أبحاث

الهرطقات التي رفضها الجانب غير الخلقيدوني ج2

الهرطقات التي رفضها الجانب غير الخلقيدوني ج2

الهرطقات التي رفضها الجانب غير الخلقيدوني ج2

الهرطقات التي رفضها الجانب غير الخلقيدوني ج2
الهرطقات التي رفضها الجانب غير الخلقيدوني ج2

الجزء الأول: الهرطقات التي رفضها الجانب غير الخلقيدوني ج1

4. اليوليانية:

لقد ذكرنا فيما سبق[1] الخلاف الذي نشأ بين البطريرك ساويروس الأنطاكي ويوليان أسقف ’هاليكارنيسوس‘ (Halicarnassus)، ونستطيع أن نقول إن البطريرك ساويروس، من خلال رده على الأمور التي أثارها يوليان، قد نجح في التعبير عن بعض من أعمق تعاليمه الخريستولوجية. ولكي نتمكن من فهم تلك التعاليم ينبغي علينا أولاً أن نستعرض باختصار أفكار يوليان التي قام البطريرك ساويروس بتفنيدها.

يذكر يوليان في خطابه الثاني[2] لساويروس، أن المسيح بإرادته تألم ومات (suffered and died) لأجل الجنس البشري وأعطى حياة للمائتين. ولكن يوليان كان حريصاً أن يتجنب الاضطرار للتسليم بأن ناسوت الفادي كان محتاجاً لهذا العمل الخلاصي. وفي نفس الوقت، كان يوليان واضحاً في إصراره على أن آلام المسيح وموته كانا حقيقيين، وأنه اختارهما بفعل إرادته الحرة، بدون أي يكون مجبراً بالطبيعة، وذلك لكي يمنحنا عدم قابلية الفساد (incorruptibility) بواسطة القيامة.

وزعم أسقف ’هاليكارنيسوس‘ أن بعض الناس اعتبروا أن هذه الآلام الإرادية علامة على أن جسد المسيح كان قابلاً للفساد، ولكن يوليان أكد أن الحقيقة هي أنه “من أجل أن يدبر عدم الفساد بالقيامة، أخذ عدم الفساد حتى في حياته”.[3]

وادعى يوليان أن جسد المسيح كان غير قابل للفساد، ليس منذ وقت القيامة فقط، ولكن حتى منذ تكوينه في رحم الأم، وهنا ذكر يوليان الحبل البتولي لتأييد موقفه. كما أكد يوليان كذلك أنه لا يوجد فرق بين جسد المسيح بعد القيامة وجسده قبل القيامة، فيقول: “وبنفس الحال الذي كان عليه ذلك الجسد حين تألم، قام في اليوم الثالث بدون أي تغيير”.[4]

لا يعني هذا ـ على الرغم من ذلك ـ أن يوليان كان يرى أن ناسوت المسيح لم يكن هو ناسوتنا، أو أن آلامه وموته ليسا حقيقيين. وقد كتب يوليان ـ كما جاء في اقتباس البطريرك ساويروس ـ ما يلي:[5]

“ولذلك نحن نعترف أن الرب تحمل بإرادته الآلام والموت، في جسده الذي (أخذه) منا والذي له نفس الطبيعة معنا. ولا نقــر أنــــه فعـــــــل ذلك بســبب ضــــــــرورة طبيــعـــية (natural necessity)، لأن المسيح كما يقول بطرس قد تألم لأجلنا في الجسد. وذاك الذي تألم لأجلنا لم يسلِّم نفسه (عن ضعف)، بل حرَّر آخرين دون أن يكون هو تحت الضرورة.

ومرة أخرى (أقول) إنه لا ينبغي على من يسمع أن المسيح تألم من أجلنا في الجسد، أن يعتقد أنه تألم من أجل نفسه. لأنه إذا كان تألمه وموته هو بسبب ضرورة طبيعية، لكان قد سعى بالتأكيد إلى تحرير نفسه”.

