كيفية التعرف على القديسين – وكيف نكتب سيرتهم؟
من النادر أن يستطيع أحد أن يكتشف سرّ الحياة الداخلية للمسيحي الحقيقي ويعرف قوة التقوى التي تملأ حياته، ويُستثنى بالطبع الذين لهم موهبة الكتابة، لأنهم استطاعوا أن يُعبِّروا بأقلامهم عن ما يملأ قلوبهم من إيمان حي، وعلاقتهم الداخلية الحميمة مع الله الآب في المسيح يسوع بروح الشركة، الروح القدس الرب المُحيي، أي علاقة بنوتهم في المسيح يسوع لله الآب بشهادة الروح القدس الذي يشهد في قلوبهم أنهم ابناء الله ووارثون مع المسيح، أي لهم الحياة الأبدية ميراث، أي حياة الله التي تسري فيهم مثل الدم في العروق، وهي بذرة الخلود المزروعة فيهم وهم في هذا العالم، لتثمر في الحياة الآتية وعند ظهور الرب بمجد عظيم وكمال مجيد
[ أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون، ولكن نعلم إنه إذا أُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو ] (1يوحنا 3: 2)
لذلك يا إخوتي، لكي نغوص ونتعرف على القديسين الحقيقيين، فأننا لا نسمع لكلمات مديح الناس فيهم، ولا نعترف بمن نميل نحوهم عاطفياً، أو لمن يأثرون فينا بكلماتهم المنمقة والفكرية الحلوة التي تجذبنا وتُدغدغ أفكارنا، ولا بمن يصنعون المعجزات والعجائب، لأن صنع المعجزات ليست دلالة على القداسة ولا قوة الحياة المسيحية في الحق، لأن في إنجيل متى وقول الرب نفسه، نجد ما يفضح صانعي المعجزات وهم خارج حياة التقوى ومملوئين إثماً ولم يعرفهم الله لأنهم غرباء عنه
نعم، غرباء عنه، لأن الله ليس هو إله الشو الإعلامي، أي إله العروض لكي تصفق الناس وتُهلل لإله المعجزات، أو يفتخر البعض أن إلهه صانع المعجزات والآخرين ليس عندهم ما يملكه، مع أنه لا يتأثر أو تتغير حياته ليكون له شركه مع هذا الإله الذي يفتخر به، أو بالحق الذي يقول أنه يستند عليه، لأن كل عمله هو أن يقف أمام الآخرين ويعرض عليهم معرفة الحق وهو نفسه ليس فيه أي حق، وذلك لأنه لا يحيا بالحق وفي الحق، أي الرب يسوع الذي هو الحق ذاته، أي الحق المُشخَص
لأن الحق هو شخص، شخص المسيح، الله اللوغوس وحيد الآب، الذي فيه ندخل في سرّ التبني ونحيا أبناء وأحباء، وليس عبيد…
- [ ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات، كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة، فحينئذ أُصرح لهم: إني لم أعرفكم قط، إذهبوا عني يا فاعلي الإثم ] (متى 7: 21 -23)
- [ واجتاز في مدن وقرى يُعلم ويسافر نحو أورشليم. فقال له واحد يا سيد أقليل هم الذين يخلصون فقال لهم: اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق، فإني أقول لكم أن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون. من بعد ما يكون رب البيت قد قام وأغلق الباب، وابتدأتم تقفون خارجاً وتقرعون الباب قائلين: يا رب يا رب افتح لنا، يجيب ويقول لكم: لا أعرفكم من أين أنتم. حينئذ تبتدئون تقولون: أكلنا قدامك وشربنا وعلَّمت في شوارعنا.
فيقول: أقول لكم لا أعرفكم من أين أنتم، تباعدوا عني يا جميع فاعلي الظُلم. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، متى رأيتم ابراهيم واسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وأنتم مطروحون خارجا. ويأتون من المشارق ومن المغارب ومن الشمال والجنوب ويتكئون في ملكوت الله. وهوذا آخرون يكونون أولين وأولون يكونون آخرين. ] (لوقا 13: 22 – 30)
- إذن ما الذي يجعلنا نتعرف على القديسين الحقيقيين لنتمثل بإيمانهم !!!
