معاني مصطلحات لاهوتية عند غير الخلقيدونيين
واحد مع الآب في الجوهر فيما يخص اللاهوت، وواحد معنا في الجوهر فيما يخص الناسوت
1. بعض الملاحظات التمهيدية:
حينما كان الجانب غير الخلقيدوني يقوم برفض مجمع خلقيدونية وطومس ليو من ناحية، وكذلك الهرطقات التي ظهرت ضد الإيمان الأرثوذكسي من الناحية الأخرى، كان يقوم أثناء ذلك أيضاً بالمحافظة على موقف لاهوتي مؤسس على قانون إيمان نيقية حسبما فهمه وأكده مجمعا القسطنطينية عام 381م وأفسس عام 431م.
وبعد أن بحثنا في الأسباب التي دعت غير الخلقيدونيين إلى رفض مجمع خلقيدونية وطومس ليو، وتحققنا من الأسس التي اعتمدوا عليها في معارضتهم للهرطقات الخريستولوجية المتنوعة، يتعين علينا الآن أن نقوم بعرض تعاليمهم الإيجابية المختصة بشخص يسوع المسيح بصورة مباشرة أكثر من ذي قبل. وسنقوم أثناء هذا العرض بفحص معاني المصطلحات الحاسمة التي قاموا بتوضيحها، والتشديدات المحددة التي سعوا للحفاظ عليها من خلال العبارات السكندرية التي استخدموها في شروحاتهم العقائدية.
2. معاني المصطلحات اللاهوتية:
في الجدال الخريستولوجي ـ وبخلاف أي جدال لاهوتي آخر في الكنيسة الأولى ـ كان هناك قدر كبير من الغموض تسببت فيه المصطلحات التقنية اللاهوتية المستخدمة. وقد استعمل اللاهوتيون على اختلاف مواقفهم الفكرية المصطلحات الخمسة التالية:
-’أوسيا (Ousia)‘ في اللغة اليونانية، ويستخدم السريان كمقابل لها كلمة (Ithutho) أو نفس كلمة ’أوسيا‘.
– ’هيبوستاسيس (Hypostasis)‘ في اللغة اليونانية، والمكافئ لها في اللغة السريانية كلمة (Qnumo).
– ’فيزيس (Physis)‘ في اللغة اليونانية، وتُترجم في اللغة السريانية إلى كلمة (Kyono).
– ’بروسوبون (Prosopon)‘ في اللغة اليونانية، وتقابلها في اللغة السريانية كلمة (Parsupo).
– ’هيباركسيس (Hyparxis)‘ في اللغة اليونانية، ويكافئها في اللغة السريانية كلمة (Yotho).
وكان البطريرك ساويروس الأنطاكي قد قام بشرح معنى المصطلحات اللاهوتية الخمسة السابقة في كتابه ’ضد النحوي غير التقي‘ (Contra Impium Grammaticum) وفي العديد من رسائله العقائدية وكتاباته الأخرى.
وفي خطابه إلى يوسابيوس (the scholastic) قدَّم البطريرك ساويروس تعريفاً مختصراً للمصطلحين: ’أوسيا (Ousia)‘ و’هيبوستاسيس (Hypostasis)‘ حيث قال: “إن ’الأوسيا‘ يدل على ما هو عام، بينما يدل ’الهيبوستاسيس‘ على ما هو خاص*“.[1]
وناقش البطريرك ساويروس هذا الموضوع بصورة أكثر تفصيلاً في كتابه ’ضد النحوي غير التقي‘، حيث نجده يتبع ق. أثناسيوس[2] في أخذ مصطلح ’أوسيا‘ بمعنى الذي يكون (بذاته). وقد سجل سفر الخروج أن صوتاً أتى إلى موسى من الله قائلاً “أنا أكون الذي يكون(I AM HE WHO IS) ، وهكذا تقول لبني إسرائيل ’الذي يكون‘ أرسلني إليكم”.
