنا النحوي من أوائل الخلقيدونيين الذين ابتدئوا التعليم الخريستولوجي الخلقيدوني الجديد في الشرق. وهذا التعليم هو الذي أسماه شارلز موللر ’الخلقيدونية الجديدة‘ (neo-Chalcedonianism)، وقد كُتب لهذا التعليم الانتصار في مجمع القسطنطينية عام 553م. وكان الموقف اللاهوتي الذي تبناه ذلك المجمع ـ ما عدا دفاعه عن مجمع خلقيدونية ـ يقترب من الموقف الذي يتمسك به الجانب غير الخلقيدوني.
وبالنسبة لتعريفه للمصطلحات اللاهوتية، يقول النحوي:[38] “يدل ’الأوسيا‘ على العمومي مثل اللاهوت الواحد الذي للثالوث القدوس أو مثل الناسوت بصفة عامة.
أما ’الهيبوستاسيس‘ فيشير إلى ’البروسوبون‘ الواحد الذي للآب، و(البروسوبون) الذي للابن و(البروسوبون) الذي للروح القدس؛ أو أيضاً الذي لبطرس أو يوحنا أو أي رجل. وتُعرَّف ’الفيزيس‘ في بعض الأحيان مع الأوسيا وفي بعض الأحيان مع الهيبوستاسيس”.
ونلاحظ من الفهم المبدئي لتلك الفقرة، أنه لا يوجد أي فرق ظاهر في تعريف المصطلحات اللاهوتية بين البطريرك ساويروس ويوحنا النحوي، ولكن عند استخدام تلك المصطلحات في التفسيرات المتعلقة بشخص المسيح نجد أن البطريرك ساويروس يختلف فعلياً معه. فيوحنا النحوي يفسر مصطلح ’طبيعة‘ في عبارتي “من طبيعتين” و”في طبيعتين” بمدلول ’الأوسيا‘ كحقيقة عامة مجردة (وليست مخصخصة)، وهذا يتعارض مع مفهوم البطريرك ساويروس الذي يقول أنه إذا أخذنا الطبيعتين بمدلول ’الأوسيا‘ (كحقيقة عامة) فإنه من المستحيل أن نتصور إمكانية أن يتحدا ’هيبوستاسياً‘.[39]
وقد أكد البطريرك ساويروس في رده على النحوي أن مصطلح ’طبيعة‘ عند ق. كيرلس ينبغي أن يؤخذ في جميع العبارات التي تشير إلى المسيح بمدلول الواقع المخصخص أو الحقيقة المحددة (concrete reality) وليس بمدلول الحقيقة العامة المجردة. كما أصر البطريرك ساويروس على أن الناسوت الذي اتخذه الكلمة في التجسد كان في الحالة الأقنومية أي أنه كان ناسوتاً مخصخصاً ومتفرداً (individuated manhood).
وبالنسبة لمفهومه عن الأوسيا تساءل النحوي:
“كيف يمكننا ونحن نعترف أنه (أي المسيح) إنسان تام كامل، ألا نقر أن فيه كل ’أوسيا‘ الناسوت؟ لأنه لم يتخذ جزءاً من الناسوت كما ادعى أبوليناريوس أي جسداً بدون روح عاقل، ولكنه اتخذ ’الأوسيا‘ بكامله أي جسد ممنوح روحاً عاقلاً ومفكراً. وحيث إن هذا هو الموجود تماماً في كل الكائنات البشرية كحقيقة عمومية، لذلك يشار إليه بـ ’الأوسيا‘. وهم (أي الكائنات البشرية) لا يتمايزون الواحد عن الآخر في ’الأوسيا‘، وإنما في الصفات الخاصة التي تصاحبهم أي الحجم واللون وتلك هي التي تُذكر كمواصفات للبروسوبون.”[40]
وهنا ينبغي علينا أن نلاحظ إصرار النحوي على أن الأوسيا الذي في كل البشر هو ’الحقيقة العمومية‘ بالمعنى المجرد بدون التسليم بأنه في الحالة المخصخصة المتفردة ’الهيبوستاسية‘. ومن الواضح أنه كان مهتماً بتجنب عقيدة وجود ’هيبوستاسيسين‘ أو شخصين في المسيح الواحد.
وكان النحوي قد مهد لنظرية التــأقنم التي تبناها الخلقيدونيون ـ والتي سيأتي ذكرها فيما بعد ـ حينما فرَّق بين ’الهيبوستاسيس‘ وبين الواقع الخــــاص المحدد (concrete particular)، لذلك اعترف أن ناسوت المسيح كان واقعاً خاصاً محدداً، أي جسداً أُعطي روح عاقل مفكر ولكنه مع ذلك لم يعترف به كواقع هيبوستاسي.
