أبحاث

عهد خلفاء الإمبراطور جوستينيان وتأثيره على مجمع خلقيدونية ج1

عهد خلفاء الإمبراطور جوستينيان وتأثيره على مجمع خلقيدونية ج1

عهد خلفاء الإمبراطور جوستينيان وتأثيره على مجمع خلقيدونية ج1

عهد خلفاء الإمبراطور جوستينيان وتأثيره على مجمع خلقيدونية ج1
عهد خلفاء الإمبراطور جوستينيان وتأثيره على مجمع خلقيدونية ج1

 الجزء الثاني: عهد خلفاء الإمبراطور جوستينيان وتأثيره على مجمع خلقيدونية ج2

مات الإمبراطور جوستينيان يوم 14 نوفمبر عام 565م، وخلفه على التوالي الأباطرة:

-يوستين الثاني (Justin II) (565م – 578م)

-تيبريوس (Tiberius) (578م – 582م)

-موريس (Maurice) (582م – 602م)

-فوكاس (Phocas) (602م – 610م).

وبعدئذ أصبحت الإمبراطورية على حافة الاضمحلال، فنهض هراقليوس (Heraclius) ليعيد مجدها من جديد، وأسس سلالة حاكمة ظلت قابضة على مقاليد السلطة إلى أن حلت محلها السلالة الأيسورية في عام 717م.

 

1. فترة حكم الإمبراطور يوستين الثاني:

من بين كل خلفاء جوستينيان كان يوستين الثاني هو الرجل الذي وجّه كل اهتمامه إلى قضية وحدة الكنيسة بجدية حقيقية. وكانت زوجته صوفيا (Sophia) مثل الإمبراطورة ثيؤدورا وإن كانت أقل منها قدرة، وكانت تتعاطف مع الموقف غير الخلقيدوني، وقد ساندت خطة الإمبراطور في هذا الاتجاه. وفي الحقيقة بدأ الإمبراطور فترة حكمه وهو عاقد العزم على توحيد الفريقين، وعندما فشلت جهوده في ذلك انقلب في النهاية ليكون مضطهد تقليدي للكيان غير الخلقيدوني، بتوجيه من يوحنا الثالث بطريرك القسطنطينية.

وكان التوتر الناتج عن الحروب الفارسية بالإضافة إلى الشعور بالذنب بسبب التعامل الوحشي مع الرعايا المسيحيين، قد أديا إلى جنون هذا الإمبراطور الضعيف في عام 573م. وبعد أن ظل في هذه الحالة لمدة خمس سنوات مات في عام 578م، وترك العرش لقيصره تيبريوس الثاني.

 

(أ) الجهود المبذولة لتوحيد الجانبين:

فور اعتلاء الإمبراطور الجديد (يوستين الثاني) للعرش أظهر رغبته ـ كما سبق القول ـ في توحيد الجانبين. وكان البابا ثيؤدوسيوس بطريرك الإسكندرية يقيم في القسطنطينية في ذلك الوقت وقد طلب أن يقابل الإمبراطور، فلم يستجب يوستين إلى سؤاله فقط بل وطلب من البطريرك غير الخلقيدوني أن يراه في ملابسه الكنسية،* وعندما ذهب إليه البابا ثيؤدوسيوس استقبله الإمبراطور بمنتهى الاحترام وأخبره أنه سيتم التوصل إلى مصالحة بين الجانبين، وعندئذ سيكون البطريرك قادراً على العودة إلى كرسيه مرة أخرى.

ولكن البابا ثيؤدوسيوس تنيح في 22 يونيو عام 566م ودُفن بإكرام كبير، ومن الجدير بالذكر أن الذي قام بإلقاء العظة في الجنازة راهب يُدعى أثناسيوس استطاع حتى أن يعلن إدانته لمجمع خلقيدونية في أثناء تلك العظة.

وقد سجل المؤرخون السريان بشيء من التفصيل جهود الإمبراطور يوستين الثاني من أجل توحيد الجانبين في الكنيسة. وبدأت هذه الجهود بسلسلة من المفاوضات بين قادة الطرفين في القسطنطينية، وقد تم التوصل لعقد تلك المفاوضات بفضل وجود مندوبين عن مجموعتين متنازعتين داخل الكيان غير الخلقيدوني في العاصمة، حيث كانوا قد ذهبوا إلى هناك من أجل تسوية المشكلة التي حدثت بينهما بتوسط من الإمبراطور.

وقصة ذلك النزاع ـ والتي سيتم تناولها باختصار فيما بعد ـ ترجع إلى خمسينات القرن السادس، حينما دخل إلى الشرق شرح جديد لعقيدة الثالوث القدوس. وكان هناك رجل سرياني من منطقة ما بين النهرين يُدعى يوحنا أسكوناغس (John Asconaghes) وكان يتبع العادة النسكية في لبس الأحذية المصنوعة من الجلد المستخدم في صنع قِرَب المياه، وقد ذهب يوحنا هذا ـ الذي كان يتبع ذلك الشــرح الجديد لعقيدة الثالوث ـ إلى القسطنطينية حوالي عام 557م، ونجح في كسب تأييد أثناسيوس حفيد الإمبراطورة ثيؤدورا.[1]

وفي الإسكندرية، كان هناك أيضاً يوحنا فيلوبونوس* (John Philoponus) وهو فيلسوف أرسطوتالي انجذب هو الآخر إلى وجهة النظر الجديدة. ومن بين القادة الكنسيين الآخرين الذين تبنوا ذلك الرأي أيضاً، كونون أسقف طرسوس (Conon of Tarsus) وإفجين أسقف سلوكيا (Eugene of Seleucia) اللذين أقامهما يعقوب البرادعي. وقد قام البابا ثيؤدوسيوس بطريرك الإسكندرية بإدانة يوحنا أسكوناغس ومؤيديه باعتبارهم ينادون بثلاثة آلهة (tritheists)، ولكنهم مع ذلك استطاعوا أن يجذبوا للحركة تابعين آخرين.

