Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

العلاقة الداخلية بين الابن والآب

العلاقة الداخلية بين الابن والآب

العلاقة الداخلية بين الابن والآب

المدخل إلى الله الآب

لنبدأ حديثنا بما قاله ق. أثناسيوس: “إنه يكون أكثر تقوى وحق أن نتعرف على الله من خلال الابن وندعوه “الآب” عن أن نسميه من خلال أعماله فقط وندعوه “غير المخلوق””[1].

ويكشف ق. أثناسيوس في هذه العبارة تأكيد مجمع نيقية على مركزية “علاقة الآب بالابن” في الإيمان كله، وأسبقيتها على “علاقة الخالق بالمخلوق” والتي يجب أن تُفهم في ضوء “علاقة الآب بالابن” وليس العكس. كما أوضح ق. أثناسيوس أن المدخل إلى الله بكونه آبًا* من خلال الابن، هو سبيل أكثر ورعًا ودقة، من المدخل إليه من خلال أعماله بتتبعها وإرجاعها إليه باعتباره مصدرها غير المخلوق.

لذلك فإن الورع والحق (ευ̉σέβεια καὶ α̉λήθεια)، أي التقوى والدقة (θεοσέβεια καὶ α̉κρίβεια) يتلازمان معًا في المعرفة الأصيلة لله من خلال يسوع المسيح ابنه (المتجسِّد)[2]. لذا ينبغي أن ننتبه ونذكر باستمرار أن الجمع بين “الدقة” اللاهوتية واعتبار المسيح “مركزًا” للإيمان كان هو السمة المميزة جدًّا للفكر اللاهوتي النيقي.

 

الفرق بين المدخل إلى معرفة الله من “خلال ابنه” والمدخل إلى معرفته “من خلال أعماله”

وقد أبرز اللاهوتيون بنيقية أن الفرق بين هذين المدخلين إلى معرفة الله، أي من خلال ابنه ومن خلال أعماله، هو الفرق بين من “وَلَده” الله من طبيعته الذاتية وما قد “صنعه” من العدم ويختلف اختلافًا كاملاً عن طبيعته.

فنحن عندما نفكر ونتحدث عن الله من منظور “علاقة الخالق بالمخلوق” أو علاقة غير المبتدئ بالمبتدئ”، فإننا نستطيع فقط أن نفكر ونتحدث عن الله بعبارات نفي عامة وغامضة، لأنه بسبب المسافة غير المحدودة التي بين المخلوق والخالق، فإننا لا نستطيع أن نعرف الله وفقًا لما هو في ذاته* أو حسب طبيعته الإلهية، بل نعرفه فقط في انفصاله التام عنا، بوصفه الأبدي والمطلق وغير الموصوف[3].

ومن هذا المدخل لا يمكننا أن نفعل شيئًا أكثر من محاولة التحدث عن الله من خلال أعماله التي أوجدها بمشيئته وبواسطة “كلمته”، أي من خلال ما يتعلق بالله “من خارج”، الأمر الذي لا يستطيع في الواقع أن يعرِّفنا أي شيء عن مَن هو الله أو ماذا يشبه في طبيعته الذاتية[4].

 

خطورة المدخل إلى معرفة الله من “خلال أعماله”

إن هذا الخط الفكري (أي خط الدخول إلى الله من خلال أعماله) ـ كما أصَّر كل من القديسين أثناسيوس وهيلاري ـ يفتقر تمامًا إلى الدقة والضبط (α̉κρίβεια)، وقد أبعد الاثنان نفسيهما بصورة حاسمة ـ من جهة هذا الأمر ـ عن نظرية باسيليدس الغنوسي الإسكندري، الذي علَّم مستندًا على تعبير أفلاطون، بأن الله أعلى من كل الوجود حتى إننا لا نقدر أن نقول شيئًا عن ما “هو” الله ولكننا نقدر فقط أن نقول شيئًا عن ما “ليس هو” الله[5].

