مجمع أفسس الثاني 449م وعلاقته بمجمع خلقيدونية ج2
مجمع أفسس الثاني 449م وعلاقته بمجمع خلقيدونية ج2
مجمع أفسس الثاني 449م وعلاقته بمجمع خلقيدونية ج2
الجزء الأول: مجمع أفسس الثاني 449م وعلاقته بمجمع خلقيدونية ج1
(د) إغفال رسالة (طومس) ليو:
كان الادعاء الخاص بأن البابا ديسقوروس قد منع قراءة رسالة (طومس) ليو في مجمع عام 449م، يُعَد واحداً من أكثر الادعاءات ضرراً ضده، وهذا الادعاء كان برمته من نتاج أشخاص يمثلون التوجه الغربي. وكان البابا ليو قد أرسل إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس بعد المجمع مباشرة يتهم البابا ديسقوروس بتعمده منع قراءة رسالته في المجمع،[1] كما ذكر الوفد الروماني في مجمع خلقيدونية في حكمهم ضد ديسقوروس أنه لم يسمح بقراءة الرسالة الباباوية إلى المجمع.[2]
وتضاعف أثر هذا الأمر على مر القرون من خلال الكتَّاب المؤيدين لخلقيدونية، ولنذكر هنا أحد الأمثال المعاصرين حيث يقول فرند (W.H. C. Frend): “على الرغم من أن ديسقوروس لم يرفض أن يقرأ الخطاب (طومس ليو)، إلاّ إنه (أو جوفينال) قد رأى وضعه في آخر قائمة الموضوعات، إلى أن فقد الاهتمام في خضم الأمور التي نشأت”.[3]
ونحن لدينا دليل في خطاب البابا ليو إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس يوضح أن نسخة من الطومس قد أُرسلت إلى مجمع عام 449م بواسطة المندوبين. ولكن بالإضافة إلى هذا هناك ذكر لخطاب آخر للبابا مُرسل رأساً إلى المجمع على الرغم من أن ذلك الخطاب المعني لا يحتوي على أي إشارة تدل على أنه موجه إلى مجمع، ولذلك فمن المحتمل أن هذه الوثيقة (الخطاب الآخر) كانت قد كُتبت أصلاً إلى جماعة النبلاء في القسطنطينية[4] لضمان تأييدهم للطومس وأن نسخة منها قد أُرسلت لاحقاً إلى مجمع عام 449م.
وكانت هناك ثلاثة مناسبات في مجمع عام 449م، طلب فيها الوفد الروماني أن تُقرأ مراسلات بابا روما على المجمع، فإذا كان هذا الخطاب (الآخر) قد أُحضر بواسطة الوفد فينبغي أن يكون الخطاب الذي ذُكر في بداية المجمع كان المقصود به هذا الخطاب (الآخر)، أما في المناسبتين الأخريين فبالتأكيد كان طومس ليو هو الخطاب المقصود.
وبمجرد أن بدأ مجمع عام 449م، قُرىء خطاب الدعوة المُرسل من قبل الإمبراطور، وعندما انتهت القراءة قال يوليوس المندوب الروماني أن هناك رسالة خطية من الإمبراطور مشابهة للتي قُرئت كانت قد أُرسلت إلى “قداسة البابا ليو بابا كنيسة روما”،[5] وهنا قدم الشماس هيلاري حديثاً مطولاً قال فيه إن أسقف روما يتعذر مشاركته الشخصية في المجامع ولكنه أرسل ممثلين عنه مع رسالته التي يمكن أن تُقرأ على المجمع.
[6] وهنا وكتلبية لأمر ديسقوروس،[7] استلم القس يوحنا الموثِّق الأعلى الرسالة، وبدلاً من قراءتها قال أن هناك خطاباً إمبراطرياً آخراً مرسلاً إلى ديسقوروس ليقدَّم إلى المجمع، وهنا أمر جوفينال[8] أن يُقرأ الخطاب الإمبراطوري، وبهذه الطريقة انتقل المجمع إلى مباشرة أعماله بدون قراءة خطاب ليو أسقف روما.