وقد أقر آباء الكنيسة الملهمون بأن “الثالوث القدوس والمتعالي هو ’أوسيا‘ واحد”، وحيث إن “الآب كائن (بذاته)، والابن كائن (بذاته)، والروح القدس كائن (بذاته)، فإن لهم نفس الكينونة الواحدة، كما أن لهم نفس الكرامة ونفس الأزلية”. وعلى ذلك يكون ’الأوسيا‘ مشتق من الكينونة.[3]
وقام البطريرك ساويروس بتوضيح التعريف من خلال قوله إن “مصطلح ’إنسان‘ يدل على الجنس وعلى الانتماء العمومي لكل الجنس البشري”،[4] وأشار إلى دليل كتابي في سفر التكوين، حين تكلم الله إلى نوح وبنيه قائلاً: “سافك دم الإنسان، بالإنسان يُسفك دمه، لأن الله على صورته عمل الإنسان” (تك 9:6)، وأكد البطريرك ساويروس أنه في تلك الآية لم تكن الإشارة إلى إنسان محدد، ولكن إلى أي إنسان ينتمي إلى كل الجنس البشري.[5]
ولكن من الناحية الأخرى حينما ندعو شخصاً محدداً ـ مثل يعقوب أو ألقانه ـ بأنه إنسان، فنحن نقصد أنه ينتمي إلى الأوسيا وإلى الجنس (البشري).[6] وكل من يعقوب وألقانه هو هيبوستاسيس، لأن كل منهما أخذ وجوده المحدد (concrete existence) ’بصورة منفصلة وخاصة”.
ويؤكد البطريرك ساويروس أن نفس المبدأ ينطبق عند شرح الإيمان الأرثوذكسي عن الله، فاسم الله مشترك للآب والابن والروح القدس: “الآب هو الله؛ وهو أزلي وخارج الزمن، وكذلك الابن وكذلك الروح القدس أيضاً. ولم يبدأ الآب في أن يكون لأنه كائن على الدوام، وهكذا الحال بالنسبة للابن وبالنسبة للروح القدس أيضاً”.[7]
وعلى الرغم من أنه لا يوجد اختلاف من جهة الأوسيا، بين أي إثنين من الثلاثة أقانيم في الثالوث المبارك، إلاّ أنه بالإشارة إلى الهيبوستاسيس فإن الآب هو واحد والابن هو آخر والروح القدس هو آخر أيضاً. والتمايز الذي لكل منهم يكمن في الخصوصية التي له، فالآب مثلاً هو غير مولود؛ والابن مولود؛ والروح القدس منبثق من الآب. وبهذه الطريقة، بينما كل منهم هو الله بالكمال، فإنه يتمايز عن الإثنين الآخرين. وقد اقتبس البطريرك ساويروس من رسالة ق. باسيليوس أسقف قيصرية إلى أمفوليكوس، بعض الفقرات التي تؤيد شرحه.
ويمكن توضيح الفكرة التي وراء تعريف ساويروس لمصطلحي ’أوسيا‘ و’هيبوستاسيس‘ على النحو التالي: الأوسيا هو شيء حقيقي؛ وهو يشير إلى ما يمكن أن يُسمى كينونة (is-ness) أو جوهر الشيء (بصورة عامة ومجردة)، ولكن ’الأوسيا‘ على الرغم من ذلك ليس له وجود محدد (concrete existence)، لأن كل شيء له وجود محدد هو شيء خاص (particular).
وبالتالي فإن ’الأوسيا‘ هو الحقيقة (العامة) التي عندما تتخصخص أو تتفرد (individuated) ينشأ شيء خاص محدد أو ’هيبوستاسيس‘. فالناسوت مثلاً كأوسيا يمثل الأساس الميتافيزيقي (المجرد) لكل إنسان وللجنس البشري بأكمله.
وقد جمع البطريرك ساويروس في تعامله مع مصطلح ’أوسيا‘ بين فكرتين، فمن ناحية أخذ الكلمة بمعنى الحقيقة العامة الديناميكية ـ ومن المحتمل أن يكون بنفس معنى ’الحقائق‘ (eidos) التي وردت عند أفلاطون* والتي قننها الآباء الكبادوك في القرن الرابع ـ ولكن من الناحية الأخرى رأى البطريرك ساويروس في الكلمة، الاسم العمومي لكل أعضاء النوع أو الصنف (class) الواحد وحسب.
