الخريستولوجي غير الخلقيدوني مقارنة مع الخريستولوجي الأنطاكي ج2
الجزء الأول: الخريستولوجي غير الخلقيدوني مقارنة مع الخريستولوجي الأنطاكي ج1
الجزء الثالث: الخريستولوجي غير الخلقيدوني مقارنة مع الخريستولوجي الأنطاكي ج3
3. موقف غير الخلقيدونيين بالنسبة لتعليم المدرسة الأنطاكية:
لم تكن الاعتراضات التي ذكرها سوليفان ضد الموقف الأنطاكي هي بالضبط نفس اعتراضات غير الخلقيدونيين عليه. وفي الحقيقة كان الإصرار الأنطاكي على اتحاد هيبوستاسيسين،* وعلى أن بروسوبون المسيح هو البروسوبون المتكوِّن من اتحاد حقيقتين أقنوميتين (two hypostatic realities)، هو نفس الموقف الذي تمسك به البطريرك ساويروس ولكن بدون أن يقسم أو يفصل الطبيعتين الواحدة عن الأخرى. فبالنسبة للبطريرك ساويروس كانت هناك ثلاثة أشياء قد حدثت (وتزامنت) معاً:
- كوَّن الله الكلمة الناسوت في رحم العذراء بواسطة الروح القدس بدون تدخل ذَكَري.
- تم اتحاد لاهوت الكلمة بالناسوت منذ بداية تكوّن الناسوت.
(ج) كان تفرد وتخصخص (individuation) الناسوت منذ بداية اتحاده مع اللاهوت، وبهذا صار الناسوت في الحالة الأقنومية (hypostatic).
ويمكننا مقارنة هذا الموقف مع مفهوم يوحنا الدمشقي الذي كتب: “وهكذا تمت ثلاثة أشياء في وقت واحد؛ اتخاذ الجسد، ونشوء هذا الجسد، وتأليهه”.[1]
ولا ينبغي على الرغم من ذلك أن يُساء فهم موقف البطريرك ساويروس، فهو بتأكيده على الحقيقة الأقنومية لناسوت المسيح لم يكن يقر أن هناك مركزين محددين للوجود والفعل في المسيح الواحد كما يفعل الأنطاكيون، لأنه في نفس الوقت كان يصر على ’الهيبوستاسيس الواحد‘ بكونه (هيبوستاسيس) ’مركب‘. وعندما تزامنت الطبيعتان في ’الهيبوستاسيس المركب‘ الواحد، أصبح للمسيح البروسوبون الواحد الخاص به أيضاً.
وموضع (أو مركز) الاتحاد ليس هو البروسوبون، ولكنه الهيبوستاسيس، لذلك فالاتحاد أيضاً هو اتحاد هيبوستاسي.
ويمكننا أن نقول أن هيبوستاسيس المسيح، بالرغم من أنه الهيبوستاسيس الإلهي لله الكلمة، إلا أن الناسوت أيضاً قد صار أقنومياً (أي في الحالة الهيبوستاسية) في الاتحاد معه؛ وبنفس الطريقة فإن بروسوبون المسيح، بالرغم من أنه بروسوبون الله الكلمة، إلا أن الناسوت أيضاً قد صار بروسوبي فيه.
ونستطيع أن نقدِّر مفهوم البطريرك ساويروس إذا نظرنا إلى حقيقة أن يسوع المسيح هو شخص تاريخي، وبكونه كذلك فإن له الهيبوستاسيس الخاص به مع البروسوبون. وهذا الأمر هو الذي استطاع التعليم الخريستولوجي للبطريرك ساويروس أن يحافظ عليه.
وهنا نرى أنه لم يكن الخريستولوجي الخلقيدوني ـ كما يُزعَم ـ هو الذي قام بتجميع التقاليد المتنوعة في الكنيسة، ولكن التعليم الخريستولوجي لذلك اللاهوتي غير الخلقيدوني (ساويروس) هو الذي كان يتضمن ذلك الاهتمام الأنطاكي بصورة فعالة.
