قرارات مجمع خلقيدونية المتصلة بالإيمان ج1
ملخص كتاب مجمع خلقيدونية إعادة فحص – الأب ف سي صموئيل (بيشوي طلعت)
الجزء الثاني: قرارات مجمع خلقيدونية المتصلة بالإيمان ج2
الجزء الثالث: قرارات مجمع خلقيدونية المتصلة بالإيمان ج3
1. بعض الملاحظات التمهيدية:
بعد عملية عزل البابا ديسقوروس التي تمت في اجتماع يوم 13 أكتوبر عام 451م، اتخذ المجمع قرارين لهما صلة بالإيمان، فمن ناحية أعلن المجمع طومس ليو كوثيقة (رسمية) للإيمان، ومن ناحية أخرى قدَّم المجمع تعريفاً (صيغة) للإيمان.
ولكن الحاضرون في المجمع لم يتقبلوا أياً من هذين القرارين بصورة تلقائية ولا بشكل مطلق، فعلى سبيل المثال رغم أنه قد تم الإعلان عن قبول طومس ليو يوم 17 أكتوبر بعد أن وقَّع عليه أعضاء المجمع بصورة شخصية، إلا أن كثير من الشرقيين كانوا قد وافقوا على ذلك الطومس فقط كتساهل (أو تنازل) من أجل بابا روما الذي تسانده السلطة الإمبراطورية.
وكذلك الحال أيضاً مع تعريف الإيمان الخلقيدوني، فقد تمت صياغته بعد عراك عنيف بالكلمات بين فريقين مختلفين في المجمع، وصيغ في صورته النهائية بالشكل الذي يسمح للحاضرين الذين ينتمون للتقاليد الثلاثة الموجودة في الكنيسة ـ وهي التقليد السكندري والأنطاكي والغربي ـ أن يفسروه بطرق مختلفة.
وكانت السلطة الإمبراطورية ـ كما رأينا ـ تسيطر على مجمع خلقيدونية من خلال ممثلي الإمبراطور من ناحية، ومن خلال مندوبي روما من الناحية الأخرى، ولكن الاثنان بالرغم من ذلك لم يكونا على اتفاق كامل في جميع الأمور.
فبينما كان مندوبو روما مهتمين بأن يثبتوا أن البابا ـ بكونه الرأس الأعلى للكنيسة قاطبة ـ قد أعطى المجمع الأساس العقائدي القياسي له، فإن ممثلو الإمبراطور كان لهم خطط أخرى لتنفيذها من خلال المجمع. ولذلك عندما كان مندوبو روما يتكلمون بعبارات تعتمد على أقوال البابا، كان ممثلو الإمبراطور يصمتون بتحفظ، ولكن عندما لاحت لهم الفرصة، أخذوا المبادرة من أجل تبني تعريف للإيمان من خلال السلطة المجمعية ـ متجاهلين في ذلك تماماً رغبة المجمع كله، بما فيهم أيضاً مندوبي روما ـ ومن أجل إجازة قرار يتعلق بكرسي القسطنطينية.
وقد سعى الإمبراطور والإمبراطورة، من خلال هذين القرارين (تعريف الإيمان والقرار الخاص بكرسي القسطنطينية) إلى الوصول إلى وحدة العالم المسيحي الشرقي تحت رعاية كرسي القسطنطينية، ولكن بدون قطع العلاقات الودية مع روما.
2. قبول طومس ليو بواسطة المجمع:
بعد الاجتماع الجانبي الملتف يوم 13 أكتوبر، عقد المجمع جلسته العادية يوم 17 أكتوبر، وقد افتتح ممثلو الإمبراطور الجلسة بتذكير الحاضرين بالقرارات التي تم اتخاذها في الجلستين الأولى (8 أكتوبر) والثانية (10 أكتوبر).[1] ولكن لم تُذكر كلمة واحدة عن اجتماع يوم 13 أكتوبر، ولم تُقرأ حتى وقائعه.[2]
وذكر ممثلو الإمبراطور أنهم كانوا قد طلبوا من الوفود التي كانت لا تزال لديها شكوك حول طومس ليو أن يتقابلوا مع أناتوليوس ويصلوا إلى فكر مشترك، وهنا سأل ممثلو الإمبراطور أن يخبروهم عما حدث فيما يخص هذا الأمر.
