أبحاث

التوترات عند الأنطاكيين قبل مجمع خلقيدونية

التوترات عند الأنطاكيين قبل مجمع خلقيدونية

التوترات عند الأنطاكيين قبل مجمع خلقيدونية

التوترات عند الأنطاكيين قبل مجمع خلقيدونية
التوترات عند الأنطاكيين قبل مجمع خلقيدونية

لم تنجح إعادة الوحدة (عام 433م) فعلياً في تحقيق الاتحاد بين الجانبين. فبالنسبة للأنطاكيين لم يكونوا كلهم موافقين على مسألة التقارب وإعادة العلاقات، وبالرغم من أن رجال مثل يوحنا الأنطاكي وأكاكيوس (Acacius) أسقف حلب قبلوا إعادة الوحدة وظلوا محافظين على إخلاصهم لبنود اتفاق عام 433م، إلاّ أنه كان هناك آخرون في الجانب الأنطاكي غير راغبين في الإذعان للبطريرك يوحنا.

وكانوا ينقسمون إلى فريقين: الأول وهو السيليسيون (Cilicians) الذين كانوا معارضين للبابا كيرلس وإعادة الوحدة، والفريق الثاني الذي كان يتضمن رجالاً مثل ثيؤدوريت أسقف قورش وهو الذي لم يكن يقبل إدانة نسطوريوس. وهنا تدخل الإمبراطور، وبالفعل خضع العديد من هؤلاء المعارضين إلاّ أن خمسة عشر رجلاً تشبثوا برأيهم فتم عزلهم.

وفي عام 435م، قبل ثيؤدوريت إعادة الوحدة ولكن بدون إدانة نسطوريوس، وقد لعب هذا المجادل المقتدر أسقف قورش دوراً مؤثراً في الخلاف الذي تلا إعادة الوحدة.

 

(أ) إعادة الوحدة تُفسَّر من الجانبين بطريقة مختلفة:

كان ازدياد التوتر بين الجانبين يرجع إلى حقيقة أن إعادة الوحدة نفسها (وصيغتها) لم تُؤخذ بنفس المعنى من كلا الجانبين. فالسكندريون من جانبهم اعتبروها حدثاً جعل الأنطاكيين يقبلون مجمع عام 431م دون شروط، وق. كيرلس نفسه كان قد أخذها فقط بهذا المعنى، وأوضح ذلك لرجال كنيسته الذين سألوه عنها.[1]

وقد أكد البطريرك ساويروس الأنطاكي في القرن السادس ـ كما سنرى لاحقاً ـ نفس وجهة نظر ق. كيرلس.[2] وكان للسكندريين تبريرهم الكافي لموقفهم تجاه إعادة الوحدة: وعلى سبيل المثال، ألم يوافق الأنطاكيون على سحب اعتراضاتهم الثلاثة على مجمع أفسس؟ ألم يعيدوا كذلك الشركة مع البابا كيرلس السكندري دون أن يجعلوه يتراجع رسمياً عن حرومه الإثني عشر؟

ورغم أن شرعية هذا الدفاع السكندري لا يمكن دحضها (بالنسبة لما قام به الإنطاكيون بالفعل بعد إعادة الوحدة)، إلاّ أن ثيؤدوريت أسقف قورش ومؤيديه كانوا غير راغبين في التسليم بالأمر، حيث مضوا من جانبهم في الاعتقاد بأن صيغة إعادة الوحدة عام 433م قد ألغت كل قرارات مجمع عام 431م التي لم يقروها أو يؤيدوها، ووفقاً لذلك بذلوا قصارى جهدهم ليبنوا فكراً لاهوتياً أنطاكياً قوياً على أساس صيغة إعادة الوحدة (بحسب فهمهم لها وبعيداً عن مجمع أفسس)، وسعوا كذلك لتعيين رجال مؤيدين لهم في الأماكن المؤثرة ليقوموا بنشر هذا الفكر اللاهوتي.

وكانوا يأملون في تحقيق ذلك من خلال الاعتراف برسالة البابا كيرلس الثانية إلى نسطوريوس كوثيقة للإيمان بالإضافة إلى صيغة إعادة الوحدة نفسها. وأغلب الظن أن الأنطاكيين في قبولهم للرسالة الثانية قد فسَّروا فيها عبارة ’الاتحاد الهيبوستاسي (الأقنومي)‘ (hypoststic union) كمرادف لعبارة ’الاتحاد البروسوبي‘ (prosopic union[3] هذا بالرغم من أن ق. كيرلس كان قد رفض هذه العبارة (أي عبارة الاتحاد البروسوبوني) في الرسالة ذاتها.