ويمكننا في هذا الصدد أن نسترجع ما أكده البطريرك ساويروس بخصوص ’العصرين‘ (the two ages).[2] وكان نوريس[3] (Norris) قد أظهر أن البطريرك ساويروس لديه مثل ثيؤدور عقيدة وجود ’عصرين‘ أو ’مرحلتين‘ في عمل الله الابن. حيث كان الله الابن في الأولى غير متجسد (unincarnate) أو قبل متجسد (pre-incarnate)، ومن ثم كان الهيبوستاسيس والبروسوبون الخاص به إلهياً وحسب.
ولكن في المرحلة الثانية كان حقيقةً (أو واقعاً) داخل التاريخ البشري، وقد دخل في المجال التاريخي من خلال ولادة ثانية من أم بشرية، والتي أتخذ منها ناسوتاً صار في الحالة الهيبوستاسية المحددة في الاتحاد معه. وهذا هو تدبير الله الابن، الذي صار فيه للابن المتجسد هيبوستاسيس مركب مع البروسوبون الخاص به.[4]
وحيث إن موضع (أو مركز) الاتحاد هو الهيبوستاسيس، فقد أصر البطريرك ساويروس على تبادل الخواص في الاتجاهين معاً، ونتيجة لذلك أمكن للأمور الإلهية أن تُنسب إلى الناسوت، كما أمكن للأمور البشرية أن تٌنسب إلى اللاهوت.[5] ومن هنا استطاع البطريرك ساويروس واللاهوتيون غير الخلقيدونيين الآخرون أن ينسبوا ـ بتأكيد ـ إلى الله الابن:
الحبل (به) في رحم أم بشرية، والولادة منها بعد المسار الطبيعي للحمل؛ وتحمله لكل الخبرات البشرية باستثناء الخطية؛ ومعاناته للآلام الجسدية والأحزان النفسية؛ وموته المهين على الصليب. ولم يكن هناك أي انتقاص للأمور البشرية في المسيح الواحد، وذلك لأن الناسوت الذي اتخذه الله الابن من العذراء مريم كان خاضعاً لكل الأمور الطبيعية التي للناسوت، وله جميع الخواص والملكات البشرية الجوهرية.
ولكن بسبب الاتحاد الهيبوستاسي ـ الذي أنشأ هيبوستاسيس واحد مركب ـ فإن التعبير عن كل تلك الخواص والملكات يتم في المسيح وفي داخل الاتحاد فقط. وهيبوستاسيس يسوع المسيح الواحد كان هو الشخص المحدد الذي عاش في المجال التاريخي، والذي فيه اتحد الله الابن والناسوت المتفرد المخصخص في أقصى العمق الداخلي والشخصي لكيانه.
وكان البطريرك ساويروس لديه اعتراض مزدوج على الموقف الأنطاكي. فمن ناحية كان الأنطاكيون يؤمنون أن الناسوت تكوَّن في رحم العذراء قبل الاتحاد، وقد ناقشنا تلك النقطة قبل ذلك،[6] ومن الناحية الأخرى كانوا يفصلون الأشياء الإلهية عن الأشياء البشرية في المسيح.
وكانت النقطة الأساسية في انتقاده الأول لهم هي إيمانهم بأن الناسوت أصبح هيبوستاسيس حتى قبل، وبمعزل عن، الاتحاد مع الله الابن. ولهذا أظهر البطريرك ساويروس أنه بالنسبة للاهوتيين الأنطاكيين أمثال ديودور وثيؤدور ونسطوريوس وثيؤدوريت أسقف قورش وأندراوس أسقف سموساطا وغيرهم كان هناك فقط اقتران لله الابن مع الإنسان يسوع. والحقيقة أن الدراسات الحديثة للموقف الأنطاكي قد أظهرت أن قراءة غير الخلقيدونيين أمثال البطريرك ساويروس للموقف الأنطاكي لم تكن خاطئة.