لكي نتعرف يا إخوتي على القديسين لابدَّ من أن يكون لنا نفس ذات الحياة المقدسة عينها أو على الأقل لنا شوق عظيم لهذه الحياة ونُريد أن نحياها فعلاً، لكي نستطيع أن نكتشف بسهولة قوة حياة المسيحي الحقيقي، ونتقدم بتوبة حقيقية لله الحي لنستطيع أن نلتحم مع كل مسيحي حقيقي وكل قديس عرفناه، في شركة المحبة لأننا أعضاء بعضنا لبعض، في الجسد الواحد عينه، اي الكنيسة، أي جسد يسوع المسيح ربنا القدوس: [ هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضا لبعض كل واحد للآخر ] (رومية 12: 5)
فمعرفة القديسين ليست معرفة قصة حياتهم ونقف عندها ونصفق، أو نفتخر أننا نعرف القديسين، أو حتى لكي نطلب صلواتهم ونقف وننتظر استجابتها، وكأننا نقول أنهم في مكان ونحن في مكان آخر وفي بُعد تام عنهم، ولن نستطيع أن نلتصق بهم لأننا غرباء عنهم، لأن كثيرون يظنون أنهم قريبين من القديسين بكونهم يطلبون صلواتهم ويحفظون قصص حياتهم، أو يكتبونها أو يذكرون المعجزات التي تجرى باسم الرب وقوته على أيديهم، مع أن كل هذا لا يصح أن يكون مرتكز حياة المسيحي الحقيقي
لأن هذا لغير المؤمنين والغير تائبين، هؤلاء الذين لم يدخلوا في شركة الحياة بعد، وذلك لكي يتأثروا فيتوبوا، لأن لو قرأوا حياة القديسين ولم يتحركوا، فما هي فائدة القراءة التي لم تتحول سوى إلى مجرد فكر ومعلومة وفي النهاية دينونة، لأنهم لم يتركوا القراءة ويتحركوا بقلبهم طالبين مجد الله الواحد أن يحل فيهم، أما المسيحي الحقيقي فيختلف تمام الاختلاف….
فيا إخوتي أن كنا نحب القديسين فعلاً، ونصدق قصة حياتهم، ونكتب عنهم، ونفتخر أنهم سند لنا، وأنهم مرشدين لنا، فلابد من أن نتمثل بإيمانهم [ اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله، أنظروا إلى نهاية سيرتهمفتمثلوا بإيمانهم ] (عبرانيين 13: 7)
فأن لم نتمثل بالقديسين، ونستلم منهم خبرة الحياة مع الله لنسلك في نفس ذات الطريق الواحد عينه، فلن تنفعنا قصص حياتهم ولا كلماتهم، ولن نستطيع أن نكتب عنهم قط، لأننا سنكذب أو سنلفق أشياء لا علاقة لهم بها، كما نرى بعض القصص التي تُكتب فيها بعض الكلمات التأملية التي تشوه سيرتهم المقدسة، أو بعض المعجزات التي تناقلت على أفواه ناس بالغت فيها، أو أضافت أشياء لا يستطيع اكتشاف تزويرها إلا من شارك القديسين في التمثل بإيمانهم الحي، وكل ذلك التزوير أو التلفيق – بالطبع – نتاج أن الكاتب لم يعرفهم قط، ولم يدخل في شركة معهم بروح القداسة وفي سرّ التقوى…
وبهذا الشكل عموماً ستظل حياة القديسين، بالنسبة لنا مجرد معرفة وفرح وهمي مُزيف نتشدق به ونفتخر أننا منهم ولنا عقيدتهم، ولكن كل هذا لن يجعلنا مُبررين بل مُدانين أمام الله الحي الذي يُدين المسكونة بالعدل، لأننا نعرف هذه السير المقدسة والمكرسة لله الحي، ونحفظ بعضها، بل وننقل بعضها ونكتبها ونفرح بها، ونحن في تمام البعد عن واقعها الاختباري في حياتنا اليومية المُعاشة، فلا مناص من أن نسأل أنفسنا، أين نحن من تلك السيرة ومن هذا الإيمان الحي النابض بحياة الله في المحبة، حتى أننا نرى هذا القديس أو هذا الرسول أو هذا الخادم… الخ