ويبدو أن النحوي كان يفهم الهيبوستاسيس بكونه فقط الشخص المعني بالأفعال ولم يكن هذا المفهوم يرتبط عنده بأي مدلول للواقع الخاص المحدد. فالأوسيا بالنسبة له هو الحقيقة العمومية، والطبيعة كان لها أيضاً نفس المدلول،[41] والهيبوستاسيس ليس هو الأوسيا الذي تفرد وتخصخص (أي ليس هو الحقيقة العامة التي أخذت واقعاً خاصاً محدداً) ولكنه الشخص (مركز الفعل) الذي يملك الطبيعة.
أما البطريرك ساويروس على الجانب الآخر فكان لا يفصل بين مدلول الهيبوستاسيس بكونه الأوسيا المتفرد المخصخص (بما له من طبيعة في واقعها المحدد) وبين كونه الشخص المعني بالأفعال. ومن الواضح أن النحوي كان يحاول الدفاع عن صحة عبارة “في طبيعتين” مع تجنب وجود هيبوستاسيسين في المسيح، لذلك فسَّر مصطلح ’طبيعة‘ الوارد فيها أنه يعني ’الأوسيا‘ كحقيقة عامة.
كما جمع بين كون المسيح ’هيبوستاسيس واحد‘ وكونه ’في طبيعتين‘ من خلال تفسيره للهيبوستاسيس ـ كما ذكرنا ـ بأنه الشخص المعني بالأفعال الذي يملك الطبيعة بمعناها العام والذي يمكنه أن يملك أكثر من طبيعة في نفس الوقت. لذلك أكد أن هيبوستاسيس المسيح الواحد هو هيبوستاسيس الله الكلمة الذي بالإضافة لطبيعته الإلهية وحَّد بنفسه ناسوتاً كطبيعة ثانية.[42]
أما البطريرك ساويروس فكان يصر على أنه هو الهيبوستاسيس المتجسد لله الكلمة ولذلك هو هيبوستاسيس ’مركب (composite)‘. وكان لهذا الاختلاف في تفسير مدلول المصطلحات بين الجانبين تداعيات خطيرة سنتناولها في السطور القادمة.
يوحنا الدمشقي والجانب الخلقيدوني في القرن الثامن:
كان يوحنا الدمشقي واحداً من أشهر اللاهوتيين في الجانب الخلقيدوني في القرن الثامن الميلادي، وهو أحد الذين شاركوا في رسم ملامح التقليد الخلقيدوني المعاصر.
وكان هدف الدمشقي هو تقديم فكر لاهوتي يتفق مع تعليم خلقيدونية بوجود شخص واحد ’في طبيعتين‘، لذلك حاول أن يقدم شرحاً لمدلول المصطلحات اللاهوتية يستطيع من خلاله أن يدافع عن المفهوم الخلقيدوني ويفند آراء المعارضين له. وقد تغاضى في سبيل تحقيق هدفه هذا عن كل الصعوبات اللاهوتية التي نجمت عن ذلك الشرح.
وقد أكد الدمشقي أن الآباء لم يفرقوا بين مدلول ’الأوسيا‘ ومدلول ’الطبيعة‘،[43] لكنه أضاف أن بعض الفلاسفة الوثنيين قد ميَّز بين المصطلحين بكون ’الأوسيا‘ هو الجوهر (العام) البسيط و’الطبيعة‘ هي الجوهر الذي له خصائص مميزة (أو اختلافات جوهرية) تفرقه عن بقية الأنواع، أي أن ’الطبيعة‘ هي التي تشير إلى الأجناس أو النوعيات المختلفة مثل الملائكة والبشر والحيوانات.[44]
ومن هذا المنطلق زعم الدمشقي أنه من غير الممكن أن تتواجد خصائص مميزة ما مع خصائص أخرى تتضاد معها في نفس النوع أو الجنس، فمثلاً لا يمكن أن تتكون طبيعة الإنسان من العاقل وغير العاقل معاً، ولذلك فلا يمكن أن توجد طبيعة واحدة من طبيعتين مختلفتين.[45]
وقد عارض الدمشقي المفهوم غير الخلقيدوني ـ الذي يرجع إلى ق. كيرلس السكندري ـ عن الطبيعة الواحدة المركبة انطلاقاً من نظرته لمصطلح الطبيعة كمرادف للأوسيا في الإشارة إلى المسيح، كذلك لأنه تصور أن تلك الطبيعة الواحدة لابد أن تكون طبيعة ’جديدة‘ ناتجة عن اختلاط الطبيعتين، لذلك نجده يقول:
“إنه من المستحيل وجود طبيعة واحدة مركبة تتكون من ’إثنين من الأوسيا‘ أي من ’طبيعتين‘، لأنه من المستحيل أن تتواجد اختلافات متضادة منطقياً كمكونات في شيء واحد، ولكن من الممكن على الرغم من ذلك أن يتكون هيبوستاسيس مركب من طبيعتين مختلفتين.”[46]
وعندما أحس الدمشقي أنه لو طَّبق هذا الكلام على الإنسان فسيقول عن الإنسان أنه هيبوستاسيس واحد ولكنه سيضطر للقول أن الإنسان هو الأخر’طبيعتين‘ لأنه يتكون من الجسد والروح، استدرك كلامه بأنه يمكن أن نعتبر الإنسان طبيعة واحدة (رغم أنه يتكون من الجسد والروح) لأن الإنسان هو جنس واحد، وحيث إنه بالنسبة للمسيح لا يوجد له جنس يشبهه أو نوعية ينتمي إليها لذلك لا يمكن أن نقول عنه أنه طبيعة واحدة بنفس المعنى الذي نستخدمه مع الإنسان!.[47]
وبالنسبة للدمشقي لا تتواجد الطبيعة بذاتها لأن الوجود المستقل ينتمي فقط للأفراد (الأشخاص).