أما بالنسبة للإنتقاد الثاني، فقد أظهر الدارسون المعاصرون أن البطريرك ساويروس والقادة الذين شاركوه نفس المعتقد كانوا محقين أيضاً في حكمهم على النقطة الخاصة بفصل الأنطاكييين للأشـياء الإلهية عن الأشـــياء البشرية (في المسيح). فبالنســبة لثيــؤدور ـ كما أظهر سوليفان ـ “لم يكن الكلمة هو الذي تألم، ولكنه الإنسان المُتّخَذ”.[7]
كما استخرج نوريس أيضاً فقرة تؤيد نفس المفهوم جاء فيها:[8] “وعندما نسمع الأسفار تقول أن يسوع قد ارتفع أو تمجد، أو أن شيئاً قد أُضيف إليه، أو أنه أخذ سيادة على كل الأشياء، فلا ينبغي أن نفهم ذلك على الله الكلمة ولكن على الإنسان المُتّخَذ”. والنقطة التي أبرزها ثيؤدور هنا ـ كما في كل مكان آخر ـ هي أن الأشياء البشرية لا يمكن أن تُنسب إلى الله الكلمة. وعند تلك النقطة بالتحديد كان التقليد غير الخلقيدوني يختلف مع الموقف الأنطاكي ولا يلتقي معه أبداً.
وعلاوة على ذلك، كانت هناك نقطة أخرى ساهم الدارسون المعاصرون في بحثها، مما قد يجعلنا نذهب إلى أبعد من ق. كيرلس واللاهوتيين غير الخلقيدونيين القدماء، في تقييمنا لدواعي الموقف الأنطاكي. فقد أظهر الدارسون المعاصرون أن اللاهوتيين في المدرسة الأنطاكية كانوا قد ورثوا خلفية فكرية لا تجعلهم قادرين تلقائياً أن يعترفوا بالاتحاد الهيبوستاسي للاهوت والناسوت، ولا أن ينسبوا الأشياء البشرية لله الابن، ولا أن يستوعبوا مفهوم الهيبوستاسيس الواحد (المركب) ليسوع المسيح.
وفي الوقت نفسه، وبينما ظل الأنطاكيون في بيئتهم الفكرية الخاصة بهم، حاولوا أن يعترفوا بإيمان الكنيسة بيسوع المسيح في ضوء التقليد الكتابي، وأكدوا أنه كان بالفعل النموذج الوحيد لنوعه (sui generis). فعلى سبيل المثال، كان ثيؤدور مقتنعاً أن الله والإنسان غير متكافئين بصورة جوهرية.
وكان اللاهوتي الأنطاكي يؤمن أن الله حال في العالم بالجوهر (الأوسيا) وبالفعل أو الطاقة (الإنرجيا)، وعلى هذا الأساس رفض ثيؤدور أن يكون الله الكلمة قد سكن في الإنسان المُتّخَذ سواء بالجوهر أو بالفعل أو الطاقة، وأصر أن السكنى كانت بحسب مسرة الإرادة.* وأوضح ثيؤدور أنه حتى السكنى بهذا الوصف كانت مختلفة في النوعية عن سكنى الله بمسرة الإرادة في القديسين.[9]
ومن الجدير بالذكر أيضاً، أنه على الرغم من أن الأنطاكيين لا يقولون إن الله الكلمة قد حُبل به في رحم الأم البشرية أو أنه وُلد منها، إلاّ أنهم يؤكدون الميلاد البتولي (Virgin birth) وبذلك يعترفون أن الله أخذ المبادرة في إحضار الإنسان المُتّخَذ إلى الوجود. ويصر ثيؤدور بجانب هذا على أن الإنسان المُتّخَذ “قد سكنه الله الكلمة منذ بداية تكوينه في رحم الأم”؛ وأن الاتحاد لم يكن بين إثنين من البروسوبون؛ وأن اقتران الله الكلمة والإنسان لم يكن مجرد تعاون بين الله والإنسان.[10] وبالنسبة لأسقف موبسويستا، فإن الله الكلمة اقترن بالإنسان المُتّخَذ منذ أول تكوينه في رحم الأم*، ولذلك نجده يقول:[11]
لقد أتى الله الكلمة ليكون فيه عندما تكون. لأنه لم يكن فيه فقط عندما صعد إلى السماء، ولكن أيضاً عندما قام من الأموات. ولا هو كان فيه فقط عندما قام من الأموات، ولكن أيضاً عندما صُلب وعندما عُمِّد وعندما كان يحيا الحياة الإنجيلية بعد عماده، بل وحتى قبل عماده عندما كان يكمِّل كل متطلبات الناموس.