وقد أوضح ق. غريغوريوس النزينزي أننا إذا لم نستطع أن نقول شيئًا إيجابيًّا عن ما “هو” الله، فبالتالي نحن في الحقيقة لا نقدر أن نقول بدقة أي شيء عن ما “ليس هو” الله[6]. وطبقًا لآباء نيقية، فإنه لا يصح أبدًا التحدث عن الله بمفاهيم سلبية جوفاء.

 

المدخل إلى الله من “خلال أعماله” يفتقر إلى الطريقة العلمية السليمة والدقيقة

وإذا لم نفكر في الآب من مدخل علاقته بالابن، بل فقط من مدخل إظهار الفرق بينه كخالق وبين المخلوقات، فإننا حتمًا سوف ننتهي إلى التفكير في الابن نفسه على أنه أحد أعمال الله المخلوقة، مما يقودنا بالتالي إلى التحدث عن الله والتفكير فيه بأسلوب غير مؤسس شخصيًّا في الله ذاته، وإنما بأسلوب غير شخصي بعيد كل البعد عن “ما هو” الله في ذاته[7].

وفضلاً على ذلك، فإننا إذا حاولنا التوصل إلى معرفة الله من نقطة ما “خارج عن الله”، فإننا لن نستطيع التعامل مع أي نقطة “في الله” ـ والتي بواسطتها فقط يمكننا أن نمتحن ونضبط مفاهيمنا عن الله ـ بل سنرتد حتمًا إلى أنفسنا (لنأخذ منها معرفتنا عن الله). وحتى إن حاولنا أن نربط بطريقة سلبية بين الله وبين ما نحن عليه في ذواتنا (بقولنا أنه غير المحدود، غير المتغير،..)، فلن نستطيع أبدًا تجنب وضع أنفسنا بنوع ما كمقياس لما نفكر أو نقوله عن الله.

وهكذا في نهاية المطاف سيكون الاستناد إلى رأينا الشخصي  (κατά τὸν ί̉διον νου̃ν)، بالإضافة إلى ما نفكر فيه أو نبتكره من عندياتنا بشكل اعتباطي (έπινοει̃ν)، هو الذي يكوِّن حكمنا عن كل من الابن والآب، وهذا بالتحديد هو ما اتُهم الأريوسيون بعمله[8].

إن أية محاولة للتوصل إلى معرفة الله بهذه الطريقة، هي اتباع للمشيئة الذاتية (وهو نوع من العناد الشخصي) البعيد تمامًا عن التقوى (ευ̉σεβής)، كما أنها تتصف أيضًا بأنها طريقة غير علمية (ε̉πιστημονική) وغير دقيقة (α̉κριβής). وفي الإسكندرية على الأخص أُعطي قدر كبير من الاهتمام للبحث العلمي والأسلوب العلمي، وهو ما كان له تأثيره على مفكرين مسيحيين أمثال كليمندس وأناتوليوس وأثناسيوس[9].

وأساس هذا الأسلوب هو أن المعرفة العلمية الدقيقة تكون ناتجة عن “بحث” يُجرى بطريقة متوافقة تمامًا مع طبيعة (κατὰ φύσιν) “الحقيقة” التي يُجرى بحثها، أي أن ما يُعرف عن هذه “الحقيقة” يتم الوصول إليه بالالتزام بما هو فعليًّا وجوهريًّا داخل هذه “الحقيقة”، وليس طبقًا لأي عرف اعتباطي (κατὰ θέσιν).

إن معرفة الأمور بهذه الطريقة ـ أي طبقًا لطبيعتها ـ هي المعرفة التي تتوافق مع حقيقة هذه الأمور وواقعها (κατὰ α̉λήθειαν)، وبالتالي يمكن التفكير فيها والحديث عنها بحق (α̉ληθω̃ς)[10]. وهذا هو الطريق الوحيد للتوصل إلى معرفة حقيقية ودقيقة أو معرفة علمية في أي مجال من مجالات البحث، وذلك من خلال قبول العقل بأمانة لمتطلبات “الحقيقة” التي تلح عليه.