أما الهيبوستاسيس فقد شرحه الدمشقي بأنه هو الذي يملك ’أوسيا‘ (أو طبيعة) وله عوارض خاصة به تجعله يختلف عن غيره من الأفراد وهو كائن في ذاته (مستقل) ويمكن إدراكه. وهكذا أشار الدمشقي إلى الطبيعة بكونها الشيء العمومي الذي يأخذ وجوده في الهيبوستاسيس، ولا يمكن للطبيعة أن توجد بذاتها بدون هيبوستاسيس.
أما الهيبوستاسيس فهو شيء خاص بالمعنى العددي أو هو فرد من نوع معين، وله عوارض (accidents) تفرقه عن بقية الهيبوستاسيس، وهو الذي يملك العمومي (أي الأوسيا أو الطبيعة) كما أنه يتواجد بذاته مستقلاً. وقد زعم الدمشقي أنه ليس من الضروري أن يكون لكل طبيعة من الطبيعتين المتحدتين الهيبوستاسيس الأصلي الخاص بها،[48] بل ذهب إلى القول بأنه إذا كان الهيبوستاسيس يملك الوجود المستقل، فيمكن أن يكون هو مركزاً أو مبدأ (principle) للوجود لإثنتين من الطبائع المتحدة، كما يظهر في الإنسان أن الهيبوستاسيس يحتوي على طبيعتين.[49]
وقبل أن نشرح نظرية التأقنم عند الدمشقي ينبغي أن نتوقف قليلاً لكي ندقق في الفرق بين مدلول المصطلحات عنده وعند البطريرك ساويروس الأنطاكي. فقد اعتبر البطريرك ساويروس الأوسيا هو الحقيقة الجوهرية بما تتضمنه من ’الخصائص‘ التي تعطي الأوسيا طابعه وهويته أي الطبيعة التي تميزه عن غيره.
وبالنسبة للهيبوستاسيس اعتبره البطريرك ساويروس أنه هو الأوسيا بكل ما له عندما يتفرد ويتخصخص وهو الشخص المعني بالأفعال. أي أن الهيبوستاسيس عنده كان هو الأوسيا بما يتضمنه من طبيعة عندما يأخذ وجوداً محدداً، وبالتالي فلا يمكن النظر إلى الهيبوستاسيس والطبيعة (الخصائص) الخاصة به كشيئين منفصلين أو يمكن أن ينفصلا، ومن هنا استطاع كل من البابا كيرلس السكندري والبطريرك ساويروس أن يستخدما المصطلحين كمترادفين. أما الدمشقي فقد نظر إلى الهيبوستاسيس والطبيعة بنوع من الثنائية أو الفصل حيث رأى أن الطبيعة هي مكون من مكونات الهيبوستاسيس ويمكن أن توجد منفصلة عن الهيبوستاسيس الخاص بها.
ولم ينظر البطريرك ساويروس إلى الهيبوستاسيس مثل الدمشقي بكونه مركزاً للوجود في ذاته كشيء منفصل عن الطبيعة أو أنه هو الذي يملك الأوسيا (أو الطبيعة)، ولكن بكونه هو ذاته الوجود الخاص المحدد للأوسيا بكل ما يميزه من خصائص (أو طبيعة). أي أن الأوسيا كحقيقة عامة مجردة بما يميزها من خصائص أو طبيعة ليس لها وجود حقيقي في عالم الزمان والمكان إلا إذا تواجدت كواقع خاص محدد وهذا هو الهيبوستاسيس.