وعندما واجهوا مقاومة عنيفة من الكيان غير الخلقيدوني، ذهب قادة هذا الفريق إلى القسطنطينية لكي يضمنوا تأييد الإمبراطور الذي أشار على الفريقين بمناقشة الاختلاف الذي بينهما في وجود يوحنا الثالث  (the scolastic) بطريرك القسطنطينية، وقد جمعت هذه الاجتماعات كلا الفريقين في مواجهة مع الجانب الخلقيدوني، وجرت مفاوضات ثلاثية الأطراف لبعض الوقت، وقد توصل الفريقان المنتميان للجانب غير الخلقيدوني إلى اتفاق مؤقت في عام 566م.

 وبعد هذه الأحداث، عُقدت محادثات الوحدة بين قادة الجانبين الخلقيدوني وغير الخلقيدوني، واستمرت لمدة تزيد عن السنة. وفي ذلك الوقت، كان القادة غير الخلقيدونيين حريصين على أن يقبلوا فقط تسوية مشرفة بدون إجبارهم على تأييد مجمع خلقيدونية بشكل شرعي، وكان الإمبراطور نفسه يوافق على هذا الأمر وقد أظهر ذلك بوضوح من خلال المرسوم الذي أصدره ليُتخذ كأساس للاتحاد.[2]

ويذكر هذا المرسوم: أن قانون إيمان مجمع نيقية ـ بالشكل الذي أكده به مجمع القسطنطينية ـ هو الرمز الوحيد المقبول للإيمان، وأن هذا القانون ـ بالطريقة التي فسَّره بها مجمع عام 431م دون غيره ـ هو معيار الكنيسة العقائدي. وبعد ذكر قانون الإيمان، ذهب المرسوم ليؤكد أن هناك “ميلادين لله الكلمة، واحد من الله الآب منذ الأزل، والآخر من مريم العذراء في الزمن.

ونحن نعترف أنه هو الله الكلمة الوحيد بالحقيقة، الذي ظل بدون أي تغيير في لاهوته. وأنه تألم بالجسد، وصنع العجائب بكونه إله، ليس مثل واحد (تألم) وآخر (صنع العجائب)، وليس أن واحداً هو المسيح وآخر هو الله، ولكن هو نفس الواحد ذاته، مركب من طبيعتي اللاهوت والناسوت، هو هيبوستاسيس (أقنوم) واحد وبروسوبون واحد؛ وهو ليس هيبوستاسيسين (أقنومين) أو بروسوبونين أو ابنين، ولكن هيبوستاسيس واحد لله الكلمة المتجسد”.

وقد أدان المنشور كل الهراطقة، ومن بينهم نسطوريوس وثيؤدور، بالإضافة إلى خطاب إيباس وكتابات ثيؤدوريت. كما جاء في المرسوم أيضاً: “ونحن نقبل البطريرك المبارك ساويروس، ونلغي الإدانة السيئة التي أُعلنت ضده بدون وجه حق، كما نرفع كل الحروم التي أُعلنت منذ أيام ق. كيرلس إلى وقتنا الحاضر”.

واقترح القادة غير الخلقيدونيين الذين رأوا المرسوم إجراء تعديلين عليه. التعديل الأول يخص العبارة التي حول التجسد فتتغير الكلمات التي بعد عبارة “وليس أن واحداً هو المسيح وآخر هو الله، ولكن ..”، لتصبح “ولكن الذي هو نفس الواحد ذاته، مركب من طبيعتين أي من هيبوستاسيسين (أقنومين) إلهي وإنساني،* وصار طبيعة واحدة أي هيبوستاسيس واحد وبروسوبون واحد.

وهو ليس هيبوستاسيسين (أقنومين) أو بروسوبونين أو طبيعتين أو ابنين”. أما التعديل الثاني فيختص بطلبهم إدماج حروم ق. كيرلس الإثني عشر كوثيقة مقبولة للإيمان.

وشهد المؤرخون السريان أن الإمبراطور وافق على الأخذ بالتعديلين، وأمر بأن يتضمن نص المرسوم الذي أصدره هذه التغييرات، ولكن الرجال الذين كُلفوا بهذا العمل قاموا بإغفالها، فتضايق الإمبراطور من هذا التصرف ولكنه عاد وهدأ في آخر الأمر. وعندما وجد القادة غير الخلقيدونيين أن التعديلين اللذين اقترحوهما وأقرهما الإمبراطور لم يوضعا في نص المرسوم، رفضوا أن يوقعوا على الوثيقة، وهكذا لم يخدم ذلك المرسوم الهدف الذي كُتب من أجله.

وبالرغم من هذا الفشل، أخذ الجانب غير الخلقيدوني المبادرة وطلب من الإمبراطور أن يستمر في جهوده من أجل وحدة الكنيسة، وتوجه يعقوب البرادعي نفسه إلى القسطنطينية مع القادة الآخرين لتقديم هذا الطلب. فأعادهم يوستين الثاني كلهم إلى الشرق، مؤكداً لهم أنه سينتدب ’النبيل‘ يوحنا ـ الذي كان قد أُرسل في مهمة سياسية إلى فارس ـ (ليذهب إليهم) ليناقش الرهبان والقادة الآخرين في قضية الوحــدة.

وبالفعل ذهب ’النبيل‘ يوحنا إلى الشــــرق ـ على الأرجح في عام 568م ـ حيث قابله عدد كبير من الرجال في دير مار زكا بالرقة (Callinicus) على حدود الفرات، وعرض ’النبيل‘ على الجمع منشوراً للإمبراطور كان قد أحضره معه، وعلى الرغم من أن الأساقفة وعدد من القادة الآخرين رأوا هذا المنشور مرضياً إلاّ أن الرهبان أثاروا اضطراباً كبيراً فانتهى الاجتماع بالفشل، وأحس يعقوب البرادعي نفسه بالعجز عن فعل أي شيء.

وحين وصل الأمر إلى الإمبراطور دعا يعقوب وثيؤدور وعدد من الأساقفة غير الخلقيدونيين إلى العاصمة، ولكن يعقوب تخلف عن الذهاب بينما ذهب ثيؤدور وبولس الأسود وآخرون إلى القسطنطينية، ودخلوا في مفاوضات مع يوحنا أسقف أفسس والأسقف النوبي لونجينوس[3] (Longinus) من عام 569م إلى عام 570م. وفي عام 571م أصدر يوستين مرسوماً آخراً ليستخدمه الجانبان كأساس للاتحاد، ولم يتعرض هذا المرسوم لقضية مجمع خلقيدونية، بالضبط مثلما فعل مرسوم الإتحاد ’هينوتيكون‘ الذي صدر عام 482م.

