أبحاث

النظرة “الثنائية” السائدة وقت ظهور المسيحية

النظرة “الثنائية” السائدة وقت ظهور المسيحية

النظرة “الثنائية” السائدة وقت ظهور المسيحية

النظرة “الثنائية” السائدة وقت ظهور المسيحية
النظرة “الثنائية” السائدة وقت ظهور المسيحية

“نؤمن بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السموات والأرض، ما يُرى وما لا يُرى”

عندما امتدت الكنيسة المسيحية من مركزها في اليهودية (بفلسطين) إلى عالم البحر الأبيض المتوسط، واجهت كرازتها وتعليمها بالإنجيل معارضة شديدة من المذهب المتطرف الخاص “بالثنائية” بين الجسد والعقل، والذي كان سائدًا ومنتشرًا في كل جانب من جوانب الحضارة اليونانية ـ الرومانية.

وقد أدى هذا المذهب إلى تقسيم الاختبار الإنساني إلى قسمين مما أثر على أنماط الفكر الأساسية في كل من الدين والفلسفة والعلوم على حد سواء. وقد كان الفصل (χωρισμός) الذي نادى به أفلاطون بين عالم الحسيّات (الأشياء المحسوسة) (κόσμος αι̉σθητός) وعالم المدرَكات العقلية (الأشياء التي تُدرك بالعقل) (κόσμος νοητός) ـ والذي شدَّد عليه أرسطو أيضًا ـ هو الذي تحكم في عملية الانفصال بين كل من: العمل والتفكير، الحدث الواقع والفكرة، ما يمكن أن يحدث وما هو موجود فعلاً، المادي والروحي، المنظور وغير المنظور، الزمني والأبدي.

وكان هذا هو الأساس الذي بنى عليه بطليموس ـ بطريقة علمية ـ العلم الخاص بالكونيات (الذي يبحث في الكون)، والذي ساد على الفكر الأوروبي لأكثر من ألف عام. وقد نتج عن مذهب “الثنائية” هذا ـ والذي سيطر على كل شيء ـ استبعاد الله من عالم الواقع الحاصل في الزمان والمكان.

وعندما نُوديَ بالبشارة المسيحية في هذا المناخ، سرعان ما نشأ نزاع حاد بين أنماط الفكر الهلليني والفكر العبري، وأيضًا بين أسلوب التفكير الأسطوري (μυθολογει̃ν) الذي يرتكز على عقل الإنسان، وأسلوب التفكير اللاهوتي (θεολογει̃ν) الذي مركزه الله نفسه.

وقد تعيَّن بصفة خاصة، على التعليم الكتابي عن عناية الله وعمله الخلاصي في التاريخ، والتعليم المسيحي عن التجسد والفداء ـ حتى يمكن لهذا التعليم أن يجد من يستمع إليه وحتى يمكن أن يتأصل بشكل صحيح تمامًا ـ أن يدخل في صراع مع الافتراضات التي ترتكز عليها النظرة “الثنائية” تجاه الله والعالم.

وازدادت صعوبة هذه المشكلة بسبب الترابط غير العادي بين مفاهيم التعالي والسمو الخاصة بالله في اليهودية والهللينية. فقد آمن كل المسيحيين مع اليهود بالله الواحد خالق السماوات والأرض، ولكن الفارق الهائل بين الخالق والمخلوق (الذي يظهر في اليهودية) كان يميل، في بعض النواحي، إلى تأكيد التركيبة “الثنائية” التي اتسم بها الفكر اليوناني، سواء الأفلاطوني أو الأرسطوطالي أو الرواقي.

وبدا هذا واضحًا في تعاليم فيلو الفيلسوف الإسكندري، الذي علَّم بأن الله والعالم بعيدان كل البعد أحدهما عن الآخر إلى درجة أنه سعى لإيجاد علاقة بينهما من خلال عالم متوسط من الأفكار المبهمة. واتضح هذا الأمر بدرجة كبيرة في الأنظمة الأسطورية الخاصة بالغنوسيين، والتي فيها اتسعت “الثنائية” بين الله والعالم لتصبح هوة ضخمة.

كما اتضح أيضًا وبنفس المقدار في “الثنائية” الماكرة للأريوسيين الذين أنكروا ألوهية يسوع المسيح الحقيقية، واعتقدوا أن ابن الله ليس “أزليًّا” بالطبيعة وأنه ينتمي إلى المخلوقات، التي تقع في الجانب الآخر من الخط الفاصل بين الله وبين العالم المخلوق[1].

الدور الذي اضطلعت به الكنيسة في مواجهة النظرة “الثنائية”

وفي صراع الكنيسة مع الافتراضات السائدة “للثنائية”، والتي كان من الممكن أن تعوق فهم رسالتها، وجدت الكنيسة أنه يتعيَّن عليها تغيير أسس الفكر اليوناني – الروماني ذاتها. وبعملها هذا، وضعت الكنيسة الأساس لمدخل مختلف تمامًا عن الكون المخلوق، من أجل الوصول في النهاية إلى تفسير علمي ـ مقبول عقليًّا ـ للنظام الأساسي لهذا العالم.

وقد اقتضى عمل خطير من هذا النوع ـ لتغيير وإعادة بناء المفاهيم ـ قيام الكنيسة بنشاط ذهني دؤوب وشاق، على مدى القرون الستة الأولى، مما ترك بصمته الدائمة على الحضارة الغربية، وكان هذا العمل لحساب مهمة الكنيسة التبشيرية الأساسية في الكرازة بالإنجيل للعالم، ونشر معرفة الله الخلاصية بابنه يسوع المسيح بين الأمم، وإعطاء شعب الله عبر التاريخ فهمًا واضحًا لجوهر الإيمان.

ووفقًا للتقليد الرسولي، ركَّزت الكنيسة على أولية ومركزية “العلاقة بين الآب والابن” التي عرفتها في الإنجيل والتي أبرزتها في قانون الإيمان، لأنه على أساس هذه العلاقة بالتحديد بُني كل شيء آخر في الإنجيل.

ولذلك عندما بدأت تشتد طرق التفكير “الثنائية” بين أنصار الهرطقة الأريوسية، وهدَّدت بتقويض الإيمان بألوهية المسيح ـ وذلك بقطع العلاقة الجوهرية بينه وبين الله الآب ـ اهتمت الكنيسة في مجمع نيقية بوضع بيان دقيق ومحدد عن الوحدانية في ذات الجوهر بين الابن المتجسِّد والآب، لأن هذا الأمر كان هو المحور الرئيس الذي اعتمد عليه في النهاية اعتراف الإيمان بأكمله، بنفس الدرجة التي اعتمد بها على الإيمان بالله الآب ضابط الكل[2].

وسوف نولي اهتمامًا كاملاً بهذا الموضوع في حينه، ولكننا إذ ننتقل إلى موضوع هذا الفصل وهو “السبيل إلى الآب” علينا أن نفترض مسبقًا صلة هذا الموضوع بالعلاقة الداخلية بين الابن والآب.

1  See Athanasius, De syn., 46; Ad episc. Aeg., 4ff.

2  Athanasius, Ad Afr., 4-11; Ad Jov., 1 etc.

النظرة “الثنائية” السائدة وقت ظهور المسيحية