قرارات مجمع خلقيدونية المتصلة بالإيمان ج3
الجزء الأول: قرارات مجمع خلقيدونية المتصلة بالإيمان ج1
الجزء الثاني: قرارات مجمع خلقيدونية المتصلة بالإيمان ج2
6. تبرئة ثيؤدوريت وإيباس:
إن عدم الاتفاق الحقيقي على مجمع خلقيدونية بالنسبة للأمور التي يشدد عليها السكندريون، يرتبط بتعامل المجمع مع ثيؤدوريت وإيباس. وكانت القوتان المسيطرتان على المجمع (روما والقسطنطينية) وكذلك الفريق الأنطاكي يريدون فقط أن يثبتوا أن الحكم الذي أعلنه مجمع عام 449م ضد كل من ثيؤدوريت وإيباس كان ببساطة حكماً غير مسئولاً.
ولكن لم يشاركهم في هذه النظرة قسم كبير من الحاضرين في مجمع خلقيدونية، حيث كان هؤلاء المعارضون مقتنعين بأن هذين الرجلين هما في الحقيقة نسطوريين، وأنهما أُدينا بإنصاف، وأنه لا ينبغي أن يُسمح للفريق القوي في المجمع أن يصدر قراره بخصوصهما ما لم يقم الرجلين بإدانة نسطوريوس وتعليمه بوضوح.
(أ) قضية ثيؤدوريت أسقف قورش:
لقد تمت معالجة مسألة ثيؤدوريت في مجمع خلقيدونية على مرحلتين،[1] ففي يوم 8 أكتوبر وفور قراءة تفويض الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني في محاضر مجمع عام 449م، والذي يمنع فيه مشاركة ثيؤدوريت في ذلك المجمع، أدخل ممثلو الإمبراطور أسقف قورش إلى مجمع خلقيدونية،[2] متجاهلين إدانته بواسطة المجمع السابق ومتذرعين بأن ليو بابا روما كان قد أعاده إلى رتبة الأسقفية.[3]
وبمجرد دخول ثيؤدوريت إلى المجمع أعلن أساقفة مصر وإيليريكم وفلسطين عن اعتراضهم الشديد وصاحوا قائلين: “ارحمونا، إن الإيمان يتحطم! إن القوانين تطرده! اطردوا معلم نسطوريوس!”، وهنا رد الأساقفة في الجانب الآخر بأن الرجل الذي كان يجب أن يُطرد هو ديسقوروس. وفي وسط هذه الجلبة، تحرك أسقف قورش إلى وسط المجمع وقال أنه قد قدَّم التماسات إلى ’سادة العالم‘ وأنه يناشد تعطف المجمع لكي تتم قراءتها، ولم يؤتِ هذا الكلام بأية نتيجة واستمر الجانبان في صياحهما كل ضد الآخر.
وهتف المعارضون له قائلين: “إنه ليس أسقفاً، اطردوا محارب الله؛ اطردوا اليهودي”! وكان السكندريون يقاومون ثيؤدوريت على نفس المستوى الذي قاوم به الأنطاكيون البابا ديسقوروس. وبعد هذا المشهد الصاخب، حكم ممثلو الإمبراطور بأن يبقى ثيؤدوريت في المجمع بصفته مقدم التماساً.
وتعرض المجمع للمرة الثانية لمسألة ثيؤدوريت يوم 26 أكتوبر،[4] وبمجرد أن ذُكرت القضية، تجاهل الأساقفة تصرف البابا ليو معه وصاحوا: “إن ثيؤدوريت مازال محروماً”، فرد عليهم أسقف قورش بأنه كان قد قدَّم دعاوى (التماسات) إلى الإمبراطور وإلى مندوبي روما ويمكن أن تتم قراءتها إذا أراد الأساقفة، ولكن من الواجب أن نتذكر أن تلك الدعاوى لم تكن مُرسلة إلى المجمع.
وكان رد الأساقفة أنهم لا يريدون أن يقرأوا أي شيء، ولكن ما يريدونه منه هو أن يدين نسطوريوس، فأجابهم ثيؤدوريت: “لقد تربيت على أيدي الأرثوذكس، وتعلمت بواسطة الأرثوذكس،[5] وأنا أعظ وأبشر بالأرثوذوكسية؛ وأتجنب وأحسبه مخالفاً ليس فقط نسطوريوس وأوطيخا ولكن كل واحد ليس لديه الفكر الصحيح”، وهنا طالبه الأساقفة قائلين: “تكلم بصراحة ووضوح، وقل ليُحرم نسطوريوس وعقيدته، ليُحرم نسطوريوس وهؤلاء الذين يدافعون عنه”.