وتدل هذه الحقيقة على أن البطريرك ساويروس لم تكن له دراية كاملة بالفلسفة اليونانية،[8] ولكنه على الرغم من ذلك كان ضليعاً في الأدب الآبائي حتى أنه ذكر أن بعضاً من اللاهوتيين الأوائل استخدموا مصطلح ’أوسيا‘ بمعنى الوجود الخاص[9] (particular)، وأولئك قد أخذوا ’الأوسيا‘ بالمدلول الذي صار لمصطلح ’الهيبوستاسيس‘ فيما بعد، ويقر البطريرك ساويروس أن هذا القصور والتداخل قد انتهيا، وأن الفهم الذي يتبناه (ساويروس) لمعنى المصطلحين هو الذي أصبح مقبولاً بين جميع اللاهوتيين.
وتعد إشارة البطريرك ساويروس هنا في غاية الأهمية، حيث تُظهر أن اللاهوتيين المسيحيين في العصور الأولى كانوا يستخدمون مصطلح ’أوسيا‘ بمدلول ’الأوسيا الأساسي (primary ousia)‘ عند أرسطوتاليس، ولكن هذا التقليد قد تُرك فيما بعد، وكان ذلك على الأرجح منذ وقت الآباء الكبادوك.
وإذا انتقلنا إلى مصطلحي ’هيباركسيس (Hyparxis)‘ و’فيزيس (Physis)‘ فسنجد أنهما يتحركان معاً. ويشير مصطلح ’هيباركسيس‘ في اللغة الإنجليزية إلى معنى ’الوجود‘ (existence) ومصطلح ’فيزيس‘ إلى ’الطبيعة‘ (nature)، ووفقاً لذلك فإن كلا المصطلحين يمكن أن يُستخدم إما بالمعنى العمومي (common) أو بالمعنى الخاص (particular).
وعلى سبيل المثال، فإن أي ’أوسيا‘ يكون له ’الهيباركسيس‘ (الوجود) الخاص به من ناحية، كما أن له أيضاً ’الفيزيس‘ (الطبيعة) الخاصة من الناحية الأخرى. و’الهيبوستاسيس‘ كذلك بكونه ’الأوسيا‘ الذي تخصخص أو تفرد فإن له أيضاً ’الهيباركسيس‘ و’الفيزيس‘ الخاصين به. وقد دار جدال عنيف في الكنيسة حول مصطلح ’فيزيس‘ أو ’ طبيعة‘ أثناء الخلاف الخريستولوجي، ولذلك سوف نقوم بالتعمق بصورة أكبر في مدلول هذا المصطلح.
وكان البطريرك ساويروس قد تعامل مع معنى مصطلح ’فيزيس‘ أو ’الطبيعة‘ في أكثر من عمل من كتاباته، وفي كل مرة كان يقر أن هذا المصطلح يعني في بعض الأحيان ’الأوسيا‘ وفي البعض الآخر ’الهيبوستاسيس‘*.[10] فتعبير ’الطبيعة البشرية‘ مثلاً، يُستخدم في بعض الأحيان كمصطلح يتضمن كل الجنس البشري؛ ولكنه في أحيان أخرى يُستخدم للإشارة إلى كائن بشري معين واحد.
وقد اقتبس البطريرك ساويروس من كتابات ق. كيرلس السكندري ما يؤيد تعريفه لمصطلح ’فيزيس‘ أو ’الطبيعة‘، وكان ق. كيرلس قد كتب في مؤلفه ضد نسطوريوس في الخطاب الرابع، أن “طبيعة اللاهوت واحدة وهي تتفرد كآب، وكذلك كابن، وعلى نفس النحو كروح قدس” ويقول أيضاً: “إن طبيعة اللاهوت الواحدة تُعرف في الثالوث القدوس والواحد في ذات الجوهر”.
ويقول البطريرك ساويروس أن ق. كيرلس استخدم هنا مصطلح ’طبيعة‘ بمعنى ’الأوسيا‘، ولكن في خطابه إلى الأميرة استخدم ق. كيرلس نفس المصطلح كمرادف للهيبوستاسيس حيث كتب: “نحن نؤكد أن الكلمة، خالق العالمين، الذي فيه وبه يكون كل شيء، النور الحقيقي، ’الطبيعة‘ التي تعطي حياة للجميع، الذي هو ابنه الوحيد، قد ولد من جوهر الآب بطريقة لا توصف”.