وأجاب باسكاسينوس عن ذلك بقوله أن إيمان نيقية قد تم التأكيد عليه في مجمع القسطنطينية، وكذلك تم التصديق على نفس الإيمان ثانية بواسطة مجمع أفسس في حرم نسطوريوس، وفي ضوء هذا الإيمان استبعد ليو الآن نسطوريوس وأوطيخا مرة واحدة.[3] وعندئذ هتف المجمع: “كلنا نؤمن بذلك (الإيمان)، وكلنا اعتمدنا عليه؛ وهكذا نحن نمارس التعميد. هذا ما آمنا به؛ وهذا ما نؤمن به”.[4]
وكان ممثلو الإمبراطور في غاية الرضا، وقد أمروا الأساقفة أن يتقدموا ويقولوا أمام الإنجيل الذي في الوسط، بأنهم يقروا بالإيمان الذي يتوافق مع قانون نيقية، والقسطنطينية، وطومس ليو .[5] وابتداءً من أناتوليوس أسقف القسطنطينية، وبعده مندوبو روما، ثم مكسيموس أسقف أنطاكيا، عبَّر مئة وثمان وخمسون رجلاً عن قبولهم لطومس ليو بأحاديث قصيرة.[6]
وكان من بين هؤلاء، أساقفة إيليريكم وفلسطين بما فيهم أتيكوس أسقف نيكوبوليس (Atticus of Nicopolis) الذي كانت له يوم 10 أكتوبر شكوك حول سلامة الفكر اللاهوتي للطومس. وقال أساقفة إيليريكم: “نحن نتمسك بالإيمان المخلص الذي للثلاثمائة والثمانية عشر، (الذين اجتمعوا في نيقية عام 325م) والذي قد أكد عليه المئة والخمسون (الذين اجتمعوا في القسطنطينية عام 381م) ، ونفس هذا الإيمان تم التصديق عليه بواسطة مجمع أفسس عام 431م.
وفيما يخص طومس ليو، فقد زالت شكوكنا بواسطة باسكاسينوس ولوسنتيوس عندما تقابلنا مع أناتوليوس. ونحن نؤمن أن يسوع المسيح المولود من القديسة العذراء ’والدة الإله‘، له في ذاته الألوهة والبشرية متحدتين بغير اختلاط ولا تغيير ولا انفصال. ونحن إذ نرى أن رسالة البابا ليو تتفق مع هذا الإيمان، فإننا نقر بها”.[7]
وقدَّم أساقفة فلسطين كذلك عبارات مشابهة وعبروا عن قبولهم للطومس. وعندما أفاد المئة والثمان والخمسون رجلاً بقبولهم للطومس، سأل ممثلو الإمبراطور بقية المجمع أن يعبروا عن رأيهم بالهتاف، ففعلوا ذلك. وبهذه الطريقة تم إعلان قبول مجمع خلقيدونية لرسالة البابا ليو العقائدية يوم 17 أكتوبر عام 451م، وذلك بعد مدة طويلة من الصراع والجهود المتنوعة منذ أن صدرت هذه الرسالة عام 449م.
وتظهر العبارات التي قدَّمها كل من أساقفة إيليريكم وفلسطين، أنهم لم يقبلوا الطومس بكونه في الواقع اعتراف ضروري بالإيمان، ولكن ببساطة بكونه إعلان (مجاهرة) بالإيمان يمكنهم ـ في ضوء تأكيدات مندوبي روما لهم ـ أن يقبلوه،[8] وهذا في الحقيقة أمر في غاية الأهمية لأن أساقفة إيليريكم، كما سنرى، كانوا لا يزالون لديهم شكوكاً عنيفة حول هذا الطومس.[9]
3. العفو عن الخمسة رجال، ورفض البابا ديسقوروس:
وفور الموافقة على الطومس، طالب المجمع بإعادة قبول الخمسة رجال الذين أُدينوا مع البابا ديسقوروس، وصرخ المجمع: “ليعود الآباء إلى المجمع، ليرجع أولئك الذين لهم نفس الإيمان إلى المجمع؛ ليعود أولئك الذين وقَّعوا إلى المجمع. ليحيا الإمبراطور لسنوات عديدة، ليعود الخمسة الذين وقَّعوا إلى المجمع. إنهم يؤمنون كما يؤمن ليو”.[10]
ومن الواضح أن الأساس الذي عليه طالب الحاضرون بإعادة الخمسة رجال لم يكن أنه قد تم العفو عنهم، واستمروا في الشركة غير المنفصلة مع أسقف روما،[11] ـ كما قال مندوبو روما في حكمهم على البابا ديسقوروس ـ ولكن هو أنهم قاموا بين يوم 10 أكتوبر و17 أكتوبر بالتوقيع على طومس ليو .