وكما ذكرنا كانت هناك مناسبتان أخريان ذكَّر فيها الوفد الروماني المجمع بمسألة رسالة ليو، المناسبة الأولى عندما رفض المجمع طلب فلافيان بأن يُعطى يوسابيوس أسقف دوريليم الفرصة لسماعه في قضية أوطيخا،[9] وكما رأينا فقد صوَّت المجمع ضد الطلب وسأل أن تُقرأ محاضر جلسات مجمع عام 448م.
أما المناسبة الثانية فكانت عند تصديق المجمع على إيمان نيقية حسبما فسره وأكدَّه مجمع أفسس عام 431م، حيث تكلم يوليوس موضحاً أن الكرسي الرسولي (الروماني) يتمسك بنفس وجهة النظر،[10] وهنا طالب هيلاري مرة أخرى أن تُقرأ رسالة ليو،[11] ولكن هذا الطلب حدث حينما كان كل من الأعضاء يعبِّر بصورة شخصية عن قبوله لأساس الإيمان، ولذلك كان الطلب بالحري بعيداً عن السياق العام ولا يبدو أن أحداً قد أعاره أي اهتمام.
والحقيقة حول مسألة طومس ليو هي أنه على الرغم من أن الوفد الروماني طالب بقراءة الرسالة الباباوية ثلاث مرات على الأقل، إلاّ أنه لم يكن هناك أحد في المجمع ليساندهم، وهذه الحقيقة لم تكن حتى محل شك من الحاضرين في مجمع خلقيدونية أثناء تقديم محاضر جلسات مجمع عام 449م.
وعلى حد معرفتنا من وقائع المجمع لم يوجد في أفسس ـ بعد الوفد الروماني ـ إلاّ ديسقوروس وحده الذي اقترح قراءة الخطاب، ولم يطلب أي شخص غيره هذا الأمر، وهذا العمل برمته كان يخص المجلس (ككل)، وقد أوضح البابا ديسقوروس نفسه هذه النقطة في خلقيدونية إذ قال أنه قد طالب مرتين بعرض خطاب ليو على المجمع.[12]
وينبغي علينا أن ننتبه ـ في محاولتنا معرفة الكيفية التي تم بها تجاهل مجمع عام 449م لخطاب ليو ـ إلى حقيقة أن تلك الوثيقة كانت منتشرة بصورة واسعة في الشرق منذ منتصف شهر يونيو عام 449م،* وأن محتوياتها كانت معروفة عند الحاضرين حتى قبل أن يلتقوا في المجمع.
وكان الكل في الحقيقة يعرف أن هذه الوثيقة هي دفاع شديد عن عبارة “طبيعتين بعد الاتحاد”، وفي سياق الخلاف بين الجانبين السكندري والأنطاكي كان كثير من الرجال سيؤيدون الجانب السكندري ضد عبارة “طبيعتين بعد الاتحاد”، ويتضح ذلك من التأييد المطلق للبابا كيرلس والبابا ديسقوروس الذي أظهره المجمع بتعبيرات قوية.
وقد ظهرت معارضة المجمع الشديدة لهذه العبارة في عدد من المواقف، كان أحدها عندما قُرئت محاضر جلسات مجمع عام 448م، وحين جاءت كلمات سليوكس أسقف أماسيا (Seleucus of Amasia) “نحن نؤمن برب واحد يسوع المسيح في طبيعتين” وهنا صاح المجمع: “لا أحد يقول عن الرب أنه طبيعتين بعد الاتحاد، هو ليس كذلك يا أسقف أماسيا، لا تقسم غير القابل للتقسيم”.[13]
فإذا كانت هذه هي الحقيقة الدامغة في مجمع عام 449م، فإن طومس ليو بفكره اللاهوتي عن “طبيعتين بعد الاتحاد” لم يكن من الممكن أن يلقى قبولاً في هذا المجمع، ولذلك فالقول بأن البابا ديسقوروس في ’حكمه المطلق‘ و ’تشدده‘ قد أعاق قراءة الخطاب في المجمع، لا يحمل إنصافاً للرجل ولا يمكن إثباته بأي دليل.