وقد أكد البطريرك ساويروس أن ق. كيرلس يأخذ مصطلح ’طبيعة‘ بهذا المعنى الثنائي ليس فقط عند الإشارة لله، ولكن حينما يتكلم أيضاً عن الإنسان، فقد كتب ق. كيرلس في خطابه الثالث في مؤلفه ضد نسطوريوس:
“إنه بسبب خطية آدم، سقطت طبيعة الإنسان إلى اللعنة والموت” وهنا المصطلح يعطي معنى الأوسيا، ولكن في كتاب ق. كيرلس ضد أندراوس السموساطي استخدم مصطلح ’طبيعة‘ كبديل للهيبوستاسيس حيث قال: “وبالنظر إلى البروسوبون الواحد والطبيعة الواحدة، أي الهيبوستاسيس (الواحد)، فإننا حينما نفكر في هاتين (الطبيعتين) اللتين منهما يتركب طبيعياً، فإن العقل يجعلهما معاً ويميزه كواحد مركب، وليس كمنقسم إلى إثنين”.
ونستطيع القول إنه في أيام البطريرك ساويروس ـ ومن خلال الإشارات الواردة في كتاباته ـ لم يذهب معارضوه في الجانب الخلقيدوني في الشرق، إلى أبعد مما ذهب هو إليه في تعريف مصطلح ’طبيعة‘. وعلى سبيل المثال، اقتبس البطريرك ساويروس في تلك النقطة من كلام أحد منتقديه الخلقيدونيين ما يلي:
“يدل ’الأوسيا‘ على العمومي أو المشترك، مثل اللاهوت الواحد الذي للثالوث القدوس، أو مثل ما هو مشترك بيننا أي الطبيعة البشرية بصفة عامة. ويشير ’الهيبوستاسيس‘ إلى ’البروسوبون‘ الواحد الذي للآب، أو الذي للابن، أو الذي للروح القدس؛ أو أيضاً الذي لبطرس أو يوحنا أو أي إنسان. ولكن ’الطبيعة‘ تُستخدم في بعض الأحيان مكان ’الأوسيا‘ وفي البعض الآخر مكان ’الهيبوستاسيس‘”.[11]
وفي الحقيقة كما نرى، كان هناك فرق هام بين البطريرك ساويروس والكاتب الخلقيدوني، ففي الأغلب كان الأخير يرى في ’الأوسيا‘ المعنى المجرد العام، ولكن ساويروس كان يرى أنه إذا لم يصبح هذا المجرد (الحقيقة العامة)، محدداً (concrete) فلا يمكن أن يكون له وجود حقيقي (real existence) في عالم الزمان والمكان.
أما الفرق في المعنى بين مصطلحي ’هيبوستاسيس‘ و’بروسوبون‘، فهو أمر دقيق للغاية. وقد كتب البطريرك ساويروس: “إن آباء الكنيسة وصفوا ’الهيبوستاسيس‘ بأنه ’البروسوبون‘”،[12] ومع ذلك فإن هناك فرق في المدلول بينهما لأنه “حينما يصبح وجوداً محدداً خاصاً، فإن ’الهيبوستاسيس‘ ـ سواء كان بسيطاً أم مركباً ـ يعبِّر عن بروسوبون متمايز”.[13]
وستتضح هذه النقطة أكثر حينما نبين الفرق بين الهيبوستاسيس ’البسيط‘ و ’المركب‘. ولكي يشرح البطريرك ساويروس النوع ’البسيط‘ أشار إلى أشخاص الثالوث القدوس الثلاثة، فكل من الآب والابن والــــــــروح القــــدس هو هيبوسـتاســـيس بســـــيط (simple hypostasis)، أما الإنسان فهو هيبوستاسيس مركب (composite hypostasis)، لأنه يتكون من جسد وروح.[14]
وفي الإنسان، أوسيا الجسد وأوسيا الروح ـ كحقائق ديناميكية عامة مجردة ـ تخصخصا وتفردا (individuated) معاً في اتحاد بينهما، وكل منهما ظل ـ في الإنسان ـ بكماله الذي حسب أصل مبدأه (جوهره). والتقيا ’الاثنان أوسيا‘ معاً ليكونا الإنسان، وبالتالي فإن الإنسان هو هيبوستاسيس ’مركب‘.