لذلك لا يقول البطريرك ساويروس (مثل الدمشقي) أن الطبيعة لا يمكن أن توجد إلا داخل هيبوستاسيس، ولكنه يقول أن الطبيعة لا يمكن أن توجد إلا كـواقع هيبوستاسي. ورغم أن الدمشقي ذكر في بعض الأحيان أن الهيبوستاسيس هو الأوسيا الخاص، إلا أن المعنى الذي يمكن أن يُفهم من السياق هو أنه كان ينظر إلى الهيبوستاسيس بكونه الشخص (أو الفرد) المعني بالأفعال الذي يملك ’العمومي‘ (أي الأوسيا أو الطبيعة) ويمكنه أن يملك أكثر من طبيعة. وسيتضح الفكر اللاهوتي للدمشقي بصورة أكثر عندما يشرح نظرية ’التأقنم‘ (enhypostasia).
وتقدم نظرية التأقنم محاولة لتفسير الفكر اللاهوتي الخلقيدوني بالنسبة لوجود طبيعتين في هيبوستاسيس واحد. ويقول الدمشقي أنه في حالة اتحاد الطبائع في هيبوستاسيس واحد، فإن مكونات الهيبوستاسيس يُدعى كل منها ’إينهيبوستاتون‘ (enhypostaton)، وهذه المكونات (أو إينهيبوستاتا) [50] لا توجد مستقلة بذاتها ولكنها توجد محتواه في الهيبوستاسيس.
ويمكن لكل ’إينهيبوستاتون‘ من نوع معين ألا يوجد في الهيبوستاسيس الخاص به ولكن في هيبوستاسيس مشترك ينتمي للجنس ككل، ومثال ذلك في الإنسان فالروح والجسد ليسا هيبوستاسيسين بذاتيهما ولكنهما ’إينهيبوستاتا‘، والهيبوستاسيس البشري الذي يتكون منهما يكون هو الهيبوستاسيس الخاص بهما. ومن هنا فإن الإينهيبوستاتون هو طبيعة يتخذها هيبوستاسيس آخر وفيه تأخذ وجودها، وهذا هو ما حدث بالنسبة للطبيعة البشرية التي اتخذها هيبوستاسيس الله الكلمة.[51]
فبحسب نظرية ’التأقنم‘ لم يكن لناسوت المسيح هيبوستاسيس خاص به، ولكنه لم يكن بغير هيبوستاسيس، لأن الله الكلمة أعطاه الهيبوستاسيس الخاص به. ويقول الدمشقي: “جسد الله الكلمة لم يكن كائناً بشكل مستقل، ولا كان هناك شخص آخر بجانب شخص كلمة الله. وإنما على العكس ففي شخص الكلمة صار الجسد كائناً (أوجد)، أو بالأحرى أصبح له شخصية (تأقنم)، ولم يصبح (الجسد) شخصاً كائناً في استقلالية بذاته. ولهذا السبب لم يكن (الجسد) تنقصه الشخصية ولا أدخل شخصاً آخر في داخل الثالوث.”[52]
وكانت نظرية ’التأقنم‘ تتضمن اهتمامين أساسيين: أولاً، كانت تسعى لاستبعاد عقيدة وجود أربعة أقانيم (بعد التجسد) محل الثالوث، وثانياً، كانت تهدف إلى تأكيد وحدة هيبوستاسيس المسيح مع الحفاظ في نفس الوقت على حقيقة الطبيعتين. ورغم أن الجانب غير الخلقيدوني كان له نفس الاهتمام، إلا أنه لم يعبر عن ذلك من خلال نظرية ’التأقنم‘، ولكن من خلال مفهوم ’الاتحاد الهيبوستاسي‘ و’الهيبوستاسيس المركب‘.
فالهيبوستاسيس المركب في الإنسان عند البطريرك ساويروس لم يكن هو الهيبوستاسيس الواحد الذي يملك الطبيعتين ولكنه هو الكيان المتفرد المخصخص، الذي تكوَّن نتيجة الوجود المتزامن لاثنين من الأوسيا معاً أي أوسيا الجسد وأوسيا الروح، وفي تواجدهما المتزامن يكون لكل واحد منهما حقيقته الهيبوستاسية في ’الهيبوستاسيس المركب‘.
وكذلك في يسوع المسيح، وحَّد هيبوستاسيس الكلمة ـ الذي هو هيبوستاسيس أزلي ـ بنفسه ناسوتاً أصبح واقعاً هيبوستاسياً في اتحاده مع هيبوستاسيس الله الكلمة. وهيبوستاسيس يسوع المسيح الواحد ليس ببساطة هو هيبوستاسيس الله الابن، ولكنه هو هيبوستاسيس الله الابن في حالته المتجسدة. ولذلك كتب ساويروس في كتابه “ضد النحوي”: “إن الطبيعتين والهيبوستاسيسين اللذين تركب منهما (المسيح)، قد أُدركا في الاتحاد بلا أي اختزال وبلا أي تغيير. ولكن من غير الممكن أن نميِّز بروسوبون لكل منهما، لأنهما لم يوجدا (في المسيح) منفصلين سواء في تحديد معين (specific concretion) أو في ثنائية.