وعلى الجانب الآخر نحن لدينا دليل أقوى على احتمال أن مجمع عام 449م لم يقرأ طومس ليو نتيجة لاحترامه لكرسي روما، لأن هذا الطومس لو كان قد قُرىء هناك، وبدون سند إمبراطوري، فما كانت النتيجة هي قبول الوثيقة أو مفهومها اللاهوتي ـ كما حاول ليو أن يصور الأمر[14] أو كما أكد وفد روما في خلقيدونية[15] ـ بل على العكس كان سيؤدي إلى إدانة خطيرة، فعلى سبيل المثال كان المجمع سيضطر إلى تطبيق نفس الكلمات التي صرخ بها ضد أسقف أماسيا على البابا ليو نفسه أيضاً.
ومن هنا فعلى الأرجح، أن البابا ديسقوروس وقادة المجمع، كانوا يبذلون أقصى جهدهم لكيلا يظهروا الجالس على الكرسي الرئيس الأول في العالم المسيحي كهرطوقي.[16]
وعلى الرغم من ذلك، اتهم ليو بابا روما مجمع عام 449م بأنه اجتماع للصوص (latrocinium) ويرى فرند أن هذا الوصف قد لصق بالمجمع طوال الوقت،[17] ومن المحتمل ألا يكون في ذهن ليو ـ وهو يرفض المجمع بهذا الشكل ـ أي جور أو تجنٍ مما كان لدى الذين انتقدوا المجمع فيما بعد. وفي الحقيقة إن أي خلل أو نقص تم توجيهه ضد مجمع عام 449م من خلال المنتقدين له، تم أيضاً توجيهه ضد مجمع خلقيدونية من قبل المعارضين له.
وعلاوة على ذلك لو كان الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني قد سمح للبابا ليو أن يعقد مجمعاً في إيطاليا كما قد طلب فور انتهاء مجمع عام 449م، فما كان ذلك المجمع سيرتفع فوق اللوم أيضاً بأي حال من الأحوال.
وقد كانت الشكوى الحقيقية لبابا روما ـ كما يتضح من التعبير الذي استخدمه ـ هي أن المجمع لم يجل ويقدر الطومس الخاص به، ومن المحتمل جداً أن يكون قد رأى في ذلك تجاهلاً لسلطته الباباوية، أو حتى ’ سلب‘ كرسيه من الحق الإلهي الذي كان يدعيه له. وبالنسبة للبابا ليو، إن اجتماعاً يجرؤ على ألا يعطي اهتماماً لخطابه الباباوي فهو اجتماع للصوص وليس مجمعاً للكنيسة.[18]
(هـ) بعض الملاحظات حول أوطيخا:
في عملية إدانة أوطيخا كهرطوقي، قام فلافيان ومجمع عام 448م من جهة وليو بابا روما ومجمع خلقيدونية من جهة أخرى بتقديم عدد من النقاط، يمكننا أن نضعها معاً فيما يلي:
أولاً، قيل عنه أنه يعيد هرطقة أبوليناريوس وفالنتينُس.[19]
ثانياً، زعموا أنه يقول ’ إن جسد الرب المأخوذ من مريم لم يكن من نفس جوهرنا ولا من المادة البشرية. وبالرغم من إنه يقول عنه أنه بشري، لكنه يرفض أن يقول إنه واحد في ذات الجوهر معنا أو مع تلك التي حملته حسب الجسد‘.[20]
ثالثاً، تم توجيه اللوم لأوطيخا لأنه يقول إن المسيح كان “طبيعتين قبل” و “طبيعة واحدة بعد” الاتحاد.[21]
رابعاً، أجزموا بأن أوطيخا رفض أن يقر بحقيقة ناسوت المسيح.[22] ويكمن الأساس الوحيد في كل هذه الاتهامات في تردد أوطيخا في تأكيد وحدانية المسيح في ذات الجوهر معنا من ناحية، وفي تصميمه على “طبيعتين قبل” و “طبيعة واحدة بعد” الاتحاد من ناحية أخرى.
ورغم ذلك فإن هؤلاء الذين وصفوه بتلك الأفكار الهرطوقية، لم يهتموا بأن يثبتوا هل هو بالفعل يعترف بها وأنها تمثل موقفه الخاص، كما أنهم لم يبحثوا في عباراته الشفهية ولا حتى على الأقل في اعترافه المكتوب بما في ذلك الجملتين اللتين ذكرناهما سابقاً. ولذلك ففي إطار السياق التاريخي، يمكن أن يكون هناك بالفعل تقييم أكثر تعاطفاً وإيجابية لذلك الراهب العجوز، ولكن أحد من ناقديه لم يجهد نفسه ليقوم بمثل هذا الدور.