هذا المدخل العلمي والذي به نعرف الأشياء فقط طبقًا لطبيعتها المميِّزة لها، ينطبق بشكل أقوى على معرفة الله، وحيث إنه لا يوجد تشابه بين جوهر الله الأزلي وبين جوهر الواقع المخلوق، فإن الله يمكن معرفته فقط من خلال ذاته[11]. لذلك إذا أردنا أي معرفة علمية ودقيقة وحقيقية عن الله، فلا بد أن نعطي لطبيعته الذاتية ـ كما أظهر ذاته لنا ـ أن تحدد كيف ينبغي أن نعرفه، وكيف ينبغي أن نفكـر فيـه وماذا ينبغي أن نقوله عنه.

وهذا بالضبط هو ما يحدث عندمـا نقتــرب إلى الله كآب من خلال يسوع المسيـح ابنــه المتجسِّـد، لأن الابـن هو من نفس الطبيعة الواحــدة والجوهر الواحـد (ο̉μοφυής καὶ ο̉μοούσιος) مع الآب “إن كل ملء لاهوت الآب هو كيان الابن والابن هو الله بأكمله”[12] لأنه هو إله من إله وهو الطريق الوحيد للوصول إلى الله الآب.

 

المدخل إلى الله من “خلال أعماله” لن يجعلنا نعرفه كآب

إننا عندما نسعى لمعرفة الله من خلال مخلوقاته، فإننا لن نعرفه “كآب” بل سنعرفه فقط “كخالق”، وفي هذا لن نكون أفضل من اليونانيين (الوثنيين)[13]. ولكن من يعرف الله “كآب” في ابنه “كلمة الله” ومن خلاله، فإنه سيعرفه أيضًا “كخالق” لأنه “بالكلمة” قد خلق كل شيء[14].

 

أمران يجب ملاحظتهما في دخولنا إلى معرفة الله

الأمر الأول: أنه إذا أردنا حقًّا أن نعرف الله فلا بد أن تكون قد أُعطيت لنا نقطة للدخول إليه، بحيث تكون هذه النقطة في كل من الله ذاته وفي كياننا نحن كمخلوقات.

وهذا بالتحديد هو ما حصلنا عليه في التجسد، حيث إعلان الله عن ذاته “كآب” يتم من خلال إعطائه ذاته لنا في يسوع المسيح ابنه، وعندما يعطينا الله أن نصل إلى معرفته بهذه الصورة فهو يفعل هذا في إطار ظروف المكان والزمان، أي داخل حدود ما يمكن أن نفهمه نحن البشر. وفي نفس الوقت، فإن المعرفة التي يعطيها لنا الله عن ذاته في ابنه المتجسِّد يكون مركزها في الله ذاته، وبالتالي يكون كل فهمنا البشري لله وكل تصوراتنا عنه يمكن فحصها وضبطها وفقًا لطبيعته الإلهية[15].

لذلك عندما نقترب إلى الله “كآب” من خلال الابن، فإن معرفتنا للآب في الابن يكون أساسها قائمًا في صميم كيان الله، كما أن هذه المعرفة تتحدد بما هو الله بالحقيقة في طبيعته الذاتية. و بما أننا في يسوع المسيح نستطيع بالحقيقة أن نعرف الله وفقًا لطبيعته الذاتية كآب وابن، فإننا من الممكن أن نعرفه بطريقة تقوية ودقيقة معًا.

الأمر الثاني: أنه عندما نعرف الآب بهذه الطريقة، أي في يسوع المسيح الابن المتجسِّد ومن خلاله، فإننا ندرك أنه يفوق بطريقة لانهائية كل ما نقدر أن نفكر فيه أو نقوله عنه. إننا نعرف أن الله الآب ذاته ـ الذي أُعطينا السبيل إليه من خلال الابن ـ هو غير محدود ويفوق الإدراك في حقيقته الإلهية، وكما يقول ق. هيلاري: “إن الله اللانهائي والذي لا يُحد لا نقدر أن نفهمه ببعض كلمات من الحديث البشري”[16]، ولذلك فإننا في الإيمان نعترف بحقيقة أن الإيمان نفسه غير كفء لإدراك الله، الذي هو الموضوع الإلهي للإيمان على حد تعبير ق. هيلاري[17].

