Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

الخريستولوجي غير الخلقيدوني مقارنة مع الخريستولوجي الأنطاكي ج3

الخريستولوجي غير الخلقيدوني مقارنة مع الخريستولوجي الأنطاكي ج3

الخريستولوجي غير الخلقيدوني مقارنة مع الخريستولوجي الأنطاكي ج3

الجزء الأول: الخريستولوجي غير الخلقيدوني مقارنة مع الخريستولوجي الأنطاكي ج1

الجزء الثاني: الخريستولوجي غير الخلقيدوني مقارنة مع الخريستولوجي الأنطاكي ج2

4. بعض التعليقات على التعليم الخريستولوجي للجانب الخلقيدوني:

كان كل من طومس ليو وتعريف الإيمان الخلقيدوني ـ كما سبق أن رأينا ـ قد صدَّق على العبارة الأنطاكية “طبيعتين بعد الاتحاد” وذلك من خلال تبنيهما لمفهوم أن يسوع المسيح “يُعترف به في طبيعتين”. والحقيقة أنه ليست لدينا أية وسيلة للتحقق من المعنى الذي كانت وفود مجمع عام 451م تراه في مصطلح ’طبيعة‘ في ذلك الوقت. وحسب ما لدينا من أدلة حتى الآن، لم يقم الجانب الخلقيدوني بتوضيح معنى ذلك المصطلح طوال القرن الخامس.

وأمام معارضة المنتقدين للمجمع، بدأ الجانب الخلقيدوني في التطرق لهذه المسألة في القرن السادس. ومن خلال ذلك التناول، نشأ تقليد يَعتبر مصطلح ’طبيعة‘ مرادفاً للـ ’أوسيا‘ ويأخذه بالمعنى العام المجرد. وفي الحقيقة، كان هذا التفسير هو المخرج الوحيد الملائم والمتاح للمهتمين بالدفاع عن مجمع خلقيدونية عند تعرضهم لعبارة “في طبيعتين”.

ولكن الجانب الخلقيدوني، من خلال تعريف مصطلح ’طبيعة‘ على هذا النحو، قد ابتعد عن الهدف الذي عبَّر عنه وهو الادعاء أن مجمع خلقيدونية قدَّم تركيباً (لاهوتياً) مكوناً من المبادىء اللاهوتية التي يتضمنها التقليد السكندري والأنطاكي والغربي.* كما أن الجانب الخلقيدوني بهذا أيضاً (أي من خلال ذلك التعريف) قد تبنى موقفاً أكثر تضاداً للنسطورية وأكثر تضاداً للأنطاكية من الموقف الذي اتخذه الجانب غير الخلقيدوني في أي وقت مضى.

وكان موقف الجانب الخلقيدوني هو الموقف الذي قدَّمه رجال مثل يوحنا الدمشقي من خلال عقيدة ’التأقنم‘ (enhypostasia) والتي تتكون من النقاط التالية:

والحقيقة أن تلك النقطة الأخيرة قد أصابت ناسوت المسيح تماماً، ناهيك عن أن الواقع البشري الذي يقولون عنه هنا هو أبعد ما يكون عن الوضوح.

وعلى سبيل المثال، يذكرون أن تلك الطبيعة البشرية تستطيع أن ’تفعل‘ وأن ’تريد‘، ولكنهم مع ذلك يقرون بأنها ليست أقنومية (not hypostatic).* وكذلك يقولون عن تلك الطبيعة البشرية أنها حقيقة عامة مجردة، ورغم ذلك يتكلمون عنها بكونها محددة وخاصة. فكيف يمكن للبشرية التي يؤكدون أنها عامة ومجردة أن تصبح مرئية ومحددة من خلال تلازمها (اتحادها) في الله غير المرئي؟.

وكانت هذه هي بعض التساؤلات التي تحير كل من يريد أن يدرس الموقف الخلقيدوني بشكل دقيق ومتفحص. والحقيقة أنه إلى أن يتم تفسير تلك التساؤلات وتوضيحها، فإننا ينبغي أن نصر على أن التعليم الخريستولوجي الخلقيدوني كما شرحه التقليد ’التوماوي‘ (Thomistic tradition) ـ الذي أشار إليه سوليفان ـ ليس بعيداً عن القصور. وإذا كان الموقف الأنطاكي ضعيفاً فيما يخص تأكيد وحدة المسيح، فإن شرح التعليم الخريستولوجي الذي حفظته مدرسة توما الأكويني لا يقل عنه ضعفاً فيما يخص مسالة حقيقة المسيح البشرية من وجهة النظر التاريخية.

