مجمع أفسس عام 431م وعلاقته بمجمع خلقيدونية
(أ) بعض الملاحظات التمهيدية:
في مجال الخلاف بين التقليد اللاهوتي السكندري والأنطاكي، كان مجمع أفسس يعتبر انتصاراً حاسماً للسكندريين. ولم يقدم هذا المجمع أي تعريف عقائدي (نص إقرار إيمان)، ولكنه أدان نسطوريوس أسقف القسطنطينية على أساس أن تعليمه يتعارض مع إيمان نيقية الذي أكدَّ على أن يسوع المسيح هو الله الابن، الأزلي، الذي له ذات الجوهر الواحد مع الآب، الذي تجسد وتأنس من مريم العذراء بالروح القدس.
وكان قادة الجانب السكندري ـ كما أظهر جريلميير (Aloys Grillmeier) ـ يفسِّرون اعتراف الإيمان النيقاوي على أساس تعليمهم الخريستولوجي الذي يُطلق عليه ’خريستولوجي (الكلمة ـ جسد)‘* (‘Word-flesh’ Christology).[1] وكان أبوليناريوس (Apollinarius) أسقف اللاذقية قد حاول في السبعينات من القرن الرابع أن يضع منهجاً لهذا التعليم الخريستولوجي على طريقته الخاصة.
وإذ كان كل همه هو الحفاظ على وحدة الفادي في ضوء مفاهيم نيقية، فقد أصرَّ على أن المسيح هو هيبوستاسيس واحد[2] وطبيعة واحدة، وأن كل شيء سُجل عنه (في الإنجيل) قد أتمه الله الكلمة أو الله الابن. وتمشياً مع هذا الخط من التفكير، أنكر أبوليناريوس وجود ’المبدأ العاقل الإنساني‘* في جسد المسيح، وقد تم الحكم على وجهة نظر أبوليناريوس بالهرطقة وأُدين من جميع الأطراف.
وعلى الرغم من ذلك استمر السكندريون في تمسكهم بالمصطلحات التي استخدمها أبوليناريوس، حيث احتفظوا بتعبير ’طبيعة واحدة‘ وتعبير ’هيبوستاسيس واحد‘، كما احتفظوا كذلك بتأكيدهم على أن أقوال وأفعال المسيح كانت تعبيرات (expressions) لأقنومه الواحد.[3]
أما الأنطاكيون على الجانب الآخر، فلم يقبلوا الأسلوب السكندري في استخدام الكلمات والتعبيرات (phraseology)، والذي كان قد استخدمه مذهب أبوليناريوس. وكان تعليمهم الخريستولوجي يُطلق عليه ’خريستولوجي (الكلمة – إنسان)‘* (‘Word-man’ Christology)[4] والذي كان قد أسسه ثيؤدور أسقف مبسويستيا (Theodore of Mopsuestia) في كيليكيا الذي مات عام 428م. وقد نجح ثيؤدور بالفعل في استبعاد الأبولينارية، ولكنه لم ينجح في تأكيد وحدة المسيح بطريقة مرضية.[5]
وهكذا وفي أثناء الربع الأول من القرن الخامس، صار هناك نوعان من التعليم الخريستولوجي في الشرق وكان كل منهما يؤكد تواصله مع إيمان نيقية ويعبِّر عن رفضه للأبولينارية، ولكن مع ذلك لم يكن لأي منهما فكرة حقيقية عن الآخر.[6] فالأنطاكيون على سبيل المثال، قد يخلطون بسهولة بين التقليد السكندري والأبولينارية، والسكندريون كذلك قد لا يرون إلاّ عقيدة وجود ’ابنين‘ في التقليد الأنطاكي.
(ب) الصدام بين نوعي التعليم الخريستولوجي:
كان نسطوريوس رجلاً تربى على التقليد الخريستولوجي الأنطاكي الذي يرتكز على ’خريستولوجي (الكلمة – إنسان)‘ (‘Word-man’ Christology)، وقد صار بطريركاً على القسطنطينية في 10 أبريل عام 428م. وبعد ذلك ببضعة شهور، قدَّم كاهنه أنسطاسيوس (Anastasius) عظة انتقد فيها استخدام لقب “والدة الإله ـ θεοτόκος” التي أطلقه الكثيرون في الكنيسة على العذراء (مريم) منذ حوالي القرن الثاني.[7] وعلى عكس التوقع الشعبي، أيَّد نسطوريوس نفسه الكاهن أنسطاسيوس.