وعندئذ حاول ثيؤدوريت أن يقدِّم شرحاً لموقفه فقال: “الحق إني لا أقول إلاّ ما أعرف أنه يرضي الله. وفي البداية أريد أن أوضح أنني ما جئت إلى هنا لأنني أهتم بمدينتي أو أبحث عن رتبتي، ولكن بما إنني قد اتُهمت باطلاً لذلك أتيت لكي أوضح أنني أرثوذوكسي، وأنني أدين نسطوريوس وأوطيخا، وكل من يعترف بابنين”، وهنا تدخل الأساقفة وطالبوه ثانية بأن يحرم نسطوريوس وحسب، ومرة أخرى حاول أسقف قورش أن يدافع عن موقفه، فصاح الأساقفة: “إنه هرطوقي! إنه نسطوري! اخرجوا الهرطوقي”، وأمام هذا قال ثيؤدوريت مدفوعاً: “ليُحرم نسطوريوس، ليُحرم من لم يعترف أن القديسة مريم هي ’والدة الإله‘ (ثيؤتوكس)، ليُحرم من يقسم الابن الواحد الوحيد إلى ابنين.
لقد قمت بالفعل بالتوقيع على تعريف الإيمان وكذلك على طومس ليو، وفكري يتفق معهما”. وتُظهر عبارات ثيؤدوريت السابقة كيف كان حريصاً في موافقته على حرم نسطوريوس. ووجدت هذه الكلمات قبولاً لدى ممثلي الإمبراطور، وعلقوا عليها قائلين إن ثيؤدوريت قد حرم نسطوريوس وقبل طومس ليو ووقع على اعتراف الإيمان الخاص بالمجمع، فما هو حكم الأساقفة بخصوص الرجل، فأجاب الأساقفة “إن ثيؤدوريت يستحق الكرسي، لتدم الأرثوذكسية للكنيسة”. وبهذه الطريقة تمت إعادة ثيؤدوريت لشركة الكنيسة وكذلك إلى أسقفيته.[6]
وتدعونا قصة تبرئة ثيؤدوريت إلى التعليق بأن أسقف قورش لم يكن مقتنعاً بأنه أو بأن أي أحد من قادة التقليد الأنطاكي بما فيهم نسطوريوس كان لديه فكراً هرطوقياً. وكان ليو ومندوبو روما ـ الذين يزعمون أنهم قد حرموا نسطوريوس ـ يساندون ثيؤدوريت، بدون أن يوضحوا الأساس الذي بنوا عليه هذا التصرف.
ونحن في تعليقنا هذا، لا نعني أن ثيؤدوريت كان يجب عليه أن يحرم نسطوريوس أو اللاهوتيين الأنطاكيين أمثال ثيؤدور أسقف موبسويستا، وسوف نعرض وجهة نظرنا في هذه المسألة لاحقاً في هذه الدراسة، ولكن ما نريد أن نلاحظه هنا هو أن ليو بابا روما في إعلانه أن نسطوريوس هرطوقياً من ناحية، وفي تأييده لثيؤدوريت الذي كان حليفاً لنسطوريوس والذي لم يحرم نسطوريوس من الناحية الأخرى، كان يتمسك بمعيارين في الجدل الخريستولوجي الدائر. ويستطيع الناقدون لليو أن يروا وراء تصرفه هذا خطة مدبرة لإضعاف الثقة في مجمع أفسس عام 431م وكذلك في التقليد اللاهوتي لآباء الإسكندرية.
ولم يشارك الأساقفة الشرقيون ليو في وجهة نظره، حيث طلبوا من ثيؤدوريت أن يعلن رفضه لنسطوريوس في تعبيرات واضحة، وذلك رغم أن التحالف بين روما والسلطة الإمبراطورية في القسطنطينية في ذلك الوقت قد جعلهم عاجزين عن التعبير عن وجهة نظرهم بصورة مؤثرة في المجمع. ووجهة نظر هؤلاء الأساقفة الشرقيين ـ وليست التي لبابا روما ـ هي التي سادت في الشرق في القرن السادس، وقد تم التصديق عليها واعتمادها بواسطة مجمع عام 553م،* حيث أعلن ذلك المجمع ـ الذي اعتُبر رسمياً أنه مجمع مسكوني حتى من قبل روما ـ أن كتابات ثيؤدوريت الهجومية ضد مجمع أفسس عام 431م وضد موقف ق. كيرلس اللاهوتي هي كتابات هرطوقية.