وأكد يوحنا بطريرك القسطنطينية لأساقفة الجانب غير الخلقيدوني ـ الذين كانوا يريدون عبارة حاسمة عن (رفض أو إسقاط) مجمع عام 451م ـ أنه بمجرد أن يتم الاتحاد بين الجانبين سيكون من الممكن إسقاط مجمع خلقيدونية[4] وقال لهم: “كما أعلنا نحن وحكامنا الأباطرة مراراً، فإننا نعطيكم كلمتنا ووعدنا أمام الله، أنه بمجرد أن تدخلوا في اتحاد معنا سيتم إسقاط المجمع (خلقيدونية).

وما قد خرج من شفاهنا لن يتغير أبداً”. وبناءً على هذه الكلمات، وبعد التعبير عن رفض مجمع خلقيدونية رفضاً مطلقاً، قام الأساقفة ـ ومن بينهم المؤرخ نفسه ـ وكذلك البطريرك السرياني بولس الأسود، بالشركة مع يوحنا بطريرك القسطنطينية.

وبعد أن فعلوا ذلك مرتين ذكَّر الأساقفة البطريرك الخلقيدوني بوعده وطالبوه بالوفاء به، ولكنه رجع في كلامه قائلاً: “سوف نكتب إلى بابا روما، فإذا وافق سنقوم بإلغاء المجمع، لأننا لا يمكن أن نقطع صلتنا مع روما بسببكم”. ومع ذلك، أُعطي لهؤلاء الأساقفة ’إيبارشيات‘ ليرعوها رداً على دخولهم في الاتحاد مع الكيان الخلقيدوني، ولكنهم رفضوا أن يقبلوها وقالوا أنه لم يعد هناك شيء أكثر ليفعلوه مع يوحنا بطريرك القسطنطينية.

 

(ب) أوامر إمبراطورية بالاضطهاد:

وأثار عدم التوصل إلى الوحدة غيظ الإمبراطور جداً، فتحول إلى مضطهد قاسٍ للكيان غير الخلقيدوني بتحريض من يوحنا بطريرك القسطنطينية والجانب الخلقيدوني.

وكان قد جلس على كرسي القسطنطينية بعد رحيل أنثيموس عام 536م، البطريرك ميناس ومن بعده البطريرك أوطيخا، وفي عام 565م تم طرد الأخير بأوامر من الإمبراطور وأُعطي مكانه ليوحنا. وكان يوحنا هذا سرياني الجنسية من قرية (Sirmis) وهو الذي تمت في عصره مفاوضات الوحدة ثم اضطهاد الأساقفة غير الخلقيدونيين.

واحتفظ لنا يوحنا أسقف أفسس الذي عاش في القسطنطينية في ذلك في الوقت ـ والذي تعرض هو نفسه للتعذيب الشديد ـ بتسجيل مفصل ودقيق عن ذلك الاضطهاد الإمبراطوري[5] فيقول: وفي أول الأسبوع السابق لأحد السعف عام 571م، أصدر الإمبراطور مرسوماً يقضي بتجريد الكيان غير الخلقيدوني من حقوقه، وأمر بغلق أماكن عبادتهم، وباعتقال أساقفتهم وقسوسهم، وبتشتيت كل تجمعاتهم.

وكان البطريرك يوحنا يراقب الأحداث عن قرب ليتأكد من تنفيذ الأوامر الإمبراطورية حرفياً، وفي الحقيقة كانت هذه الأوامر بتأثير البطريرك نفسه وبتحريض منه. ومن هنا وبتوجيه من البطريرك يوحنا، تم القبض على الأساقفة غير الخلقيدونيين ورجال الكنيسة (الإكليروس) ووضعوا في الحبس وتعرضوا لمعاملة غير إنسانية تماماً.

وبعد ذلك أُرسل رجال دين خلقيدونيون ليقيموا الخدمات (الليتورجية) للجماعات الرهبانية وللشعب المنتمين للجانب غير الخلقيدوني. وعندما رفض غير الخلقيدونيين أن يقبلوا تلك الخدمات (الليتورجية) من الأساقفة والقسوس الخلقيدونيين ـ وبخاصة الشركة الإفخارستية ـ تم القبض عليهم ووضعهم في السجون، ونُهبت ممتلكاتهم، وحُكم على كثير منهم بالنفي.

وأمام هذه التصرفات الوحشية، أعلن كثير من الناس إذعانهم وانضموا للجانب الخلقيدوني. ومَن كان من هؤلاء في رتبة كنسية، تم قبوله في نفس رتبته وسُمح له بالاستمرار في ممارسة خدمته الكنسية، ولكن بعد فترة شعر البطريرك يوحنا ومشيروه أنه ينبغي عليهم أن يقووا مركزهم أكثر من خلال إرغام أولئك الرجال على قبول طقس الرسامة مرة أخرى (بعد انضمامهم للجانب الخلقيدوني).

وكان هناك واحداً من أولئك الرجال يُدعى بولس، وهو أسقف بسيط متقدم في العمر، أُحضر إلى القسطنطينية بناء على أوامر من البطريرك يوحنا، وبعد بقائه في الحجز فترة من الوقت طُلب منه أن يوقع على بيان[6] يقول فيه أنه انطلاقاً من إرادته الشخصية واختياره الحر انضم إلى كنيسة الله.

ويذكر المؤرخ (يوحنا أسقف أفسس) أنه طُلب من بولس التوقيع على الوثيقة بدون حتى أن يقرأها أو يعرف محتواها، ثم خضع بعد ذلك لعملية إعادة رسامة ضد رغبته. ولم يستطع الرجل أن يحتمل الإهانة والشعور بالذنب من كونه جعل نفسه عرضة لهذا الفعل غير الشرعي، فمات[7] من الأسى بعد أيام قليلة. وكان هناك أيضاً أسقف يُدعى إليشع (Elisha) أُحضر من دير (Dius) وتم التحفظ عليه في البطريركية.