ونحن في إدراكنا الفعلي لله، نتحقق من أننا لا نستطيع أن نستوعبه، فنحن نعرف أكثر بكثير مما نستطيع أن نستوعب أو نعبِّر، كما أننا نشعر أو نختبر أكثر بكثير مما يمكننا أن نصوغه في أفكار أو كلمات[18]. ونحن لا نستطيع أن نحتوي ونستوعب كل ما هو الله داخل معرفتنا له، لأنه يتخطى كل مفاهيمنا وتعريفاتنا المحدودة، ولكن كما يقول ق. هيلاري: بينما الله في كليته يفلت من إدراك عقولنا، فهو مع ذلك يترك لنا شيئًا من ذاته ضمن حدود إدراكنا.

غير أن ما نعرفه عن الله، هو بالطبع ليس جزءًا من الله، لأن الله لا يمكن أن يتجزأ إلى أجزاء، ولكننا بالأحرى نعرف بصورة جزئية “الله كله”، الذي يفوق ما يمكن أن ندركه داخل إطار فكرنا وحديثنا البشري. ويعود ق. هيلاري ليقول: “إن معرفة الله الكاملة، هي أن نعرفه متيقنين أننا ينبغي ألا نجهله، إلا إننا لا نستطيع أن نصفه. إننا ينبغي أن نؤمن به، وينبغي أن ندركه، وينبغي أن نعبده بوقار، لأن هذه العبادة هي التي يجب أن تحل محل تعريفنا له”[19].

وهكذا نكون أمناء تجاه حقيقة الله غير الموصوفة التي لا تحد، كما نكون أمناء أيضًا تجاه معرفتنا لله معرفة إيجابية ودقيقة في يسوع المسيح وبواسطته. وهذه المعرفة تعني أن نعرف الله بطريقة تليق حقًّا بالله، أي بطريقة جديرة به وتتسم بالتقوى. وهي تعني أيضًا أن نعرف الله بطريقة حقيقية ودقيقة تحددها طبيعته كما أُظهرت لنا في الابن المتجسِّد.

وفقط كلما تفتحت عقولنا وتوافقت مع الله طبقًا لطبيعته المعلَنة، وكلما استجبنا له في إيمان وطاعة وعبادة، استطعنا أن نفكر فيه ونتحدث عنه بنوع من الدقة التي تلائم طبيعته الإلهية.

فالخشوع والدقة، التقوى والإتقان ينتمي بعضها للبعض الآخر، ويحكم كل منها الآخر، لأن معرفة الله تنشأ وتتشكَّل في عقولنا حسب ما تحدِّده طبيعته المعلَنة، وتظل هذه المعرفة مُصانة وقائمة داخل اختبار العبادة، والصلاة، والقداسة، والتقوى. وهكذا تمتزج العناصر العملية والنظرية، التقوية واللاهوتية، هذه كلها معًا بغير انفصال، في الفهم اللاهوتي والصياغة اللاهوتية[20].

 

الله هو الذي يُعرِّفنا “ذاته” بذاته

وإذا تحدثنا بصورة أكثر تدقيقًا ـ كما أشار ق. إيرينيئوس ـ نستطيع أن نقول إن الله فقط هو الذي يَعرف ذاته، وبالتالي فلا يمكن معرفة الله إلاّ من خلال الله فقط.

وبما أن الله وحده كائن داخل سرمديته ولانهائيته الذاتية، فإنه هو وحده الذي يستطيع أن يَعرف ذاته بطريقة تتفق تمامًا مع ماهيته، وبما يتناسب مع كينونته وبما يلائم طبيعته بكونه الله، لذلك فإذا أردنا حقًّا أن نعرف الله فهذا يتأتى فقط من خلال المشاركة ـ بشكل لا يصدقه عقل ـ في المعرفة التي يملكها الله عن ذاته[21].

أي إننا نستطيع معرفة الله، فقط إذا أدخلنا هو في شركة معه في العلاقات الداخلية له كآب وابن وروح قدس. وهذه المشاركة في المعرفة التي لله عن نفسه، صارت ممكنة من خلال تجسد ابن الله وبواسطة روح الآب والابن.