واعترف يوليان أن ناسوت المسيح كان غير قابل للفساد لأن الله الابن اتخذ ناسوت آدم قبل السقوط. وتعتبر هذه الفكرة من أساسيات تعليم يوليان، حيث قال إن الفساد والموت قد حلا بالجنس البشري نتيجة السقوط، ولذلك لم يكن ناسوت آدم قبل السقوط خالياً من الخطية فقط ولكن كان أيضاً غير قابل للألم والفساد.[6]

ألم يتخذ الله الابن ناسوتاً من مريم؟ فإذا كان ناسوت العذراء هو من نفس الناسوت الساقط لآدم، وبالتالي قابلاً للفساد، فكيف يمكن لجسد المسيح أن يكون غير قابل للفساد؟. ويجيب يوليان عن هذا السؤال بإسلوب إيضاحي،[7] فيقول أن أطفال الآباء العميان أو المصابين بأي نوع، عادة ما يكونون خاليين من نوع العجز الذي كان عند سلفهم، وأكد يوليان أنه بنفس الطريقة وُلد المسيح من مريم بدون أن يتأثر بالعجز الناتج عن السقوط من خلال والدته.

والخلاصة إذن هي أن تركيز يوليان الخاص كان في تأكيده على أن ناسوت المسيح هو ناسوت آدم قبل السقوط؛ وبالتالي كان المسيح في إنسانيته واحداً معنا في الجوهر بمعنى أن ناسوته كان هو الناسوت الأساسي الذي فينا؛ ولكن تألمه وموته كانا باختياره الإرادي لأجلنا، دون أي ضرورة طبيعية بالنسبة إلى ناسوته.

وحيث إن تلك النقطة كانت هي النقطة الحاسمة في تعليم يوليان، فيجدر بنا في هذا السياق أن نشير إلى ما قدمه ر. دراجيه[8] (R. Draguet) عن الفكر اللاهوتي لأسقف ’هاليكارنيسوس‘. وقد توصل دراجيه إلى أن رؤية يوليان كان لها من يؤيدها في كلا الجانبين الخلقيدوني وغير الخلقيدوني، وهذا استنتاج يحتاج إلى وقفة.

وفي الحقيقة ـ كما رأينا ـ قيل أن الإمبراطور جوستنيان نفسه آمن بمعتقدات يوليان وهو في سن متقدمة،[9] وسوف نرى فيما بعد أن أفكار يوليان دخلت في الفكر اللاهوتي للجانب الخلقيدوني أكثر مما حدث مع الجانب غير الخلقيدوني.[10] كما ينبغي أيضاً التسليم دون أي تردد بأن اهتمام يوليان كان هو التأكيد على خلو المسيح المطلق من الخطية، ومن المؤكدأنه انطلاقاً من هذا الاهتمام أقر أن ناسوت المسيح هو الناسوت الأساسي (essential)، وهو ناسوت آدم قبل السقوط.

ومع ذلك فإن رأى دراجيه في أن نظرية يوليان لا يمكنها أن توضح حقيقة ناسوت المسيح، هو رأي لا يمكن قبوله إلاّ بشروط، ولكن وجهة نظره (أي دراجيه) التي تقول أن الفرق بين يوليان والبطريرك ساويروس لا يتعدى الاختلاف اللفظي في المصطلحات، فهي بالقطع وجهة نظر خاطئة تماماً.[11]

وإذا انتقلنا إلى التفنيد الذي قدَّمه البطريرك ساويروس، فسنبدأ بالسؤال الذي وجهه إلى يوليان قائلاً: “كيف يمكنه (أي المسيح) وهو لم يتألم في الجسد مثلنا ـ بالرغم من كونه بغير خطية ـ أن يكون قد اشترك بالفعل في آلامنا؟”.[12] فإذا كان ذلك مستحيلاً، فينبغي على يوليان أن يسلِّم ـ على الرغم من أنه كان يؤكد عكس ذلك ـ أن تألُّم المسيح كان وهمياً. ولكن الأسفار المقدسة تعلِّمنا أن المسيح كان البكر من الأموات، مما يعني أنه تألَّم ومات مثلنا في  الجسد.

وعند الإشارة إلى السؤال عن: هل كان جسد المسيح قابلاً للفساد أم غير قابل للفساد؟، بدأ البطريرك ساويروس كلامه بتعريف معنى كلمة ’عدم قابلية الفساد (incorruptibility)‘،[13] حيث أكد إنها تتضمن معنيين متباينين.

أولاً: تعني ’الخلو من الخطية (sinlessness)‘، وبما أن كلاً من يوليان والبطريرك ساويروس كانا يتفقان على أن المسيح كان خالياً تماماً من الخطية، فمن الضروري أن ننظر في المعنى الآخر.

ثانياً: تشير ـ كما ذكر ساويروس ـ “إلى عدم امتلاك إمكانية الخضوع للآلام البريئة (guiltless) مثل الجوع، العطش، التعب من السفر….. وباختصار التألم والموت”.* وينبغي علينا هنا أن نتذكر أنه بالنسبة للبطريرك ساويروس كانت كل تلك الأمور هي خواص طبيعية للناسوت.