وبالرغم من أنه قام بالشركة مع البطريرك الخلقيدوني، إلاّ إنه رفض أن تُعاد رسامته قائلاً إنه إذا كان يتعين أن تٌعاد رسامته فينبغي أن تُعاد معموديته أولاً، فأخبروه أنه سيتم وضع الطيلسان عليه فقط، لكنه تمسك برفضه فأُرسل إلى دير أبراهام وعُذب هناك بشدة.

أما الأسقف ستيفن (Stephen) فقد كان أكثر جرأة وتوفيقاً، لأنه عندما طُلب منه أن تُعاد رسامته، قدم التماساً إلى الإمبراطور يعترض فيه على الأساس الذي يُبنى عليه هذا التصرف، وقال أن القانون التاسع عشر لمجمع نيقية فرض على التابعين لهرطقة بولس السموساطي، أنه لكي يتم قبولهم مرة أخرى في الكنيسة ينبغي أن تُعاد معموديتهم ورسامتهم، ولا يُلتفت إلى المعمودية والرسامة التي قبلوها في مؤسستهم الكنسية السابقة.

وهنا تساءل ستيفن: هل الكيان غير الخلقيدوني إذن يشابه التابعين لبولس السموساطي وليس لديهم (أحقية ممارسة) أسرار شرعية صحيحة؟ فإذا كان الأمر كذلك، فينبغي على من مثله أن تُعاد معموديتهم قبل أن تُعاد رسامتهم. وكان لموقف ستيفن تأثيره الفعَّال حيث أمر الإمبراطور أن تُوقف مثل هذه الإجراءات، ولم تتم إعادة رسامة ستيفن بل صار أسقفاً في قبرص.

 

(ج) الاضطهاد يفشل:

كان النهج الذي اتخذه البطريرك يوحنا، في إعادة رسامة الأساقفة ورجال الكنيسة غير الخلقيدونيين، مثار اعتراض شديد من قبل أساقفة الجانب غير الخلقيدوني في اجتماعاتهم التالية معه انطلاقاً من نفس الأساس الذي تبناه الأسقف ستيفن.

وكان غير الخلقيدونيين يطلبون في الحقيقة من البطريرك الخلقيدوني أن يوضح لهم ما هي هرطقة غير الخلقيدونيين، فلم تكن عند البطريرك إجابة سوى سؤالهم هل يكونون راضين إذا توقف عن موضوع إعادة الرسامة تماماً. ومرة أخرى أوضح الأساقفة غير الخلقيدونيين وجهة نظرهم في أن مسألة مجمع خلقيدونية وطومس ليو هي التي فصلت بينهم وبينه، وأنه قبل التفكير في إعادة الوحدة ينبغي أن تُحل هذه النقطة أولاً.

ولم يدم الاضطهاد ضد غير الخلقيدونيين، فقد اعتل عقل الإمبراطور يوستين الثاني، وتم تصعيد تيبريوس قيصراً في عام 574م. وكان الحاكم الصغير معارضاً لفكرة المعاملة السيئة للجانب غير الخلقيدوني.

وسجل يوحنا أسقف أفسس أن كلاً من البطريرك يوحنا وخليفته أوطيخا حاول أن يقنع تيبريوس بإصدار أوامره باضطهاد غير الخلقيدونيين، فسأل تيبريوس البطريرك قائلاً: “ينبغي أن تخبرني بالحق، هل تؤمن أن أولئك الذين تسألني أن اضطهدهم هم وثنيين؟”، فأجاب البطريرك “لا”، وهنا أعاد القيصر السؤال ثانية: “هم مسيحيون، أليس كذلك؟”، فأجاب يوحنا “نعم، ولكنهم لا يشتركون معنا في الكنيسة”، فقال تيبريوس: “اذهب الآن وكن في سلام، فأنا لا أريد أن اضطهد مسيحيين كما فعل ديوكلتيان (Diocletian)”.[8]

ومات البطريرك يوحنا في عام 577م، وأُعيد أوطيخا إلى الكرسي الذي كان قد أُبعد عنه في عام 565م. وكان أوطيخا هو الآخر متحمساً لخلقيدونية وحاول تحريض تيبريوس لاضطهاد غير الخلقيدونيين، فرد عليه تيبريوس قائلاً: “تكفينا الحروب التي بيننا وبين البربر المحيطين بنا من جميع الجهات،وليس من الممكن أن نثير حرباً أخرى ضد المسيحيين، فاذهب الآن وكن في سلام”.

 وكانت للبطريرك أوطيخا وجهة نظر تختص بالحياة الآخرة تسببت في فقدان شعبيته إلى حد بعيد، فقد طرح سؤالاً مفاده أنه إذا كان الإنسان في موته ينحل ويذهب الجسد إلى الأرض التي أُخذ منها، فهل من الممكن أن يكون هناك في القيامة إعادة تجميع للجزيئات المادية للجسد المنحل؟ وكانت إجابة أوطيخا عن هذا السؤال هي النفي القاطع، حيث أكد أنه في الآخرة سيخلق الله رجالاً ونساءً من جديد. ولم تلقى وجهة نظر أوطيخا هذه قبولاً لدى أي من الذين كانوا في أيامه.[9]

ومات يوستين الثاني في عام 578م، وأُعلن تيبريوس إمبراطوراً. ولكن تيبريوس لم يمكث في الحكم طويلاً حيث مات في عام 582م وجاء الإمبراطور موريس خلفاً له.

 

(د) نظرة الجانب غير الخلقيدوني لشرعية الدرجات الكهنوتية (التي يمنحها الخلقيدونيون):

حاول الجانب الخلقيدوني أن ينفذ برنامجاً لإعادة سيامة الإكليروس غير الخلقيدونيين الذين وافقوا على قبول مجمع خلقيدونية، كإشارة إلى أنهم لم يكونوا منتمين (في الماضي) إلى الكنيسة، وكانت إعادة الرسامة تتم سواء بإرادة الشخص أو بالإكراه. وكانت هذه الخطوة في الحقيقة جزءاً من الاضطهاد الذي تبناه الجانب الخلقيدوني ضد غير الخلقيدونيين.