لأنه هو هيبوستاسيس واحد من كليهما،[53] وبروسوبون واحد على نحو موحد[54] (conjointly)، وطبيعة واحدة لله الكلمة المتجسد”.[55]
فهيبوستاسيس المسيح، بالرغم من أنه الهيبوستاسيس الإلهي لله الكلمة، إلا أن الناسوت أيضاً قد صار هيبوستاسياً في الاتحاد معه (أي في الحالة الهيبوستاسية)؛ وبنفس الطريقة فإن بروسوبون المسيح، بالرغم من أنه بروسوبون الله الكلمة، إلا أن الناسوت أيضاً قد صار بروسوبي فيه. ونستطيع أن نقدِّر مفهوم البطريرك ساويروس إذا نظرنا إلى حقيقة أن يسوع المسيح هو شخص تاريخي، وبكونه كذلك فإن له الهيبوستاسيس الخاص به مع البروسوبون.[56]
وتبقى نقطتان هامتان نتجتا من مفهوم الدمشقي عن الهيبوستاسيس وعن نظرية التأقنم. النقطة الأولى تختص بتأكيد الدمشقي أنه تطابقاً مع وجود الطبيعتين في الهيبوستاسيس الواحد، فإن يسوع المسيح له “مجموعة مزدوجة من الخواص الطبيعية تنتمي إلى الطبيعتين: أي إرادتين طبيعيتين الإلهية والبشرية، فعلين طبيعيين إلهي وبشري، حكمة ومعرفة إلهية وأخرى بشرية”. ومع ذلك يصر الدمشقي أنه في كلتا الطبيعتين يكون نفس الشخص هو الذي يعمل ويريد.
وهنا تبرز نقطة في غاية الأهمية، لأن الناسوت المتكون من جسد بشري له روح عاقل ـ بما أنه ليس إلا طبيعة في معناها العمومي المجرد ـ فإنه يحتاج إلى فاعل (subject) يعبِّر عن خواصه وملكاته. ولو قيل أن هذا الفاعل كان هو الله الكلمة (تمشياً مع نظرية التأقنم)، فسيعني ذلك أن كل شيء بشري في المسيح كان يُعبَّر عنه إلهياً، أما الأشياء الإلهية فلم يُعبر عنها إنسانياً!.[57]
والحقيقة أن تفسير الدمشقي للطبيعة البشرية في المسيح كان يعتريه كثير من الصعوبات، فعلى سبيل المثال كان الدمشقي يقول إن الطبيعة البشرية في المسيح كانت تستطيع أن ’تفعل‘ وأن ’تريد‘،فكيف يمكن أن نقول أن الطبيعة البشرية تفعل وتريد بحق والفاعل والمريد فيها هو الهيبوستاسيس الإلهي وحسب. وكذلك يقول عن تلك الطبيعة البشرية أنها هي الأوسيا كحقيقة عامة مجردة، فكيف يمكن للبشرية التي يؤكد أنها عامة ومجردة أن تصبح مرئية ومحددة من خلال اتحادها في هيبوستاسيس الله غير المرئي؟.
ويتعين علينا هنا أن نسترجع تعليم البطريرك ساويروس الذي كان يرى أن هيبوستاسيس المسيح، هو هيبوستاسيس الله الكلمة في حالته المتجسدة الذي تكوَّن من اتحاد اللاهوت والناسوت. وبهذه الطريقة حافظ البطريرك ساويروس على الحالة الأقنومية للناسوت، وكذلك أصبح من الممكن لنا أن ندرك ذهنياً (في المسيح) إمكانية التعبير عن القدرات والخصائص الإلهية بشرياً بجانب التعبير عن القدرات والخصائص البشرية إلهياً.
وكان التقليد السكندري دائم الإصرار على أن الله الكلمة المتجسد هو شخص (أو الفاعل في) التجسد،[58] ولم يقل أبداً أن الله الكلمة في حالته غير المتجسدة (unincarnate) أو حــــالته قبل المتجـسدة (pre-incarnate) هو شخص (أو الفاعل في) التجسد. وحيث إن الله الكلمة المتجسد هو شخص التجسد، فإن العنصر البشري كان هناك متحداً مع الله الكلمة في شخص المسيح الواحد.[59]
أما النقطة الثانية فتختص بمفهوم الدمشقي عن تأله ناسوت المسيح، فحيث إن هيبوستاسيس الله الابن عند الدمشقي كان هو شخص الناسوت، فإن الله الابن نفسه كان هو الذي يقوم بكل ما هو بشري بالإضافة لكل ما هو إلهي، وهذا هو السبب وراء تأله ناسوت المسيح.