وفي حالة الإنسان، فإن منذ أول لحظة من تزامن (وجود) أوسيا الجسد وأوسيا الروح، يأخذ الإنسان وجوده ككيان جسدي روحي، ويستلم ’بروسوبون‘. ولا يلتقي ’الاثنان أوسيا‘ معاً في صورة ’الأوسيا‘، ولكن منذ بداية وجودهما معاً يصبحان حقيقتين هيبوستاسيتين (hypostatic realities).*
ويقول ساويروس: “يحافظ كل من الجسد والروح ـ اللذان يتركب منهما الإنسان ـ على الهيبوستاسيس الخاص به، دون أن يختلطا أو يتحول أي منهما إلى الآخر. وعلى الرغم من ذلك، فبما أنهما اتخذا وجودهما المحدد في الوضع المركب وليس بشكل منفصل مستقل، فلا يمكن أن يُخصص ’بروسوبون‘ متمايز لأي منهما (على انفراد)”.[15]
ويمكننا أن نُفسر كلام البطريرك ساويروس في هذه النقطة كما يلي: ’الهيبوستاسيس‘ هو الكيان المحدد (concrete being) الناتج من تخصخص أو تفرد (individuation) ’الأوسيا‘. وفي هذا التخصخص والتفرد يأخذ ’الأوسيا‘ بكماله وجوداً محدداً (concrete existence)، وعندما يحدث هذا يستلم الهيبوستاسيس، ’البروسوبون‘ الخاص به.
ومن هنا نستطيع أن نقول أن ’الهيبوستاسيس‘ ـ بكونه ’الأوسيا‘ الذي تفرد وتخصخص ـ فإنه يمثل الحقيقة الداخلية للشيء، و’البروسوبون‘ هو الهيئة الخارجية (أو الوجه الخارجي). وعلى سبيل المثال، كل عضو من أعضاء نوع (class) معين هو الأوسيا الذي تفرد وتخصخص بكامله، ومن ثم لا يمكن تمييزه كهيبوستاسيس عن أي عضو آخر من نفس النوع، ولكن أعضاء النوع (الواحد) تتمايز عن بعضها البعض بواسطة البروسوبون.
وكان ’الهيبوستاسيس المركب‘ بالنسبة للبطريرك ساويروس يُعامل معاملة ’الطبيعة المركبة‘،* وبالتالي فكل ما يُذكر عن المصطلح الأول ينطبق على الثاني أيضاً. وتتضح هذه النقطة بالإشارة ثانية إلى الإنسان الذي يتكون من جسد وروح، فيمكن أن نقول عن الإنسان إنه “من طبيعتين” أو “من هيبوستاسيسين”، لأن الجسد والروح لا يوجدان في الإنسان كـ ’إثنين أوسيا‘ ولكن كـ ’هيبوستاسيسين‘.
وحيث إن الإثنين أوسيا‘ قد أصبحا متفردين ومتخصخصين معاً في الإتحاد، لذلك لا يوجد الإنسان في ’طبيعتين‘ (بسيطتين منفصلتين). ولو كان يمكن للجسد في أي وقت ما، أن يأتي إلى الوجود بدون الروح أو الروح بدون الجسد، لأمكن أن يكون كل منهما ’طبيعة بسيطة‘ أو ’هيبوستاسيس بسيط‘ وأن يكون له ’البروسوبون‘ الخاص به وهو ما لم يحدث في حالة الإنسان.
ولكن ما حدث من الجهة الأخرى، هو أن ’أوسيا الجسد‘ و’أوسيا الروح‘ ـ كحقيقتين ديناميكيتين ـ التقيا معاً في تكوين ’طبيعة مركبة‘ أو ’هيبوستاسيس مركب‘ له بروسوبون (واحد)، وعلى هذا النحو يكون الإنسان ’هيبوستاسيس مركب‘.
ويمكننا أن نُظهر مفهوم ساويروس عن ’البروسوبون‘ بطريقة أوضح إذا رجعنا إلى الإجابة التي قدَّمها عن السؤال: لماذا لا يمكن أن نعترف بأن المسيح “من بروسوبونين” (from two prosopa)؟. وقد أصر البطريرك ساويروس أن المخلص “من طبيعتين” أو “من هيبوستاسيسين” ولكنه ليس “من بروسوبونين”، حيث كتب:[16]
“عندما تتخذ جموع ’الهيبوستاسيس‘ وجودها المحدد الخاص، وتكون منفصلة الواحد عن الآخر، فإن كل واحد منها يكون له ’البروسوبون‘ الخاص به. ولكن حينما يلتقي ’هيبوستاسيسان‘ في إتحاد طبيعي ويكملان إتحاد للطبيعتين والهيبوستاسيسين بدون أي اختلاط ـ كما نرى في حالة الإنسان ـ فلا يمكن أن يُنظر إلى هذين الإثنين اللذين حدث منهما الإتحاد، بكونهما (وجودين) محددين مستقلين، أو أن يُعتبرا كبروسوبونين، وإنما ينبغي أن يُؤخذا كـ (بروسوبون) واحد”.