وعلق البطريرك ساويروس بأنه لم يوجد أحد من الذين علَّموا بأرثوذكسية، أقر أن “عمانوئيل تألم ومات بجسد غير قابل للموت وغير قابل للألم”.[14] ويؤكد الآباء على العكس من ذلك، أن المسيح تألم في الجسد الذي كان قابلاً لأن يعاني الشعور بوجع وعذاب الآلام، وأنه تحمل حزن وكمد الروح،[15] ومن هنا فإن جسد المسيح كان بالطبيعة قابلاً للألم وقابلاً للموت، ولكنه أصبح غير قابل للألم وغير مائت فقط بعد القيامة.

وبالتالي فبحسب المعنى الثاني لكلمة ’عدم قابلية الفساد (incorruptibility)‘، كان جسد المسيح قابلاً للفساد قبل القيامة، ولكنه نال عدم قابلية الفساد مع القيامة. وكتب البطريرك ساويروس: “كان جسد المسيح ربنا على الدوام مقدساً وغير مدنس بالخطية. ولكنه صار غير قابل للألم وغير قابل للموت منذ وقت القيامة. لأن الكلمة غير القابل للألم وحَّد بنفسه هيبوستاسياً (أقنومياً) جسداً قابلاً للتألم والموت”.[16]

وبالنسبة لادعاء يوليان أن ناسوت المسيح كان هو ناسوت آدم قبل السقوط، أوضح البطريرك ساويروس نقطتين هامتين: النقطة الأولى، لم يذكر ساويروس أي تمييز أساسي بين الناسوت قبل وبعد السقوط (من جهة المعنى الثاني الذي ذكره لكلمة قابلية الفساد، أي قابلية الخضوع للآلام البريئة)، وذلك على عكس ما فعله يوليان. ويقول البطريرك ساويروس:[17]

“عرف آدم الأول ـ وهو قابل للموت* ـ زوجته حواء: وأصبح أباً لنا نحن الأولاد، القابلين للموت، الذين وُلدنا منه. ولكن آدم الثاني……… أخذ جسداً قابلاً للألم، حيث وحَّده بنفسه للشفاء بدون أي عيب أو خطية. وقد تركه ليظل قابلاً للألم والموت حتى يمكن أن يبدد سلطان الموت بكلمات العدل وليس بالقوة الخاصة بالله”.

أي أن الله الابن وحَّد بنفسه الناسوت الذي كان يحتاج إلى شفاء.

النقطة الثانية، رفض البطريرك ساويروس نظرية يوليان بأن آدم قبل السقوط كان غير قابل للألم وغير قابل للموت، وأنه أصبح قابلاً للموت وللفساد كنتيجة لعدم الطاعة والخطية. وأكد البطريرك ساويروس أن الإنسان خُلق منذ البداية قابلاً للألم وللموت،[18] ولكنه أُعطي وعداً بعدم الموت وعدم الألم كهبة إلهية تُمنح له بنعمة الله، وبالسقوط فقد الإنسان هذه النعمة الإلهية، على الرغم من أنه لم يُجرد من طبيعته.[19]

ولم تكن حقيقة أن ربنا وُلد من عذراء، تحمل ضمنياً أن جسده كان منذ البداية غير قابل للفساد. وقد أصر البطريرك ساويروس[20] أن “كون المسيح إلهنا ومخلصنا وُلد في الجسد من الدائمة البتولية مريم بالروح القدس، لا يعني أن ننكر الطبيعة التي هي واحدة معنا في الجوهر، ولا أن ننكر (عليه) آلام مثل التي لنا.

كما لا يعتبر هذا الأمر سبباً في أن ننسب النجاسة أو تلوث الخطية للزواج أو العلاقة الجسدية بين الزوج والزوجة، ولكنه يدلنا ـ نحن الذين وُلدنا من الروح القدس في العماد المقدس ـ أننا مُنحنا بغسيل التجديد ثقة الولادة الثانية في القيامة، وهي الكامنة في الولادة الروحية الذي كان هو أول من أخذها. وحيث إنه هو الذي وُلد أولاً، فقد صار آدم الثاني من أجلنا نحن الذين ولدنا ثانية وأُعيد تشكيلنا”. ومن هنا لا يمكن التسليم بإشارة يوليان إلى الولادة البتولية (للمسيح) كتأييد لنظريته.