وعلى الرغم من ذلك، واجه الجانب غير الخلقيدوني ـ في ذلك الوقت ـ مسألة شرعية السيامات التي يمنحها الخلقيدونيون بأسلوب له مغزاه اللاهوتي. ففي أثناء حكم الإمبراطور يوستين الثاني، برز تساؤل بين القادة غير الخلقيدونيين عن الطريقة التي ينبغي أن يُقبل بها الذين ينضمون إليهم من الجانب الخلقيدوني.[10]

وكان هناك رأيان في هذا الصدد، الأول يقر بأن الدرجات الكهنوتية التي يمنحها الجانب الخلقيدوني هي صحيحة وشرعية، أما الرأي الثاني فيصر على أنها غير شرعية، وبالتالي ينبغي أن تُعاد السيامة كاملة لأولئك الذين ينضمون للكيان غير الخلقيدوني.

وأمام هذه القضية، قام قادة الجانب غير الخلقيدوني مع يعقوب البرادعي وثيؤدور أسقف العرب بعقد اجتماع تقرر عنه:

(1) أن السيامة التي تمت بواسطة الكيان الخلقيدوني يمكن تعقبها (زمنياً) إلى ما قبل مجمع خلقيدونية* لأن الأساقفة الذين اشتركوا في المجمع كانوا قد رُسموا بالفعل داخل الكنيسة الجامعة، ووقوعهم في الخطأ لا يلغي صحة وشرعية الدرجات الكهنوتية التي قبلوها.

(2) إن هذه السيامة هي “هبة من فوق أُعطيت للرسل، ومنهم انتقلت (وتعاقبت) حتى النهاية”، وهي التي نقبلها ونشفي (بها) أيضاً أولئك الذين قبلوها ووقعوا في الخطأ.

(3) وبالتالي فإن أولئك الذين في درجات كهنوتية في الجانب الخلقيدوني وأرادوا أن ينضموا للكيان غير الخلقيدوني، فإنهم يحتاجون فقط إلى ’الشفاء‘ وليس إلى الرسامة مرة ثانية.

ومن هنا اقترح الاجتماع أن الإكليروس الخلقيدونيين الذين ينضمون إلى الكيان غير الخلقيدوني، يتعين عليهم أن يخضعوا للتوبة لمدة سنتين، وبعد ذلك تكون هناك صلاة يصليها عليهم الأساقفة، وهكذا يمكنهم أن يخدموا في نفس الدرجة التي كانوا عليها في الجانب الخلقيدوني بدون أي إعادة لرسامتهم.

 

(هـ) آثار الاضطهاد:

أدت السياسة الدينية لعائلة جوستينيان إلى الإضرار بالكيان غير الخلقيدوني بصورة بالغة، كما تسببت تلك السياسية أيضاً ـ والتي اعتبرت الموقف الخلقيدوني هو الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية ـ في انقسام الكنيسة الواحدة إلى كيانين كنسيين يشجب كل منهما الآخر.

وأهم ما كان على الكيان غير الخلقيدوني أن يواجهه هو النقص الحاد في الإكليروس، وعلى الرغم من أن الإمبراطورة ثيؤدورا كانت تحيط غير الخلقيدونيين برعايتها، إلاّ أن ما فعلته معهم كان محاطاً بقيود شديدة، كما أن موتها عام 548م حرمهم حتى من تلك المساعدة. وأخذ الأسقف يعقوب البرادعي يدور في كل الشرق يقوي المؤسسات الكنسية (غير الخلقيدونية)، ورغم ذلك لم ينجح في رسامة بطريرك لكرسي أنطاكيا خلفاً للبابا ساويروس ـ الذي كان قد رقد عام 538م ـ إلا بعد حوالي ستة أعوام.[11]

وبعد ثلاثة سنوات فقط، تنيح البطريرك (سرجيوس)، فلم يستطيعوا رسامة خلفاً له على كرسي أنطاكيا حتى عام 564م عندما رشح البابا ثيؤدوسيوس بطريرك الإسكندرية سكرتيره الراهب المصري بولس الأسود لهذا المنصب. وبعد موافقة يعقوب البرادعي والأساقفة الآخرين في الشرق رُسم بولس الأسود بطريركاً لأنطاكيا، وبدلاً من أن تساهم تلك الرسامة في تقوية الكنيسة، سببت عدداً لا يُحصى من المشاكل.

ومنذ البداية كان بولس الأسود رجلاً مثيراً للجدل، فبعد رسامته أرسله البابا ثيؤدوسيوس إلى الإسكندرية نيابة عنه ليقيم أساقفة للكراسي الشاغرة في مصر، ولكن المصريون لم يوافقوا على تلك الخطوة واتهموا بولس بطموحه في الكرسي السكندري.

ومن ناحية أخرى كان لبولس أنصاراً في سوريا، ولكن بعد أن أصبح على غير وفاق مع يعقوب البرادعي، قل عددهم جداً إلا أن المنذر ابن الحارث قائد العرب الغساسنة ظل مناصراً له. وكانت الأمور في البداية تسير على ما يرام بين يعقوب وبولس، ولكن بعد أن تقدم يعقوب في العمر أصبح من الممكن أن يتأرجح في رأيه بسبب المتطرفين من أتباعه الذين انضموا إلى المصريين في معارضتهم العنيفة ضد بولس.

ونحن على أية حال نرى أن بولس يستحق تعاطفنا معه على الرغم من أنه قد لا يكون فوق الزلل، لأن المشكلة التي كان عليه أن يواجهها ـ والذي أُعتبر أنه المتسبب فيها ـ كانت بصورة ما نتيجة التأثير السيئ للوضع الكنسي في ذلك الوقت.

 وفي عام 571م، كان بولس الأسود واحداً من الأساقفة والرجال غير الخلقيدونيين الذين قُبض عليهم بأوامر من الإمبراطور. وقد قام مع يوحنا أسقف أفسس وآخرين بالشركة مع الجانب الخلقيدوني مرتين، وقام معهم أيضاً بعد ذلك بكسر تلك الشركة فتم التحفظ عليه واحتجازه بدير أبراهام بالقسطنطينية.