ولم يكن تأله ناسوت المسيح بهذا الشكل هو تعليم الجانب غير الخلقيدوني، فبالنسبة لهم كان الناسوت الذي تخصخص وبالتالي أصبح في الحالة الهيبوستاسية، هو الذي صار ناسوت الله الابن أي جسده الخاص، ولهذا السبب امتلأ بالمجد الإلهي وتأله كنتيجة للإتحاد الهيبوستاسي وتبادل الخواص بين اللاهوت والناسوت.[60]
وقد حاول بعض الدارسين[61] تتبع المصادر التي استقى منها يوحنا الدمشقي تعريفه لمدلول المصطلحات اللاهوتية التي بنى عليها تعليمه الخريستولوجي، وتوصلوا إلى حقيقة أنه على الرغم من الاعتقاد السائد بأن الدمشقي اعتمد على المؤلفين الخلقيدونيين الذين سبقوه أمثال ليونتيوس،[62] إلا أنه أستحدث بعض المفاهيم المستقاة من الفلسفة الرواقية والأفلاطونية الجديدة، لذلك أكدت بعض الدراسات أن جذور تعليم الدمشقي ترجع في الحقيقة إلى الفلسفة المسيحية في القرون الوسطى أكثر من التقليد الآبائي الشرقي.[63]
كلمة ختامية:
ويتبين لنا من العرض السابق مقدار التباين والتطور في مدلول المصطلحات المستخدمة في الجدال اللاهوتي في الكنيسة في العصور الأولى. وفي الحقيقة كان الغموض والالتباس الذي صاحب مدلول تلك المصطلحات هو السبب وراء التداخل والتبادل في استخدامها على مدى التاريخ. فقد استخدم مصطلحي ’أوسيا‘ و’هيبوستاسيس‘ كمترادفين، وكذلك الحال بالنسبة لمصطلحي ’هيبوستاسيس‘ و’بروسوبون‘. كما استخدم مصطلحي ’فيزيس‘ و’هيبوستاسيس‘ ومصطلحي ’فيزيس‘ و’أوسيا‘ بطريقة تبادلية.
ولا يفوتنا هنا أن ننتبه إلى أنه كان هناك خروج من قبل بعض اللاهوتيين عن الخط العام الذي بدأ عند ق. أثناسيوس وكمل عند ق. كيرلس، فلم يكن إسهام أولئك اللاهوتيين المتأخرين هو شرح التقليد الآبائي ولكن كان استحداث مفاهيم غريبة عن ذلك التقليد.
لذلك يتعين ليس فقط أن تكون هناك معرفة واضحة بالمعاني المقصودة من تلك المصطلحات لدى كل تقليد وفي كل عصر، ولكن بالأحرى العودة من جديد لينابيع الفكر الآبائي الأرثوذكسي، حتى نستطيع أن نتحاور معاً على أساس مشترك صحيح من أجل الوصول إلى هدف الوحدة المنشود.
[1] Athanasius, Con. Ar., 1.11; 2.3.
[2] Athanas., Con. Gen. 2.
[3] Athanas., Ad Ser., 1.27; 2.3,5; 3.1; Epiph., Haer., 63.6; 65.1 ff
ورغم أن ق. أثناسيوس لم يكن هو الذي استخدم المصطلح اللفظي (coinherence) والذي يعني التواجد (الاحتواء) المتبادل، إلاّ إنه هو الذي أرسى هذا المفهوم. ارجع كذلك إلى ق. هيلاري (De Trin., 3.1) حيث إن له عبارة بليغة عن مفهوم أن الثلاثة أقانيم الإلهية “يحتوي كل منهم الآخر بالتبادل، وبالتالي فكل واحد منهم هو على الدوام يحتوي (envelopes) الآخر وأيضاً يُحتوى (enveloped) من الآخر الذي لا يزال هو يحتويه”.
[4] Athanasius, Epistula ad Epictetum, 3.
[5] Origin, in John ii 6,10-75.
[6] As quoted by St. Basil, De Sp. 72.
[7] Didymus, De Trin., 1.18 etc., cited by Newman, 436.
[8] Hahn: the Creed p. 209 cited by Beth Bak. P. 237.
[9] الأب متى المسكين، القديس أثناسيوس الرسولي، دير ق. أنبا مقار ط2، صفحة 422.
[10] المرجع السابق.
[11] Gregory/Basil, Ep., 38.4, 7; Basil, Con. Eun., 1.25; 2.12;3.1; Hom., 24.4.