وكان هدف التجسد، بحسب البطريرك ساويروس، هو استعادة النعمة الإلهية للإنسان، ومن ثم يمكنه أن يستعيد الوعد بعدم قابلية الموت وعدم قابلية الألم الذي فقده آدم بالسقوط. ويقول البطريرك ساويروس: ولذلك “فإن الله الكلمة، الابن المولود الوحيد، غير المخلوق الذي هو قبل كل العالمين، أخذ جسداً مخلوقاً له روح عاقل، من زرع داود وإبراهيم”.[21]

ومع ذلك يؤكد البطريرك ساويروس “أنه ليس كافياً لنا، أن الله صار إنساناً بدون تغيير “، ولكن من الضروري أيضاً أن “المسيح ينبغي أن يتألم ويموت من أجلنا، وبذلك يصير أول الذين قاموا من الأموات”.[22] فالتألم والموت كانا الضرورة المسبقة لقيامته، والأمور الثلاثة (أي التألم والموت والقيامة) هي كلها أساسية لأجل خلاصنا. لقد فقد آدم الأول النعمة الإلهية من خلال فشله في طاعة الله؛ ولكن آدم الثاني استعادها من خلال نجاحه.[23]

إن الله الابن في طبيعته هو غير قابل للموت وغير قابل للألم، وقد تجسد بأن وحَّد بنفسه هيبوستاسياً (أقنومياً) جسداً مُحيَاً بروح عاقل، وهذا (الجسد) هو بالطبيعة قابل للألم وقابل للموت، وذلك لكي يمكنه أن ينتصر على التألم والموت. ومن هنا ترك الله الابن الجسد حراً ليخضع لكل ما هو طبيعي بالنسبة للجسد، كما تركه ليتألم ويموت.[24] وقد أخذ الله الابن التألم والموت اللذين اجتازهما الجسد ـ الذي جعله جسده الخاص ـ باعتبارهما أمرين خاصين به في حالته المتجسدة. ويؤكد البطريرك ساويروس أنه “على هذا الأساس نعترف أن الله الابن الذي تجسد، قد تحمل الآلام والموت من أجلنا”.[25]

ويقر البطريرك ساويروس أنه كان بالفعل عملاً من (أعمال) التنازل الإرادي من جانب الله الابن، أن يتخذ ناسوتاً ويجعله خاصاً به، وأن يدع التألم والموت يُنسبان إليه في حال تجسده. ومع ذلك حين نقول أن المسيح تألم بإرادته فنحن لا نرجع ذلك إلى ناسوته ولكن إلى الله الابن (المتجسد).[26]

لأنه قبل على نفسه الإخلاء وصار متجسداً، وبذلك يُتمم التدبير الفدائي لأجل الجنس البشري. وعندما نتأمل في ناسوت المسيح في فكرنا، سوف نرى أنه خضع للآلام الطبيعية البريئة (sinless). ويقول البطريرك ساويروس في ذلك:[27]

“لأنه ليس بسبب أنه (أي الله الابن) غير قادر أن يجعله (أي الجسد) فجأة غير قابل للموت وغير قابل للألم، فلذلك تركه قابلاً للألم وللموت، ولكن لأنه رأى أنه لا ينبغي أن ينتصر على الموت بممارسة القوة الخاصة بالله، فأراد أن يقبل في ذاته معركتنا في (الجسد) الذي هو بالطبيعة قابل للألم.

وقد فعل هذا بخلط القوة مع الحكمة، ومن ثم نضمن هذا الانتصار من خلال موت حقيقي وقيامة حقيقية. وبهذه الطريقة أمكن استعادة آدم الأول الذي سقط بواسطة انتصار آدم الثاني”.

إن خلاص الإنسان هو عمل الله، ولكنه لم يتم بفعل إلهي محض (بعيداً عن الإنسان)، لأن هذا يتعارض مع مبدأ عدل الله، لأن الإنسان خُلق وله هبة الحرية. وحيث إن الإنسان أساء استخدام تلك الهبة الإلهية وسقط من نعمة الله، فلذلك ينبغي أن يتم الخلاص داخل حياة إنسانية حقيقية وكاملة.