وعندما تم إبلاغ البابا كيرلس بطريرك الكرسي السكندري بالحادثة، كتب أولاً رسالة تمهيدية تلاها برسالة عقائدية يُشار إليها عادة بالرسالة الثانية لكيرلس إلى نسطوريوس.[8] وقد حاول ق. كيرلس أن يقنع بطريرك الكرسي البيزنطي بأن مصطلح “والدة الإله ـ θεοτόκος” له تأثير هام على إيمان الكنيسة.
ودفع ق. كيرلس بأن قانون الإيمان النيقاوي ـ معيار الأرثوذوكسية الحصين ـ يؤكد أن الله الابن نفسه “نزل، وتجسد، وعاش كإنسان، وتألم، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السموات”، ومن هنا فإن الله الابن (في حالته المتجسدة) كان هو الشخص الفاعل (subject) في حياة المسيح. ولا يعني هذا رغم ذلك، أن الله الابن قد تغير إلى إنسان، ولكن يؤكد أنه بكونه قد “وحَّد بنفسه، في شخصه الذاتي، جسداً مُحيَّاً بروح عاقل”، فإن الله الابن “قد صار إنساناً، ودُعي ابن الإنسان”.
وبهذا الاتحاد، إنجمعت الطبيعتان الإلهية والإنسانية ـ والتي تختلف كل منهما عن الأخرى ـ في الرب الواحد يسوع المسيح، في وحدة غير قابلة للانقسام. وحيث إن الله الابن الأزلي، قد وحَّده (أي الجسد) بنفسه هيبوستاسياً (أقنومياً)[9] منذ اللحظة الأولى للحبل به في رحم العذراء، فتكون العذراء قد ولدت الله الابن المتجسد، وبالتالي فإنها تُدعى والدة الإله (ثيؤطوكس)، ويصبح لهذا اللقب مركزاً محورياً في أي تعليم خريستولوجي صحيح.
ورفض نسطوريوس أن يقبل الإرشاد، وشرع يتهم ق. كيرلس بتعليم الهرطقة، مما أدى إلى ازدياد الفجوة بين الرجلين. وفي نفس الوقت، كان مهاجمة نسطوريوس للقب “والدة الإله ـ θεοτόκος” قد أثار انتباه كل من البابا كليستين (Coelestine) بابا روما والبطريرك يوحنا الأنطاكي، فعقد الأول مجمعاً في روما* وقرر الوقوف ضد نسطوريوس، كما قام الأخير بنصح صديقه (نسطوريوس) أن يقبل هذا اللقب (والدة الإله) لينهي تلك الأزمة، ولكن نسطوريوس لم يكن عازماً أن يأخذ بنصيحته.
وهنا بدأ ق. كيرلس ـ الذي شكك بطريرك القسطنطينية في أرثوذكسيته ـ يعد نفسه لمواجهة جادة حول ذلك الأمر. وإذ تأكد من تعاطف بابا روما مع موقفه، دعا إلى مجمع (في الإسكندرية عام 430م) وحدد فيه إثني عشر حرماً لكي يقرِّها نسطوريوس، الذي كان تلقائياً بمقتضى هذه الحروم (وبحسب تعليمه السابق) ينبغي أن يكون محروماً.
وكانت هذه الحروم هي عبارات صارمة تعبِّر عن ’خريستولوجي (الكلمة – جسد)‘ (‘Word-flesh’ Christology) السكندري، وتقدِّم الأفكار الموجودة في الرسالة الثانية (لكيرلس إلى نسطوريوس) بصورة أكثر وضوحاً.
وأُرسلت هذه الحروم إلى نسطوريوس ومعها رسالة توضيحية وهي التي تُعرف بالرسالة الثالثة لكيرلس إلى نسطوريوس،[10] وكانت هذه الوثيقة تُصِّر على أن اتحاد الطبيعتين لم يكن فقط اتحاداً هيبوستاسياً (أقنومياً)، ولكنه أيضاً هو طبيعة واحدة، كما أكدَّت هذه الرسالة كذلك على أن “كلا الأقوال الإنسانية والأقوال الإلهية قد قيلت بواسطة شخص واحد”،[11] وقد وُضعت نفس هذه النقطة في الحرم الرابع من الحروم الإثني عشر.