وفي إطار جهودهم لبناء فكرهم اللاهوتي، شعروا أنه يتعين عليهم الاعتراف بديودور أسقف طرسوس[4] وثيؤدور أسقف موبسويستا باعتبارهما المرجعين اللاهوتيين لهم، فقاموا بنشر أعمالهما كما كتب ثيؤدوريت نفسه دفاعاً عنهما، وعندما تمّ ذلك، قام البابا كيرلس برفضه وتفنيده. وقام الأنطاكيون أيضاً بوضع رجال من مؤيديهم على بعض الكراسي الهامة، وكان إيباس أسقف الرها واحداً من هؤلاء الرجال وقد رُسم أسقفاً على الرها عام 435م.

وكان الجانب الأنطاكي أيضاً يستطيع أن يقدم تبريراً لتلك الأفعال إذ يمكنهم أن يزعموا ـ على سبيل المثال ـ أنهم لا يستطيعون أن يفهموا المراد من العبارات السكندرية مثل “الاتحاد الأقنومي”، و”أقنوم واحد”، و”طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة” إلاّ بكونها تحمل معنى أبولينارياً، كما يمكنهم أن يزعموا أيضاً أنهم لم يقبلوا حروم ق. كيرلس الإثني عشر.

وحتى إذا كان طبيعياً لرجال مثل ثيؤدوريت أن يتمسكوا بتراثهم اللاهوتي الخاص بهم محاولين استبعاد أي فكر غريب عليه، لكن كان يجب على الأنطاكيين ـ وهو يقومون بذلك ـ أن يُظهروا قدراً أكبر من التقدير للتقليد السكندري لأنهم كانوا قد وافقوا على إعادة الشركة مع ق. كيرلس ورفاقه. ومن هنا يقع اللوم في حالة التوتر القائمة على الأنطاكيين أكثر من معارضيهم، لأن السكندريين من جانبهم حافظوا على التزامهم التام بموقفهم.

 

(ب) تغير القيادة:

استمر السلام بين الجانبين ـ على الأقل سطحياً ـ طوال حياة البابا كيرلس السكندري والبطريرك يوحنا الأنطاكي. ورقد يوحنا عام 442م، وكان قد حدد ابن أخيه دومنُس (Domnus) خليفة له، ويرى شفارتز (Schwartz) أن يوحنا في تصرفه هذا كان يقصد أن يثبت سلالة (متصلة) تجلس على الكرسي البطريركي.

وكان دومنُس ـ كما وصفه شفارتز ـ ضعيفاً عديم الشخصية،[5] وواقعاً بالكامل تحت سيطرة ثيؤدوريت الذي كان بكل جوارحه ضد الإسكندرية وضد ق. كيرلس.[6] وحينما أصبح كرسي أنطاكيا والبطريرك تحت تأثيره، اهتم ثيؤدوريت بأن يجعل المؤيدين للفكر الأنطاكي هم فقط محل التقدير في الشرق.

ومن بين المواقف العديدة التي اتخذها في هذا الصدد، نذكر على سبيل المثال تعيينه للكونت إيريناؤس على كرسي صور وكان إيريناؤس هذا مسانداً قوياً لنسطوريوس منذ عام 431م. كما نشر ثيؤدوريت عام 447م كتابه ’المتعدد الأشكال‘ (Eranistes) الذي قصد به أن يشوه ويسخر من آباء الإسكندرية. وقد أثارت هذه الأفعال نوعاً من المعارضة الشديدة، حتى أنه في 18 إبريل عام 448م صدر مرسوم إمبراطوري في أنطاكيا يحرم نسطوريوس وكتاباته ومؤيديه، كما أُمر ثيؤدوريت نفسه بالتزام البقاء في كرسيه بقورش.

وكان هناك أيضاً شخص هام آخر له دور مؤثر في تلك الدراما المأسوية من تاريخ الكنيسة وهو إيباس أسقف الرها، الذي أثارت سياسته ردود أفعال ضخمة ومعارضة شديدة.

وفي إطار كل هذه التطورات، كان هناك تدخل فعال للبابا ديسقوروس السكندري. وكان البابا ديسقوروس قد خلف البابا كيرلس بعد نياحته عام 444م، وقد تحتم عليه أن يقوم بدور دقيق للغاية.

وقد قام شفارتز بتحليل أعمال البابا ديسقوروس قبل عام 448م، وتضمَّن هذا التحليل ثلاثة نقاط:[7]

أولاً، أن البابا ديسقوروس سعى لبناء أرثوذوكسية سكندرية قوية على أساس قانون إيمان نيقية حسبما فسره وأكده مجمع أفسس عام 431م.* وباستخدام إعادة الوحدة كأداة استطاع التمسك بالحروم الإثني عشر وبصيغة “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة”.