وعلاوة على ذلك، كان أيضاً فيه حتى عندما وُلد، وعندما كان في رحم أمه مباشرة منذ أول تكوينه. لأنه (أي الله الكلمة) فرض نظاماً على الأشياء التي تعنيه، محضراً إياه (أي الإنسان المُتّخَذ) إلى الكمال خطوة بخطوة.
وذكر نوريس أن ثيؤدور كان يؤمن أن “الله الكلمة كان هو الذي أحضره (أي الإنسان المُتّخَذ) إلى الولادة، وقاده إلى العماد، وسلمه إلى الموت وأقامه، وبالتالي هو الذي منحه الطبيعة غير المائته وغير المتغيرة التي يوجد فيها الآن في السماء.[12]
ويرى نوريس أنه من الممكن أن نستخلص الاستنتاجات الثلاثة التالية حول التعليم الخريستولوجي لثيؤدور:
- لم يكن مفهوم ثيؤدور عن الاتحاد أنه ’تعاون‘، ولكن التعاون بين الله الكلمة والإنسان هو نتيجة الاتحاد (الذي في صورة اقتران). ولم يؤثر الاتحاد على النشاط الأخلاقي للإنسان (المُتّخَذ)، كما لم يكن النشاط الأخلاقي هو تفسير ذلك الاتحاد.
- إن الاتحاد هو نتيجة التنازل الإلهي، الذي كان سابقاً، وضرورة أساسية، لما قد تم في ومن خلال الإنسان (المُتّخَذ).
(ج) لم يقدِّم ثيؤدور أي تفسير للاتحاد أكثر من تأكيده على أنه كان سكنى حدثت بمسرة الإرادة الإلهية. وفي نفس الوقت، علق ثيؤدور أهمية كبيرة على علاقة الخضوع والتبعية بين الله الكلمة والإنسان والتي تجعل ’الاقتران‘ بين الشخصين اتحاداً عضوياً (متناسق الأجزاء).[13]
وهكذا يتضح أن التعليم الخريستولوجي الأنطاكي يستحق تقييماً أكثر موضوعية مما أُعتيد أن يُعطى له. ففي إطار بيئتهم الفكرية (التي ورثوها)، حاول رجال مثل ثيؤدور أن يقدموا موقفاً لاهوتياً لم يكن ـ على الأقل من وجهة نظرهم ـ هو الموقف الذي يعني وجود ابنين.
وإذا قارنا بين الفكر اللاهوتي عند البطريرك ساويروس وعند ثيؤدور، سنجد أن البطريرك ساويروس يشارك ثيؤدور الاهتمام في عدد من النقاط بينما يلتزم بموقفه (المختلف) عند مسألة وحدة المسيح. وقد ذكرنا قبلاً نقطتين من تلك النقاط، وهما بالتحديد:
أولاً أن مصطلح ’طبيعة‘ كان يعني في النقاش الخريستولوجي شيء محدد وخاص (أي الطبيعة في واقعها الهيبوستاسي)، وثانياً أن شخص يسوع المسيح لم يكن مجرد هيبوستاسيس وبروسوبون الله الكلمة وحسب. وبالرغم من أن البطريرك ساويروس وثيؤدور لم يتفقا فيما بينهما على (محتوى) هاتين النقطتين، إلا أنهما كانا يشتركان على الأقل في نفس المبدأ العام، وكلاهما لم يكن يوافق وجهة النظر الخلقيدونية (من جهة هاتين النقطتين).