وهكذا كان ق. كيرلس يقبل نفس المبادئ الثلاثة التي أكدها أبوليناريوس (مع اختلاف الأساس اللاهوتي بينهما)، ولكنه في نفس الوقت أوضح بصورة قاطعة أن ناسوت المسيح كان له روح عاقل. وكان رد نسطوريوس على هذه الرسالة هو الرفض أيضاً.
(ج) إدانة نسطوريوس:
دعا الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني إلى عقد مجمع لتسوية النزاع. وكانت أولى جلسات المجمع يوم 22 يونيو 431م حيث تأخرت عدة أيام عن الموعد الذي كان محدداً من قبل (7 يونيو). وكان هذا التأخير نتيجة عدم تمكن البطريرك يوحنا الأنطاكي والأساقفة المرافقين له من الوصول إلى أفسس في الموعد المحدد، ومع ذلك لم يتم تأجيل المجمع لحين وصولهم ولكنه بدأ بدون يوحنا وبقية الوفد الأنطاكي، مما جعل المندوب الإمبراطوري كانديديان (Candidian) يعترض ويغادر المجمع.
ورأس المجمع البابا كيرلس نفسه، وكان هناك مائتا عضو يحضرون الجلسات، وقد قام المجمع على الفور بتناول القضية المتعلقة بنسطوريوس. وحيث إنه لم يكن حاضراً هناك تمت دعوته رسمياً ولكنه رفض الحضور، فابتدأ المجمع في فحص الكتابات التي كان قد تم تبادلها بينه وبين ق. كيرلس بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الأدلة.
وتوصَّل المجمع في النهاية إلى قراره بإدانة نسطوريوس بتهمة الهرطقة، ولتوضيح إيمان الكنيسة الذي في ضوئه تم اتخاذ هذا القرار، أعلن المجمع تأييده الشديد لرسالة ق. كيرلس الثانية إلى نسطوريوس، كما وافق كذلك على الرسالة (الثالثة) مع الحروم باعتبارها وثيقة مقبولة.[12]
وفي يوم 26 يونيو وصل الوفد الأنطاكي الذي كان من المتوقع تأخر وصوله، وحين رأوا أن نسطوريوس قد تمت إدانته بالفعل، وأن الفكر اللاهوتي السكندري ـ الذي انعكس في رسائل ق. كيرلس ـ قد تم تأكيد أرثوذوكسيته، امتلأوا من الغضب واحتجوا على قرار المجمع، وقاموا بعقد مجمع مضاد برئاسة يوحنا الأنطاكي حضره ثلاثة وأربعون عضواً، وتبنى هذا الاجتماع حكماً بعزل البابا كيرلس السكندري وممنون (Memnon) أسقف أفسس، وكل الذين قبلوا حروم ق. كيرلس الإثني عشر.
ورفع كل جانب دعواه إلى الإمبراطور ساعياً لكسب تأييده. وتأزم الأمر جداً، لدرجة أن المجمع نفسه امتد إلى 11 سبتمبر من نفس العام، وفي ذلك الحين أعطى الإمبراطور أوامره بعزل كل من ق. كيرلس وممنون ونسطوريوس، ولكن بعد ذلك بفترة قصيرة أُعيد ق. كيرلس وممنون وأُرسل نسطوريوس إلى دير إيبريبيوس (Euprepius).
وفي عام 435م نُفي نسطوريوس إلى البتراء (Petra) في صحراء العربية (الأردن حالياً)، وبعد ذلك إلى صحراء مصر حيث مات هناك حوالي عام 449م. وبهذه الطريقة تمت إدانة نسطوريوس وهو اللاهوتي الأنطاكي الذي كان يؤمن بـ ’خريستولوجي (الكلمة – إنسان)‘ (‘Word-man’ Christology)، وذلك ببساطة لأنه ظل متمسكاً بشدة بفهمه للتقليد اللاهوتي الأنطاكي، ومن الجدبر بالذكر أن الأرثوذوكسية السكندرية كانت هي الأساس الذي بُني عليه الحكم بإدانته.
