ترسيخ مجمع خلقيدونية ومحاولة إعادة الوحدة ج2
الجزء الأول: ترسيخ مجمع خلقيدونية ومحاولة إعادة الوحدة ج1
4. فترة حكم الإمبراطور جوستينيان:
كان الإمبراطور يوستين رجلاً مسناً وُلد في منتصف القرن الخامس وسط عائلة ريفية في ثراكي. ومن المحتمل أن يكون قد أتى إلى العاصمة وهو شاب صغير في أوائل العشرينات ليجرب حظه هناك،[1] وقد أهلته قوته البدنية ويقظته العقلية للدخول في سلك الجندية الذي اختاره لنفسه. وبعد استقراره في العاصمة أحضر من بلدته مجموعة من أقربائه كان من بينهم ابن أخته جوستينيان.
وعلى الرغم من أن يوستين كان أميّاً، إلاّ إنه قدم لأقربائه التسهيلات لينالوا قسطاً محترماً من التعليم، فاستفاد جوستينيان بالفعل من هذه المساعدة. وحينما كان يوستين جندياً اشترى امرأة اسمها لوبوسينا لتكون سريته، ثم تزوجها بعد ذلك ولكنهما لم يُرزقا بأولاد. ومنذ بداية تولي يوستين الحكم جعل ابن أخته جوستينيان قريباً من الإدارة وكان هو بالفعل العقل المدبر وراء سياسات خاله.
وفي ربيع عام 527م مرض يوستين فاختار ابن أخته ليعاونه في الحكم يوم 4 أبريل من نفس العام، وبعد ذلك مات يوستين في شهر أغسطس فتم تنصيب جوستينيان إمبراطوراً منفرداً في الحكم.
(أ) سياسة جوستينيان الدينية:
كان جوستينيان رجلاً طموحاً وواثقاً من إلمامه بالتفاصيل النظرية، ولذلك بدأ فترة حكمه متبعاً نفس السياسة الدينية التي كان ينتهجها خاله والتي كانت في الحقيقة من تدبيره هو. ولكن الإمبراطور جوستينيان سرعان ما أدرك أن الخلاف بين المؤيدين والمعارضين لمجمع خلقيدونية يحتاج إلى إيجاد تسوية، وكانت خطته في ذلك هو أن يجعل الذين ينتقدون المجمع يقبلونه من خلال تفسير قرارات المجمع بالطريقة التي قد تهدئ شكوكهم.
وكان هذا بالفعل أمراً دقيقاً للغاية، وبحسب كلمات دياكونوف (Dyakonov) ـ التي يذكرها فاسيليف (Vasiliev) ـ “كانت إدارة جوستينيان في سياسته الكنسية ذات وجهين (مثل الإله الروماني جانوس ذو الوجهين)، الوجه الأول متجه نحو الغرب يسأل الإرشاد من روما، بينما الوجه الآخر ينظر إلى الشرق يلتمس الحقيقة من الرهبان السريان والمصريين”.[2]
ويعتبر هذا التعليق نوع من المبالغة، أما حقيقة الأمر فهي أن جوستينيان ـ الذي لم يكن مقتنعاً أن المنتقدين لمجمع خلقيدونية قد ضلوا عن الحق ـ حاول أن يحقق هدفاً مستحيلاً، فقد سعى من ناحية إلى إرضاء روما من أجل أن يحظى بتأييدها في خطته لإعادة إخضاع الغرب للإمبراطورية، ومن الناحية الأخرى حاول أن يوحد الفريقين المتنازعين داخل الكنيسة بدون أن يتخلى عن مجمع خلقيدونية.
وبالطبع فشل جوستينيان في تحقيق مآربه، وقد صدق تعليق روميلي جنكينز (Romily Jenkins) بأن جوستينيان الذي استعاد إمبراطورية عالم البحر الأبيض المتوسط، والذي نظم الدستور المدني، والذي بنى كاتدرائية القديسة صوفيا، لم تكن لديه القدرة ليفرض على الناس الأفكار التي ينبغي أن يعتنقوها فيما يخص طبيعة التجسد الإلهي.[3]
(ب) الحو ار مع قادة الجانب غير الخلقيدوني:
ولكي ينفذ خطته في توحيد الفريقين المتنازعين في الكنيسة، أمر الإمبراطور جوستينيان أساقفة وقادة الجانب غير الخلقيدوني الذين كانوا إما منفيين أو متخفيين بأن يأتوا إلى العاصمة لمناقشة الأمر، معطياً إياهم الأمان في المرور والتحرك.
ولم تصل إلينا تفاصيل تلك المناقشات ما عدا إشارة واحدة إليها في خطاب، حيث ذُكر أن حوالي خمسمائة رجل من بينهم أساقفة وقادة من الرهبان قد ذهبوا إلى القسطنطينية. وكان جوستينيان قد أرسل دعوة خاصة إلى البطريرك ساويروس، ولكنه رفض وكتب رسالة إلى الإمبراطور يشرح له فيها أسباب عدم ذهابه إلى العاصمة.[4]
وسلم القادة غير الخلقيدونيين إلى الإمبراطور اعترافاً بالإيمان وقدَّموا فيه عرضاً عقائدياً بمصطلحات واضحة تماماً، مظهرين أسباب عدم قبولهم لمجمع خلقيدونية وطومس ليو.[5] وتم عقد سلسلة من الاجتماعات بين ممثلين عن كلا الجانبين تحت إشراف جوستينيان، ولكنها لم تصل إلى أي اتفاق بين الطرفين، واضطر القادة غير الخلقيدونيين إلى الانسحاب مرة أخرى إلى أماكن متفرقة يمكنهم فيها أن يجدوا الأمان لحياتهم.