ثانياً، في أثناء جهاده هذا، حاول البابا ديسقوروس التخلص من كل المعارضة بكافة الوسائل المتاحة.

ثالثاً، تتبع البابا ديسقوروس خطوات سابقيه ثيؤفيلس وكيرلس، وحاول فرض الهيمنة والسيادة على كرسي أنطاكيا في البداية ثم بعد ذلك على كرسي القسطنطينية.

ومن هذه النقاط الثلاثة ينبغي أن نركز على النقطة الأولى، لأن البابا ديسقوروس كان قد ورث تقليداً لاهوتياً وضع على عاتقه مسؤلية نشره وتعزيزه، مثلما فعل الأنطاكيون ومثلما فعل البابا ليو. وينبغي علينا هنا أن ندرك حقيقة أن كل واحد من أولئك الرجال لم يكن يستطيع أن يرى إلاّ تقليده (الموروث) فقط.

والنقطة الثانية التي ذكرها شفارتز عن البابا ديسقوروس تنطبق أيضاً على تقريباً كل القادة الكنسيين في تلك الأزمنة القديمة.

أما النقطة الثالثة فإنها نتيجة تبسيط مبالغ فيه للحقائق، فلا يمكن اعتبار أن البابا ديسقوروس في مقاومته لجهود الجانب الأنطاكي في تشويه التقليد اللاهوتي السكندري ـ والذي كان بالنسبة له هو إيمان الكنيسة الأصيل ـ كان منقاداً برغبته في الهيمنة على كرسي أنطاكيا أو القسطنطينية، لأن هذا الأمر يفتقر إلى الدليل الواقعي.[8]

 

[1] كانت رسائل ق. كيرلس إلى أكاكيوس وفالريان وسكسينسوس تحمل شهادات وافرة على هذه الحقيقة. وعلى سبيل المثال أوضحت الرسالة إلى أكاكيوس بشدة أن إعادة الوحدة كانت محاولة لإحلال السلام في الكنيسة (PG LXXVII, 184 A-B).

وبالنسبة لتعبير ’طبيعتين‘ الوارد في صيغة إعادة الوحدة قال ق. كيرلس أن الطبائع التي يتكون منهما المسيح هي إثنتان، وأن في الاتحاد لم يحدث أي امتزاج أو اختلاط أو امتصاص لأي منهما. ولكن العبارة (الواردة في صيغة إعادة الوحدة) لا تحمل معنى الانفصال كما كان يقصد نسطوريوس، ومع ذلك ـ والكلام لكيرلس ـ لم يستعمل هو هذا التعبير ولكن يوحنا الأنطاكي هو الذي استعمله. انظر: (PG LXXVII, 200 C)

[2] انظر صفحة  وما يليها.

[3] هناك دليل على هذه الحقيقة في المراسلات بين ثيؤدوريت ويوحنا أسقف (Agae)، انظر صفحة  وما يليها. وعلى الرغم من أن هذا قد حدث بعد مجمع خلقيدونية ولكنه يتمشى تماماً مع الافتراض بأن ثيؤدوريت ـ الذي ظل على الدوام منتقداً للموقف السكندري ـ قد وافق على قبول إعادة الوحدة فقط في ضوء معنى ’الاتحاد الهيبوستاسي‘ الذي كان يفهمه هو. وكان ثيؤدوريت قد ذكر أن ’الهيبوستاسيس‘ و’البروسوبون‘ هما مترادفان.

[4] انظر الحديث على ديودور صفحة  وما يليها.

[5] E. Schwartz, Der Prozess des Eutyches, 1929, p. 53.

[6] حينما تنيح ق. كيرلس، كتب ثيؤدوريت إلى دومنُس يقول: “أخيراً وبصعوبة ذهب الوغد الشرير. الصالحون والنبلاء يموتون سريعاً، أما الأشرار فتطول حياتهم لسنين…”. انظر الرسالة رقم 180 في (N&P.N.F. sec. ser. Vol. III, pp. 347f)

[7] E. Schwartz: op. cit., p. 56.

*  المقصود أن مجمع أفسس قد صدق على ؤ نيقية في إطار تفسير معين، لأن قانون الإيمان ـ مثله في ذلك مثل الكتاب المقدس ـ ينبغي أن يُفسَّر بحسب التقليد المستقر في الكنيسة، وإلا خرج عن معانيه الدقيقة التي قُصدت عند صياغته.

[8] إن الدليل الظاهري الوحيد على هذا الإدعاء يأتي من شكوى دومنُس بأن كرسي ق. مرقس كان عدوانياً تجاه كرسي ق. بطرس في أنطاكيا. انظر:

(Jalland, Life and times of St. Leo the Great, op. cit., p. 214).

التوترات عند الأنطاكيين قبل مجمع خلقيدونية