 

الله يُعرِّفنا “ذاته” من خلال الابن المتجسِّد وفي الروح القدس

إن الله في التجسُّد، أعطانا ذاته في يسوع المسيح ابنه الحبيب، وهو لم يوصل إلينا شيئًا عن ذاته بل أعطانا ذاته عينها، وبذلك جعل نفسه معروفًا لنا طبقًا لطبيعته الإلهية “كآب”. وفي يوم العنصرة سكب الله علينا روحه القدوس، الذي بكونه روح الآب وروح الابن فهو حضور الله المباشر.

أي إنه في يسوع المسيح الابن المتجسِّد، أدخل الله في وجودنا البشري، المعرفة المتبادلة التي يعرفها الآب والابن كل منهما للآخر، وفي الروح القدس يعطينا شركة في العلاقة المتبادلة التي للآب والابن، وبذلك يجعلنا نشترك في المعرفة التي للآب والابن عن بعضهما البعض. وبتعبير آخر، فإنه من خلال يسوع المسيح الابن المتجسِّد أُعطينا سبيلاً إلى الآب في روح واحد[22].

ولا نبالغ إذا قلنا إن علاقة الابن بالآب هذه، والتي أُعلنت في يسوع المسيح الابن المتجسِّد، قد صارت القاعدة والنقطة المركزية للفكر اللاهوتي النيقي كله، لأن تجسد الابن قد فتح الطريق إلى معرفة الله وفقاً لما هو في ذاته، وهو ما لم يكن من الممكن أن يفعله أي شيء آخر. ففي التجسد، أخذ ابن الله طبيعتنا البشرية لنفسه وجعلها خاصة به تمامًا حتى إنه جاء بيننا “كإنسان”، وبواسطة وجوده بيننا “كإنسان” كشف لنا عن ما هو “كإله”.

وبمعنى آخر، فإنه ـ دون أن يتخلى عن طبيعته الإلهية ـ اتحد بنا في طبيعتنا البشرية بشكل تام كامل، لدرجة أنه بحياته الإلهية التي كان يحياها في داخل حياتنا البشرية ـ بكامل حقيقة هذه الحياة البشرية ـ قد أعلن شيئًا من السر الأعمق لحياته الإلهية “كابن” للآب. ولكنه وبالتحديد في إعلانه لنا عن طبيعته الذاتية “بكونه الابن”، قد أظهر لنا طبيعة “الآب”، ليس فقط بالكلام، مُعْلِمًا إيانا عن الآب، بل بكونه ـ كما هو منذ الأزل ـ ابن الآب الذاتي، المتجسِّد في حياتنا البشرية.

ولذا كان يقين “كنيسة نيقية” الكاسح أنه فقط بتجسُّد الابن، قد أُدخلت معرفة الله الحقيقية في نطاق فهمنا البشري بشكل إيجابي، لأنه فقط بمشاركتنا في معرفة الابن للآب يكون فكرنا وحديثنا عن الله بالحقيقة هدفه ومحوره هو الله، وبالتالي يكون له محتوى إيجابي. وفي عمل من تواضع الذات أو إخلاء الذات لأجلنا، تنازل الله الابن ليشاركنا طبيعتنا المخلوقة وليشاركنا ضآلتنا وجهلنا، لكي يرفعنا في ذاته إلى الشركة مع الله، وإلى معرفة الله وفقًا لما هو في ذاته بالحقيقة.

فالله “هو معروف للابن فقط، لأن ليس أحد يعرف الآب إلاّ الابن ومَن يريد الابن أن يعلن له، ولا أحد يعرف الابن إلاّ الآب. كل منهما له معرفة تامة وكاملة بالآخر. ولذلك بما أنه لا أحد يعرف الآب إلاّ الابن فلنجعل أفكارنا عن الآب متوافقة مع أفكار الابن ـ الشاهد الأمين الوحيد الذي يعلن الآب[23]“.