(د) إعادة الوحدة عام 433م:
غير أن التخلص من نسطوريوس لم يحل المشكلة بين الطرفين، فقد كانت أواصر الشركة قد تحطمت بينهما. وحاول الإمبراطور نفسه استخدام نفوذه ليعيد السلام وبالفعل أتت جهوده بثمارها، ففي عام 433م أرسل البطريرك يوحنا الأنطاكي بولس أسقف حمص إلى الإسكندرية ومعه وثيقة اعتراف بالإيمان،[13] فقبلها البابا كيرلس وأرسل إلى يوحنا رسالته المشهورة (Laeteutur Caeli).[14]
وتضمَّنت هذه الرسالة فقرة من اعتراف يوحنا الأنطاكي تؤكد على وحدة شخص المسيح والإستمرارية غير المختلطة للاهوت والناسوت فيه.* وتذكر هذه الفقرة أن “ربنا يسوع المسيح هو في آنٍ واحد إله كامل وإنسان كامل، .. وأنه مولود من الآب قبل كل الدهور بحسب لاهوته، وأنه هو نفسه في الأيام الأخيرة … وُلد من العذراء بحسب ناسوته، وهو نفسه له ذات الجوهر الواحد مع الآب، وله ذات الجوهر الواحد معنا”.
وينبغي علينا هنا أن نذكر الظروف التي تمت فيها إعادة الوحدة. وكان الأنطاكيون قد أثاروا ثلاثة اعتراضات ضد مجمع أفسس هي: (1) أن الموقف اللاهوتي للبابا كيرلس ـ كما يظهر في كتاباته وبالأخص في الحروم الإثني عشر ـ هو موقف هرطوقي؛ (2) أن نسطوريوس لم يكن هرطوقياً، وبالتالي فإن إدانته كانت غير مبررة؛ (3) أن مجمع أفسس الذي أعلن أن الأول (أي كيرلس) أرثوذكسي، وحكم بإدانة الثاني (أي نسطوريوس)، كان تجمعاً هرطوقياً.
وكان الاعتراض الأول هو بالفعل أهم تلك الاعتراضات الثلاثة، وقد حاول الأنطاكيون بشدة أن يجعلوا البابا كيرلس يسحب كتاباته، وبالأخص حرومه الإثني عشر، ولكن البابا كيرلس ـ وبدون التخلي عن هذه النقطة ـ وجَّه الأنطاكيين إلى تفسيره الخاص لهذه الحروم،[15] وأظهر لهم أنها لا تتضمَّن أي أفكار هرطوقية، بل كانت تهدف ـ كما قال ـ إلى تجنب “فساد الهرطقة النسطورية”.
وقد اقتنع يوحنا والأنطاكيون بطريقة تفكير البابا كيرلس، كما أن البابا كيرلس من جانبه لم يصِّر على ضرورة القبول الكامل لأي من كتاباته كشرط لإعادة الوحدة. وهكذا، بالرغم من أن الأنطاكيين لم يقبلوا الحروم بصورة إيجابية، إلاّ أنهم اتفقوا على أن كيرلس صاحب تلك الحروم كان أرثوذكسياً. أما بالنسبة للاعتراضين الثاني والثالث، فقد أيد الأنطاكيون إدانة نسطوريوس ووافقوا على قبول مجمع عام 431م بدون أية شروط.[16]
وقد تحرك يوحنا أيضاً عن الموقف التقليدي الأنطاكي في نقطة رابعة (بالإضافة للاعتراضات الثلاثة التي رجع عنها الأنطاكيون)، فالأنطاكيون كانوا ـ على الأقل منذ أيام ثيئودور أسقف مبسويستيا ـ يعترفون بأن مريم العذراء هي بالطبيعة فقط ’أنثروبوطوكس‘ أو ’خريستوطوكس‘ كما يمكن الإشارة إليها أيضاً بلقب ’ثيؤطوكس‘ لأن الإنسان الذي حملته كان يسكنه الله.[17] أما الآن فقد وافق البطريرك الأنطاكي أن يؤكد على أن العذراء هي ’ثيؤطوكس‘ (والدة الإله) بدون إضافة أي من المصطلحات الأخرى.[18]
وهناك عبارة واحدة في اعتراف يوحنا الأنطاكي كان من الممكن أن تكون لها عواقب بعيدة المدى وهي: “وفيما يخص أقوال البشيرين والرسل عن الرب، فنحن نعرف أن اللاهوتيين يجعلون بعضاً منها عاماً باعتبارها تخص شخص واحد، ويميزون البعض الآخر باعتبارها تخص طبيعتين، فيفسرون تلك التي تليق بالله بأنها تخص لاهوت المسيح، أما تلك المتواضعة فتخص ناسوته”.