وهناك أيضاً نقطة ثالثة، كان الاتفاق بين البطريرك ساويروس وثيؤدور حولها أكثر صراحة مما هو بين ثيؤدور والجانب الخلقيدوني، وتتعلق هذه النقطة بحالة الإنسان قبل سقوط آدم. ويرى نوريس أنه كان يوجد رأيان (أو مفهومان) حول هذا الأمر في كتابات ثيؤدور: الرأي الأول يتضمن مفهوم أن الإنسان خُلق في الأساس غير قابل للموت ولكنه صار قابلاً للموت بواسطة الخطية.
وبالرغم من ذلك، كان هناك رأي آخر ظهر في فقرات أخرى من كتابات ثيؤدور حيث أصر فيها على أن الإنسان خُلق قابلاً للموت، وأن الموت هو شيء يتعلق بطبيعة الإنسان.[14]
وكما سبق وأظهرنا،[15] كانت وجهة النظر الثانية هي التي يتمسك بها البطريرك ساويروس. وكان البطريرك ساويروس يتفق كذلك مع ثيؤدور في أن ناسوت المسيح قد تقلد بالمجد والكرامة والسيادة الإلهية، وكان هذا المفهوم يعتمد (عند ساويروس) على الاتحاد الهيبوستاسي الذي جعل تبادل الخواص بين اللاهوت والناسوت ممكناً.
ويوجد أمر آخر أكثر أهمية يتفق فيه كل من ثيؤدور والبطريرك ساويروس ويوحنا الدمشقي يتعلق بالدور الذي قام به الناسوت في عمل المسيح الخلاصي. ويؤكد البطريرك ساويروس أننا قد خلصنا بموت المسيح، ولذلك يصر ـ مقتبساً من العبرانيين 2 ـ على أن اتخاذ الله الكلمة للناسوت كان أمراً لا غنى عنه لاتمام خلاص الجنس البشري.
وكان المفهوم الأساسي هنا ـ كما سبق أن ذكرنا[16] ـ هو أن أبانا الأول آدم قد هُزم في المعركة بواسطة الشيطان، ووفقاً لذلك أصبح كل الجنس البشري تحت عبودية العدو، ولذلك اقتضت العدالة أنه ينبغي أن يقوم الإنسان نفسه بالقتال في معركة الإنسان. وبكلمات أخرى نقول إن الله الكلمة أنجز خلاص الجنس البشري في ومن خلال الناسوت الذي كان له دور ديناميكي في العمل الفدائي.
وفي هذه المناسبة ينبغي أن نتذكر حقيقة اعتراض البطريرك ساويروس على نظرية يوليان الذي اعتبر أن ناسوت المسيح كان هو ناسوت آدم قبل السقوط.[17] وكان البطريرك ساويروس يرى أن “جسد المسيح لم يكن خاضعاً للخطية ولكنه كان مثل جسدنا الخاطئ*“.[18]
ويمكننا أن نقارن موقف البطريرك ساويروس هذا مع موقف ثيؤدور الذي كان ـ كما يذكر نوريس ـ يقر بحذر بأن “المسيح ينبغي ألا يكون فقط هو الحامل لخلاصنا والذي جلب لنا العصر الثاني لعدم الموت، ولكنه هو أيضاً الذي تم لأجله الخلاص”.[19]
وفي الحقيقة كان ثيؤدور والبطريرك ساويروس ويوحنا الدمشقي[20] يتفقون على هذا المفهوم بوضوح، على الرغم من أن اللاهوتي الخلقيدوني (أي يوحنا الدمشقي) كان يؤيد النظرية اليوليانية أكثر بكثير من الرجلين الآخرين. وفيما عدا هذا الاستثناء، كان عمل الفداء بالنسبة للرجال الثلاثة يتضمن ضرورة تواجد: ’الله الابن‘ الذي قد خلق الإنسان في الأصل بواسطته، و’الناسوت‘ الذي صار تحت العبودية. وإذا كان يُحسب للتعليم الخريستولوجي الأنطاكي تأكيده على بشرية المسيح بغير تحفظ، فالحقيقة أن اللاهوتيين غير الخلقيدونيين كانوا متمسكين بنفس ذلك التأكيد بشكل فعال.