وحينما كان هناك بدأ بولس يكتب مذكراته عن الأمور التي تعرض لها، ووصل خبر هذه المذكرات إلى المشرفين عليه، فانتزعوها منه وتعاملوا معه بطريقة سيئة جداً، ثم تشفع له الأسقف ستيفن فتم إطلاق سراحه في النهاية. وعلم الإمبراطور بقضية بولس، فتأثر جداً بقدرة الرجل وتحمله، ووصل تقديره لموقف بولس إلى درجة أنه أصبح يلتمس مشورته، وقد أثار هذا غيرة البطريرك يوحنا فحاول بطرق ماكرة أن يجعل بولس يترك العاصمة.

وبعد بعض الوقت اختفى بولس، وأمر الإمبراطور بالبحث عنه في كل الأديرة والمنازل وحتى السفن التي في البحر، ولكنهم لم يعثروا عليه. وفي الواقع كان بولس قد سكن في مخبأ مع أحد أصدقائه لمدة تسعة أشهر، ثم هرب بعدها إلى صديقه المنذر ابن الحارث في العربية، ومن هناك أرسل التماساً (إلى الكنيسة) يطلب فيه أن يستعيد وضعه الكنسي، وكان يعقوب البرادعي والذين معه على استعداد لقبول طلب بولس ولكنهم كانوا حريصين على معرفة مشاعر المصريين تجاه الرجل، فأرسلوا أسقفين إلى مصر وتأجل القرار لحين عودتهما من هناك.

وفي نفس الوقت استطاع بولس أن يذهب إلى مصر عام 574م في زى جندي، وكانت الكنيسة في مصر تعاني من الفوضى التامة بسبب غياب القيادة الباباوية، بالإضافة إلى وجود تحزبات كثيرة فتتت من وحدة الكنيسة هناك. وحين رأى بولس أن الوضع الكنسي في مصر أصبح يُرثى له، طلب من الأسقف النوبي لونجينوس أن يأتي ويساعد في رسامة بطريرك للإسكندرية خلفاً للبابا ثيؤدوسيوس الذي كان قد رقد في عام 566م.

واستجاب لونجينوس لطلب بولس وجاء إلى الإسكندرية، وبمساعدة الأسقفين السريانيين أخذ لونجينوس المبادرة وقام برسامة راهب سرياني يُدعى ثيؤدور بطريركاً على الإسكندرية في عام 575م. ولم يكن بولس مشتركاً في طقس الرسامة غير أنه هو الذي سمح للأسقفين السريانيين بالمساعدة في إتمام الطقس كما أنه هو الذي طلب من لونجينوس إتمام الأمر. ولكن المصريون ـ الذين كانوا بالفعل لا يميلون إلى بولس ـ صدقوا أنه هو المسئول عن رسامة ثيؤدور، وأنه فعل ذلك بقصد السيطرة على كرسي الإسكندرية، فكانت النتيجة أنهم رفضوا الاعتراف بثيؤدور، وأضمروا لبولس ضغينة لا تُمحى.

وكتعبير عن عدائهم ورفضهم لثيؤدور، قام المصريون برسامة شماس عجوز يُدعى بطرس بطريركاً لكرسي الإسكندرية خلفاً لثيؤدوسيوس، وبواسطته تمت رسامة سبعين أسقفاً جديداً في مصر. ومات بطرس بعد ثلاث سنوات، ولكن المصريون رغم ذلك لم يقبلوا ثيؤدور بطريركاً لهم، وقاموا برسامة رجل سرياني آخر هو دميان (Damian) ليكون خلفاً للبابا بطرس. وتجاوز المصريون حدود حقوقهم الشرعية، وقاموا بإعلان حرمهم لبولس الأسود.

وفي الحقيقة كان الرجل الوحيد على الأرض الذي يستطيع في ذلك الوقت أن يمارس تأثيره ويحقق المصالحة بين بولس والمصريين، هو يعقوب البرادعي. ولكن يعقوب كان قد أصبح رجلاً مسناً جداً، لدرجة أنه كان من الممكن التأثير عليه ليقوم بمساندة أي من الجانبين بواسطة أصدقائه المقربين.

وتجنباً لحدوث ذلك* قام المصريون من جانبهم بأخذ موافقة يعقوب على رسامة بطرس وحرمان بولس، وهنا وجد يعقوب نفسه يقف في جانب المصريين ضد بولس الذي كان قد أيد رسامته بطريركاً على أنطاكيا بمنتهى الحماس. وكانت النتيجة هي انقسام كنيسة سوريا إلى معسكرين،[12] واحد يؤيد يعقوب البرادعي والآخر يتبع بولس الأسود، وقام كل فريق بتوجيه الاتهام للفريق الآخر بشكل يدعو للأسى.

وعقد الفريق الموالي ليعقوب اجتماعاً لينظروا في مسألة إقامة بطريرك ليحل محل بولس، ولكن الأمر لم يتحقق بسبب معارضة عدد من الأساقفة الذين طالبوا بضرورة إدانة بولس أولاً وعزله قبل القيام بهذا الأمر. ومع ذلك قام هذا الفريق بعد موت يعقوب البرادعي برسامة بطرس الذي من الرقة بطريركاً على أنطاكيا بينما كان بولس لا يزال على قيد الحياة.

وعندما رأى بولس الفتنة الخطيرة التي حدثت بسببه، اختفى عن الأنظار ولم يُسمع عنه تماماً طيلة أربعة سنوات، وأخيراً عُرف أنه اعتزل في كهف داخل جبل قرب القسطنطينية، وأنه مات هناك. أما في الإسكندرية، فحينما سمع ثيؤدور ـ الذي رفضه المصريون ـ أن صديقه بولس في القسطنطينية، شرع في الذهاب إلى هناك باحثاً عنه لكي يراه، ولكنه فشل في بحثه وعاد إلى مصر مغتماً ومات على الفور هناك.[13]

وكانت حادثة موت يعقوب البرادعي في غاية الغرابة، فبعد المشاركة في الاجتماع الذي ناقش مسألة إقامة بطريرك مكان بولس، دعا يعقوب ثمانية من أصدقائه المقربين ومن بينهم بعض الأساقفة، ورتب معهم رحلة إلى الإسكندرية بدون أن يخبرهم عن قصده من ذلك. ويقول البعض أنه شرع في هذه الرحلة من أجل محاولة المصالحة بين بولس والمصريين، ولكن آخرون قالوا أن هدفه من تلك الرحلة كان إقامة بطريرك آخر مكان بولس بمساندة المصريين.