وحين قام مجمع أفسس الثاني عام 449م بتبرئة أوطيخا، إنما كان يعبِّر عن رد الفعل السكندري ضد عبارة “طبيعتين بعد الاتحاد” التي جاءت في مجمع عام 448م المكاني. وكان الأساس وراء هذا القرار هو عبارات أوطيخا الشفهية والمكتوبة، ولكن المجمع كما قد ذكرنا لم يتوقف بصورة كافية لكي ينظر بهدوء في المواقف التي كانت تمثل صعوبة أمام معارضي أوطيخا.
ومن هنا ينبغي علينا أن نقول إن هؤلاء الذين حكموا على أوطيخا بالهرطقة قد أخذوا فقط بعضاً من عباراته وفسروها بطريقتهم الخاصة، وكذلك أولئك الذين قرروا تبرئته أخذوا البعض الآخر ورأوا فيها موقفاً لا يستحق الإدانة. وأمام هذه الحقيقة، يجب أن نأخذ مساهمات كل من رينيه دراجيه (René Draguet) وكامِلوت (Thomas Camelot) وكيللي (J. N. D. Kelly) بعين الاعتبار.[23]
ويمكن القول بأنه في الظروف التاريخية التي عاش فيها أوطيخا ـ بصرف النظر عما إذا كان بالفعل هرطوقياً أم لا ـ كان هناك أناس معارضين له لم يكونوا ليسمحوا له بأن يمضي حراً طليقاً.
(و) مجمع أفسس الثاني عام 449م بين الدفاع والنقد:
لقد انفض مجمع عام 449م كحدثٍ يعبِّر عن انتصار منفرد للفهم السكندري للإيمان النيقاوي (بالصورة التي أكدَّه بها مجمع أفسس عام 431م)، وبدون تبني لصيغة الوحدة عام 433م (بحسب فهم الأنطاكيين لها). وبالفعل كان الإمبراطور يريد حكم مثل هذا، فبمجرد أن استلم تقرير المجمع سارع باتخاذ الخطوات لتنفيذ بنوده وقد طالب الأساقفة بالتوقيع عليها، كما كتب إلى البابا ليو يطالبه بقبول قرارات المجمع، وأصدر كذلك مرسوماً مؤيداً لهذا المجمع.[24]
وفي نفس الوقت بدأت تتشكَّل حركة معارضة لمجمع عام 449م، فبعد اليوم الأول من المجمع امتنع المندوب الروماني يوليوس عن حضور الجلسات الباقية للمجمع، كما أن هيلاري (المندوب الثاني) أيضاً أخذ طريقه عائداً إلى روما بعد اليوم الأول، وكان يرتب في طريق عودته أن يقابل الإمبراطور في القسطنطينية ويقدِّم له شكواه شخصياً ولكنه لم ينجح في مسعاه.
وفي النهاية وصل كل من يوليوس وهيلاري إلى روما في منتصف شهر سبتمبر وقدَّما تقريرهما إلى البابا ليو وإلى مجمع (مكاني) كان منعقداً هناك آنذاك وقد ساعد ذلك البابا ليكسب تأييد المجمع (المكاني) في خطواته ضد مجمع عام 449م.