ولكي نوضح الأمور بإيجاز نقول أن الله خلق الإنسان منذ البداية ومنحه حرية مخلوقة فأساء أبونا الأول استخدام هذه الحرية. وبتجسد الله الابن أصبح ممكناً لواحد من الجنس البشري أن يمارس عطية الحرية بالطريقة الصحيحة، ومن ثم يفتح طريق الخلاص لكل الجنس البشري.[28] وهكذا ترك الله الابن للناسوت ـ الذي وحَّده بنفسه هيبوستاسياً (أقنومياً) ـ أن يقوم بدوره الطبيعي حتى في العمل الفدائي الذي أتمه من أجل الجنس البشري.[29]

وفي الإجمال كان هذا هو ما قدَّمه البطريرك ساويروس في معارضته لتعليم يوليان أسقف ’هاليكارنيسوس‘. ويمكننا أن نذكر ما قصده ساويروس كما يلي: كان ناسوت المسيح هو ناسوتنا في حقيقته وكماله وسلامته؛ وبالرغم من أنه لم يُمس بالخطية إلا أنه كان متضمَّناً في أثر الخطية المشتركة للجنس البشري؛* وقد اكتسب (الناسوت) عدم قابلية الألم وعدم قابلية الموت، بواسطة القيامة فقط، بعد حياة من الطاعة الكاملة والتألم والموت.[30]

وكانت هذه بالفعل هي الحياة البشرية الخاصة بالله الابن في حالته المتجسدة، والتي من خلالها مُنحت الحياة الأبدية للجنس البشري. ولذلك كان يسوع المسيح هو الله المتأنس، الذي هو في آنٍ واحد إله كامل وإنسان كامل، المخلص الأزلي للجنس البشري.

ومن الجدير بالذكر، أننا لا نجد في كتابات البطريرك ساويروس الأنطاكي أو أي من قادة التقليد الكنسي غير الخلقيدوني، ما كان نورمان بيتنجر (Norman Pittenger) يبدو أنه مقتنعاً به،[31] لأنه كان يرى أن غير الخلقيددونيين كانوا في معارضتهم لمجمع خلقيدونية وطومس ليو، يحركهم “الشعور بأنه لم يكن لائقاً بالمسيح على نحو ما”، أن تكون له طبيعة بشرية “بأقصى ما في الكلمة من كمال المعنى”.

ولكن الحقيقة ـ على العكس من ذلك ـ أن ناسوت المسيح عند أولئك الرجال، كان (ناسوتاً) حقيقياً وديناميكياً تماماً “بأقصى ما في الكلمة من كمال المعنى”، ولم يكن الناسوت مجرد مستقبِل سلبي للمجد الإلهي. وقد قام غير الخلقيدونيين ـ كما رأينا ـ بمعارضة مجمع خلقيدونية وطومس ليو لأنهم كانوا قد ورثوا تقليداً لاهوتياً أُعتبرت فيه عبارة “طبيعتان بعد الاتحاد” أنها عبارة هرطوقية وتمت إدانتها.

5. الفكرة التي تعارض إدراك مبدأ الإختلاف (بين اللاهوت والناسوت) في المسيح الواحد:

إن يسوع المسيح هو واحد، مركب من اللاهوت والناسوت، وكل منهما بكامل حقيقته وكماله. وكان المقصود من كلمة ’واحد‘ في عبارة ’طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة‘ وكذلك في عبارة ’هيبوستاسيس واحد‘، هو تجنب خطر تقسيم الطبيعتين بين الله الكلمة والإنسان يسوع، ورؤية إتحادهما في نطاق (أو على مستوى) ’البروسوبون‘ فقط؛ ولكن لم يتضمن ذلك المفهوم خطأ الخلط بين الطبيعتين.

وقد تكرر هذا التأكيد مراراً وبدون استثناء من كافة القادة غير الخلقيدونيين أمثال الآباء ديسقوروس وتيموثاؤس إيلوروس وفيلوكسينوس وساويروس، ومن كل الذين تمسكوا بتقليدهم اللاهوتي منذ ذلك الحين.

ومع ذلك كان هناك رجال في الشرق، حاولوا أن ينشئوا فكراً لاهوتياً يتجاهلون فيه هذا المفهوم. وفي الحقيقة، كان القادة غير الخلقيدونيين ـ في أغلب الحالات ـ هم الذين يبادرون باستبعاد أولئك الرجال وتعاليمهم، وقد رأينا بالفعل كيف قاموا بذلك العمل في القرنين الخامس والسادس. ومن أمثلة هذه الحالات ما حدث في أيام البابا داميان (Damian) بطريرك الإسكندرية.[32]

كان هناك رجل سوفسطائي أسمه ستيفن (Stephen)، بدأ يعبر عن وجهة نظره بأن اللاهوت والناسوت كانا متحدين في المسيح الواحد إلى درجة أنه لا ينبغي أن نصِّر على مبدأ (وجود) إختلاف بين الأشياء التي تخص اللاهوت والأشياء التي تخص بالناسوت. وقد عارض البابا داميان هذا التعليم ونصح ستيفن بالتراجع عن موقفه لأنه يتعارض مع تعليم الكنيسة. ولكن الرجل لم يرغب في الاستجابة للنصيحة فتمت إدانته مع كل الذين يتفقون معه في الرأي.