وفي تطبيق هذا المفهوم على المسيح، يشرح البطريرك ساويروس وجهة نظره كما يلي: إن الله الكلمة الذي هو قبل العالمين، حينما وحَّد بنفسه (to himself) ناسوتاً بدون تغيير، لم يكن من الممكن أن يُنسب بروسوبون خاص (مستقل) لا إلى لاهوت المولود الوحيد* ولا إلى الناسوت الذي اتحد به، لأنهما أُدركا (معاً) وهما في الوضع المركب وليس كما لو كانا قد اخذا وجودهما المحدد (في المسيح) بصورة منفصلة.
وبالتقاء اللاهوت والناسوت معاً، تكوَّن هيبوستاسيس واحد (مركب) من الإثنين ومعه أصبح للكلمة المتجسد البروسوبون الخاص به. وقد استمر اللاهوت والناسوت اللذين تركب منهما عمانوئيل كل في حالته الهيبوستاسية التي له بدون تغيير.[17] ويحتاج هذا الشرح إلى توضيح أكثر، خاصة في ضوء تعليم البطريرك ساويروس بأن الله الابن هو هيبوستاسيس وبروسوبون أزلي، وسوف نتعرض لهذا الأمر لاحقاً في هذه الدراسة.[18]
ويُظهر لنا هذا الملخص السابق لمعاني المصطلحات اللاهوتية، أن أحد أسباب الجدال الخريستولوجي كان يرجع إلى قصور الوضوح في مدلول تلك المصطلحات الحاسمة، حيث كانت التعريفات التي قدَّمها كل من البطريرك ساويروس ومعارضه الخلقيدوني تفتقد إلى الوضوح في عدة نقاط. فالبطريرك ساويروس ـ كما ذكرنا ـ قد جمع فكرتين معاً في تفسيره لمعنى ’الأوسيا‘، ولكن استخدامه للمصطلح في كثير من المواضع لم يكن يُفهم إلا إذا أُخذ بمعنى الحقيقة المجردة.
كما أن معارضه الخلقيدوني ذكر بوضوح أنه يفهم كلمة ’طبيعة‘ في عبارة “في طبيعتين” بمعنى اللاهوت والناسوت في معناهما المجرد، ولكنه أقر في نفس الوقت أن الله الابن الذي هو هيبوستاسيس وبروسوبون أزلي هو الذي صار متجسداً، وبالتالي فلم تكن واحدة على الأقل من الطبيعتين (في عبارة “في طبيعتين”) في صورتها المجردة.
ولذلك كانت المشكلة قائمة لدى كلا الطرفين، وكان معنى مصطلح ’فيزيس‘ أو ’طبيعة‘ غير واضح عند كلا الجانبين، وقد اعتقد كل منهما أن المشكلة يمكن أن تُحل بأخذ هذا المصطلح تارة بمعنى ’الأوسيا‘ وتارة بمعنى ’الهيبوستاسيس‘.
ومع أخذنا هذه المشاكل في الاعتبار، ومع بقائنا كذلك قدر الإمكان قريبين من التعريفات التي قدَّمها كلا الطرفين، نستطيع أن نتصور العرض التالي: يدل مصطلح ’أوسيا‘ على الحقيقة الديناميكية التحتية (underlying) لكل ما هو عام وخاص. وبهذا المعنى يتضمن ’الأوسيا‘ كل من ’الكينونة‘ أو الوجود من ناحية، و’الخصائص‘ (properties) التي تعطي الأوسيا طابعها وهويتها من الناحية الأخرى، وهذان الإثنان هما ’الهيباركسيس‘ و ’الفيزيس‘ على التوالي، وهما من الممكن أن يؤخذا سواء بمحمل ’عمومي‘ بالمعنى المجرد، أو بمحمل ’خاص‘ بالمعنى المحدد.