وعلى أية حال، عندما وصل الرجال إلى دير (Cassin) في منطقة مايوما (Maiuma) بغزة على الحدود المصرية، توقفوا هناك لراحة قصيرة، وحينئذ مات أحد الرجال فجأة وكان أسقفاً، فصلى يعقوب قداساً على روحه. وفي اليوم التالي مات واحد آخر من الأساقفة، ومات يعقوب نفسه أيضاً في اليوم الثالث، وفي غضون عشرة أيام مات كل الرجال واحداً تلو الآخر.

ولا يعرف المؤرخ السبب وراء هذه الوفيات، ولكننا نستطيع فقط أن نقول أنه هكذا انتهت بمنتهى الغرابة الحياة المدهشة لرجل واجه المخاطر بكل شجاعة من أجل تحقيق هدفه الغالي على قلبه.[14]

 

(و) قضية عقائدية:

كان التفسير الجديد لعقيدة الثالوث، الذي قدمه بعض الرجال أمثال يوحنا أسكوناغس (John Asconaghes) في خمسينات القرن السادس، قد أدى إلى ازدياد الفوضى المنتشرة في ذلك الوقت. وكانت المسألة التي أثارها هؤلاء الرجال هي أن عقيدة الثالوث التي شرحها الآباء الكبادوك في النصف الثاني من القرن الرابع تحتاج إلى توضيح أكثر من أجل استبعاد خطر السابلية.

وكان هؤلاء الآباء قد علَّموا في القرن الرابع بأن الله جوهر واحد (one ousia)، وأن هذا الجوهر بتمامه متخصخص (individuated) في الآب والابن والروح القدس، ولذلك كل منهم هو أقنوم (hypostasis) أو كيان واقعي، ولهذا فالله هو جوهر واحد وطبيعة (physis) واحدة ولكن ثلاثة أقانيم.*

أما أولئك الرجال في القرن السادس فقد زعموا أنه إذا كان المسيح هو الله الكلمة المتجسد الذي له طبيعته الخاصة،[15] فإن كل من الآب والروح القدس لابد وأن يكون له طبيعته الخاصة، وبناءً على هذا أصروا أن الله ثلاثة جواهر وثلاثة طبائع وثلاثة أقانيم، ولم ينتبهوا جيداً إلى خطورة الوقوع في هرطقة القول بثلاثة آلهة (tritheism) التي يتضمنها موقفهم هذا.

وقد رفض الجانب غير الخلقيدوني هذا التفسير تماماً، وقام البابا ثيؤدوسيوس بطريرك الإسكندرية بإدانة يوحنا أسكوناغس، وكتب تفنيداً لهذه المعتقدات على نفس النحو الذي اتبعه البطريرك ساويروس الأنطاكي ضد يوليان أسقف هاليكارنيسوس في عشرينات القرن السادس. ومثل اليوليانية حظيت هذه الحركة أيضاً بالنجاح في أول الأمر في مناطق كثيرة من الشرق، ولكن بسبب المعارضة والإدانة التي واجهتهما (من الكيان غير الخلقيدوني) سعى قادة تلك الحركة إلى تنظيم أمورها بشكل ذاتي ومستقل.

وكان هذا ـ بحسب ظروف القرن السادس ـ يقتضي وجود قيادة من الأساقفة، ولكن الحركة لم تكن تضم إلا أسقفين فقط هما كونون (Conon) وإفجين (Eugene)، فاستلزم الأمر انضمام أسقف ثالث ليكتمل النصاب القانوني لرسامة أساقفة آخرين. ومن هنا حاول قادة الحركة الاتصال بيوحنا أسقف أفسس يطلبون مشاركته، فرفض يوحنا طلبهم ونصحهم بترك هرطقتهم والانضمام إلى الكنيسة.

وفي النهاية وجدوا ضالتهم في الأسقف ثيؤناس (Theonas) الذي رسمه البابا ثيؤدوسيوس بطريرك الإسكندرية ثم حرمه من أجل شروره، وقام الأساقفة الثلاثة معاً برسامة أساقفة آخرين وأرسلوهم لمناطق مختلفة لنشر تعليمهم.[16]

 واستطاع أصحاب هرطقة الثلاثة آلهة (tritheism) أن يكسبوا تأييد كل من أثناسيوس حفيد الإمبراطوة ثيؤدورا، ويوحنا فيلوبونوس السكندري،[17] وقاموا باستخدام مقاطع قليلة من كتابات البطريرك ساويروس الأنطاكي وثيؤدوسيوس بطريرك الإسكندرية نفسه، ليؤكدوا أن وجهة نظرهم تتفق مع تعاليم الآباء.

وأمام هذا التحدي قام قادة الجانب غير الخلقيدوني بفحص تلك الفقرات التي أشاروا إليها، وأظهروا أن كل تلك الاقتباسات قد أُخذت خارج سياق الكلام الذي ذُكرت فيه.

وكان كل من ساويروس وثيؤدوسيوس قد علم بأنه بالرغم من أن اللاهوت واحد أي جوهر واحد وطبيعة واحدة، فإن الثلاثة أقانيم ليسوا مجرد ثلاثة أشكال ـ كما ادعت بذلك الهرطقة السابيلية ـ ولكنهم بالأحرى أشخاص حقيقيين منذ الأزل، وحينما نفكر في أي منهم ينبغي أن نقر بأن له جوهر وطبيعة، ولكن هذا لم يكن يعني عند كل من البطريرك ساويروس والبابا ثيؤدوسيوس أن اللاهوت هو الاسم المشترك لثلاثة جواهر أو ثلاثة طبائع.

ورغم أن تلك الحركة شكَّلت مقاومة كبيرة للكيان غير الخلقيدوني في القرن السادس، إلاّ أنها أعطت الفرصة للقادة غير الخلقيدونيين ليشرحوا الأساس اللاهوتي وراء عقيدة الثالوث القدوس.