وبتبنيه لهذا القرار يكون مجمع عام 553م ـ ولو لم يقر بذلك ـ قد تتبع تاريخه العقائدي* من خلال هؤلاء الأساقفة الشرقيين وصولاً إلى مجمع أفسس الثاني عام 449م الذي كان قد حرم ثيؤدوريت على أساس أن كتاباته تلك تضمَّنت مخالفة للإيمان الذي ترسخ في مجمع عام 431م ثم صُدِّق عليه في صيغة إعادة الوحدة عام 433م.
(ب) تبرئة إيباس أسقف الرها:
ويمكننا أيضاً من تسوية قضية إيباس، أن نتبين أن الفريق الأقوى في المجمع حاول بصورة واضحة أن يضعف الثقة في مجمع أفسس عام 431م. وقد تناول مجمع خلقيدونية قضية إيباس يوم 26 أكتوبر وتم اتخاذ القرار في اليوم التالي.
كان إيباس بالفعل شخصاً مثيراً للجدل، وهو رجل كنسي أنطاكي صاحب الوفد السرياني إلى مجمع أفسس عام 431م كراهب. ولكنه وعلى خلاف ثيؤدوريت قبل في ذلك الوقت صيغة إعادة الوحدة عام 433م، وكتب رسالته إلى ماريس (Maris) أسقف أرداشير (Ardaschir) في بلاد فارس مقدماً تعليقه على مجمع أفسس وصيغة إعادة الوحدة من وجهة النظر الأنطاكية.
وكتب إيباس في رسالته هذه:[7] أنه كان هناك خلاف بين نسطوريوس وكيرلس، وقد تمسك نسطوريوس بأن العذراء الطوباوية لم تكن والدة الإله ’ثيؤطوكس‘ وبالتالي أعطى الانطباع بأنه يتبع بولس السموساطي.
ولكن كيرلس في محاولته أن يفند آراء نسطوريوس، وقع في هرطقة أبوليناريوس، فقد أكد على سبيل المثال أن الله الكلمة صار إنساناً بحيث لا يوجد فرق بين الهيكل والذي يسكن فيه، وقد بدا أنه يحاول أن يبرهن من خلال حرومه الإثني عشر أن طبيعة لاهوت ربنا وطبيعة ناسوته كانتا واحدة، وأنه بالنسبة للأقوال والأفعال ـ سواء التي قالها أو التي نسبها إليه الإنجيليون ـ فلا ينبغي أن يكون هناك أي تمييز بينها،* “وأنا متأكد إنك ستعرف مدى الشر في كل هذا”.
ويكمل إيباس كلامه قائلاً: وتعليم الكنيسة هو على العكس من ذلك، فالابن الواحد الرب يسوع المسيح، هو طبيعتين، وقدرة واحدة، وبروسوبون واحد. وقد اجتمع مجمع أفسس ليحكم بين موقفي نسطوريوس وكيرلس، ولكن الأخير اغتصب الرئاسة وقام بحرم الأول بوازع من العداوة الشخصية، وحتى قبل أن يصل يوحنا الأنطاكي وأساقفته إلى المجمع.
وبعد ذلك بيومين دخل الوفد القادم من الشرق إلى أفسس، وعلم أنه قد تم الاعتراف بأرثوذكسية حروم كيرلس الإثني عشر، فأدى ذلك إلى جدل كبير تم حله في النهاية بالتوصل إلى اتفاقية، فرب الكنيسة قد ألان قلب المصري (ق. كيرلس)، ولهذا وبدون مجهود كبير وافق أن يقبل الإيمان ويتخلى عن أولئك الذين ليس لهم نفس إيماننا.