وأجاب ممثلو الإمبراطور على طلب المجمع، بأنهم قد أحالوا قضية الرجال المدانين إلى الإمبراطور، وأنهم في انتظار رده. ومع ذلك أضافوا بقولهم: “إن حرمكم لديسقوروس لم يُخبر به الإمبراطور ولا نحن. وبالنسبة لأولئك الرجال الخمسة الذين ترفعون دعوى من أجلهم، وفيما يخص كل الأمور التي تُصنع في المجمع المقدس، فستكون تلك مسئولية أمام الله”.[12]
وقد أخذ الأساقفة كلام ممثلي الإمبراطور بمثابة اعتراض، لذا أجابوا بقولهم: “لقد تخلى الله عن ديسقوروس؛ وقد أُدين ديسقوروس بعدل؛ لقد خذل المسيح ديسقوروس”.[13] وهكذا صدَّق المجمع على الحكم الذي صدر ضد بطريرك الإسكندرية، فحيث إن الأساقفة كانوا في جانب الله، والعدل، والمسيح، فلم يكن بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً لرجل قد تخلى عنه كل هؤلاء.
4. التعامل مع الأساقفة المصريين:
وتمت الموافقة على طلب المجمع بإعادة قبول الخمسة رجال بعد ساعات قليلة، حيث أرسل الإمبراطور كلمته بإجازة هذا التصرف، وجاء هؤلاء الرجال إلى المجمع وسط تهليل عظيم من قبل الوفود.
وهنا وجد المصريون أنفسهم في موقف دقيق ومعقد للغاية، ورأوا بكونهم مساعدين للبطريرك المعزول أن الكنيسة في مصر لن تقبل قرارات المجمع، ولذا قدَّموا التماساً يطلبون فيه إبعادهم عن أمور المجمع.
وكان هذا الالتماس يحتوي على تصريح بالإيمان، وفي نهايته يسألون المجمع أن يعفيهم من تأييد أو رفض قرارات المجمع. ووقع على الالتماس ثلاثة عشر أسقفاً من مصر، ولم يتضمَّن هذا التصريح اسم أوطيخا بين الهراطقة المستبعدين، ولم يعبِّر كذلك عن قبوله لطومس ليو.[14]
وأصر الأساقفة القادة في المجمع الواحد تلو الآخر، بأنه يجب أن يحرم الأساقفة المصريون أوطيخا بالاسم، وأن يؤيدوا طومس ليو . وحاول المصريون رغم ذلك التملص من الأمر، ولكن أساقفة المجمع صرخوا متهمين إياهم بأنهم أوطيخيين، وبعد حديث محتد جداً قال المصريون: “ليكن أوطيخا محروماً، وكل من يؤمن مثله”.
أما بخصوص طومس ليو، فقد أوضح المصريون أنه لا يمكنهم قبوله بدون وجود رئيس أساقفتهم معهم. ولم يرضى المجمع بهذا الكلام، وبذل مع المصريين جهوداً كبيرة لانتزاع موافقتهم على الوثيقة، فأعاد المصريون كلامهم مرة ثانية بأنهم لا يستطيعون فعل هذا إلاّ في وجود رئيس أساقفتهم معهم.
ولم يقبل المجمع هذه الحجة، فرد المصريون بأن الإيمان المتضمَّن في اعترافهم الذي قدموه هو أرثوذكسي، فلم يكف المجمع عن محاولته، بل صاح واحد من أعضائه بأن المجمع المسكوني أكبر من رئيس أساقفة مصر، ولذلك ينبغي على المصريين أن يطيعوا المجمع. وهنا بدأ المصريون يسألون الرحمة قائلين: “سوف نُقتل عندما نعود إلى بلدنا”، فرد عليهم المجمع بحسم: “كونوا شهداء لأجل الإيمان”، أما المصريون فقالوا: “سوف نموت عند أقدامكم، ولكن ليس في مصر”.
وفي النهاية، أمر ممثلو الإمبراطور ـ وهم موظفو الحكومة البيزنطية المدنيون ـ بأن يؤجل توقيع الأساقفة المصريين على الطومس إلى أن يُعين رئيس أساقفة لمصر. ولم يقتنع باسكاسينوس مندوب روما بهذا القرار، وطالب بأن يُمنح لهم هذا الامتياز (التأجيل) بشرط ألاّ يُسمح لهم بمغادرة المدينة إلاّ فقط بعد التوقيع على الطومس، ولكن ممثلو الإمبراطور أعادوا تلاوة قرارهم كما هو. وكان مجمع خلقيدونية يريد بهذه الطريقة أن يثبِّت مبدأ أن قبول طومس ليو هو أمر لا مفر منه للعضوية داخل الكنيسة، ولكن أساقفة مصر أوضحوا أنه من غير المحتمل للكنيسة في بلدهم أن تقبل تلك الوثيقة.[15]
[1] ACO. II, i, p. 288: 2-3.