 

* وهذا يعني اعترافاً ضمنياً من الإمبراطور يوستين الثاني برتبته الكنسية برغم كونه من الجانب غير الخلقيدوني الذي كان قد جرَّمه الإمبراطور السابق جوستينيان.

[1] جاء ذكر أثناسيوس هذا في صفحة .

* كان يُعرف أيضاً بيوحنا السكندري أو يوحنا النحوي

[2] Michael le Syrien, op. cit., pp. 335-36.

* المقصود هنا ليس أنه مركب من هيبوستاسيسين (أقنومين) مستقلين منفصلين ولكن المعنى الذي سيتضح فيما بعد هو أن غير الخلقيدونيين كانوا يصرون على أن الطبيعة الإنسانية في المسيح وجدت في الإتحاد وهي في الحالة الأقنومية (أي المخصخصة المتفردة) وليس الحالة العامة المجردة. انظر الفصل صفحة  .

[3] كان لونجينوس راهباً من النوبة، وكان يعيش في القسطنطينية في صحبة البابا ثيؤدوسيوس، وهو الذي أراد البطريرك أن يرسمه أسقفاً على بلاده، ولكنه لم يُرسم إلا بعد موت البابا ثيؤدوسيوس. وقد احتُجز في العاصمة حوالي ثلاث سنوات بسبب التدخل الإمبراطوري. وقد أقيمت اجتماعات الوحدة حينما كان لونجينوس لا يزال في القسطنطينية، وكان له دور فيها كما كان له دور أيضاً في الأمور الكنسية الأخرى التي في عصره. انظر صفحة .

[4] للرجوع لهذه الأحداث انظر (John of Ephesus, op. cit., 1: 24-25)

[5] C. S. C. O., vol. 105. op. cit.

[6] المرجع السابق 2: 43. ويحتفظ لنا يوحنا أسقف أفسس بالبيان الذي قدَّمه بولس حيث قال: “أنا، بولس الذي كنت قد ضللت وتهت، وإذ قد وجدت الإيمان الصحيح فإني أرجع إليه بإرادتي الخاصة وحريتي، وبدون إكراه أو إجبار، وانضم إلى كنيسة الله.

وبهذا البيان المكتوب، أعترف لكم يا سيدي البطريرك المسكوني يوحنا إلى النفس الأخير، أنني أتفق في الرأي مع مجمع الآباء الستمائة والثلاثين القديسين الذين اجتمعوا في مدينة خلقيدونية، واتفق مع رسالة (طومس) القديس المطوب بابا روما التي تتفق مع اعتراف بطرس الرسول رئيس الرسل. وإنني لن أرجع أو أتحول عن هذا إلى الأبد. وأنا أعترف بهذه الأمور وأؤكدها بتوقيعي هذا، أنا الأسقف بولس. وأنا أعترف، وأتفق مع، وأقبل كل ما هو مكتوب في هذا البيان.

[7] للإطلاع على قصة إعادة رسامة بولس وموته، انظر (يوحنا أسقف أفسس 1: 14؛ وميخائيل السرياني، مرجع سابق صفحة 339) وكان بولس هذا أسقفاً على أفرودوسياس المدينة الكبرى في كاريا (Aphrodosias the chief city of Caria).

[8] John of Ephesus, op. cit., I: 37.

[9] المرجع السابق 2: 36.

[10] Michael le Syrien, op. cit., pp. 319-320.

* أي أن هذه السيامات متسلسلة ومتعاقبة زمنياً بدون انقطاع منذ عصر ما قبل خلقيدونية.

[11] يذكر فرند تاريخ رسامة سرجيوس أنه عام 557م (مرجع سابق، صفحة 290). للرجوع لهذا التاريخ انظر:

(William Wright, A Short History of Syriac Literature, Amsterdam Philo Press, 1966, p. 87) 

ويرى فرند أنه من المحتمل أن البابا سرجيوس لم يُقام خلفاً للبابا ساويروس، ولكن ذلك يتعارض مع مؤرخي الكنيسة السريانية الذين يضعون اسم البابا سرجيوس ضمن قائمة البطاركة الأنطاكيين تالياً للبابا ساويروس.

* أي تجنباً لأن يستطيع أحد الأصدقاء التأثير على يعقوب البرادعي ويجعله يميل إلى جانب بولس الأسود وليس إلى جانب المصريين.

[12] للإطلاع على أحداث هذا الانقسام انظر صفحة  المرجع رقم 57.

[13] للرجوع إلى عرض مفصل عن أيام بولس الأخيرة وموته انظر:

(John of Ephesus, op. cit., IV: 53f)

[14] للإطلاع على أحداث نياحة يعقوب انظر (المرجع السابق، 4: 33).

* انظر مقارنة بين ق. أثناسيوس والآباء الكبادوك في شرح المصطلحات اللاهوتية، بالملحق الذي في نهاية الكتاب.

[15] يبدو أن فرند يعتقد أن هرطقة القول بثلاثة آلهة (tritheism) لها إرتباط بعقيدة ’الطبيعة الواحدة المتجسدة‘ التي ينادي بها غير الخلقيدونيين. وهذا في رأينا استنباط بعيد من عنده كما هو الحال في تقييمه للموقف غير الخلقيدوني في كثير من الأمور الأخرى. انظر (فرند: مرجع سابق صفحة 290 وما يليها). وهذه الحادثة تدل على أنه في القرنين الخامس والسادس كان هناك في الشرق مفكرين يتسمون بالتجاسر.

[16] ناقش يوحنا أسقف أفسس قصة هرطقة القول بثلاثة آلهة في (مرجع سابق، الخامس)

[17] لقد أورد يوحنا الدمشقي اسم يوحنا فيلوبونوس كأحد قادة الكيان غير الخلقيدوني. ومما لا شك فيه أن الدمشقي كان مخطئاً في هذا الأمر. انظر:

(St. John of Damascus, The Fathers of the Church, A New Translation, vol. 37, pp. 139f)

عهد خلفاء الإمبراطور جوستينيان وتأثيره على مجمع خلقيدونية ج1