وختم إيباس رسالته بإرشاد ماريس بأن يُعرِّف الذين يعتبرهم محبين للسلام بأن النزاع قد انتهى، وبأنه ينبغي على أولئك الذين رفعوا أنفسهم بتطرف فوق الأحياء والأموات[8] أن يخجلوا الآن من موقفهم السابق ويعتذروا عن حماقتهم؛ لأنه لا أحد الآن يتجرأ أن يقر بأن لاهوت وناسوت المسيح هما واحد، ولكنهم يعترفون بأن الهيكل والذي يسكن داخله هما ابن واحد يسوع المسيح.
ويُظهر لنا الملخص السابق أن إيباس كان رجلاً يشجب مجمع أفسس عام 431م، والموقف اللاهوتي لآباء الإسكندرية، وتعليم ق. كيرلس. وكان رجلاً مؤيداً لنسطوريوس، وبحسب كلمات تيكسورنت (Tixorent) كان إيباس أيضاً عدواً أكيداً لكيرلس وقد اتهم فكره اللاهوتي بالأبولينارية.[9] وتمثل رسالة إيباس نموذجاً لوجهة النظر الأنطاكية في صيغة إعادة الوحدة عام 433م.
وقد رأى الجانب الأنطاكي أن كاتب تلك الرسالة يعتبر سنداً قيماً للقضية، ولذلك تم تنصيبه على كرسي الرها عام 435م خلفاً للأسقف رابولا (Rabbula) الذي سبب لهم إخلاصه للفكر اللاهوتي الكيرلسي مشاكل كثيرة. وقد لاقى الموقف العقائدي للأسقف الجديد وكذلك سلوكه الشخصي في الأمور الكنسية، معارضة كبيرة على المستوى الكنسي الرسمي والشعبي في المنطقة.[10] وعلى الرغم من أن شكواهم ضده لم يُحكم فيها في بريتُس وصور،[11] فإن مجمع عام 449م قام بفحصها وحكم بعزل إيباس بتهمة الهرطقة وسوء الإدارة للممتلكات الكنسية.[12]
ونعود إلى خلقيدونية، فعندما شرع المجمع في تناول قضية إيباس،[13] تقدم الرجل وقال إنه قد حُرم بواسطة مجموعة من الأوطيخيين، ولكنه بالحقيقة أورثوذوكسي. وهنا سأل ممثلو الإمبراطور الأساقفة عن رأيهم، وفي هذا السياق ذُكرت الدعاوى التي كانت ضده في بريتُس وفي صور وكذلك رسالته إلى ماريس، ولكن محاكمته التي كانت في مجمع عام 449م لم تُؤخذ في الاعتبار.
وعندما انتهت القراءة أعطى مندوبو روما حكمهم قائلين أن الأدلة التي ضد إيباس لا تبرر مسألة حرمه ومن ثم يجب تبرئته، وهنا تكلم أناتوليوس وجوفينال وثالاسيوس معلنين موافقتهم على حكم مندوبي روما. وتستحق العبارة التي نطق بها جوفينال في تلك المناسبة أن نذكرها هنا كما أوردها هونيجمان (Honigman) حيث قال: “إن الكتب المقدسة تعلمنا أن نقبل المهتدون، ومن هنا نحن نقبل حتى الهراطقة السابقين. ولهذا السبب فأنا أيضاً أوافق معكم على تلك الرحمة (“محبة البشر”) التي قد مُنحت لهذا الأسقف الجليل إيباس، حيث سيأخذ كرامة الأسقفية مادام هو الآن أرثوذوكسياً”.[14]
وقبل أن يتم التوصل إلى القرار النهائي قال مندوبو روما: “نحن بقراءة الأوراق ندرك أن قرار الأساقفة[15] (السابق) بخصوص إيباس لم يكن قراراً مسئولاً. وبعد قراءة رسالته،[16] نعرف أنه أرثوذوكسي”.[17] وبعد ذلك عبَّر ستة عشر أسقفاً عن موافقتهم كل بصورة شخصية، كما هتف المجمع: “كلنا نوافق.
فقد حرم (إيباس) بالفعل نسطوريوس وأوطيخا”[18]، وهنا رد إيباس بأنه قد حرم نسطوريوس وتعليمه كتابةً، وبأنه كان يحرمه مليون مرة،[19] ثم أضاف إيباس قائلاً: ليُحرم نسطوريوس وأوطيخا، وكل من يعترف بطبيعة واحدة، وكذلك كل من لا يقبل تعليم (هذا) المجمع. وهنا تمت إعادة قبول إيباس من المجمع.