ومن خلال تعليق فرند[6] على الاجتماع الأول من تلك الاجتماعات، يمكننا أن ندرك النقطة الحقيقية التي لم يتفق عليها الطرفان، حيث يشير فرند إلى خطاب[7] أرسله إينوسنتيوس أسقف مارونيا (Innocentius of Maronia) ـ وهو واحد من الأساقفة الخلقيدونيين المشاركين ـ إلى توماس القس الخلقيدوني في كنيسة تسالونيكي، ويقول إينوسنتيوس في هذا الخطاب: لقد أعطت الجلسة الأولى من الاجتماعات ـ والتي عُقدت في مارس عام 532م ـ كل الأفضلية للخلقيدونيين في التعامل مع جذور الخلاف.
ويعلق فرند على ما ورد في ذلك الخطاب بأنه بعد أن قبل غير الخلقيدونيين أن أوطيخا كان هرطوقياً، صاروا مضطرين للاعتراف بأن البابا ديسقوروس كان متفقاً معه (في الرأي) وأنه قد حرم فلافيان. فكيف يمكن عندئذ أن يكون البابا ديسقوروس أرثوذكسياً؟.
وأمام حجة أن أوطيخا قد ندم على ما فعل، سأل الخلقيدونيون “فلماذا إذن تعتبروه هرطوقياً؟”، ومن هنا أصبح غير الخلقيدونيين في النهاية مضطرين للإقرار بأن البابا ديسقوروس كان غير واعٍ للأمر، وأن إدانته لفلافيان كانت غير عادلة، وبالتالي يكون الاستدعاء لعقد مجمع جديد في خلقيدونية له ما يبرره. وكان ويجرام (Wigram)[8] هو الذي ذكر أمر هذا الجدال.
وكما رأينا،[9] لم يكن أساس الشقاق الذي حدث بسبب خلقيدونية هو بالأمر الهين، ومن الجدير بالذكر أن البطريرك ساويروس رفض الادعاء بأن غير الخلقيدونيين قد قاموا بمثل هذا الإقرار المزعوم (حول البابا ديسقوروس) الذي يذكره فرند، مما يدل على أن المصدر الذي اعتمد عليه فرند في تسجيل تعليقه لا يمكن أن يقبله غير الخلقيدونيين كمصدر صحيح على الإطلاق.
والحقيقة أن كل دفاع عن مجمع خلقيدونية يمكن أن يكون موضع شك بسبب الوثائق ذاتها التي يستخدمها العلماء الخلقيدونيون في إثبات دفاعهم. وفي الواقع أن مجمع أفسس الثاني عام 449م مع تبرئته لأوطيخا ـ وفي إطار السياق التاريخي لهذا المجمع ـ كان له ما يبرره بالفعل، وأي دفاع عن مجمع خلقيدونية لا يعطي اهتماماً لهذه الحقيقة لا يستحق أي نوليه أي اعتبار جاد.
(ج) البطريرك ساويروس في القسطنطينية:
ورغم فشل المناقشات عام 532م، استمر الإمبراطور جوستينيان في الضغط على البطريرك ساويروس ليزور العاصمة من أجل المشورة. وفي النهاية أذعن البطريرك ساويروس لرأيه، وعندما وصل إلى القسطنطينية قُوبل بمنتهى الاحترام والإجلال من الإمبراطور والإمبراطورة. ومن الجدير بالذكر أن دعوة جوستينيان للرجال غير الخلقيدونيين (للمناقشة) كانت بتأثير من زوجته ثيؤدورا (Theodora) التي كانت تساندهم.
وكانت ثيؤدورا بحق شخصية غير عادية. ويمكننا أن نعرف وصفاً لحياتها الأولى وكذلك أنشطتها الأخيرة من خلال كتابات بروكوبيوس (Procopius) أسقف قيصرية وهو كاتب معاصر لتلك الفترة كان يجد سعادة كبيرة في ذم عائلة جوستينيان.
وقد قام روبرت برونينج (Robert Browning)[10] في الآونة الأخيرة بتجميع سيرة ثيؤدورا (وجوستينيان) من كتابات بروكوبيوس. ولكن بصرف النظر عن الحقيقة وراء قصة بروكوبيوس، فإننا لدينا دليل بأن ثيؤدورا كان لها حفيد من ابنتها يُدعى أثناسيوس، وقد صار راهباً فيما بعد وحاول الوصول إلى الكرسي السكندري خلفاً لثيؤدوسيوس ولكنه فشل في ذلك.[11]
وعلى الرغم من أن التاريخ يسجل أن جوستينيان حاول مرة أن يجعل ثيؤدوسيوس يرسم حفيد ثيؤدورا قساً ولم ينجح، فإن القرابة الجسدية بينهما لم يأتِ ذكرها أبداً، وهذا يدل على أن ثيؤدورا كانت مرتبطة برجل ـ سواء بزواج أو بطريقة أخرى ـ قبل زواجها من الإمبراطور. ونجد في مصادر العصور الوسطى المصرية والسريانية مزاعم بأن ثيؤدورا قد وُلدت في مصر وترعرعت في سوريا،[12] ولكن ما يهمنا هنا هو حقيقة أن ثيؤدورا كانت تؤيد الحركة غير الخلقيدونية بشدة وكانت تشجع أهدافها دون أي تحفظ.
وكان إبيفانيوس أسقف القسطنطينية ـ الذي جاء بعد يوحنا ـ قد مات في يونيو عام 535م، وخلفه على كرسي القسطنطينية أنثيموس (Anthimus) الذي كان أسقفاً على تريبيزوند (Trebizond). وكان أنثيموس ـ كما يذكر فرند[13] ـ عضواً في الوفد الخلقيدوني الذي اشترك في اجتماعات عام 532م، وكان متعاطفاً مع الموقف غير الخلقيدوني، وقد التقى مع البطريرك ساويروس عن طريق الإمبراطورة، وأصبح الأثنان صديقين مرتبطين ببعضهما البعض في الإيمان، وكونا مع البابا ثيؤدوسيوس (بطريرك الإسكندرية) ثالوثاً معارضاً لمجمع خلقيدونية.