وهذا التركيز على المعرفة المتبادلة بين الآب والابن بكونها الأساس لمعرفتنا نحن لله، لم يكن أبدًا لينتقص أو يقلل بأي شكل من حقيقة الروح القدس وعمله، لأنه فقط من خلال شركة الروح القدس المُرسل لنا من الآب بواسطة الابن نستطيع بالفعل أن نشترك في علاقة الابن بالآب والذي به (أي بالابن) نُعطى دخولاً إلى الآب نفسه. وهكذا يصبح مفهومًا أنه بالرجوع الدائم لعلاقة الابن الداخلية بالآب ـ كمحور مركزي للإيمان ـ صاغت الكنيسة فهمها لكل الأمور الأخرى مثل الخلق، والخلاص، والكنيسة، وقيامة الأموات، وحياة الدهر الآتي.

وإذ نحن كائنات عرضية (أي اعتمادية ومتوقفة في وجودها على غيرها)، فإننا محصورون داخل النطاق المحدود لوعينا وإدراكنا المخلوق، ولكن تحت تأثير إعلان الله عن ذاته في المسيح يسوع وعمل روحه القدوس الخلاَّق، تنفتح عقولنا وقدراتنا وتتسع وتمتد أفكارنا إلى ما هو أبعد بكثير من نطاقها المحدود، إلى أن تصير متناسبة ـ على الأقل إلى حد ما ـ مع هدفها الإلهي[24].

إنه الروح القدس الذي يحقق إعطاء الله ذاته لنا في يسوع المسيح، وبالتالي يُمكِّننا من قبول وإدراك ما هو أبعد من ذواتنا تمامًا، ألا وهو المعرفة الحقيقية لله نفسه متجسِّدًا بيننا في المسيح. وهذا ما يتحقق في إيمان الكنيسة وتوقيرها وعبادتها وتكريسها الخاشع المطيع لإعلان الله عن ذاته بالابن وفي الروح القدس. وهنا نورد قول ق. هيلاري مرة أخرى “إن الله لا يمكن أن يُعرف إلاّ عن طريق العبادة والتقوى[25]“.

أي إنه بعلاقة الشركة الحميمة مع الله في المسيح وبالروح القدس ومن خلالها ـ والتي ندخل فيها بواسطة الإيمان والعبادة والتأمل والسجود ـ فإنه يمكن لعقلنا البشري أن يتكيف ويتلاءم ـ على قدر الإمكان ـ مع معرفة الله وفقًا لطبيعته كآب وابن وروح قدس، وبهذا ندخل في معرفةٍ دقيقةٍ ومحددة له وفقًا لما هو الله بالحقيقة في ذاته، وحسبما يكشف هو لنا ذاته.

 

[1]  Athanasius, Con. Ar., 1.34: (Ου̉κου̃ν ευ̉σεβέστερον καί α̉ληθές α̉́ν ει̉́η μα̃λλον τόν Θεόν ε̉κ του̃ Υι̉ου̃ σημαίνειν καί Πατέρα λέγειν η̉́ ε̉κ μόνων τω̃ν ε̉́ργων ο̉νομάζειν καί λέγειν αυ̉τόν α̉γένητον). Cf. 1.16, 33; De decr., 31; Hilary, De Trin., 1.17; 3.22; cf. 2.6-8.

*  إن معرفتنا لله بكونه ’آبًا‘ إنما تعني ضمنيًّا: أنه آب مولود منه الابن ومنبثق منه الروح القدس، لأنه الله في جوهره ثالوثي ومعرفتنا له تعني معرفتنا له بكونه ثالوثًا (كما سيأتي ذكره في الفصل الأخير). وهذا هو المنهج الذي نراه في قانون الإيمان؛ إذ يبدأ بالاعتراف بالله بكونه آبًا ثم بعد ذلك يعلن الإيمان بالابن المولود من هذا الآب والروح القدس المنبثق من هذا الاب أيضًا. (المترجم)

[2]    عند ق. أثناسيوس كلمة ’التقوى‘ (ευ̉σέβεια) كانت تعني ’الأرثوذوكسية‘ كما يتضح من:

De syn,3; De decr., 1; Con. Ar.,1.7, etc.; Ep. Enc., 2; Ad Afr., 2; Ad Ant, 8  بينما كانت كلمة ’عدم التقوى‘ (α̉σέβεια, δυσσέβεια) تشير إلى ’الهرطقة‘ كما في: Con. Ar., 1.1ff, 37, 52f; 2.18; 3.10.55,etc.