ونجد في مسألة تبرئة إيباس أيضاً، أنه كان هناك رأيين بين الحاضرين، فبينما رأى مندوبو روما ومؤيدوهم الشرقيون تبرئته على أساس أن الحكم الذي صدر ضده من مجمع عام 449م لم يكن حكماً مسئولاً، فإن بقية المجمع وافقوا على تبرئته لأنه أدان بالفعل نسطوريوس وأوطيخا. وكان هذا الرأي الأخير هو ما ساد في الجانب الخلقيدوني في الشرق في القرن السادس، وهو أيضاً ما أكده مجمع عام 553م.
ويتضح من ذلك أنه بالنسبة لثيؤدوريت وإيباس فإن التقليد الخلقيدوني قد أزاح جانباً ـ وبطريقة لطيفة ـ الموقف الذي كان يسعى الطرف الأقوى في خلقيدونية لأن يثبته، كما أن القرار الذي أصدره مجمع عام 553م باعتبار خطاب إيباس إلى ماريس هرطوقياً، قد أكد حكم مجمع عام 449م وليس حكم مندوبي روما.[20]
7. بعض الملاحظات الختامية:
كانت أهم القرارات التي اتُخذت في خلقيدونية ـ من وجهة نظر دراستنا هذه ـ هي: (1) القرارات المتعلقة بالأشخاص، أي عزل البابا ديسقوروس من جهة وتبـــــرئة ثيـؤدوريت وإيبــــاس من جــهة أخرى؛ (2) الموافقة على طومس ليو كوثيقة للإيمان؛ (3) تبني تعريف (صيغة) للإيمان. ولكن لم يكن هناك بالفعل اتفاق حقيقي بين أعضاء المجمع بالنسبة لأي من تلك القرارات.
فعلى سبيل المثال، تم عزل البابا ديسقوروس بواسطة فريق من الحاضرين، ثم اضطُر بقية المجمع لقبول القرار بشيء من الصعوبة. وبالنسبة إلى كل من ثيؤدوريت وإيباس، فبالرغم من أن الفريق الأقوى في المجمع سعى لإثبات أنهما لم يكونا مستحقين لأية عقوبة، فإن الأساقفة الآخرون أصروا على أنهما كانا في الحقيقة هرطوقيين، وأنه يمكن قبولهما فقط إذا قاما بحرم نسطوريوس بعبارات واضحة لا تُخطَئ.
أما طومس ليو، فقد حاولت القوى المسيطرة على المجمع أن تعلنه المقياس العقائدي للكنيسة، ولكن كثير من الأساقفة الشرقيين قبلوه فقط كتنازل من أجل الوفاق. وأيضاً بالنسبة لتعريف الإيمان الذي تبناه المجمع، فقد تمت كتابته بحيث يمكن للرجال الذين ينتمون للتقاليد المختلفة في الكنيسة أن يفسروه كل بحسب طريقته الخاصة.
وحتى بالنسبة لتأييد المجمع للتقليد المبكر للكنيسة، لم يكن هناك أيضاً اتفاق حقيقي بين الأعضاء. فبينما أقرت القوى المسيطرة على المجمع، بسلطة مجمع أفسس عام 431م بحسب مفهوم الجانب الأنطاكي فقط، فإن بقية المجمع أصرت على القبول المطلق غير المشروط لمجمع عام 431م ولقراراته بكاملها.
ومن وجهة النظر السكندرية، كان الموقف الذي اتخذه الجانب المنتصر في المجمع يشكل تعدياً على التقليد الثابت للكنيسة، حيث إنه يخالف بنود الاتفاق الذي تم بين ق. كيرلس السكندري والبابا يوحنا الأنطاكي قبل صيغة إعادة الوحدة عام 433م. وعلى الرغم من أن الموالين للجانب السكندري لم يتمكنوا من توضيح وجهة نظرهم بصورة فعالة، بل واضطُروا حتى إلى الاستسلام إلى الجانب القوي ـ الذي استطاع أن يستخدم أوطيخا كورقة رابحة ـ إلاّ أن موقفهم كان له تأثير كبير في الشرق، وهذا ما تأكد بعد انتهاء المجمع.