وكانت هذه بحق فترة انتصار (قصيرة) للجانب غير الخلقيدوني، وبحسب كلمات ماسبيرو (Maspero) التي أوردها فاسيليف “كانت عاصمة الإمبراطورية في بداية عام 535م، تتخذ بصورة ما نفس الشكل الذي كان لها في فترة حكم الإمبراطور أناستاسيوس”.[14]
(د) رد فعل الجانب الخلقيدوني:
لم يكن من الممكن أن يدوم انتصار الجانب غير الخلقيدوني طويلاً، فقد أدت إقامة البطريرك ساويروس في العاصمة لمدة ثمانية عشر شهراً متمتعاً بضيافة الزوجين الإمبراطوريين وبرفقة البطريرك القسطنطيني إلى إثارة حفيظة القادة الخلقيدونيين في الشرق، فأرسل رهبان فلسطين ومنطقة (سوريا 2) ممثلين عنهم إلى القسطنطينية، كما أن إفرايم أسقف أنطاكيا الذي جلس على الكرسي بعد إزاحة ساويروس عام 518م، استخدم هو الآخر رجلاً يُدعى سرجيوس، وهو طبيب يتمتع باللباقة والدبلوماسية، ليسافر إلى روما ويخبر البابا أجابيتوس (Agapetus) بالموقف في القسطنطينية.
وتزامنت مهمة سرجيوس مع تطور آخر في الغرب، حيث إن الملك الجرماني ثيؤداد (Theodahad) الذي كان قد اعترف ـ ولو اسمياً ـ بجوستينيان كحاكم أعلى فوقه، كان قلقاً بشأن العمليات العسكرية لبليساريوس (Belisarius) في الغرب. وحيث إن روما كانت تحت سلطته السياسية، استطاع ثيؤداد أن يرغم البابا أجابيتوس أن يذهب إلى القسطنطينية كممثل عنه ليطلب من جوستينيان أن يوقف حملات بليساريوس في صقلية ودالماتيا.
وذهب أجابيتوس إلى القسطنطينية في أوائل مارس عام 536م، واستقبله جوستينيان بموكب واحتفال عظيم، وأحدثت مجرد رؤية جوستينيان للبابا تغيير إعجازي في توجهه.
وبمجرد أن استعاد البابا أجابيتوس سيطرته على الإمبراطور ـ كما يذكر زكريا ـ حتى قام البابا باتهام البطريرك أنثيموس بأنه ’زاني‘[15] والبطريرك ساويروس بأنه ’أوطيخي‘، أما الإمبراطور جوستينيان فقد توقف من جانبه عن فعل أي شيء لغير الخلقيدونيين. وأمام هذا التغير، قام أنثيموس بإعادة الطيلسان البطريركي الخاص به إلى الإمبراطور وانسحب من الكرسي.
كما عاد البطريرك ساويروس مرة أخرى إلى مكان اعتزاله في مصر، وقبل أن يترك العاصمة كتب البطريرك ساويروس[16] إلى رجال الكنيسة والرهبان في الشرق وأبلغهم برحيله. وكتب فاسيليف عن ذلك يقول: “من المحتمل جداً أن يكون أحد أسباب التقدير الذي أعطاه الإمبراطور جوستينيان للبابا (أجابيتوس ) أن الحرب القوطية الشرقية كانت قد بدأت في إيطاليا في ذلك الوقت، وكان جوستينيان يحتاج إلى تأييد الغرب”.[17]
(هـ) الجانبان ينفصلان:
وقام البابا أجابيتوس بنفسه بسيامة ميناس (Menas) بطريركاً على القسطنطينية بدلاً من أنثيموس في 13 مارس عام 536م، وقبل البطريرك الجديد مجمع خلقيدونية وعادت القسطنطينية من جديد مركزاً للخلقيدونية المسيحية في الشرق، وفي وسط هذه الإنجازات المتألقة مات أجابيتوس فجأة في يوم 22 أبريل.
وفي أثناء شهري مايو ويونيو من نفس العام عقد مجمع القسطنطينية المكاني سلسلة من الاجتماعات حضرها خمسة من مندوبي روما وخمسة وأربعين أسقفاً من الشرق، وأصدر المجمع قراراً بحرم أنثيموس كهرطوقي وتجديد إدانة وحرم البطريرك ساويروس. وقام الإمبراطور جوستينيان بالتصديق على قرار المجمع وأصدر مرسوماً يوم 6 أغسطس يعلن فيه تجريم الاعتراف بالموقف غير الخلقيدوني في الإمبراطورية، كما أمر بإحراق كتابات البطريرك ساويروس.
وعقد إفرايم أسقف أنطاكيا أيضاً مجمعاً من مئة واثنين وثلاثين أسقفاً، وأكد هذا المجمع على قبوله لخلقيدونية وإدانة البطريرك ساويروس وأتباعه.[18]
ولم يحل مرسوم جوستينيان المشكلة الدينية في الإمبراطورية، وإنما كل ما فعله هو الإعلان أن الخلقيدونية وحدها هي التي تمثل ديانة الدولة، بالضبط على نفس النحو الذي فعله’مرسوم الاتساق‘ (Act of Uniformity) عام 1662م مع المسيحية في إنجلترا.
وكان مرسوم جوستينيان بالفعل مؤذياً للكيان غير الخلقيدوني من ثلاثة أوجه على الأقل؛ أولاً: صارت الكنائس والمؤسسات الدينية الأخرى في الإمبراطورية بحكم القانون ملكاً للكيان الخلقيدوني، ثانياً: كان على الأساقفة وقادة الكنيسة من المعارضين لخلقيدونية أن يقضوا حياتهم في النفي أو في التخفي، كما مُنعت كذلك الرسامات الجديدة، ثالثاُ: حُرم العلمانيون (غير الخلقيدونيين) من فرص الحصول على المناصب الرفيعة في الدولة.