واعتمد ليو أيضاً (في معارضته) على التنسيق مع الشرق، فعند مغادرة هيلاري أفسس أخذ معه طلباً للاستئناف من فلافيان، كما كانت هناك أيضاً طلبات مماثلة من كل من يوسابيوس وثيؤدوريت، بل وقام أسقف دوريليم ـ ومن المحتمل ثيؤدوريت[25] أيضاً ـ بمقابلة بابا روما شخصياً من أجل هذا الأمر. وهكذا تكوَّن ائتلاف قوي ضد مجمع عام 449م مركزه روما.[26]
وأثار موت فلافيان ـ الذي حدث بعد فترة وجيزة من إدانته ـ تعاطفاً مع موقف البابا ليو وبالأخص في القسطنطينية. وكان فلافيان قد احتُجز من قبل السلطات بعد صدور قرار عزله مباشرة ثم مات بعد ذلك. وقد فسَّر المعارضون لمجمع عام 449م هذه الحادثة بعد ذلك على إنها كانت بسبب تعرضه لأذى جسدي في المجمع، هذا على الرغم من أنه لم يأتِ ذكر لمثل هذه القصة على الإطلاق في مجمع خلقيدونية.[27]
وكان البابا ليو يعتبر إغفال مجمع عام 449م للطومس الخاص به عملاً مهيناً جداً، وقد حاول محو أثره بطرق متنوعة، فبمجرد عودة الوفد الروماني إلى روما كتب ليو إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس واعترض على المجمع، ولما وجد أن الإمبراطور لم يعر الأمر أي انتباه، كتب إليه خطاباً ثانياً يطلب فيه عقد مجمع في إيطاليا، ولكن وللمرة الثانية لم يستجب ثيؤدوسيوس لطلبه.
وكان هذا الموقف متزامناً مع زيارة الإمبراطور الغربي فالنتينيان الثالث (Valentinian III) مع أمه جالا بلاسيديا (Galla Placidia) وزوجته إفدوكسيا (Eudoxia) إلى روما، وكانت زيارتهم في وقت عيد كاتدرائية ق. بطرس (Cathedra Petri)، وانتهز البابا ليو الفرصة كاملة واشتكى أمامهم أنه في زمنهم أُهين كرسي ق. بطرس بواسطة ما تم في مجمع عام 449م، وقدَّم لهم دعواه ليمارسوا تأثيرهم على بلاط الإمبراطور الشرقي ثيؤدوسيوس حتى يلغي قرارات ذلك المجمع.
واستجاب الأباطرة بالفعل وأرسل فالنتينيان وأمه جالا بلاسيديا خطاباً إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس كما أرسلت إفدوكسيا إلى بولخِريا (Pulcheria)[28]، ولكن ثيؤدوسيوس أجاب بأن قصة البابا ليو الخاصة بالمجمع تفتقر إلى الصحة.[29]
ورغم ذلك قام البابا ليو بالكتابة إلى الرهبان ورجال الدين المسيحي الذين كانوا معارضين لأوطيخا بالقسطنطينية، يحثهم على البقاء موالين ومخلصين لفلافيان. وعندما تم الإعلان عن اختيار أناتوليوس (Anatolius) ـ وهو قس من مصر ـ بطريركاً للقسطنطينية بدلاً من فلافيان، رفض ليو الاعتراف به ولكن رغم ذلك تم تنصيبه بطريركاً.
(ز) موت الإمبراطور ثيؤدوسيوس:
ولم يدم عدم الرضا الإمبراطوري على ليو طويلاً، فقبل مرور سنة واحدة على مجمع عام 449م سقط ثيؤدوسيوس من على جواده وتسبب ذلك في موته يوم 28 يوليو عام 450م. وبعد محاولة فاشلة لاعتلاء الابن الصغير العرش، أمسكت الأخت بولخِريا بزمام الأمور وتم الإعلان عن زوجها مركيان (Marcian) إمبراطوراً في 28 أغسطس من نفس العام.
وكانت بولخِريا امرأة ذات قدرات مميزة وعزيمة لا تُقهر، وكان لها دور عملي في إدارة شئون الدولة، حتى إنها قادت أخاها ليعمل عكس توجهه الكنسي أثناء المشكلة النسطورية.
ولكن بعد فترة حدث توتر في علاقتها مع أخيها، مما ساعد كريسافيوس كبير موظفي البلاط الإمبراطوري أن تكون له اليد العليا في الأمور في عام 441م، وقد أدى هذا إلى وجود عداوة بينها وبينه. وبعد موت أخيها، أزاحت بولخِريا هذا الرجل من طريقها بواسطة حكم بالموت صدر ضده، وقامت بنفي أوطيخا إلى شمال سوريا، كما أكدت قيادتها للأمور من خلال زوجها.
وكانت سياسة بولخِريا الكنسية في ذلك الوقت يحكمها أمران هامان.