وكما سبق أن ذكرنا، إذا لم يكن يوحنا الدمشقي يقر بالحالة الأقنومية لناسوت المسيح، فإن الموقف اللاهوتي الذي قدَّمه سيكون معيباً بنفس المقدار، أما إذا كان يقر به ـ ولكنه يميل بصورة مفرطة تجاه اليوليانية ـ فإن شرحه اللاهوتي الخاص بشخص المسيح لن يحتوي عندئذ على أية فكرة ذات قيمة (أو إضافية) لم يكن البطريرك ساويروس بالفعل قد تمسك بها.

 

5. كلمة ختامية:

كان اللاهوتيون في التقاليد الثلاثة* يتفقون ـ على الأقل من جهة الهدف ـ على تأكيد كمال ألوهة وكمال بشرية المسيح ووحدته الحقيقية. وكان عدم الاتفاق بينهم يرجع فقط إلى الطريقة التي يشرحون بها تلك المفاهيم الثلاثة. فالتعليم الخريستولوجي الأنطاكي على سبيل المثال كان يؤكد الألوهة والبشرية على أنهما شخصين أو هيبوستاسيسين، ونتيجة لذلك كان تفسيرهم لوحدة المسيح ضعيفاً.

أما التعليم الخريستولوجي للجانب الخلقيدوني ـ بحسب ما قدَّمه لاهوتيو القرن السادس ـ فكان قوياً في تأكيده على ألوهة المسيح ووحدته، ولكن بالنسبة لحقيقته البشرية من الناحية التاريخية فإنه يظل في حاجة إلى إيضاح أكثر. وكانت هناك بالتأكيد نقاط اتفاق رائعة بين الجانبين الخلقيدوني وغير الخلقيدوني.

ومن بين التقاليد الثلاثة الخريستولوجية، لم يكن التقليد الذي قدمه الجانب الخلقيدوني منذ القرن السادس هو الذي حفظ مفاهيم الألوهة والبشرية والوحدة (في المسيح) بشكل أكثر قبولاً وارضاءً من التقليدين الآخرين، ولكن الذي فعل ذلك في الحقيقة كان هو الموقف اللاهوتي الذي حفظه البطريرك ساويروس الأنطاكي والجانب غير الخلقيدوني.

وحتى إذا افترضنا أن مجمع خلقيدونية ـ كما يزعمون ـ قد نجح في تقديم تركيب (لاهوتي) مكوّن من التقاليد المتنوعة التي كانت قائمة في الكنيسة في ذلك الوقت، فإن الجانب الخلقيدوني (الذي قدَّم تعاليمه منذ القرن السادس) لم يتبع نفس هذا المسار، ولكنه على العكس في محاولته أن يؤكد أنه هو الوحيد الذي يمثل الأرثوذكسية، أهمل موقف المنتقدين للمجمع وأنشأ تعليماً خريستولوجياً تخلى حتى عن أي مساهمة ذات قيمة لمدرسة أنطاكيا.

ومن الضروري قبل أن نختم هذه المناقشة، أن نبحث الأساس الذي بنى عليه أندريه (Andre de Halleux) رأيه في تعليم مار فيلوكسينوس أسقف منبج حيث رأى فيه مفهوم ’المونوفيزيتيزم‘ (أي أصحاب الطبيعة الوحيدة). ويؤكد أندريه أنه بالنسبة لمار فيلوكسينوس كان الله الكلمة هو شخص التجسد، وأن هذا التعليم يشكل العنصر الرئيس لمفهوم ’المونوفيزيتيزم‘ في الفكر اللاهوتي لأسقف منبج.[1]

وأمام هذا الرأي يتعين علينا أن نذكر ملاحظتين هامتين. الملاحظة الأولى هي أن قراءة أندريه للتعليم الخريستولوجي لمار فيلوكسينوس في تلك النقطة تعتبر نوعاً من التبسيط المبالغ فيه إن لم تكن نوعاً من التحريف أو التشويه. فمن الحقيقي أن مار فيلوكسينوس قد يعترف ـ متتبعاً في ذلك تعليم الآباء السكندري* ـ أن الله الكلمة المتجسد هو شخص (أو الفاعل في) التجسد، ولكن تعليمه هنا لم يكن أن الله الكلمة في حالته غير المتجسدة (unincarnate) أو قبل المتجسدة (pre-incarnate) هو شخص (أو الفاعل في) التجسد.