وبالرغم من كل هذه الصعوبات تمسك الناس بموقفهم الديني غير الخلقيدوني بثبات في كل من مصر وسوريا وبقية الشرق. وحيث إن الكنائس والمؤسسات الأخرى في المدن صارت متاحة لكنيسة الدولة (الخلقيدونية)،أصبح لزاماً على غير الخلقيدونيين أن يبنوا الكنائس والأديرة خارج المدن. وعلى سبيل المثال أصبح على كنيسة مصر أن تتخلى عن الإسكندرية وتنقل مركزها الكنسي إلى الدخيلة (Enaton) حيث بنت هناك تجمعات رهبانية،[19] بلغت ستمائة تجمع.
وكذلك الحال مع البطاركة السريان الذين أتوا بعد البطريرك ساويروس، فقد اتخذوا مكان إقامتهم في مناطق مثل حاران (Haran) والرقة (Callinicus) والرها (Edessa) وماردين (Mardin) في شمال سوريا.[20] وفي الحقيقة يذكر ميخائيل السرياني أن المرة الأولى التي تطأ فيها قدم بطريرك أنطاكي غير خلقيدوني مدينة أنطاكيا، بعد أن تركها البطريرك ساويروس عام 518م، كانت في عام 721م عندما زارها البطريرك إلياس ليكرس كنيسة تم بناؤها في المدينة.[21]
(و) تنظيم الكيان غير الخلقيدوني:
ولم يتخلى الأساقفة المعارضون لمجمع خلقيدونية ـ والذين أُجبروا على ترك كراسيهم منذ عصر يوستين الأول ـ عن وضعهم الكنسي القيادي، بل على العكس تبنوا أسلوباً مختلفاً كان من وجهة نظرهم هو الأكثر تواصلاً (مع رعيتهم) من أجل وفائهم بمسئولياتهم الروحية. وفي نفس الوقت كان الناس في سوريا وفي مختلف الأنحاء يحاولون الضغط على الحكام من أجل رجال الكنيسة، وتمت تلبية هذه الطلبات بصورة جزئية، وقد لعب يوحنا أسقف تللا (Tella) في شمال سوريا دوراً مؤثراً في هذا الأمر، ولكنه قُبض عليه ومات في سجنه عام 538م.
وكما ذكرنا سابقاً، ظل البطريرك ساويروس الأنطاكي على اتصال مع الشعب والتجمعات التي تحت مسئوليته الروحية حتى بعد ابتعاده عام 518م، وقد قبل من حيث المبدأ أن يكون هناك تسلسل رئاسي (hierarchy) منفصل للكيان غير الخلقيدوني، رغم إنه حاول أن يسير بحذر في هذه الخطة لكي يتجنب الصدام المباشر مع القسطنطينية.
وقد يكون هذا هو أحد الأسباب التي كانت وراء عدم رغبة البطريرك ساويروس في تلبية دعوة جوستينيان لمفاوضات الوحدة عام 532م، وفي النهاية عندما قبل الذهاب قيل أنه خضع للضغوط من رفقائه، وأنه قال لهم أنه لا يتوقع أي شيء طيب من هذه الرحلة.[22]
وعلى أية حال، لم يترك البطريرك ساويروس شعبه يعيش بدون اهتمام رعوي وعناية مسيحية. وفي عام 536م عندما رحل هو وأنثيموس عن العاصمة، تبادلا الرسائل[23] التي اتفقا فيها على تبني موقف واحد ضد خلقيدونية، وكانا كلاهما على اتصال مع ثيؤدوسيوس بابا الإسكندرية الذي كان في القسطنطينية منذ عام 537م، وفي الحقيقة أنه أقام في العاصمة لمدة ثلاثة عقود بعد ذلك كقائد للحركة غير الخلقيدونية.
وفي مواجهة محاولة الإمبراطور جوستينيان لفرض منشوره، كان على البطريرك ساويروس والبابا ثيؤدوسيوس على وجه الخصوص أن يفكرا ملياً في طرق ووسائل لتثبيت تسلسل رئاسي (غير خلقيدوني) موازٍ للتسلسل الخلقيدوني الرسمي للدولة.
ورقد البطريرك ساويروس الأنطاكي في 8 فبراير عام 538م،[24] وتمت رسامة سرجيوس خلفاً له في عام 544م، وكان من بين الأساقفة الذين اشتركوا في الرسامة يعقوب الملقب بالبرادعي (أي الذي يلبس ثوب من برادع الخيل). وكان سرجيوس راهباً من مدينة تللا (Tella) وهو صديق ليعقوب البرادعي الذي كان هو الآخر من نفس المدينة، ومثل الكثيرين في تلك الأيام نقلا محل إقامتهما إلى القسطنطينية.
وكان يعقوب البرادعي (Baradaeus) بالفعل شخصاً في غاية الأهمية، ففي الوقت الذي كان فيه الكيان غير الخلقيدوني على وشك أن يصير محروماً تماماً من الرتبة الأسقفية بسبب موت أو نفي أساقفته، تمت رسامة يعقوب أسقفاً في عام 542م. ومنذ ذلك الحين أخذ يعقوب دور الرجل الكنسي الجوال، وواجه بشجاعة كل المخاطر وتحمل الكثير على الدوام في سبيل خدمة الجزء الذي ينتمي إليه من الكنيسة في مواجهة الإمبراطورية الرومانية العتية.