أولاً قررت بولخِريا أن تؤيد روما في صراعها ضد الإسكندرية من أجل الوصول إلى رئاسة كاملة للكنيسة،[30] وكان هذا الأمر متوقعاً لأن عدوها كريسافيوس كان طوال الوقت مسانداً للإسكندرية.
ثانياً لم تكن بولخِريا تريد في نفس الوقت أن تترك روما تنعم بسيادتها المطلقة في الكنيسة، بل على العكس كانت ترغب في أن تزيد من هيبة وكرامة مدينتها (العاصمة) من خلال رفع وضع أسقفها إلى مستوى مساوٍ للجالس على كرسي روما نفسه. وهكذا أشاحت بولخِريا بوجهها عن الإسكندرية ورفعت روما، ولكنها كانت تخطط لرفع كرسي القسطنطينية بعد ذلك.
أما مركيان فبعد اعتلائه للعرش، كتب إلى البابا ليو معبراً عن رأيه في عقد مجمع تحت رئاسة بابا روما “من أجل التخلص من كل الأخطاء غير التقوية”.[31]
كما عملت الإمبراطورة كذلك على مساعدة البابا ليو في كفاحه من أجل إقرار ’الطومس‘ الخاص به كوثيقة لها شرعيتها وسلطتها، وقد أثمرت جهودها في 21 أكتوبر 450م حيث قام أناتوليوس أسقف القسطنطينية ـ الذي كان حتى ذلك الوقت معارضاً لطومس ليو ـ بالتوقيع على قبوله للطومس في حضور اثنين من الأساقفة واثنين من القسوس كان ليو قد أرسلهم كممثلين له، ومنذ ذلك الحين تم قبول الوثيقة (الطومس) في كل مكان.[32]
وفي هذه الأثناء أيضاً، أُعيد جسد فلافيان إلى القسطنطينية وتم دفنه بإكرام كبير. وهكذا ابتدأ التغيير في الأجواء المسيحية من خلال السلطة الجديدة، لدرجة أنه في يوم 13 أبريل عام 451م كتب ليو إلى أناتوليوس يسأله أن يحذف أسماء ديسقوروس وجوفينال وإفستاثيوس أسقف بريتوس من الدبتيخا* (diptychs) أي أنه قام بحرمانهم بسلطانه الشخصي،[33] كما طلب ليو كذلك أن تُترك له مسألة الرجال الآخرون الذين شاركوا في مجمع عام 449م ليصدر فيهم قراره.
ومن هنا نرى كيف كان البابا ليو يحكم كامل سيطرته على الموقف، وبدأ يتبنى نظرية أن البابا ديسقوروس و بعض من الرجال الجهلاء كانوا مسئولين بمفردهم عن قرارات مجمع عام 449م،[34] على أمل أن يضم الكنيسة كلها تحت سلطته العليا بدون أي مجمع أو استشارة لزملائه الأساقفة وبخاصة في الشرق.
ولكن لم تأتِ كل الأمور بالضبط كما خطط لها ليو، فباءت مجهوداته بالفشل في إثناء الإمبراطور عن فكرة عقد المجمع، وكان الإمبراطور قد أعلن عن نيته لعقد المجمع في الشرق وليس في إيطاليا كما قد طلب ليو في أيام ثيؤدوسيوس الثاني.[35]
ولكن ليو طالب بأنه ينبغي على المجمع أن يتخذ من ’الطومس‘ معياره العقيدي، وبدون السماح لأي نقاش حول الإيمان والذي قد يتضمَّن مساءلة عن الصفة الرسمية لتعليمه. ولم تجد القيادة الإمبراطورية أية صعوبة في التعهد بتحقيق مطالب ليو في هذه النقطة، بالرغم من أنها كانت لها رؤيتها الخاصة التي تبغي بلوغها من خلال المجمع.
وفي يوم 17 مايو عام 451م، صدرت الأوامر بالدعوة لعقد مجمع في نيقية المدينة التي عُقد فيها المجمع المسكوني الأول والتي كانت لها في ذلك الوقت مكانة سامية لدى كل الأطراف في الشرق.
[1] للاطلاع على الخطاب انظر: (ACO. II, i, p. 25)
[2] للرجوع إلى هذه التهمة انظر صفحة
[3] The rise of ihe Monophysite Movement, op. cit., p. 40.