و’الهيبوستاسيس‘ هو الشخص المتفرد، والمعنيِ بالأفعال (subject of actions) الذي فيه يأخذ الأوسيا ـ بما له من ’هيباركسيس‘ و ’فيزيس‘ ـ وجوده المحدد. وعندما يتفرد ويتخصخص الأوسيا مُوجداً هيبوستاسيس، فإن الهيبوستاسيس يستلم سمته المميزة والتي بها يختلف (يتمايز) عضو (member) من أعضاء نوع (class) معين عن عضو آخر من نفس النوع، وهذا هو ’البروسوبون‘.
* انظر الملحق الموجود في نهاية الكتاب عن “التطور التاريخي لمدلول المصطلحات المستخدمة في الجدال اللاهوتي في الكنيسة في العصور الأولى”.
[1] Patrologia Orientalis, op. cit., vol. XII, p. 195.
[2] N. & P. N. F., sec ser., vol. IV, pp. 165f.
[3] Contra Grammaticum, op. cit., I, (Syriac) p. 56.
[4] المرجع السابق صفحة 62.
[5] المرجع السابق صفحة 57-58.
[6] المرجع السابق صفحة 59.
[7] المرجع السابق صفحة 62.
* كان أفلاطون قد استخدم هذا المصطلح ليفيد ماهية الخواص العليا أو الحقائق في مقارنتها بالمظاهر التي نراها على الأرض حيث أن المثل هي وحدها الحقائق أما المظاهر المادية فما هي إلاّ تقليد أو مجرد اشتراك يجعل الأشياء منظورة لنا.
[8] ويؤكد البطريرك ساويروس نفسه هذه الحقيقة. انظر:
(Ad Nephalium, p. 167, and Antijulianistica, p. 94).
[9] Contra Grammaticum, op. cit., I, pp. 81f.
* كان مصطلح ’أوسيا‘ عند البطريرك ساويروس يعني الحقيقة الديناميكية العامة، بما تتضمنه من الوجود (هيباركسيس)، والطبيعة (فيزيس) التي تميزها.
وعلى ذلك يكون الهيبوستاسيس هو ’الأوسيا‘ الذي تفرد وتخصخص بما له أيضاً من وجود (هيباركسيس) ومن طبيعة (فيزيس). ولذلك حين كان البطريرك ساويروس يتكلم عن الطبيعة بمعناها العام فقد كان يعني الطبيعة التي يتضمنها الأوسيا، وحين كان يتكلم عنها بمعناها الخاص فقد كان يعني الطبيعة التي يتضمنها الهيبوستاسيس.
[10] See P. O. XII, p. 196; Contra Grammaticum, I, pp. 68f.
[11] Contra Grammaticum, op. cit., I, p. 145.
[12] المرجع السابق صفحة 74.
[13] المرجع السابق صفحة 76.
[14] كان البطريرك ساويروس، مثل بقية اللاهوتيين في عصره، يعتبر أن الجسد والروح في الإنسان كيانين مستقلين خلقهما ووحدهما الله في كل كائن بشري.
* لأن ’الأوسيا‘ عند البطريرك ساويروس هي الحقيقة المجردة (abstract) التي ليس لها وجود حقيقي (real existence) في عالم الزمان والمكان، ما لم توجد في شكل محدد (concrete) أي في الحالة الهيبوستاسية.
[15] المرجع السابق صفحة 77.
* لأن ’الهيبوستاسيس‘ عند ساويروس كان يتضمن ’الطبيعة‘ (فيزيس) مع الوجود (هيباركسيس). وفي كل المرات التي استخدم فيها البطريرك ساويروس مصطلح ’طبيعة‘ وهو يتحدث عن أي كيان مخصخص ومتفرد سواء كان بسيطاً أم مركباً فكان يقصد به مدلول ’الهيبوستاسيس‘.
[16] المرجع السابق صفحة 181.
* بالطبع كان للاهوت الابن الوحيد، البروسوبون الخاص به قبل التجسد، ولكن المقصود هنا هو أنه من غير الممكن أن يكون للاهوته البروسوبون الخاص المستقل وهو في حالة الاتحاد مع الناسوت.
[17] المرجع السابق صفحة 77 وما يليها.
[18] انظر صفحة 544.