وينبغي على أي تقييم لمجمع خلقيدونية أن ينتبه بشكل كافٍ لحقيقة أن الأمر الفعلي الذي تسبب في انقسام الشرق عملياً إلى معسكرين منذ صيغة إعادة الوحدة عام 433م، لم يكن هو أوطيخا أو فلافيان، ولكنه كان التفسير المختلف تماماً لمجمع عام 431م نفسه، فالرجلان لم يكونا سوى كبشي فداء، وضع المعارضون لكل واحد منهما الاتهامات على الشخص الذي يخالفهم، وحاولوا أن يجهزوا عليه كتعبير عن رفضهم للفريق الذي ينتمي إليه ذلك الشخص.
وكانت القوى المسيطرة على المجمع ـ وهي بالتحديد روما من جهة والسلطة الإمبراطورية في القسطنطينية من جهة أخرى ـ قد استخدمت مجمع خلقيدونية لتحقيق خططها الخاصة، فروما كانت تريد أن تؤكد زعمها في السيادة الشاملة على الكنيسة، أما السلطة الإمبراطورية في القسطنطينية فكانت تحاول أن تجمع الكنيسة كلها في الشرق تحت سلطة كرسي القسطنطينية.
ولم يكن لدى أي من هاتين القوتين الصبر من أجل فحص المشكلة التي كانت تواجه الكنيسة في ذلك الوقت بصورة موضوعية و تقديم الحل الذي يرضي جميع الأطراف، ولعل ذلك الأمر كان مستحيلاً من الوجهة البشرية. وعلى أية حال، فإن الجماعات الكثيرة التي كانت تتبع التقليد السكندري في الشرق، استمرت متمسكة بموقفها بصورة شديدة، وتحدت سلطة المجمع متخذة موقفها بثبات على أساس الفهم السكندري لمجمع أفسس عام 431م.
[1] للاطلاع على تقييم إيجابي لثيؤدوريت انظر: (N. & P.N.F., sec. ser., vol. III). وكان ثيؤدوريت لاهوتي مشبع بالفكر الأنطاكي، وكان يؤمن أن نسطوريوس لم يكن يستحق الإدانة، وكان قد رفض التوقيع على الحكم الصادر ضد الرجل إلى أن أُجبر على ذلك يوم 26 أكتوبر. وقد أبعد نفسه حتى عن قبول إعادة الوحدة عام 433م، ولكنه قبلها بعد ذلك في عام 435م، واستمر في صحبة يوحنا الأنطاكي صانعاً سلاماً غير مستقر مع ق. كيرلس.
وفي وقت التوتر الذي حدث بين الجانبين السكندري والأنطاكي بعد إعادة الوحدة، لعب دوراً فعالاً في جانب الأخير. وبعد موت يوحنا عام 441م، صار هو القائد الفعلي للفريق الأنطاكي، ومن ثم جعل نفسه مبغضاً في عيون السكندريين بسبب أفعاله وبسبب كتاباته. ولهذا تزايدت الشكاوى ضده، وأمره الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني أن يبقى ملتزماً بكرسيه. وبعد ذلك بوقت قصير تمت إدانته من قبل مجمع عام 449م. للاطلاع على الإجراءات التي اتُخذت ضده في ذلك المجمع، انظر:
Akten der Ephesenischen Synode Jahre 449, ed. Johannes Fleming, Berlin, 1917 (Syriac), pp. 84 – 112.
وعلى الفور تقدم بدعوى لليو بابا روما ورتب قضية مشتركة معه، وبعد موت الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني تقدم بالتماس للأباطرة الجدد.
[2] ACO. II, i, pp. 69-70: 25-46.
[3] المرجع السابق صفحة 69: 26.
[4] للاطلاع على وقائع تبرئة ثيؤدوريت انظر ACO. II, i, pp. 368f: 4-25.
[5] من الواضح أن ثيؤدوريت كان يشير إلى رجال مثل ثيؤدور المبسويستي الذين كانوا قد شرحوا الإيمان في التقليد الأنطاكي، ولكن السكندريون كانوا يعتبرونهم هراطقة.
[6] وبعد إعادة (تبرئة) ثيؤدوريت، صوَّت المجمع من أجل تبرئة ثلاثة رجال هم صفرونيوس أسقف قنسطنطينا ويوحنا أسقف جرمانيكيا وأمفيلوخيوس أسقف سيدا. وآخر هؤلاء الرجال مشار إليه في صفحة . وقد طلب المجمع من يوحنا أسقف جرمانيكيا أن يدين نسطوريوس بالتحديد لكي يتم تبرئته. ومع ذلك كان يوحنا هذا رجلاً له دور قيادي بارز في المجمع خلال جلساته الأولى وبالأخص في اجتماع يوم 13 أكتوبر.