وقد أوضح البابا داميان أن في المسيح اللاهوت هو اللاهوت والناسوت هو الناسوت، ولا أحد منهما قد تغير إلى الآخر أو ابتُلع في الآخر، ولذلك فإن اللاهوت والناسوت يستمران (ديناميكياً) في المسيح الواحد. وكان تأكيد مبدأ وجود اختلاف بين اللاهوت والناسوت (في المسيح الواحد) هو جزء من التقليد العقائدي للكنيسة.

6. كلمة ختامية:

قام الجانب غير الخلقيدوني في رفضه للهرطقات المتنوعة، بالمحافظة على الأمور الآتية:

  • في التجسد، وحَّد الله الابن بنفسه ناسوتاً مأخوذاً بالحقيقة من أم بشرية، وهذا الناسوت كان واحداً معنا في الجوهر.
  • كان لهذا الناسوت كل الخصائص والملكات الطبيعية، بدون أي نقصان أو تغيير أو اختلاط.
  • إن الخصائص والملكات البشرية استمرت في المسيح الواحد ديناميكياً.
  • كان المسيح ـ من الوجهة التاريخية ـ عند غير الخلقيدونيين إنساناً مثل أي إنسان آخر يعاني الألم والموت بالحقيقة.

وهنا نأتي إلى السؤال التالي: هل حافظ اللاهوتيون الأنطاكيون أو اللاهوتيون الخلقيدونيون في أي وقت من الأوقات، على مفهوم يخص ناسوت المسيح أفضل من المفهوم الذي حافظ عليه غير الخلقيدونيين؟.

[1] انظر صفحة 250 وما يليها.

[2] خطابات يوليان إلى ساويرس موجودة في:

(Severe D’Antioche, La Polemique Antijulianiste, C. S. C. O., vol. 244, ed. Robert Hespel, 1964).

[3] هذه العبارة مأخوذة من مخطوطة المتحف البريطاني، الرقم الإضافي: 12158، صفحة 31.

[4]  British Museum M.S., op. cit., p. 38.

[5]  La Polemique Antijulianiste, II B, ed. Robert Hespel, C. S. C. O., p. 183.

[6]  كان هذا تأكيد هام في تعليم يوليان وقد ذكره البطريرك ساويروس بشكل متكرر.

[7]  British Museum M.S., op. cit., p. 30.

[8] R. Draguet: Julien D’Halicarnasse et sa Controverse Avec Severe D’Antioche Sur L’incorruptibilite du Corps Du Christ, Louvain, 1924.

[9]  انظر صفحة 276.

[10]  انظر صفحة 522 وما يليها.

[11]  يبدو أن دارجيه كان متأثراً بصورة مفرطة بفكرة أن الألم والموت قد أتيا على الإنسان كنتيجة للسقوط، ومن ثم فإن ناسوت آدم قبل العصيان والخطية كان أساساً غير قابل للفساد. وعلى الرغم من أن هذه الرؤية كان لها من يؤيدها في آباء ما قبل خلقيدونية، وبرغم أن اللاهوتيين الخلقيدونيين قاموا بتطويرها بعد ذلك منذ القرن السادس، لكن البطريرك ساويروس لم يكن يشاركهم في ذلك.

[12]  اقتبس البطريرك ساويروس  فقرة من يوليان يقول فيها: “وهو لم يكن قابلاً للفساد قبل (القيامة)، ولكنه بدا فقط كأنه قابل للفساد. وبعد القيامة أظهر ذاته فقط بكونه بالحقيقة غير قابل للفساد”. Polemique…. I, p. 50). (La وفي رده على ذلك، تساءل ساويروس: ” لو أنه كان غير قابل للفساد، وغير قابل للألم، وغير مائت، فكيف تقول أنت أنه قد تألم؟، لقد كان يجب عندئذ أن يكون موت ربنا هو نوع من الخيال وغير حقيقي”. (La Polemique… I, p. 51)

[13]  ذكر ساويروس هذه النقطة عدة مرات. (Ibid., pp. 80-1, 233, II A, p. 27).