ويعقوب البرادعي هو ابنٌ لقس سرياني يُدعى ثيؤفيلس بار مانو، وقد وُلد حوالي عام 500م في مدينة تللا التي تبعد خمسة وخمسين ميلاً إلى الشرق من الرها، وفي فترة مبكرة من حياته دخل حياة الرهبنة حيث تعلم اللغة السريانية واللغة اليونانية ودرس الأعمال المتوفرة لديه بهذه اللغات، وشيئاً فشيئاً صار يعقوب مستغرقاً في حياة الزهد، حتى أنه عندما ورث أملاك والديه قام بتحرير عبيده ووزع عليهم ممتلكاته.
وفي عام 528م انتقل إلى القسطنطينية على أمل أن يعرض قضية الكيان غير الخلقيدوني على الإمبراطورة ثيؤدورا، وعاش هناك سنوات عدة. وعندما رأى يعقوب الحالة الرثة التي صار عليها الجزء الذي ينتمي إليه من الكنيسة، قدم نفسه للرسامة كأسقف للرها في نفس الوقت مع ثيؤدور الذي رُسم على المسيحيين الذين من سلالات عربية.
وتمت رسامة يعقوب وثيؤدو بواسطة البابا ثيؤدوسيوس بطريرك الإسكندرية تحت رعاية الإمبراطورة ثيؤدورا، وبطلب من الحارث بن جبدة حاكم المسيحيين العرب. وكانت المنطقة التي تقع على الحدود بين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية تقطنها القبائل العربية، وكانت كلتا الإمبراطوريتين تسعيان لنوال مساعدة هذه القبائل القوية في منازعتها مع الأخرى.
وفي القرن السادس اتحدت هذه القبائل فيما بينها وكونت تجمعين: اللخميين في الشمال والشرق واتخذوا الحيرة مركزاً لهم، والغساسنة في الجنوب والغرب. وكان الحارث بن جبدة هو قائد الغساسنة في ذلك الوقت، وهو مسيحي يتبع الجانب غير الخلقيدوني، وقد حاول إفرايم أسقف أنطاكيا أن يغير توجهه الديني إلى الجانب الخلقيدوني ولكن دون جدوى.
ومع ذلك تم التخلص من ابن الحارث وخليفته ’المنذر‘ مع كل عائلته ودُمرت مملكتهم المسيحية تماماً بواسطة الأعمال الغادرة لخلفاء جوستينيان. ولكن في عام 541م، كان الحارث لا يزال في السلطة وقد طلب من الإمبراطورة ثيؤدورا إقامة أساقفة من أجل تنظيم الكنيسة في الشرق، وكان هذا هو السبب وراء رسامة كل من يعقوب وثيؤدور، وقد أُعطي للأول بالتحديد سلطة شاملة.
وبدأ يعقوب نشاطه في طريق وعر للغاية، وكان يتنقل على الدوام من مكان إلى مكان في أنحاء سوريا، وما بين النهرين (Mesopotamia) ومصر وفلسطين ومختلف الأماكن في الشرق. وحيثما ذهب كان يعقوب يثبت المؤمنين ويرسم رجالاً للكنيسة ويساعد في إقامة أساقفة وفي بعض الأوقات بدون حتى اختبار دقيق لملاءمة الشخص المتقدم لتلك الخدمة الكنسية، وكان يعقوب في تجواله يحاول أن يظل متخفياً عن الأعين من خلال ارتدائه ثوب مصنوع من برادع الخيل، ومن هنا سُمي بالبرادعي.
وقد دامت أسقفيته لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً، كرس نفسه خلالها ـ وبدون أدنى انحراف عن الهدف ـ لخدمة الكيان غير الخلقيدوني المضطهَد. وفي وسط المخاطر العظمى وإحساس الحرمان المر، استطاع يعقوب أن يرتب خلفاً للبابا ساويروس على كرسي أنطاكيا القديم،[25] كما قام برسامة أساقفة ورجالاً كنسيين وصل عددهم لحوالي مئة ألف شخص،[26] وأسس كنائس في أجزاء عديدة من الشرق.
وهكذا وبرغم الاضطهاد والمعوقات المختلفة، استطاع الكيان غير الخلقيدوني أن يصمد في المجتمعات الكنسية القوية في مصر وسوريا وما بين النهرين ومختلف المناطق في الشرق. ولم يكن من السهل على الجانب الخلقيدوني أن يتغاضى عن مثل هذا النمو، وكتعبير عن عدم الرضا أطلق الخلقيدونيون أسم ’اليعاقبة‘ (Jacobite) للإشارة إلى غير الخلقيدونيين.[27]
(ز) جهود جوستينيان الأخيرة:
أصبحت الكنيسة في القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية منذ عام 536م منقسمة إلى كيانين متمايزين، كل منهما يعتبر نفسه أنه هو فقط الكنيسة وينظر للآخر كهرطوقي.
ومع ذلك كان الكيان الخلقيدوني بالتحديد يتمتع بموقع أفضل بسبب ما يحظى به من مساندة الدولة، وقد استغل قادته ذلك ليستمروا في حملتهم القوية ضد معارضيهم[28] حتى أن جوستينيان استطاع أن يكتب إلى مجمع القسطنطينية عام 553م ويقول:[29] “والآن عندما رفعتنا نعمة الله إلى العرش، اعتبرنا أن عملنا الرئيس هو أن نوحد الكنائس مرة أخرى، وأن نجعل مجمع خلقيدونية مع الثلاثة مجامع السابقة تحظى بالقبول العام.
وبالفعل كسبنا الكثيرين ممن كانوا يعارضون ذلك المجمع سابقاً؛ أما الذين أصروا على موقفهم فقد قمنا بنفيهم، وهكذا استعدنا وحدة الكنيسة ثانية”. وكانت هذه العبارة تمثل أحلام جوستينيان أكثر من كونها تعبر عن حقيقة تاريخية.