[4] كان جالاند يتبنى هذا الرأي. انظر صفحة
[5] ACO. II, i, p. 82: 82.
[6] إذا كان ليو قد بعث برسالة خاصة إلى المجمع، فبالتأكيد كان هذا هو الوقت الذي يريد فيه المندوبون أن تتم فيه قراءة الرسالة.
[7] المرجع السابق صفحة 83: 84. كان أمر البابا ديسقوروس: “فلندع رسالة أخينا الورع وزميلنا الأسقف ليو تُعرض على هذا المجمع المسكوني المقدس”.
[8] المرجع السابق صفحة 83: 85.
[9] انظر صفحة.
[10] انظر صفحة.
[11] المرجع السابق صفحة 190-191: 958.
[12] المرجع السابق صفحة 84: 93 و99. قال البابا ديسقوروس: “إن ما حدث هو واضح وجلي، فقد طلبت مرتين من أجل قراءة رسالة أسقف روما الموقر”.
* ارجع إلى صفحة 69.
[13] المرجع السابق صفحة 118: 303.
[14] هذه هي النقطة التي احتواها خطاب ليو إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس. انظر المرجع في صفحة
[15] للاطلاع على النقطة التي أثارها مندوبو روما في مجمع خلقيدونية، انظر صفحة و
[16] يذكر ميخائيل السرياني أن مجمع عام 449م “لم يقرأ الطومس حتى يحمي كاتبه من حكم الإدانة”. انظر ميخائيل السرياني صفحة 180.
[17] المرجع السابق صفحة 44. ولا يختلف ما ذكره فرند عن مجمع عام 449م وعن البابا ديسقوروس عن نفس النظرة التقليدية المؤيدة لخلقيدونية والتي ما زالت تحتاج إلى مراجعة.
[18] إن الحقيقة التي يجب أن نلاحظها هي أن أي مجمع سيقابل في الأغلب بالرفض من الذين يعارضوه.
[19] هذا الإدعاء كان قد أثاره ضد أوطيخا كل من: دُمنوس أسقف أنطاكيا (انظر المرجع صفحة) وفلافيان (انظر صفحة) وليو أسقف روما (انظر الخطابات) والسلطة الإمبراطورية (انظر الخطاب رقم 480 في Coleman-Norton، op. cit.)
[20] كان فلافيان قد كتب في خطابه إلى ليو أن أوطيخا يتبنى هذا الرأي. انظر الخطاب في:
(Der Prozess Des Eutyches, op. cit., pp. 40-44)
لمراجعة هذا الاقتباس والاقتباس الوارد في المرجع التالي، انظر نفس المرجع السابق صفحة 41. وقد علق ليو بابا روما في الطومس على موقف أوطيخا بأنه يتضمن: “أن المسيح عند الحبل به في رحم العذراء أخذ شكل الإنسان بدون جسد حقيقي مأخوذ من أمه”، كما زعم (ليو) أن هذا التعليم يبطل الإيمان المسيحي في التجسد والأسرار والحياة الأخرى.
[21] لقد كتب فلافيان أنه بالنسبة لأوطيخا “فإن مخلصنا يسوع المسيح قبل أن يصبح إنساناً كان طبيعتين: اللاهوت والناسوت، ولكنه بعد الاتحاد أصبح طبيعة واحدة”. ويذكر ليو في الطومس أن هذا التعليم فاسد وسخيف. ويشير مجمع خلقيدونية في إعتراف الإيمان الخاص به إلى أوطيخا ضمنياً في موضعين.
أولاً: في القول بأن هذا المجمع يقدم اعترافه في مواجهة هرطقتين، وقد أدخلت إحداهما “الاختلاط والامتزاج”، وتخيلت بلا خجل “أن طبيعة الجسد، وطبيعة اللاهوت التي للابن الوحيد قد أصبحتا بسبب هذا الاختلاط قابلتين للألم”. ثانيا: في القول بأن المجمع “يحرم أولئك الذين يتخيلون وجود طبيعتين للرب قبل الاتحاد وأنهما أصبحتا طبيعة واحدة جديدة بعد الاتحاد”.