قدم نفسه لله بحياة مقدسة ومكرسة حقيقية حتى أنه بذل ذاته وباع كل ما له من كرامة ومجد وكل شيء حتى أنه صار كلياً للمسيح الرب [ من وجد حياته يضيعها ومن أضاع حياته من أجلي يجدها ] (متى 10: 39)…
أنظروا واصغوا بقلوبكم لما كتبه القديس أغناطيوس الشهيد، أسقف أنطاكية (+ 107م) عند استشهاده: [ إني حنطة الله ! فَلأُضرس بأسنان الوحوش، حتى أصير خبزاً طاهراً للمسيح. الأهواء فيّ الآن قد صُلِبَت؛ ما عاد فيَّ لهب جسداني يؤذيني: ولكن هُناك ينبوع ماءٍ حي يهدر فيَّ قائلاً: تعالَ إلى الآب ]
[ الآن سأبدأ أن أكون تلميذاً. ليته لا تحرمني خليقة ما منظورة أو غير منظورة من مُلك يسوع المسيح. مرحباً بالنار والصليب والوحوش الضارية، والتمزيق والتقطيع، وخلع العظام، وسحق الجسد كله. فلتقع عليَّ أشرّ الضربات المبتكرة من إبليس؛ إذا كانت كل هذه من شأنها أن تُعدَّني لأن ألتقي بيسوع المسيح.
لا شيء يستهويني من مفاتن الدُنيا ولا من سائر ممالك هذا الدهر، ولكن ما هو عذبٌ عندي الآن، هو أن أموت لكي ما أحظى بيسوع المسيح، وهذا أفضل لي من أن أملك أقاصي الأرض.
هذا هو الذي أسعى إليه، ذاك الذي مات عنا؛ هذا هو مَنْ أُريده؛ ذاك الي قام لأجلنا. إني أحس الآن بآلام المخاض.
ترفقوا بي يا إخوتي، لا تحرموني من الحياة الحقيقية؛ لا تسعوا في تعطيل موتي (لأن شعبه حاول أن يمنعه من الاستشهاد باي طريقة)؛ لا تسلموا بأنفسكم للدنيا وللإغراءات ولأباطيلها الخادعة، من يُريد أن يكون ملكاً لله؟؛ أتركوني ألحق بالنور الحقيقي؛ عندما أبلغ إلى هُناك سأكون جيدراً بأن أُدعى حقاً مسيحياً. دعوني أقتدي بآلام إلهي. ومَن يقتني الله داخله فليفطنْ إلى ما أُريد؛ ومن يراف بحالي، لأنه يعرف مدى ما يعتصرني من ألم مُبرح (بسبب خوفه من أن يحاول أن يحرمه شعبه الاستشهاد) ] (عن رسائل القديس أغناطيوس الرسولي – من الاباء الرسوليون)
أنظروا يا إخوتي لهذا الشهيد والأسقف المحب للمسيح الرب، الذي صار مثالاً لنا، لكي لا نخاف الذين يقتلون الجسد، ولا نخاف على الكنيسة من الحكام حتى لو كانوا قساة القلوب وغير محبين للمسيحين ولا لأي ما يمت بصلة للكنيسة، تعلموا وتمثلوا بهذا الإيمان الحي الذي ابتعدنا عنه تمام الابتعاد واصبحت السياسة هي التي تهمنا، لأننا نخاف على الكنيسة وكأنها تنتظر منا حماية، مع أن دماء الشهداء بذار الكنيسة الحية، التي تكمن فيها سرّ حياة الله الأبدية وغنى مجد ميراثه في القديسين، كونوا في ملء المحبة والإيمان الحي النابض بحياة الله ومجد ميراثه آمين