*   يوجد معنيان آخران لكلمة ’عدم قابلية الفساد‘ بالإضافة للمعنيين اللذين ذكرهما البطريرك ساويروس، ولكن يوليان لم يكن يقصد أي منهما في تعاليمه. المعنى الثالث يُقصد به أن جسد المسيح بعدما قُبر لم يخضع للتحلل والفساد بل قام ثانية من الأموات ، وهذا المعنى ورد في العهد الجديد (أنظر مز 10:16، أع 2: 27، 35:13)، وكان هذا هو تعليم الكنيسة المعترف به شرقاً وغرباً.

أما المعنى الرابع فيأتي في شرح الآباء لطبيعة آدم، حيث إن هذه الطبيعة قد فسدت بالخطية (يا الله العظيم الأبدي الذي خلق الإنسان على غير فساد)، والمقصود هنا بفساد الطبيعة هو تشوه الصورة الإلهية في الإنسان بالإضافة إلى عجز تلك الطبيعة الساقطة عن البقاء بعدما فقدت علاقتها مع الله مصدر وجودها (وهذا هو الفساد الطبيعي لأنها مخلوقة من العدم). وهذا الفساد ليس هو الخطية ولكنه نتيجة الخطية والسقوط، وهو الذي انتقل من آدم إلى كل الجنس البشري (انظر هذا المعنى عند ق. أثناسيوس في كتاب تجسد الكلمة).

[14]  المرجع السابق صفحة 226.

[15]  كتب البطريرك ساويروس: “فلو أن عمانوئيل أراد أن يتحد بجسد غير قابل للموت وغير قابل للألم ليخوض فيه المعركة لأجلنا، وإذا كان بالطبيعة هو الله الذي يملك عدم التألم وعدم الموت، فماذا كانت الحاجة عندئذ للتجسد؟ لذلك فقد وحَّد بنفسه جسداً كان واحداً معنا في الجوهر وتألم مثلنا، وكان عرضة للتألم وللموت ومات كمحارب منتصر”

(La Polemiqueop. cit., p. 130)

[16]  British Museum M.S., op. cit., p. 26.

[17]  المرجع السابق صفحة 30.

 *  قابلية الموت هنا هي بسبب مخلوقية آدم من العدم (وهي تعني قابليته للفناء أي الفساد الطبيعي) والذي كان من الممكن أن ينجو منه، كما يقول ق. أثناسيوس، إذا أبقى الله في معرفته (تجسد الكلمة 4: 6).

[18]  كتب البطريرك ساويروس: “إن الإنسان فانٍ بالطبيعة، لأنه أتى إلى الوجود من العدم…. ولكنه مع ذلك لو كان قد استمر موجهاً نظره نحو الله، لكان قد تجاوز قابليته الطبيعية للفساد وبقي غير فاسد”.

(La Polemique…. I, p. 30). ويؤكد البطريرك ساويروس أن كل شئ مخلوق بما في ذلك الملائكة هو قابل للتغير، وقدم البابا ساويروس مثال الشيطان ليدعم وجهة نظره. وبالنسبة للإنسان، أشار إلى الكلمات التى تكلم بها الله مع آدم “أنت تراب، وإلى التراب تعود”، وأكد أن الله لم يقل لآدم “لقد صرت الآن تراباً” مما يعني ضمناً أن آدم قد خلق في الأصل قابلاً للموت والفناء. (La Polemique…. I, p. 34).

[19] A. Sanday: Anti Julianistica, Beyrout, 1931, Syriac, p. 69.

[20]  هذه الفقرة مأخوذة من: (La Polemique…. I, pp. 166-7). وقد ذكر ساويروس هذه النقطة عدة مرات. انظر:

(La Polemique …. II A, pp. 35-6; II B, p. 222).

[21] يؤكد البطريرك ساويروس أن الإنسان سقط من نعمة الله، وأن الله الكلمة تجسد لكي يستعيد النعمة الإلهية الخاصة بعدم الموت للجنس البشري. واقتضى العدل الإلهي أن “الذي سقط ينبغي يحارب معركته مرة ثانية وأن يحرز الانتصار”. (La Polemique…. I, pp. 36-7)

[22] “لقد ترك الجسد هكذا بحيث يمكنه أن يعاني الآلام البريئة والموت، لأنه كما قلنا أراد أن يحسم أمر هزيمتنا بعدل، و’كأول‘ يبدأ بقيامته بالجسد الذي وحَّده بعدم التألم وعدم الموت وعدم قابلية الفساد والمجد، من أجل الجنس البشري كله هذا الذي صار هو باكورته”.