*  إن معرفة الله في ذاته أو وفقًا لما هو في ذاته إنما تعني معرفة الله فقط كما أعلن هو لنا ذاته أي معرفته في علاقاته الداخلية الأقنومية كآب وابن وروح قدس. (المترجم)

[3]  Hilary, De Trin., 2.6f.

[4]  See Athanasius, De decr., 13; Con. Ar., 1.29; 2.22, etc.

[5]  Athanasius, De decr., 22; De syn., 34.

[6]  Cf. Gregory Naz., Or., 28.9; Athanasius, Ad mon., 2; Basil, Con. Eun., 1.10, and contrast John of Damascus, De fide orth., 1.4.

[7]  Athanasius, Con. Ar. 1, 29-34; De Syn., 35, 46-47.

[8]  Athanasius, Con. Ar. 1.1f, 14f, 37, 52f; 2.18, 38; 3.10, 55; De Syn., 15.

وقد اتهم ق. أثناسيوس الأريوسيين بأنهم يفكرون في الله (κατ’ ε̉πίνοιαν) بأن يتخيلوا عنه تصورات معينة لا تمت للحقيقة بصلة:

De sent. Dion., 2, 23f; Ad episc., 12ff; Con. Ar., 1.12; 2.37; 4.2f, 8f, 13; cf. Con. Apol., 2.7.

[9]  T. F. Torrance, Oikonomia. Heilsgeschichte als Thema der Theologie, edit. by F. Christ, 1967, pp.223-238; Theol. in Reconcil., 1975, pp. 215ff, 239ff, 255ff.

[10]  Athanasius, Con. Apol. 1.10, 13, 16f; 2.9.

أن تفكر ’بحسب الطبيعة أو بما يتمشى مع الطبيعة‘ (in accordance with nature) هو على النقيض مع وهم محاولة التفكير فيما وراء الطبيعة (beyond nature):

1.9; cf. 1.13, 17; 2.18f. See also Ad Epict., 2.7; De syn., 54.

[11]  Athanasius, Con. Ar., 1.20; Ad Ser., 1.9, 24; 2.5;cf. also Con. gent., 9; Con. Ar., 2.21, 41; De decr., 11.

[12]  Athanasius, Con. Ar., 1.9; cf. 3.11.

[13]  Cf. Plato, Timaeus, 28c, cited by Origen, Con. Cel., 42.

[14]  Athanasius, Con. Ar., 1.33.

[15]  يقول ق. هيلاري: “إن صميم الإيمان الخلاصي، ليس هو مجرد الإيمان بالله ولكنه الإيمان به بكونه آبًا، وليس هو مجرد الإيمان بالمسيح ولكنه الإيمان بالمسيح بكونه ابن الله وبأنه ليس ضمن الخليقة بل بأنه هو الله الخالق المولود من الله (الآب)”. (في الثالوث 17:1؛ 22:3؛ 20:5؛ 30:6) 

[16]  Hilary, De syn., 62 & 69; cf. De Trin., 2.5ff; 3.1ff; 4.2.

[17] Hilary, De Trin., 2.6-11.

[18]  Hilary, De Trin., 2.6-7; cf. Athanasius, Ad mon., 1ff; Gregory Nyss., Or. Cat., 3.

[19]  Hilary, De Trin., 2.7; cf. 2.6, 11; 3.1-5; 4.1ff; 11.44-49; De syn., 69.

[20]  See especially Athanasius, Expositio fidei, 1-4; and In illud “Omnia mihi tradita”, 1-6.

[21]  Irenaeus, Adv. haer., 4.11. 1-5, vol. 2, pp. 158-62. See ‘The Deposit of Faith’, SJT, vol. 36, 1983, No. 1, pp. 8ff.

[22]  أف 18:2.

[23]  Hilary, De Trin., 2.6; cf. 2.10, and especially 5.20f.

[24]  Hilary, De Trin., 1.18 or 7.41.

[25]  Hilary, De Trin., 22.44.

العلاقة الداخلية بين الابن والآب

Exit mobile version