آبائيات

ماهية الخلود في تعليم آباء الكنيسة – د. أنطون جرجس

ماهية الخلود في تعليم آباء الكنيسة - د. أنطون جرجس

ماهية الخلود في تعليم آباء الكنيسة – د. أنطون جرجس

ماهية الخلود في تعليم آباء الكنيسة - د. أنطون جرجس
ماهية الخلود في تعليم آباء الكنيسة – د. أنطون جرجس

استكمالاً لسلسلة المقالات التي كنت قد بدأتها عن التجسد الإلهي وغايته ودافعه، سوف أبحث في نقطة متعلقة بغاية التجسد الإلهي وهي الخلود الإنساني، وذلك من خلال تعريف آباء الكنيسة لماهية الخلود وارتباطه بالتجسد والاتحاد بين الإلهي والإنساني الذي تم في التجسد ليهب الخلود للإنسان، ولكننا سنتحدث عن ماهية الخلود قبل السقوط، لنعرف هل كان الإنسان خالدًا بطبيعته أم لا؟

يتحدث تاتيانوس السوري وهو من الكنسية الأنطاكية السريانية وصاحب كتاب الدياطوسرون أو الإنجيل الرباعي، عن ماهية الخلود مخاطبًا الوثنيين في عصره كالتالي:

“إن النفس، أيها الوثنيون، ليست خالدة بحد ذاتها (أي بطبيعتها)، وإنما مائته”

(ضد الوثنيين :١٣).

كما يتحدث ق. إيرينيؤس أبو التقليد الكنسي في نفس السياق عن أن الحياة الأبدية والخلود هما عطيتان إلهيتان، وأنهما ليسا أصليين في النفس الإنسانية، بل يمنحهما الله بالشركة معه، قائلاً:

“ولكن كما أن الجسد الحيواني ليس هو النفس، بل له شركة معه طوال الفترة التي يريدها الله، هكذا أيضًا فإن النفس ليست هي الحياة، بل هي تشترك في تلك الحياة الممنوحة لها من الله.

لذلك أيضًا تعلن الكلمة النبوية عن الإنسان الذي خُلق أولاً أنه (صار نفسًا حية) معلمةً إيانا أن النفس باشتراكها في الحياة صارت حية، حتى أن النفس والحياة التي تملكها ينبغي أن نفهمهما أنهما وجودان منفصلان، لذلك حينما يمنح الله الحياة والوجود الدائم*، فإنه حتى النفوس التي لم تكن موجودة قبلاً، ستصير منذ ذلك الوقت مستمرة إلى الأبد*، حيث أن الله قد أراد أن توجد، وأنها يجب أن تستمر في الوجود، لأن إرادة الله يجب أن تقود وتحكم في كل شيء”.

(ضد الهرطقات٢: ٣٤: ٤)

ثم يتحدث عن غاية الله من خلق الإنسان وهي تأليه الإنسان بالنعمة، وأنه كان سينال ذلك بعد وقت طويل من خلقته، وليس أنه خُلق متألهًا وخالدًا، بل كان مجرد بشر ثم يتدرج بعد وقت ليصير إلهًا كالتالي:

“لأن هذه الحيوانات العجماوات، لا تتهم خالقها لأنهم لم يُخلقوا بشرًا، بل كل منها بحسب ما خُلق يقدم الشكر لأنه قد خُلق. حيث أننا نحن نوجه اللوم لله، لأننا لم نُخلق آلهة من البداية*، ولكن خُلقنا أولاً مجرد بشر، ثم بعد وقت طويل آلهةً*”

(ضد الهرطقات ٤: ٣٨: ٤).

ونرى نفس الشيء عند ق. ثيؤفيلوس الأنطاكي وهو أحد آباء كنيسة أنطاكية، حيث يتحدث عن خلق الله للإنسان في حالة متوسطة بين الفناء والخلود، وينبغي عليه أن يسلك بحكمة حسب الوصية ليصير خالدًا وإلهيًا كالتالي:

“لكن قد يقول أحدهم لنا: هل خُلق الإنسان فانيًا بالطبيعة؟ لا على الإطلاق. هل خُلق الإنسان إذًا خالدًا؟ ولا نقول هذا أيضًا*. ولكن سيقول أحدهم: هل خُلق إذًا كلا شيء على الإطلاق؟ نحن لا نقول هذا أيضًا. في واقع الأمر، لم يكن الإنسان فانيًا أو خالدًا بالطبيعة. لأنه لو خلقه الله خالدًا من البداية، لكان جعله إلهًا. مرةً أخرى، لو خلقه فانيًا، كان سيبدو أن الله مسئول عن موته. لذا لم يخلقه الله خالدًا أو فانيًا*.

لكن كما قلنا في السابق، قادرًا على كليهما*. فإن توجه إلى حياة الخلود بحفظه وصايا الله، ربح الخلود كمكافأة منه وصار إلهيًا*. ولكن إن توجه إلى أعمال الموت عاصيًا الله، صار مسئولاً عن موته”

(الرد على أوتوليكوس ٢: ٢٧).

كما نرى ق. يوستينوس الشهيد يقول نفس الشيء عن ماهية الخلود، حيث يرى أن الله هو الوحيد غير المولود وغير قابل للفساد، أما كل ما عداه هو مخلوق وقابل للفساد*، وخاصة النفس الإنسانية كالتالي:

“لأنه إذا كان الكون مخلوقًا فالنفس أيضًا بالضرورة تكون مخلوقة. وقد كان وقت لم تكن الأنفس موجودة فيه، لأنها خُلقت لأجل الإنسان والكائنات الحية الأخرى، حتى إذا ادّعيت أنت أنها خُلقت على حدة وليس مع أجسادها. قلت: أعتقد أنك على حق. النفس إذًا ليست خالدة. قال: لا ليست خالدة، بما أن العالم نفسه قد خُلق ….