وفي يونيو عام 548م ماتت الإمبراطورة ثيؤدورا من سرطان في الحلق. ويذكر هارولد لامب (Harold Lamb) أنه عندما كان جسدها موضوعاً بين الشموع في صحن كنيسة الرسل، ظهر هناك البطريرك العجوز أنثيموس الذي كان يعتقد الكثيرون أنه مات منذ أكثر من اثنتي عشر سنة.[30]
وبالرغم من أن أنثيموس انسحب من الكرسي في مارس 536م، كما أن جوستينيان كان قد أمر بطرده من المدينة، إلاّ إنه عاش في أحد الأماكن بالعاصمة تحت حماية الإمبراطورة مع ثيؤدوسيوس بطريرك الإسكندرية والقادة غير الخلقيدونيين الآخرين.[31]
ويسجل ميخائيل السرياني[32] أنه بعد موت الإمبراطورة أقنع القادة الخلقيدونيين جوستينيان أن يعقد اجتماعاً آخراً من أجل الوحدة، على أمل أنه من الممكن بدون رعاية الإمبراطورة أن يعلن غير الخلقيدونيين إذعانهم. واستجاب جوستينيان لطلبهم، وأحضر بالفعل إلى العاصمة أربعمائة رجل مكثوا هناك ما يقرب من العام يناقشون الأمر مع المعينين من قبل الإمبراطور.
ولم تؤتِ تلك الجهود بأي ثمار وعاد الرجال إلى بلادهم، لكن الجدير بالذكر أن ذلك الموقف قد أثبت أن اعتراض غير الخلقيدونيين على مجمع خلقيدونية لم يكن معتمداً على مساعدة أي سلطة أرضية.
واستخدم الإمبراطور جوستينيان، في دعوة القادة غير الخلقيدونيين لمناقشات الوحدة، أشخاصاً يكونون محل ثقته ومحل ثقة الرجال المدعوين. وكان يوحنا أسقف أفسس من بين هؤلاء الأشخاص، وهو رجل سرياني من أنودا (Anuda) وُلد في أوائل القرن السادس ونال تعليمه في الشرق، وبعد أن عاش في فلسطين فترة من الزمن أستقر في القسطنطينية، وقام يعقوب البرادعي برسامته أسقفاً على أفسس في عام 558م.
وكان يوحنا غير خلقيدوني بحسب المعتقد وبحسب المنطقة التي ينتمي إليها، وقد خدم قضية كنيسته بطرق مختلفة في العاصمة أثناء فترة حكم جوستينيان واثنين من خلفائه حتى مات في حوالي عام 586م.
وهناك اثنان من أعمال يوحنا التاريخية يعتبران من المصادر النفيسة لدراسة الكنيسة الشرقية في القرن السادس، أولهما كتاب عن تاريخ الكنيسة في ثلاثة أجزاء، لم يصل إلينا منها إلاّ الجزء الثالث فقط وبعض بقايا من الجزء الثاني،[33] أما العمل الثاني فهو ’حياة القديسين الشرقيين‘ وهذا الكتاب متاح لدينا.[34]
وكان يوحنا يحظى بقدر كبير من التقدير لدى جوستينيان، وقد أشركه في إنجاز عدد من المهام الدقيقة من بينها التبشير بالإنجيل بين الوثنيين في آسيا الصغرى، واستطاع يوحنا أن يجذب سبعين ألف نفس للإيمان المسيحي من خلال برنامج للخدمة بدأه عام 542م. ومن المسجل أن يوحنا قام بهذا المشروع بناءً على طلب من جوستينيان الذي تحمل كل النفقات المطلوبة له، وأنه كان من سعة الأفق والمرونة حتى أنه سمح للداخلين في الإيمان أن ينضموا للكيان الخلقيدوني.[35]
(ح) مجمع القسطنطينية عام 553م:
على الرغم من خطة جوستينيان لمساندة مجمع خلقيدونية، إلاّ أن كثرة مناقشاته مع القادة غير الخلقيدونيين أقنعته بأن اعتراضهم على مجمع عام 451م لا يمكن أن يكون كله بدون أساس، ولا يمكن أن يتم تجاهل هذا الاعتراض تماماً. ومن هنا سعى جوستينيان أن يجعل مجمع خلقيدونية وصيغته العقائدية متسقاً مع الفكر اللاهوتي للتقليد السكندري. وكان هذا هو هدفه من وراء الدعوة لعقد مجمع القسطنطينية عام 553م. ويعتبر هذا المجمع هو المجمع المسكوني الخامس عند الخلقيدونيين.
وحيث إن تاريخ مجمع عام 553م يقع خارج مجال دراستنا الحالية، فسنكتفي هنا بالنظر باختصار للموقف اللاهوتي الذي تبناه المجمع ونرى كيف كانت المشكلة التي نتجت عن خلقيدونية معقدة للغاية. وكانت هناك ثلاثة قرارات لمجمع عام 553م تستدعي الملاحظة: (1) إعلان مجمع خلقيدونية المجمع المسكوني الرابع؛ (2) إدانة ’الفصول الثلاثة‘؛ (3) قبول الحروم الأربعة عشر.
وبالنسبة للقرار الأول، ذكر جوستينيان في خطابه الموجه إلى المجمع: “نحن نتمسك بشدة بقوانين المجامع الأربعة”،[36] كما أن المجمع في عبارته ضد ’الفصول الثلاثة‘ عبَّر عن “قبوله للأمور … التي حددها الستمائة والثلاثون المجتمعون في خلقيدونية، للإيمان الواحد ذاته”،[37] وبهذه الطريقة تم التصديق على مجمع خلقيدونية بواسطة مجمع عام 553م.