وكان تشديد البطريرك ساويروس على أن ناسوت المسيح هو حقيقة أقنومية (hypostatic) له مدلول خاص يمكننا أن نلخصه كما يلي: لم تكن وجهة النظر المسيحية للحقيقة هي النظرة الأحادية (monism) ولا هي النظرة الثنائية (dualism)، لأن المسيحية كانت تفهم العلاقة بين الله والإنسان من خلال عقيدة الخلق. فالإنسان ـ بما في ذلك ناسوت المسيح ـ هو مخلوق، وحيث إنه خُلق على صورةالله فإنه يستطيع بالطبيعة أن يعكس (صورة) الله وأن يقيم علاقة مع الخالق.
وفي هذه العلاقة الإلهية – الإنسانية، لم يكن الله يحافظ على الشركة مع الناسوت بكونه حقيقة عامة مجردة، ولكن مع رجال ونساء كأشخاص بشرية، ومن بينهم جاء يسوع المسيح بكونه العضو الأول في الجماعة المفتداه. وهكذا لم تكن الحالة الهيبوستاسية لناسوت المسيح هي إضافة غير ضرورية، بل كانت أمراً أساسياً تماماً من أجل وجود ناسوت حقيقي.
وهناك نقطة أخيرة في هذا السياق، وهي أن الأنطاكيين كانوا يصّرون على أن الله هو أبعد من كل قيود الزمان والمكان، وأنه غير مقيد (أو محدود) في علاقته مع العالم. وكان اللاهوتيون المنتمون للتقليد السكندري يتمسكون أيضاً بنفس هذا المفهوم، فالقديس أثناسيوس على سبيل المثال، أكد أنه عندما صار الله الكلمة إنساناً، فإن الإخلاء الذي تضمنه التجسد لم يؤثر على سيطرته الإلهية على الكون،[21] والله الذي يسمو فوق الزمان والمكان لا ينبغي أن نعتبره ’أحد الأشياء‘ داخل المحيط الزمني المكاني.
ففي التجسد، أخذ الله زمام المبادرة وخلق الإنسان جديداً في نفسه بواسطة الاتحاد الهيبوستاسي الذي أتمه مع الناسوت. ومن خلال عمل الله هذا، تم إعادة البشرية ـ من أساسها ـ إلى وضعها الأصلي المتناغم مع الخالق. ونحن من خلال حياة الإيمان والتكريس (بالأسرار) نُعطى المشاركة في الفداء الذي حققه الله، ونتطلع إلى بلوغ كماله النهائي بالنسبة للخليقة كلها في العالم. وهذه في الحقيقة هي الطريقة التي يمكن أن يُفهم بها التعليم الخريستولوجي غير الخلقيدوني على نحو صحيح.
وبالطبع كان هناك اختلاف في المفهوم بين التعليم الخريستولوجي غير الخلقيدوني والتعليم الخريستولوجي الأنطاكي. ولم يكن هذا الاختلاف في شرح كمال وحقيقة ناسوت المسيح، حيث إن كلا الجانبين قد أكد بنفس القناعة والتصميم أن يسوع المسيح هو كامل في لاهوته وكامل في ناسوته. ولكن الاختلاف بين التقليدين يقع في الحقيقة في التفسير الذي قدَّمه كل جانب عن وحدة المسيح.
وكان هذا الاختلاف ـ كما سبق أن ذكرنا ـ هو ما لاحظه البابا كيرلس بين موقفه وموقف نسطوريوس؛ وكان هو أيضاً نفس الاختلاف الذي ذكره البطريرك ساويروس بين الجانب الكنسي الذي ينتمي إليه وبين كلا الجانبين الأنطاكي والخلقيدوني. وكان الأمر الذي ركز عليه كل جانب يحتاج فقط إلى طلب تعديل الموقف الذي يصر عليه الجانب الآخر.