ومن الواضح أن هذه العبارة كانت لتخفيف الصعوبة التي أحس بها الأنطاكيون بالنسبة للحرم الرابع،[19] ولكن العبارة في الحقيقة لا تتعارض مع موقف ق. كيرلس، لأنها تؤكد فقط أن اللاهوتيين يميِّزون الأمور التي تخص ربنا بثلاثة طرق. وتتصف هذه العبارة بالحذر الشديد، فهي لم تقل أن المسيح كائن في ثلاث مراكز للوجود والفعل، ولكنها قالت فقط أن أقوال وأعمال المسيح من الممكن تمييزها بثلاث طرق.
وكما سنرى فإن ق. كيرلس نفسه كان قد أعطى تعليماً يمكن أن يقبل هذه الاحتمالية، فقد رأى أننا في تأملنا للمسيح، يمكننا أن نميِّز في أذهاننا بعض كلمات وأفعال المسيح باعتبارها إلهية وبعضها الآخر باعتبارها إنسانية.
ومن هنا فإن الفحص المتأني للحقائق سوف يُظهر شرعية وجهة النظر السكندرية التي ترى أن صيغة إعادة الوحدة لا تلغي أي قرار من قرارات مجمع عام 431م، وإنما ساعدت رجال، من الذين كانوا يجدون صعوبات في مسألة الحروم مثل يوحنا الأنطاكي، لكي يقبلوا المجمع بدون ضغط زائد على قناعاتهم.
(هـ) موقف الجانبين في إيجاز:
كان السكندريون يؤمنون أن الله الابن تجسد من العذراء مريم بالروح القدس، وفي التجسد وحَّد الابن بنفسه ناسوتاً حقيقياً وكاملاً له روح عاقل خاص به. وبهذه الطريقة، قبل الله الابن في نفسه حالةً متجسدةً، اتحد فيها اللاهوت والناسوت في شخص واحد هو ربنا يسوع المسيح. والطبيعتان الإلهية والإنسانية متحدتان فيه بدون أن تتغير أي منهما إلى الأخرى، وبدون أن تكوِّنا معاً شيئاً (جديداً) ثالثاً (tertium quid). وكان هذا الشخص الواحد هو الذي يتكلم الأقوال وينجز الأفعال التي سُجلت عن المسيح في البشائر.
ولكن حينما نتأمل في المسيح بأذهاننا يمكننا حينئذ أن نقول عن بعض تلك الكلمات والأفعال أنها إلهية، وعن البعض الآخر أنها إنسانية. وكانت قوة هذا الموقف السكندري تكمن في تأكيده وتركيزه على وحدة المسيح.
وقدَّم السكندريون عدداً من المصطلحات اللاهوتية لكي يؤكدوا بها موقفهم اللاهوتي.
فأولاً، أقروا أن الاتحاد كان ’من طبيعتين‘، موضحين أن الناسوت أُحضر إلى الوجود فقط في الاتحاد مع الله الابن، وأنه (أي الناسوت) لم يتعرض في الاتحاد لأي تغيير أو نقصان.
ثانياً، هذا الاتحاد كان اتحاداً هيبوستاسياً (أقنومياً) وطبيعياً، وهو اتحاد حقيقي وداخلي. وكان السكندريون يريدون بذلك أن يستبعدوا فكرة أن يسوع الناصري كان مجرد إنسان عاش في شركة حميمة مع الله الابن.
ثالثاً، بما أن الاتحاد كان هيبوستاسياً وطبيعياً، فإن المسيح هو هيبوستاسيس ’واحد‘ وطبيعة ’واحدة‘ متجسدة لله الكلمة، وكلمة ’واحد‘ هنا سواء بالنسبة للهيبوستاسيس أو للطبيعة لا تعني واحداً بسيطاً (مفرداً) ولكنه واحد ’مركب‘.[20] وقد استخدم السكندريون عبارة “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة” كأداة لغوية ملائمة تؤكد مفهومهم عن وحدة المسيح.
رابعاً، إن المسيح هو في آنٍ واحد إله كامل وإنسان كامل، وكإنسان كان مثل أي واحد منا مع استثناء وحيد هو أنه بلا خطية. وكان السكندريون يصرون على أنه لا ينبغي الحديث عن المسيح بكونه ’طبيعتين بعد الاتحاد‘، أو أنه كائن ’في طبيعتين‘،[21] لأن هذا الأمر قد يحمل ضمنياً معنى أن الاتحاد كان شيئاً خارجياً، وبالتالي يكون المسيح مجرد شخص مثل واحد من القديسين أو الأنبياء.