ويستحق القرار الثاني انتباهاً خاصاً، حيث كانت ’الفصول الثلاثة‘ تشير إلى إدانة ثيؤدور أسقف موبسوستا[38] كهرطوقي، وكتابات معينة لثيؤدوريت أسقف قورش وإيباس أسقف الرها باعتبارها تخالف إيمان الكنيسة. وهذا يعني أنه من هؤلاء الرجال الثلاثة تم وصف ثيؤدور بأنه هرطوقي خطر، على الرغم من أنه في خلقيدونية لم يُذكر حتى اسم ثيؤدور بصورة جادة، مثلما حدث مع كل من ثيؤدوريت وإيباس.
ووجد مجمع عام 553م عيباً في ثيؤدوريت بسبب ما “كتبه بدون تقوى ضد الإيمان القويم، وضد حروم ق. كيرلس الإثني عشر، وضد مجمع أفسس الأول” وأيضاً بسبب “بعض الأشياء التي كتبها في الدفاع عن ثيؤدور ونسطور عديمي التقوى “.[39] ومن الواجب أن نتذكر أن كل كتابات ثيؤدوريت، كانت قد نُشرت قبل أن ينعقد مجمع خلقيدونية عام 451م، وأنه على أساس هذه الكتابات نفسها تمت إدانته في مجمع أفسس الثاني عام 449م.
ومع ذلك فبالرغم من تلك الإدانة وبالرغم من تلك الكتابات، قام ليو بابا روما ـ كما رأينا ـ بإعادته إلى الأسقفية،[40] كما سعت السلطة الإمبراطورية لتجعله يشترك في مجمع عام 451م[41] ـ وذلك بدون ذكر لأي كلمة عن هذه الكتابات أو عن دفاعه عن الرجل الذي وصفه مجمع عام 553م بـ ’ثيؤدور أكثر الجميع في عدم التقوى‘ ـ وكان ذلك على أساس مجرد حرمان فاتر وغير مرغوب فيه نطق به ثيؤدوريت ضد نسطور.
فإذا كان ثيؤدوريت يستحق بالحقيقة ذلك الوصف الذي وصفه به مجمع عام 553م، فيكون من الغريب فعلاً أن يتجرأ ذلك المجمع (أي مجمع القسطنطينية عام 553م) ليدافع في نفس اللحظة عن مجمع خلقيدونية الذي بعد فحص كل هذه التهم ضد ثيؤدوريت حكم بتبرئته.
وهذه النقطة تبدو أكثر قوة عند الرجوع إلى معالجة المجمع لموضوع إيباس، فقد حكم مجمع عام 553م بأن “الخطاب الذي قيل أن إيباس قد أرسله إلى ماريس الفارسي” يحتوي بالفعل على “تجاديف الهرطوقيين ثيؤدور ونسطور” الذي يدافع عنهما إيباس ويدعوهما من علماء اللاهوت، بينما يشير إلى الآباء القديسين بأنهم هراطقة.[42]
وخطاب إيباس هذا كان قد كُتب هو الآخر قبل انعقاد مجمع خلقيدونية بفترة طويلة، كما أن إيباس كان قد أُدين بسبب هذا الخطاب وبسبب تهم أخرى في مجمع عام 449م. وحينما قُدمت كل هذه الأدلة إلى مجمع خلقيدونية وتم فحصها، أعطى مندوبو روما حكمهم بأن تلك الأدلة لا تبرر إدانة الرجل وحرمه، وأن إيباس ـ برغم ذلك الخطاب ـ كان أرثوذكسياً.[43] وزعم مجمع عام 553م بأن خطاب إيباس لم يُقبل من مجمع خلقيدونية بحجة أن تلك الوثيقة تتسم بمنتهى عدم التقوى بحيث أنه من غير الممكن أن يكون ’المجمع المقدس‘ قد قبلها.
وتعتبر هذه الحجة غريبة بالفعل، كما أن دفاع مجمع عام 553م عن مجمع خلقيدونية من خلال إدانته ’للثلاثة فصول‘ هو بمثابة محاولة لتصحيح خلل خطير رآه جوستينيان ومن معه في المجمع السابق.
وتعزز الحروم التي أصدرها مجمع عام 553م حكمنا هذا بصورة أكبر، فقد استبعدت (هذه الحروم) هرطقات معينة من جهة، وتمسكت بموقف لاهوتي محدد من الجهة الأخرى. والحقيقة التي تكمن وراء تلك الحروم بجهتيها هي أنها تثبت وتؤيد وجهة النظر التي تمسك بها غير الخلقيدونيين على الدوام. فلو كان الإمبراطور والكيان الخلقيدوني قد اعترف بهذه الحقيقة، لكان من الممكن تجنب قدر عظيم من المصادمات التي أدت إلى تباعد الفريقين.
ويروي ميخائيل السرياني[44] أن جوستينيان الذي فعل الكثير جداً من أجل توطيد مجمع خلقيدونية، انجذب في نهاية حياته إلى الفكر اليولياني. ويذكر ذلك المؤرخ السرياني أن الإمبراطور، الذي اعتاد أن يمتدح مجمع خلقيدونية بأنه لم يقبل خطاب إيباس، صُدم حين سمع من فيجيليوس (Vigilius) بابا روما أن المجمع في الحقيقة كان قد قبل الوثيقة، وهنا وفي غيظه أطلق جوستينيان حرماً ثلاثياً على خلقيدونية، وتبنى الفكر اليولياني.[45]
[1] See Robert Browning: Justinian and Theodora, op. cit., pp. 38f
[2] History of the Byzantine Empire, op. cit., p. 149.
[3] Romily Jenkins: Byzantium: The Imperial Centuries – A. D. 610 – 1071, Wiedenfeld and Nicolson, 1966, pp. 12-3.
[4] للإطلاع على رسالة البطريرك ساويروس انظر (Zacharia, op. cit., II, pp. 123-31). وكان ويجرام (Wigram) قد ذكر أن البطريرك ساويروس ’قد تعلل بالمرض‘ (مرجع سابق صفحة 114)، ولكن الرسالة في الواقع لا تؤيد هذا الرأي.