[12] توماس. ف. تورانس، الإيمان بالثالوث، ترجمة المترجم، مراجعة د. جوزيف موريس، دار باناريون للنشر القاهرة، ط1 2007، صفحة 294.
[13] Gregory Naz., Or., 31.17ff; 34.13; 39.11; 40.41, 45; 42.16.
[14] Gregory Naz., Or., 20.7-11; 23.8; 31.6-9; 35.1-4; 41.9; 42.15.
[15] Gregory Naz., Or., 29.2; 31.14; 40.41; 42.15-16.
[16] P. G. 89: 113 D.
[17] ق. كيرلس السكندري، حوار حول الثالوث الجزء الأول، ترجمة وإصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية بالقاهرة 1999م، صفحة 44.
[18] المرجع السابق صفحة 44، 45.
[19] Cyril, Thes., MPG, 75.553.
[20] Cyril, In Jn., MPG, 74.28ff, 213ff, 552ff; Thes., MPG, 75.177ff, 528f, 568ff, etc.
[21] Cyril, MPG, 77.1120-1272.
[22] الأب فِ. سي. صموئيل، مجمع خلقيدونية إعادة فحص، ترجمة المؤلف، مراجعة دكتور جوزيف موريس، دار باناريون للنشر، ط1 2009، صفحة 538.
[23] المرجع السابق، صفحة 332 وما يليها.
[24] Patrologia Orientalis, op. cit., vol. XII, p. 195.
[25] Severus, Contra Grammaticum, op. cit., I, p. 56.
[26] Severus, Contra Grammaticum, op. cit., I, p. 57-59.
[27] Severus, Contra Grammaticum, op. cit., I, pp. 68E.
[28] Severus, Contra Grammaticum, op. cit., I, p. 74, 76.
[29] Severus, Contra Grammaticum, op. cit., I, p. 77.
[30] الأب فِ. سي. صموئيل، مجمع خلقيدونية إعادة فحص، ترجمة المؤلف، مراجعة دكتور جوزيف موريس، دار باناريون للنشر، ط1 2009، صفحة 432.
[31] Severus, Contra Grammaticum, op. cit., I, p. 181.
[32] بالطبع كان للابن الوحيد، البروسوبون الخاص به قبل التجسد، ولكن المقصود هنا هو أنه من غير الممكن أن يكون للاهوته البروسوبون الخاص المستقل وهو في حالة الاتحاد مع الناسوت.
[33] انظر صفحة 618.
[34] Severus, Contra Grammaticum, op. cit., I, pp. 77f.
[35] كان البطريرك ساويروس يتبع في هذا، نفس تعليم القديس كيرلس السكندري الذي قال في الرسالة (17: 14) “لذلك ينبغي أن تُنسب كل الأقوال التي في الأناجيل إلى شخص واحد، إلى هيبوستاسيس الكلمة الواحد المتجسد“.
[36] كانت الإرادة والفعل من وجهة نظر الجانب الخلقيدوني هما من ملكات الطبيعتين، ولذلك كان يصر على أن المسيح له إرادتان وفعلان.
ولكن من وجهة نظر الجانب غير الخلقيدوني، فإن الإرادة والفعل هما التعبير عن ملكتي القدرة على الاختيار والقدرة على الفعل، وحيث إن التعبير يخص الهيبوستاسيس الواحد لذلك فهو تعبير واحد، أي إرادة واحدة وفعل واحد. لأن الهيبوستاسيس هو الذي يستطيع فقط أن يُظهر الإرادة والفعل (أي يجعلهما واقعاً). فالقدرة على الاختيار والقدرة على الفعل هما من الملكات العامة للطبيعة ولكن الهيبوستاسيس هو الذي يُظهر الإرادة ويعبر عنها ويظهر الفعل ويعبر عنه.
[37] الأب فِ. سي. صموئيل، مجمع خلقيدونية إعادة فحص، ترجمة المؤلف، مراجعة د. جوزيف موريس، دار باناريون للنشر، ط1 2009، صفحة 435.
[38] Severus, Contra Grammaticum, op. cit., I, p. 145.
[39] Severus, Contra Grammaticum, op. cit., I, p. 200.
[40] Severus, Contra Grammaticum, op. cit., I, p. 154.
[41] لذلك كان يرى أن كلتا العبارتين “من طبيعتين” و”في طبيعتين” مقبولتين، وأن مصطلح ’طبيعة‘ يشير فيهما إلى ’العمومي‘.
[42] ولهذا كان النحوي يفسِّر الاتحاد الهيبوستاسي أنه اتحاد للطبيعتين (بالمعنى العام) في الهيبوستاسيس الواحد، أما البطريرك ساويروس فكان يفسره بأنه اتحاد لواقعين هيبوستاسيين اتحدا معاً في هيبوستاسيس مركب.