أما الأنطاكيون على الجانب الآخر، فقد كانت الفكرة المحورية في تعليمهم الخريستولوجي هي أن المسيح ’طبيعتين بعد الاتحاد‘،[22] ولكنهم في نفس الوقت، لم يؤمنوا بأن المسيح كان فقط مثل أي قديس أو نبي. وقد أكد الأنطاكيون أيضاً أنه كان هناك اتحاد بين الطبيعتين، ولكنهم لم يقبلوا التفسير السكندري للاتحاد، فبينما رأى السكندريون أنه اتحاد في الهيبوستاسيس، كان الأنطاكيون يرون أنه اتحاد في البروسوبون.[23]
فالحقيقة إذن أنه بعد النزاع مع الأبولينارية، سعى كل جانب من الجانبين السكندري والأنطاكي لبناء موقف خريستولوجي خاص به، ولكن لم يتفق الجانبان معاً في تفسيراتهما الخاصة.
* أي المبني على أساس مفهوم أن الكلمة صار جسداً
[1] لقد ذكر جريلميير في كتابه (Grillmeier: op. cit., pp. 193-f.) أن السكندريين اعتمدوا على العبارة التي وردت في إنجيل يوحنا (1: 14) “والكلمة صار جسداً وسكن بيننا” لكي يؤكدوا وحدة المسيح من خلال منطق ’الكلمة – جسد‘
[2] سيتم شرح مصطلح هيبوستاسيس بالتفصيل في صفحة وما يليها ولكن المعنى المبدئي الذي نستطيع أن نذكره هنا أنه هو (الكيان) الخاص المحدد وبالتالي فهو الشخص.
لدراسة موضوع ’الأبولينارية‘ بالتفصيل ارجع إلى:
(J. N. D. Kelly, Early Christian Doctrines, op. cit., pp. 289f; Grillmeier, Christ in Christian Tradition, op. cit., pp. 220f)
* أي الروح الإنسانية العاقلة
[3] كان التشابه في المصطلحات بين السكندريين والأبولينارية (رغم اختلاف المفهوم وراء هذه المصطلحات لدى كل منهما) هو أحد الأسباب التي دعت الأنطاكيين إلى مهاجمتهم.
* أي المبني على أساس مفهوم أن الكلمة اتخذ إنساناً
[4] كان مرجعنا هنا أيضاً هو جريلميير.
[5] تم في الفترة الأخيرة نشر عدة دراسات عن التعليم الخريستولوجي عند ثيؤدور وقد تعرضنا لهذا الموضوع في صفحة وما يليها حيث قدمنا ملخصاً عن تعاليمه.
[6] لقد ذكر فرانسيس سوليفان (Francis A. Sullivan) هذه الحقيقة في كتابه:
(The Christology of Theodore of Mopsuestia, Rome, 1965)
[7] للإطلاع على ملخص تاريخي عن هذا المصطلح، انظر مجموعة “آباء نيقية وما بعد نيقية” السلسلة الثانية، مجلد 14 صفحة 208.
[8] يمكن الإطلاع على الرسالة الثانية للقديس كيرلس إلى نسطوريوس في:
(T. H. Bindley, The Oecumenical Documents of the Faith, Methuen)
[9] لمزيد من الشرح حول ’الاتحاد الهيبوستاسي (الأقنومي)‘ انظر صفحة وما يليها.
* عٌقد هذا المجمع عام 430 م.
[10] للإطلاع على هذه الوثيقة انظر أيضاً المرجع السابق: (T. H. Bindley)
[11] يقول ق. كيرلس “وحيث إنه اتحد بحسب الطبيعة، ولم يتحول إلى جسد”، فإن الله الابن سكن فينا بنفس الطريقة التي يسكن بها روح الإنسان في الجسد. ورداً على الذين انتقدوا ذلك المعنى، شرح ق. كيرلس العبارة وقال أن الاتحاد كان حقيقياً وصادقاً. وبالنسبة للهيبوستاسيس الواحد، أوضح أنه كان الهيبوستاسيس المتجسد الواحد للكلمة.
[12] لم يرد في وقائع جلسات المجمع ـ والتي لم تكن في الحقيقة كاملة ـ أي ذكر لهذه الرسالة الثالثة، وعلى هذا الأساس تساءل البعض عما إذا كانت تلك الرسالة قد قُبلت بالفعل في مجمع عام 431م. وسيظهر لنا فيما بعد أن التاريخ اللاحق للجدل الخريستولوجي قد أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن تلك الرسالة قد قُبلت بالفعل من قبل المجمع.