(La Polemique…. I, p. 70)

[23] وتساءل البطريرك ساويروس: “لو أن الجسد الذي تجسد به، كان غير قابل للفساد وغير قابل للتألم وغير مائت، فكيف أمكنه إذاً أن يدمر سلطان الموت؟ وعندئذ سيكون صلب المسيح بلا مبرر، ويصبح قول الرسول “لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت” بلا أي معنى، لأنه (أي الشيطان) لا يمكن أن يُهزم بالكامل إلا فقط إذا تألم الجسد ومات بدون خطية” (المرجع السابق صفحة 51).

ومن الجدير بالذكر أن السؤال عن أين بدأت الخليقة الجديدة، قد أجاب عليه يوليان بالإشارة إلى الميلاد البتولي لربنا، أما البطريرك ساويروس فقد أرجعه إلى القيامة. انظر: (La Polemique…. II B, pp. 222f)

[24] “وليس السبب أن الله الكلمة لم يكن قادراً على جعل الجسد غير قابل للموت وغير قابل للتألم منذ لحظة إتحاده بنفسه ولذلك تركه ليبقى قابلاً للتألم وللموت، ولكن بسبب أنه أراد أن يأخذ في نفسه معركتنا نحن”. (La Polemique…. I, p. 235)

[25] “لأنه أخذ جسداً قابلاً للموت وقابلاً للفساد، والذي لهذا السبب كان قابلاً للتألم. ومن خلال الجسد جعل آلامه (أي آلام الجسد) خاصة به أيضاً. فبينما كان الجسد يتألم، صار يقيناً أن الكلمة ذاته يتألم (أي نُسب هذا التألم للكلمة ذاته)، وعلى هذا النحو نحن نعترف أنه (أي الكلمة المتجسد) صُلب وأنه مات. فعندما تحمل الجسد الآلام، لم يكن الكلمة (بعيداً) هناك وحده”

(La Polemique…. I, p. 233)

[26] “وبالرغم من أن آلام وموت الله مخلصنا كانت إرادية وتهدف إلى شفاء أمراضنا، فإنها كانت مع ذلك تنتمي بالطبيعة للجسد الذي كان قابلاً للتألم والذي تألم بالحق”. (المرجع السابق، صفحة 133).

[27] الفكرة التي وراء هذه الفقرة، عبَّر عنها البطريرك ساويروس مرات ومرات. وهذه الفقرة مأخوذة من مخطوط المتحف البريطاني: (British Museum M.S., op. cit., p. 30). والنص السرياني للعبارتين اللتين في الوسط غير ملائم للمعنى، ولكننا نعتقد أن الترجمة التي قدمناها هنا تبين النقطة التي كان يقصدها الكاتب.

[28]  واحدة من الأفكار التي كررها البطريرك ساويروس بكثرة في كتابه ’ضد النحوي‘ هي أن ناسوت المسيح كان ناسوتاً مخصخصاً ومتفرداً ومن ثم فهو كإنسان كان إنساناً محدداً. انظر صفحة 441.

[29]  هذه الفكرة أيضاً شدد عليها البطريرك ساويروس مرات عديدة.

*   يقول ق. أثناسيوس: “لهذا فمن الصواب أن يُدعى أيضاً ’أخانا‘ و’بكرنا‘ لأنه بما أن البشر قد هلكوا بسبب مخالفة آدم، فإن جسده كان أول من خُلِّص وحُرر بكونه جسد الكلمة، وهكذا نحن من خلال إتحادنا بجسده نخلص على مثال هذا الجسد” (ضد الأريوسيين، 2: 61).

[30]  من الجدير بالذكر هنا أن البطريرك ساويروس كان يصر على أن الخليقة الجديدة قد بدأت في القيامة، على عكس نظرية يوليان الذي كان يرى أنها تبدأ بالميلاد البتولي. انظر المرجع رقم 59 صفحة 413.

[31] Norman Pittenger: The Incarnate Word, Harper and Brothers, New York, 1959, pp. 12-3.

[32] Michael Le Syrien, op. cit., p. 379.

الهرطقات التي رفضها الجانب غير الخلقيدوني ج2