[22] هذا الاتهام كان ليو بابا روما ينسبه لأوطيخا في كل كتاباته المتعلقة بالموضوع. وقد ذكر باسيليوس أسقف سلوكيا في مجمع خلقيدونية أنه بالنسبة لأوطيخا “يُعتبر الاعتراف بأن الله الكلمة أصبح إنساناً باتخاذه جسداً، هو اعتراف كافي ليدل على كيفية التجسد والتأنس”. انظر:
(ACO. II, i, p. 92: 167).
[23] لم ينكر أوطيخا كمال أو حقيقة ناسوت المسيح ولكنه حاول أن يثبت أنه بسبب أن هذا الناسوت كان متحداً بالله الابن فلابد أن يكون مختلفاً عن ناسوتنا.
[24] المرسوم مذكور كوثيقة رقم 459 في (Coleman-Norton،op. cit.)
[25] يحتفظ لنا (المؤرخ) زكريا الخطيب بقصة ذهاب ثيؤدوريت إلى روما في ذلك الوقت حيث اتفق على موقف موحد مع ليو بابا روما. انظر:
(Ecclesiastical History, Syriac, Book I, p. 147).
وهناك احتمال كبير أن تكون هذه القصة قد حدثت بالفعل، وحتى إذا لم نعرها اهتماماً فعلياً، فينبغي أن نعترف بحقيقة أنه كان هناك نوعاً من التحالف الخاص بين البابا ليو وثيؤدوريت وأن ثيؤدوريت لم يكن قد أيد بعد مسألة إدانة نسطوريوس.
[26] وحيث إن روما لم تكن تحت السلطة السياسية المباشرة للإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني، فقد كانت لدى ليو بابا روما إمكانية التصرف بحرية في مثل هذه الأمور.
[27] يتفق جريلماير مع كادويك (Chadwick) على أن فلافيان قد مات في فبراير عام 450م وليس في أغسطس عام 449م، وأنه من المحتمل أن يكون لأناتوليوس يد في موت فلافيان. (انظر: Christ in Christian Tradition op. cit., p. 469, n. I). ومن وجهة نظر هذه الدراسة، لا تعتبر مسألة تحديد الوقت الذي مات فيه فلافيان هي الأمر الجدير بالاهتمام، ولكن ما يعنينا هنا هو السؤال عما إذا كان هناك أي أساس للإدعاء بأن فلافيان قد أُسيئت معاملته في مجمع عام 449م، وأنه قد مات بسبب الأذى الذي لحق به هناك.
والحقيقة أن الانقسام الذي أصاب الكنيسة بعد مجمع خلقيدونية قد نتج عنه الكثير من المشاعر السلبية لدى كلا الجانبين حتى أننا يجب أن نتعامل مع اتهامات كل منهما للآخر بكثير من الحذر. أما بالنسبة لمجمع عام 449م، فإنه لمن العدل أن أي تعليق سلبي ضده لم يرد في محاضر مجمع خلقيدونية، لا يجب أن يأخذ أي اهتمام من الدارسين المنصفين.
[28] للاطلاع على هذه الخطابات انظر: (ACO. II, i, pp. 5-6)
[29] للاطلاع على هذه الخطابات انظر: (ACO. II, i, pp. 7-8)
[30] لقد كتبت بولخريا إلى ليو وحتى قبل موت أخيها لتعبر عن عدم موافقتها على “الخطأ الهرطوقي” الذي ارتكبه مجمع عام 449م. انظر: (Honigman, op. cit., p. 239)
[31] للاطلاع على الخطاب انظر: (ACO. II, i, pp. 10)
[32] Noted by Honigman, op. cit., p. 240.
* الدبتيخا (diptych) هو لوح يُكتب فيه قوائم القديسين (الأحياء والمنتقلين) المعتبرين أنهم في شركة إيمان الكنيسة.
[33] هذه الحادثة ذات معنى خاص جداً. انظر صفحة .
[34] وأمام المشاكل التي كان يراها ليو في مجمع عام 449م، كان يجب أن تُرتب نظرية من هذا النوع لمساندة مزاعمه البابوية.
[35] لم تكن الأجواء السياسية في ذلك الوقت تخدم مسألة إقامة مجمع عام في إيطاليا.