[13] هناك رأي يرى أن تلك الوثيقة كانت هي إعتراف الإيمان الذي قدمه الأنطاكيون للإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني عام 431م وأنها من وضع ثيؤدوريت أسقف قورش. انظر:
(J. Tixorent, History of Dogma, Herder, 1916, vol. III, p. 47, n. 131).
[14] هذه الوثيقة التي عادة ما يُشار إليها بـ ’صيغة إعادة الوحدة عام 433م‘ نجدها في المرجع السابق:
(T. H. Bindley, The Oecumenical Documents of the Faith)
* رغم أن كلمة كلمة ’استمرارية‘ في عبارة “الاستمرارية غير المختلطة للاهوت والناسوت فيه” قد توحي بالوجود المسبق لللاهوت والناسوت قبل الاتحاد، لكن المقصود بها هو “الوجود غير المختلط للاهوت والناسوت فيه”، لأن الوجود المسبق لا ينطبق إلاّ على اللاهوت فقط إنما الناسوت فقد وُجد في الإتحاد. لذلك فكلمة استمرارية هنا تُستخدم لتعني أنه لم يحدث أي تغيير أو زوال لأي منهما في الإتحاد وأنهما استمرا بغير اختلاط أيضاً في الاتحاد.
[15] كان البابا كيرلس يدرك أن للأنطاكيين اعتراضات شديدة على حرومه الإثني عشر، لذلك كتب تفسيراً لتلك الوثيقة حينما كان في السجن بعد أمر ثيؤدوسيوس الثاني بعزله مع ممنون ونسطوريوس. ومع ذلك كتب كل ثيؤدوريت أسقف قورش وأندراوس أسقف سموساطا يفندان تلك الحروم، وقد كتب البابا كيرلس رده على كل منهما على حدة.
[16] ذكر البابا كيرلس هذه الأمور في رسائله إلى أكاكيوس أسقف ميليتين وفالريان أسقف إيقونيوم وسكسينسوس أسقف ديوقيصرية.
[17] إن مصطلح ’أنثروبوطوكس‘ يعني ’والدة الإنسان‘، ومصطلح ’خريستوطوكس‘ يعني ’والدة المسيح‘، ومصطلح ’ثيؤطوكس‘ يعني ’والدة الإله‘.
[18] كتب البابا كيرلس إلى فالريان أسقف إيقونيوم: “لأنهم (أي الأنطاكيين) يعترفون أيضاً ـ كما نفعل نحن ـ بأن العذراء القديسة هي ’ثيؤطوكس‘، بدون إضافة أنها ’خريستوطوكس‘ أو ’أنثروبوطوكس‘ التي كان يقولها نسطوريوس”.
[19] يقول الحرم الرابع: “إذا نسب أحد، كلمات الإنجيليين أو الكتابات الرسولية سواء تلك التي قالها القديسون عن المسيح أو التي قالها هو عن نفسه، إلى شخصين أو هيبوستاسيسين (أقنومين)، ناسباً بعضها كما لو كان إلى إنسان منفصل عن الله، وناسباً البعض الآخر الذي يلائم الله كما لو كان إلى الكلمة وحده الذي من الله الآب، فليكن محروماً”.
[20] يرى جون ماكينتير (John McIntyre) أن مفهوم ’هيبوستاسيس مركب‘ من وضع إفرايم الأنطاكي في القرن السادس
(The shape of Christology, S.C.M., 1966, p. 100)، ولكن هذه المقولة خاطئة تماماً.
[21] هذه الحقيقة أكدها الدارسون أمثال بول جالتييه كما جاء في بحثه:
(Saint Cyrille d’Alexandrie et Saint Leon le Grand a Chalcedone – Das Konzil von Chalkedon, op. cit., vol. 1.)
[22] انظر الجزء الخاص بمناقشة الخريستولوجي الأنطاكي صفحة وما يليها.
[23] يُترجم ’البروسوبون‘ مثل ’الهيبوستاسيس‘ بمعنى ’الشخص‘، ولكن ’البروسوبون‘ لا يعني الشخص بالمعنى الكامل للمصطلح، وإنما يدل على الناحية الخارجية للكائن التي تميِّز الواحد عن الآخر. انظر هذا الموضوع بالتفصيل في صفحة وما يليها.