وحيث إن الله الكلمة المتجسد هو شخص التجسد، فإن العنصر البشري كان هناك متحداً مع الله الكلمة في المسيح الواحد. ويتضح هذا الأمر جداً من خلال تأكيد مار فيلوكسينوس أن الله الكلمة هو فوق الألم والعذاب من ناحية، وأنه في التجسد من الناحية الأخرى تحمل الله الكلمة العذاب والخزي والموت بصورة أشد من أي واحد آخر.[2] وبجانب هذا أكد مار فيلوكسينوس أنه في التجسد لا الله الكلمة ولا الناسوت قد تغير إلى الآخر.[3]

وليس من الصعب تفسير هذا التعليم الذي قدَّمه مار فيلوكسينوس، لأن الاعتراف بحقيقة (وجود) شخص بشري في المسيح في مقابل الشخص الإلهي كان عند مار فيلوكسينوس هو إنكار للتجسد، لأن الرب المتجسد بالنسبة له هو وحدة (unity). وحيث إن الإنسان مخلوق على صورة الله، فقد أُعيد خلقته في الله الكلمة بواسطة الاتحاد الهيبوستاسي من خلال التجسد.

وبهذه الطريقة بلغ الناسوت إلى اتحاده النهائي مع الخالق، دون أن يفقد حالته الشخصية المخلوقة، لأن الله يظل الله، والإنسان يظل مخلوقاً كما هو. وحيث إن الإنسان قد خُلق على صورة الله، فمن الممكن أن يصير الله متجسداً، بدون أن يفقد الله أو الإنسان هويته الخاصة به.

ولكن في حالة التجسد، كل ما هو إلهي صار ينتمي للناسوت، وكل ما هو بشري أصبح يُنسب لله، وهذه الحالة من الاتحاد بين الله والإنسان هي ما تحققت في يسوع المسيح بواسطة التجسد. وكان مار فيلوكسينوس واضحاً في أنه من خلال توسط يسوع المسيح، سنبلغ نحن أنفسنا إلى الاتحاد مع الإلهي في الحياة الآخرة كما نستدل على ذلك في سريّ المعمودية والإفخارستيا المقدسة.

وهكذا لم يكن التعليم الخريستولوجي لمار فيلوكسينوس هو إصرار ساذج على أن الله الكلمة هو شخص التجسد، ولكنه في الحقيقة كان أكثر حذقاً من ذلك وكان دائم التأكيد على وحدة المسيح بثبات حقيقي.

وهناك ملاحظة ثانية يتعين علينا ذكرها أمام سعي أندريه لإثبات مفهوم ’المونوفيزيتيزم‘ في التعليم اللاهوتي لأسقف منبج. فكما رأينا[4] كان مفهوم أن الله الكلمة هو شخص التجسد هو تعليم الجانب الخلقيدوني نفسه منذ بداية القرن السادس على الأقل (وليس مفهوم مار فيلوكسينوس). وعلى سبيل المثال، كانت نظرية ’التأقنم‘ (enhypostasia) تشدد بالتحديد على ذلك المفهوم، حيث أصرت تلك النظرية على أن الله الكلمة أصبح هو شخص الناسوت بالإضافة إلى كونه شخص لاهوت الابن.

وكان هذا هو نفس الموقف ـ كما لاحظ سوليفان[5] ـ الذي تمسك به ’التوماويون‘ (نسبة إلى مدرسة توما الأكويني). وحسب سوليفان، كان ناسوت المسيح بالنسبة لتلك المدرسة عاماً ومجرداً، على الرغم من أنه كان في نفس الوقت محدداً وخاصاً. وقد لجأوا إلى ذلك التفسير ليتجنبوا افتراض وجود كيان بشري (مستقل) (human suppositum) في المسيح، فإذا لم يكن هناك كيان بشري (مستقل) في المسيح، فإنه ينبغي لناسوته أن يكون له شخصه في شخص الله الكلمة.