[5] للإطلاع على ملخص لهذا الاعتراف انظر (Zacharia, op. cit., II, pp. 115-123).
[6] Frend, op. cit., pp. 265f.
[7] هذه هي المعلومات الوحيدة التي لدينا عن هذه الاجتماعات.
[8] Wigram, op. cit., p. 114.
[9] لقد تمت مناقشة كيفية نشوء النزاع في الفصل الأول. وبناء عليه لا يمكن الأخذ بتعليق فرند مأخذ الجد.
[10] Robert Browning: Justinian and Theodora, op. cit.
[11] Michael le Syrien, op. cit., p. 314.
[12] Michael le Syrien, ibid., p. 277; Gregorii Barhebreii, Chronicon Syriacum (Syriac) Paris, 1890, p. 78; C. S. C. O., vol. 81, p. 192; History of the Patriarchs of the Coptic Church of Alexandria, II, P.O., Tome 1, Fascicule 4, p. 459.
[13] Frend, op. cit., p. 271.
[14] Vasiliev: History of the Byzantine Empire, op. cit., p. 151.
[15] كان هذا الإتهام يشير إلى إنتقاله من تريبيزوند (Trebizond) إلى كرسي القسطنطينية. وكان القانون الخامس عشر من قوانين مجمع نيقية يمنع إنتقال أسقف أو قس أو شماس من مدينة (أي المدينة التي رُسم عليها) إلى أخرى.
[16] معظم هذا الخطاب محفوظ في (Zacharia, op. cit., II, pp. 139-140).
[17] History of the Byzantine Empire, op. cit., p. 151.
[18] Zacharia, op. cit., II, p. 190.
[19] See P.O., Tome 1, Fascicule 4, op. cit., p. 472.
يقول المؤلف أن جميع الأديرة كانت كاملة العدد، وأنه كان يوجد إثنتان وثلاثون مزرعة مزدهرة يقتاتون عليها.
[20] Michael le Syrien, op. cit., p. 556.
[21] المرجع السابق صفحة 456.
[22] هذا القول نقلاً عن يوحنا الأسيوي. انظر (C.S.C.O. vol. 104, p. 405)
[23] هذه الخطابات محفوظة في: (Zacharia, II, op. cit.).
[24] لقد إتفقت المصادر على أن يوم الثامن من فبراير كان هو يوم نياحة البطريرك ساويروس، ولكنها اختلفت في تحديد العام، فالبعض ذكر أنه عام 537م والبعض عام 538م والآخر عام 539م.
[25] لقد اشترك يعقوب في سيامة بطريركين لأنطاكيا وهما بالتحديد سرجيوس وبولس الأسود.
[26] حول هذا العدد انظر: (Michael le Syrien, op. cit., p. 365)، ويذكر المؤلف أن هذا العدد قد وُجد في أوراق يعقوب.
[27] لم تكن كلمة ’اليعاقبة‘ (Jacobite) في الأصل، وصف معيب استخدمه الخلقيدونيون ضد غير الخلقيدونيين، ولكنها كانت اسم استخدمه الفريق المعارض ليعقوب في الكنيسة السريانية للحط من قدر الجماعة المؤيدة له. فكما سنرى فيما بعد (صفحة ) نشأ في سبعينات القرن السادس صراع بين يعقوب والبطريرك بولس الأسود، نتج عنه إنقسام الشعب إلى معسكرين. وفي هذا السياق تم صياغة اسم ’اليعاقبة‘ واستخدامه. (Michael le Syrien, p. 357).
[28] لقد أُطلق العنان للإضطهاد غير الآدمي على الأساقفة ورجال الإكليروس والرهبان والراهبات غير الخلقيدونيين وعلى الشعب عموماً من قبل القيادات الكنسية الخلقيدونية أمثال إفرايم الأنطاكي، وبولس الرهاوي، وأبراهام بار كيلي أسقف أميدا. وقد قام المؤرخون السريان بوصف هذه الإضطهادات بكلمات مؤثرة للغاية.
[29] N. & P. N. F., sec ser., vol. XIV, p. 302.
[30] Harold Lamb: Constantinople: Birth of an Empire, Robert Hale, 1957, p. 275.
[31] C. S. C. O., vol. 104, op. cit., pp. 409f.
[32] Michael le Syrien, op. cit., pp. 312-13.
[33] لقد كتب يوحنا بالسرياني، والجزء الثالث من كتابه عن تارخ الكنيسة يمثل المجلد رقم 105 في (C. S. C. O., 1935)، أما بقايا (أو شذرات) الجزء الثاني فهي ملحق المجلد رقم 104 صفحة 403 – 415.
[34] للإطلاع على كتاب ’حياة القديسين الشرقيين‘ انظر: (P. O. vol. 17-19)
[35] Michael le Syrien, op. cit., pp. 287-88.
[36] للإطلاع على ملخص للخطاب انظر: (N. & P.N.F., sec. ser., op. cit., pp. 302-3)
[37] للإطلاع على العبارة انظر: (المرجع السابق صفحة 306-11).
[38] كان ثيئودور بحق واحداً من أبرز مفسري الكتاب المقدس ولاهوتيي المدرسة الأنطاكية. انظر صفحة وما يليها.
[39] See N. & P.N.F., sec. ser., op. cit., pp. 306.
[40] انظر صفحة .
[41] انظر صفحة .
[42] المرجع السابق صفحة 310-311.
[43] لمراجعة طرح قضية إيباس في مجمع خلقيدونية، انظر صفحة وما يليها.
[44] Michael le Syrien, op. cit., p. 325.
[45] سوف نرى فيما بعد أن المفهوم اليولياني له تواجد في التعليم الخريستولوجي الذي تبناه الجانب الخلقيدوني.