[43] John of Damascus, Dial. 31, 26-27.
[44] John of Damascus, Dial. 31, 7-19.
[45] John of Damascus, Dial. 5, 103-110; 48, 20-21; 42, 16-17.
[46] John of Damascus, Dial. 42, 16-20.
[47] John of Damascus, Dial. 47, 40-54.
[48] John of Damascus, Exp. 53, 2-5.
[49] John of Damascus, Dial. 42, 16-20.
[50] ’إينهيبوستاتا‘ هي صيغة الجمع لكلمة ’إينهيبوستاتون‘
[51] John of Damascus, Dial. 45, 7-22.
[52] John of Damascus, Exp. 53.
[53] يقول ق. كيرلس في رسالته إلى أكاكيوس أسقف مليتين: “لأنه يُعترف أن هناك طبيعة واحدة للكلمة، ولكننا نعرف أنه تجسد وصار إنساناً… وبناء على هذا فقط يُفهم إختلاف الطبيعتين أي الهيبوستاسيسين (الأقنومين)، لأن اللاهوت والناسوت ليسا هما نفس الشيء من جهة النوعية الطبيعية” (رسائل ق. كيرلس السكندري، الجزء الثالث، ترجمة وإصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية بالقاهرة 1995م. رسالة 40: 15 صفحة 51).
[54] أي بروسوبون واحد للهيبوستاسيس الواحد الذي تركب من اتحادهما معاً.
[55] Severus, Contra Grammaticum, op. cit., I, p. 187.
[56] الأب فِ. سي. صموئيل، مجمع خلقيدونية إعادة فحص، ترجمة المؤلف، مراجعة دكتور جوزيف موريس، دار باناريون للنشر، ط1/2009 ، صفحة 544.
[57] المرجع السابق صفحة 520.
[58] انظر المرجع رقم 35 صفحة 607.
[59] الأب فِ. سي. صموئيل، مجمع خلقيدونية إعادة فحص، ترجمة المؤلف، مراجعة دكتور جوزيف موريس، دار باناريون للنشر، ط1/2009، صفحة 560.
[60] المرجع السابق صفحة 572 وما يليها.
[61] Kotter, ed., Schriften Des Johannes Von Damaskos; Gerard Richter, Die Dialektik Des Johannes Von Damaskos.
[62] ظهرت بعض الدراسات التي تؤكد أن ليونتيوس ـ الذي كان أول من استخدم مصطلح ’إينهيبوستاتون‘ ـ لم يذكر على الإطلاق أنه يعني بهذا المصطلح الطبيعة التي بلا هيبوستاسيس والتي توجد في هيبوستاسيس آخر. وكان ليونتيوس قد قدَّم هذا المصطلح في كتابه (Contra Nestorianos et Eutychianos, PG 86, 1277C-1280B)
حيث أظهر الفرق بين الهيبوستاسيس و’الإينهيبوستاتون‘، فقال أن الهيبوستاسيس هو الوجود (Subsistence) المحدد وهو يشير إلى الفرد الخاص أو الشخص، أما ’إينهيبوستاتون‘ فهو الشيء الذي يوجد (That which subsists) أي الطبيعة.
ولكنه عبّر عن هذا بنوع من الفصل الذي أُسيء فهمه فيما بعد وأدى إلى نشوء نظرية ’التأقنم‘، حيث ذكر أن الطبيعة تأخذ وجودها في الهيبوستاسيس ولا تُرى في ذاتها، كما فسر هيبوستاسيس واحد في طبيعتين، بأن الطبيعتين المختلفتين اشتركتا في كينونة مشتركة أي أنهما لم توجدا مستقلتين ولكن وجدتا مع بعضهما البعض. وهذه الكينونة المشتركة هي الهيبوستاسيس الواحد، مثلما يحدث في الإنسان فالروح والجسد طبيعتان لهما هيبوستاسيس مشترك. انظر:
(F. LeRon Shults, A dubious Christological formula: from Leontius of Byzantium to Karl Barth. Theological Studies, Sep 1996; Aloys Grillmeier, S.J., “Die anthropologisch-christologische Sprache des Leontius von Byzanz und ihre Beziehung zu den Symmikta Zetemata des Neuplatonikers Porphyrius,” in Hermeneumata: Festschrift fur Hadwig Homer, ed. Herbert Eisenberger (Heidelberg: Carl Winter, 1990) 61-72; Brian E. Daley, S.J., “A Richer Union: Leontius of Byzantium and the Relationship of Human and Divine in Christ,” in Studia Patristica 24 (1993) 239-65).
[63] Anna Zhyrkova, A Philosophical Explanation of Hypostatical Union in John Damascene’s Fount of Knowledge.