والسؤال الذي يحتاج هنا إلى توضيح هو: هل الخلقيدونية التي أشار إليها شارلز مولر في كتابه باسم ’الخلقيدونية المتشددة‘* (strict Chalcedonianism) والتي يبدو أن أندريه نفسه يثني عليها، كان لها تفسير مختلف لتلك النقطة عن ذاك الذي لنظرية ’التأقنم‘ أو لمفهوم ’التوماويين‘، ويبتعد في نفس الوقت عن التقسيم النسطوري؟. والحقيقة أن أندريه لم يقم بمناقشة تلك القضية.

وكان تعريف الإيمان الخليقدوني ـ كما رأينا ـ يتكلم عن ’شخص واحد‘ بكونه يُعرف ’في طبيعتين‘، وشخص التجسد ينبغي بكل يقين أن يكون ذلك الشخص الواحد. فمن هو ذلك الشخص الواحد؟ فلو أن الطبيعتين كانتا بحيث أن كل منهما هو شخص (فاعل) فسيصبح من العسير أن نفهم كيف استبعدت الخلقيدونية المتزمتة مشكلة النسطورية (وهي تعترف أن المسيح يُعرف في طبيعتين). وإذا أكدوا أن الشخص الواحد هو الذي يُفعِّل (activate) الطبيعتين، فلن يحل ذلك المشكلة.

فإذا كانت الخلقيدونية المتزمتة تريد بالحقيقة أن تستبعد النسطورية فإن عليها أن تختار بين التعليم الخريستولوجي للبطريرك ساويروس والجانب غير الخلقيدوني من ناحية وبين التعليم الخريستولوجي لنظرية ’التأقنم‘ من الناحية الأخرى.

وسواء كان لدى الخلقيدونية المتزمته إجابة شافية على ذلك السؤال أم لا، فإن الحقيقة التي ينبغي التسليم بها هي أنه لو كان التعليم الخريستولوجي لمار فيلوكسينوس يمكن أن يوصف بـ ’المونوفيزيتيزم‘ (بسبب الإدعاء أنه يؤمن أن الله الكلمة هو شخص التجسد)، فإن الموقف الذي أكدته نظرية ’التأقنم‘ يمكن أن يُوصف هو الآخر بـ ’المونوفيزيتيزم‘ بنفس المقدار إن لم يكن بدرجة أكبر.

           

*   كان هذا الادعاء يعتمد على زعم الخلقيدونيين أنه إذا كان التقليد الأنطاكي يركز على كمال ألوهة وكمال بشرية المسيح (مع فشله في التأكيد على وحدته) وإذا كان التقليد السكندري يؤكد على وحدة المسيح بينما فشل في التأكيد على كمال بشرية المسيح (حسب زعمهم)، فإن مجمع خلقيدونية جمع التقليدين معاً إذ أكد على الوحدة من خلال الهيبوستاسيس الواحد، كما أكد على كمال الألوهة والبشرية من خلال عبارة في طبيعتين.

*  كيف يمكن القول أن الطبيعة البشرية تستطيع أن تفعل وأن تريد بحق والفاعل والمريد فيها هو الهيبوستاسيس الإلهي وحسب؟.

*   أي التقليد السكندري (غير الخلقيدوني) والتقليد الأنطاكي (الخاص بالمدرسة الأنطاكية) والتقليد الخلقيدوني (الذي نشأ منذ مجمع خلقيدونية وتطور في القرن السادس).

[1]  مرجع سابق صفحة 359، 363، 514.

*  ارجع إلى ق. كيرلس في رسالته الثالثة إلى نسطوريوس حيث يذكر أن كلا الأقوال الإنسانية والأقوال الإلهية قد قيلت بواسطة شخص واحد هو هيبوستاسيس الكلمة الواحد المتجسد (الهيبوستاسيس المركب).

[2]  انظر صفحة 461.

[3]  انظر المرجع رقم 8 صفحة 369.

[4]  انظر صفحة 512.

[5]  انظر صفحة 537 وما يليها.

 *  أي الجانب الخلقيدوني الذي لم يتجاوب مع التغيير الذي قام به الخلقيدونيون في الشرق في القرن السادس ولذلك سمي بالخلقيدونية المتزمتة، بينما سمي الجانب الخلقيدوني في الشرق بالخلقيدونية الجديدة.

الخريستولوجي غير الخلقيدوني مقارنة مع الخريستولوجي الأنطاكي ج3

Exit mobile version