وكان واحداً من الرجال الذين أرسلهم المجمع لاستدعاء البابا ديسقوروس في ذلك اليوم. (انظر صفحة ) وفي يوم 22 أكتوبر، عارض يوحنا تبني مسودة التعريف الذي وضعه الأساقفة. (انظر صفحة ) وقد أعطى المشورة لممثلي الإمبراطور (انظر صفحة ).
* هذا المجمع هو الملقب بالمجمع المسكوني الخامس عند الخلقيدونيين، وقد انعقد في القسطنطينية عام 553م.
* أي تتبع الجذور التاريخية العقائدية لهذا القرار
[7] الرسالة في أصلها السرياني موجودة في (Johannes Fleming, op. cit., pp. 48-50). للاطلاع على النسخة اليونانية التي تم تقديمها في مجمع عام 451م انظر:
ACO. II, i, pp. 391-93: 138.
* كان ق. كيرلس يطالب بألا يكون بين هذه الأقوال والأفعال أي تمييز في كون بعضها إلهي وبعضها بشري لأن الذي قال أو فعل هو المسيح الواحد.
[8] من الواضح أن إيباس كان يشير هنا إلى قادة التقليد اللاهوتي الأنطاكي أمثال ثيؤدور أسقف مبسويستا.
[9] History of Dogma, op. cit., p. 52.
[10] بالرغم من أن الرها كانت جزءاً من سوريا، إلا إنها كانت تعارض بشدة التقليد اللاهوتي الأنطاكي، وكانت تؤيد التقليد السكندري.
[11] للإطلاع على مناقشة حول الإجراءات التي تمت ضد إيباس انظر:
(R.V. Sellers, The Council of Chalcedon, op. cit., pp. 49f).
[12] يحتوي كتاب (Johannes Fleming, op. cit., pp. 12-68) على محاضر مجمع عام 449م مع إشارة إلى بحث قضية إيباس. وقد قرأ هذا المجمع تقريراً عن التحقيقات السابقة كما قرأ خطاب إيباس إلى ماريس. وقد وقَّع واحد وعشرون أسقفاً بما فيهم ديسقورس وجوفينال وثالاسيوس وستيفن أسقف أفسس، مقرين بأن إيباس يستحق الحرم. وهنا قال الأساقفة: “نحن جميعاً نوافق على القرار. نحن جميعاً نستبعد مقاوم الله بالإجماع”. (المرجع السابق، صفحة 68).
[13] للإطلاع على الإجراءات في مجمع خلقيدونية انظر (ACO. II, i, pp. 372-401)
[14] Honigman, Juvenal of Jerusalem, op. cit., pp. 246-247.
[15] الإشارة هنا إلى مجمع أفسس الثاني عام 449م.
[16] ذكر هنا خطاب إيباس إلى ماريس.
[17] ACO. II, i, pp. 69-70: 25-46.
وكانت وجهة نظر مندوبي روما أنه بالرغم من الخطاب، فإن كاتبه كان أرثوذكسياً ولا يمكن أن يكون قد كُتب ـ في السياق العام للقرن الخامس ـ بعيداً عن التوجه الإيجابي تجاه مجمع عام 431م والفكر اللاهوتي لكيرلس السكندري.
[18] المرجع السابق صفحة 399: 179.
[19] المرجع السابق صفحة 399: 180.
[20] عندما انتهت قراءة الخطاب في مجمع أفسس عام 449م، هتف المجمع: “هذه الأشياء تلوث السمع. وهى تلائم الوثنيين،…”. انظر (J. Fleming, op. cit., p. 52). أما في خلقيدونية، فقد عبر مندوبو روما عن وجهة نظرهم بأنه بالرغم من كتابة الخطاب محل التساؤل، فإن إيباس كان أرثوذكسياً. وقد أعلن مجمع عام 553م بطريقة لا لبس فيها بأن الخطاب كان هرطوقياً، وأن أى شخص يدافع عنه سواء جزئياً أو كلياً فيجب إدانته. (انظر حروم المجمع: 14).