لأن الله كائن سرمدي، أما كل ما عداه مما يوجد أو سيوجد فله طبيعة قابلة للفساد*، وبالتالي معرضة للاضمحلال التام، لأن الله هو وحده غير المولود، وغير قابل للفساد، ولهذا السبب هو الله، وكل ما عداه هو مخلوق وقابل للفساد*. لهذا أيضًا تموت النفس وتُعاقب، لأنها لو كانت غير مخلوقة (أي إلهية أو خالدة)، لما أخطأت أو صارت في مثل هذه الحماقة”

(الحوار مع تريفون اليهودي: ٥).

يتفق معهما الفيلسوف المسيحي أثيناغوراس الأثيني، والذي يُقال أنه كان أحد مديري مدرسة الإسكندرية اللاهوتية في عصره، حيث يتحدث أن الإنسان ليس خالدًا بطبيعته، وأن الخلود كان سيُمنح له لو عاش بالشريعة والعدالة كالتالي:

“ولذلك فإن كان الإنسان قد خُلق لا بدون سبب ولا هباءً (إذ ليس أي من أعمال الله هباءً، على الأقل على حد علم غاية صانعهم)، ولا لمنفعة الصانع، أو أي من الأعمال الخارجة عنه، فمن الواضح بحسب الرؤية الأولى والأشمل للموضوع، أنه على الرغم من أن الله جبل الإنسان لنفسه وخلقه في سعي للخير والحكمة المتجلين في الخليقة، إلا أنه بحسب الرؤية المتلامسة مع الكائنات المخلوقة بشكل أقرب، فهو جبلهم لأجل حياة تلك المخلوقات ….

لكن هؤلاء الحاملين في أنفسهم صورة الخالق ذاته، والمزودة بعقل، ومباركة بتفكير عقلاني، فقد عيّن الخالق لها وجودًا أبديًا*، ذلك لكي يتعرفوا على صانعهم، وقوته، وقدرته، مُرشَدين بالشريعة والعدالة*، لعلهم يتخطون وجودهم كله بلا معاناة حائزين تلك الصفات التي بها قد عاشوا بشجاعة حياتهم السابقة، على الرغم من أنهم عاشوا في أجساد مادية وقابلة للفساد*”

(مقالة عن القيامة: ١٢).

ونرى مما سبق أن هذا الكلام لا يختلف مع كلام ق. أثناسيوس من أن الإنسان لو حفظ الوصية والنعمة في الفردوس كان سينال وعد الله له بالخلود في السماء، فالإنسان لم يُخلق خالدًا، بل خُلق في مسيرة نمو وتقدم نحو الخلود والتأله، كما قال الآباء السالف ذكرهم، وهذا أيضًا ما ذكره ق. غريغوريوس اللاهوتي في عظته الفصحية الثانية عن أن الإنسان كان مدعو ليصير إلهًا وينتقل لعالم آخر، وكيف كان سيحدث هذا الخلود، سوى باتحاد الإلهي مع الإنساني في التجسد، ليؤله الإنسان مانحًا إياه الخلود، وهذا هو ببساطة تعليم التجسد غير المشروط، فنرى أثناسيوس يقول التالي:

“ولكن لعلمه أيضًا أن إرادة البشر يمكن أن تميل إلى أحد الاتجاهين (الخير أو الشر) سبق فأمّن النعمة المعطاة لهم بوصية ومكان، فأدخلهم في فردوسه وأعطاهم وصية حتى إذا حفظوا النعمة واستمروا صالحين*، عاشوا في الفردوس بغير حزن ولا ألم ولا هم بالإضافة إلى الوعد بالخلود في السماء*”

(تجسد الكلمة ٣: ٤).

أختم بقول للأب يوحنا زيزيولاس ملخصًا كل ما جاء في المقال عن الخلود وعلاقته بالتجسد غير المشروط بالسقوط، والاتحاد بالله لنوال التأله، حيث يقول التالي:

” لم يقصد الله تلك العرقلة (أي السقوط)، ولكنه لم يتجاهلها أيضًا. فبالرغم من تعطل خطته وتدبيره، ولكن ظل قصد الله لم يتغير*. وأخذ منحى جديد للتعامل مع الموقف المتغير. وهذا هو منطق ق. أثناسيوس الذي عرضه في كتابه (تجسد الكلمة). أننا لا زلنا نتحدث عن التجسد حتى من دون سقوط آدم*، ولكن حدد سقوط آدم الشكل الذي كان يتحتم على التجسد اتخاذه. لو لم يسقط، فكان سيحضر آدم كل الخليقة في النهاية إلى هذا الاتحاد بالله في شخصه*.

وكان سيتمكن هذا الاتحاد من التغلب على حدود الكينونة المخلوقة المتمثلة في الموت: لقد قصد الخريستولوجي ببساطة تحويل الإنسان ليكون مسيحًا* بممارسته حريته على نحو ثابت، فمثل المسيح، كان الإنسان سيجعل عدم خضوع الوجود العالمي فيما بعد لقيود الكيان المخلوق والتحلل والموت”

  1. D. Zizioulas, Lectures in Christian Dogmatics, edit. by Douglas Knight, (London & New York: T & T Clark, 2008), Ch. 3, p. 105.

ماهية الخلود في تعليم آباء الكنيسة – د. أنطون جرجس