[2] هذه واحدة من الحقائق التي تجعل كاتب هذه الدراسة غير قادر على موافقة شفارتز في وضع محاضر اجتماع يوم 13 أكتوبر قبل محاضر جلسة يوم 10 أكتوبر.
[3] المرجع السابق صفحة 288: 4-5.
[4] المرجع السابق صفحة 289: 7.
[5] المرجع السابق صفحة 289-90: 8. كان ممثلو الإمبراطور يحاولون التأكد من أن الأساقفة مخلصين بالفعل في قبولهم للطومس. وهذا ما يكشف في الحقيقة مدى حساسية الموقف، وكيف أحسن الموظفون المدنيون في الحكومة البيزنطية التعامل معه.
[6] المرجع السابق صفحة 290-305.
[7] المرجع السابق صفحة 298: 9 (98).
[8] من المثير للاهتمام أن نذكر أن كلاً من مندوبي روما وأساقفة إيليريكم قد اعتبروا أن الطومس يتوافق مع قانوني إيمان نيقية والقسطنطينية ومع قرارات مجمع عام 431م. وبالرغم من أن البابا ديسقوروس كان يرى أن إيمان الكنيسة يكمن في قانون نيقية حسبما أكده مجمع أفسس عام 431م (كما أنه لم يكن يعترض على قانون مجمع القسطنطينية)، لكن بالنسبة له لم يكن الطومس يتوافق مع ذلك. إذاً فالمشكلة كانت تكمن في الطومس.
[9] انظر صفحة .
[10] المرجع السابق صفحة 305: 11.
[11] انظر صفحة .
[12] المرجع السابق صفحة 305: 12. اعتبر هيفلي أن عبارة ممثلي الإمبراطور هي بمثابة تحذير للأساقفة بأنهم ينبغي أن يتحملوا مسئولية الخمسة رجال. وفي الواقع أنه اقتبس من مانسي (Mansi) الفقرة التالية: “لقد كتبنا عن هؤلاء الخمسة للإمبراطور، ونحن في انتظار تعليماته. ومع ذلك فأنتم مسئولون أمام الله عن أولئك الرجال الذين توسطتم لهم كما أنكم مسئولون عن جميع وقائع هذا المجمع” انظر:
(Charles Joseph Hefele, A History of the Councils of the Church, Eng. tr., T & T. Clark, 1833, vol. 111, p. 332)
وعلى الرغم من أن هيفلي يذكر مرجع محدد لتلك الفقرة، إلا أنها غير موجودة في أي مكان آخر سواء في مانسي أو شفارتز. وكل منهما يذكر فقرة من المحتمل أن تكون قد تحورت عن الأصل اليوناني على هذا النحو: “لقد طلبنا من الإمبراطور المقدس والخائف الله نيابة عنهم (أي عن الخمسة رجال)، ونحن في انتظار رده.
ولكن أمر عزلكم لديسقورس فلم يكن معروفاً لا عند الإمبراطور، ولا عندنا. أما بخصوص هؤلاء الخمسة الذين قدمتم الالتماس لأجلهم، وكذلك بخصوص كل الأمور التي حدثت في المجمع المقدس، فستكون مسئولية أمام الله”. وبهذه العبارة يكون ممثلو الإمبراطور قد تهربوا من المسئولية تجاه هذا القرار وتجاه طلب العفو عن الرجال الخمسة بدون البطريرك السكندري. وتعد تلك العبارة برهاناً قاطعاً على أن السلطة الإمبراطورية كانت تريد فقط توحيد الأحزاب التي داخل الكنيسة.
[13] ACO. II, i, p. 305: 13.
ويعد هذا برهاناً إضافياً على أن هيفلي قد أخطأ في قراءته لعبارة ممثلي الإمبراطور.
[14] للإطلاع على الالتماس انظر المرجع السابق صفحة 306: 25. وقد قالوا في اعتراف إيمانهم: “لقد تسلمنا الإيمان الأرثوذوكسي منذ البداية من آبائنا القديسين الممتلئين بالروح, وهم مرقص الإنجيلي، وبطرس الشهيد، وآبائنا القديسين أثناسيوس وثيؤفيلس وكيرلس.
ونحن نتبرأ من جميع الهرطقات الخاصة بأريوس وإفنوميوس والمانيين ونسطوريوس وأولئك الذين يقولون أن جسد ربنا كان من السماء وليس من القديسة العذراء مريم والدة الإله (ثيؤطوكس). كما أننا نعترف أنه (أي المسيح) كان مثلنا في كل شيء ماعدا الخطية. ومن ثم فنحن نرفض جميع الهرطقات، ونتمسك بالإيمان الجامع”.
[15] للإطلاع على الجزء الخاص بالأساقفة المصريين في المجمع، انظر المرجع السابق صفحة 306-310: 262.