* المقصود هنا هو أن اللاهوت وهوهيبوستاسيس الابن الأزلي قد وحد بنفسه ناسوتاً وهو في الحالة الهيبوستاسية (الأقنومية) ولم يكن الناسوت في الحالة العامة المجردة. ولكن الناسوت لم يتكون أو يصير في حالته الهيبوستاسية في استقلال أو انفصال عن اللاهوت.
[1] John of Damascus, op. cit., p. 295.
[2] انظر صفحة 467 وما يليها.
[3] Norris, op. cit., pp. 160f.
[4] بعد شرح نموذج ’الجسد-الروح‘ ـ الذي ذكرناه في صفحة 473 ـ كتب البطريرك ساويروس: “وبنفس الطريقة، من اللاهوت والناسوت أي الجسد البشري ذو الروح العاقلة، كلٌ بكماله بحسب أصل مبدأه، فإن عمانوئيل هو بروسوبون واحد من خلال الوجود المتزامن للإثنين داخل الإتحاد بدون إختلاط أو تغيير.
وهو له هيبوستاسيس الله الكلمة الذي أعني به ألوهته الأزلية بدون أي تغيير، كما أن الناسوت الذي وحده بنفسه على نحو لا ينطق ظل في الهيبوستاسيس الخاص به (أي في حالته الهيبوستاسية) بدون أي تحول. ولكن من المستحيل أن ننسب لكل منهما، أي إلى لاهوت المولود الوحيد والناسوت الذي اتحد به، بروسوبون خاص، لأنهما أُدركا في وضعهما المركب وليس كما لو كانا قد تكونا (في المسيح) مستقلين أو وجدا منفصلين.
ولكنهما بإلتقائهما معاً، بطريقة تليق بالله ولا يُعبَّر عنها، إكتمل هيبوستاسيس واحد من اللاهوت والناسوت وبالتالي بروسوبون واحد أي الذي لله الكلمة المتجسد.” (ضد النحوي، 1: صفحة 77).
[5] انظر صفحة 405.
[6] انظر صفحة 380.
[7] Sullivan, op. cit., p. 219.
[8] Norris, op. cit., p. 198.
* يقصد المؤلف أن الخلفية الفكرية التي كانت لدى الأنطاكيين كانت هي السبب في عدم قدرتهم على قبول المفاهيم السكندرية الخاصة بالاتحاد الهيبوستاسي، والهيبوستاسيس الواحد المركب وغيرها، ورغم عدم اتفاقنا مع تلك الخلفية الفكرية إلا أنها تعطينا فكرة أكثر وضوحاً عن السبب وراء موقفهم اللاهوتي الذي حاولوا فيه شرح العقيدة بما لا يتعارض مع تلك الخلفية الثابتة لديهم. ويعطينا المؤلف في هذه الفقرة مثالاً لهذه الخلفية الفكرية يتعلق بعقيدتهم بالنسبة لحلول الله بجوهره وفعله في العالم.
[9] Norris, op. cit., pp. 218-9.
[10] المرجع السابق صفحة 222.
* أي بعد تكونه مباشرة
[11] المرجع السابق صفحة 225.
[12] المرجع السابق صفحة 227.
[13] المرجع السابق صفحة 228.
[14] المرجع السابق.
[15] انظر صفحة 412.
[16] انظر صفحة 412 وما يليها.
[17] انظر صفحة 408 وما يليها.
* يقول ق. أثناسيوس: “لهذا فمن الصواب أن يُدعى أيضاً ’أخانا‘ و’بكرنا‘ لأنه بما أن البشر قد هلكوا بسبب مخالفة آدم، فإن جسده كان أول من خُلِّص وحُرر بكونه جسد الكلمة، وهكذا نحن من خلال إتحادنا بجسده نخلص على مثال هذا الجسد” (ضد الأريوسيين، 2: 61)..
[18] La Polemique…. I, p. 40.
[19] Norris, op. cit., p. 195.
[20] John of Damascus, op. cit., p. 318.
[21] The Incarnation of the Word.