الخلق والسقوط – موت الإنسان وحياته – المحب والمحبوب
موضوع كامل عن خلق الإنسان وسقوطه وفدائه
__________________________________
1 – الإنسان أيقونة الله
+ الإنسان مخلوق أتى من العدم. خلقه الله بكلمته ونفخ فيه نسمة حياة، فهو خُلق على صورة الله ومثاله: [ وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا … وجبل الرب الإله آدم تُراباً من الأرض. ونفخ فيه أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفساً حياً ] ( تكوين 1: 26 و 2: 7 )
[ صنع الرب الإله الإنسان من تراب الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة ! لقد استخدم موسى أسلوباً بسيطاً من الكلام، لأنه كان يتكلم مع قوم لم يكن في استطاعتهم أن يسمعوا شيئاً آخر، مثلما يُمكننا الآن ، وأيضاً كي يُرينا أنه من أجل مسرَّة محبة الله للبشر أن يجعل هذا الكائن المخلوق من التراب شريكاً لطبيعة نفسه العاقلة، التي من خلالها أُبدع هذا المخلوق الحي بهذا القدر من البراعة والكمال. ” ونفخ في أنفه نسمة حياة ” ؟ أي أن النفخة قد نقلت إلى هذا المخلوق من التراب قوة الحياة ، وهكذا تكونت طبيعة النفس . لذلك أضاف موسى قائلاً ” فصار آدم نفساً حيَّة “ ( تك2: 7 ) ] ( القديس كيرلس الكبير – st.John Chryst, Homilies on Genesis 12:2 , 12:5 – أنظر شرح سفر التكوين ص123 إصدار مجلة مرقس )
خُلق الإنسان فريداً في حياته وفي مصيره، خُلق كأيقونة حية لله، تعكس صورة بهاء مجده…
فقد خلق الله الإنسان على صورته وأعطاه الحرية، فقد وهبه إرادة حرة يستعملها في كل أعماله ومواقفه وقراراته وأقواله، فأصبح له قدرة الاختيار الحُرّ بدون ضغط أو إكراه… [ الإنسان حُرّ في إرادته منذ البداية، فقد خُلق على صورة الله الذي هو حُرّ في إرادته… ] ( القديس إيرينيئوس )
والسر كله في طبيعة الله الخالق، لأن الله = محبة، والله المحبة خلق الإنسان محبوب له، ولا يوجد إكراه في المحبة أي بين الحبيب والمحبوب، فالحب هو عطاء مجاني لا ينتظر ثمن، ويستحيل أن يوجد فيه ضغط أو إكراه، إذ أن طبيعة الحب الحرية … والحرية فيها اختيار مبني على حب أصيل، والاختيار يأتي من الحرية وبدافع الحب نحو المحبوب …
فالله المحب خلق محبوبة الإنسان، على صورته، أي جعله أيقونته الخاصة، ووهبه الملامح الجديرة باللاهوت لا من جهة المادة، بل من جهة النفس، إذ جعل فيه السجايا الجديرة باللاهوت
[ فالنفس إذن، هي صنيع إلهي عظيم مملوء عجباً… والحاصل أنه خلقها من نوع يُصيرها له عروساً ورفيقة ( على صورته ومثاله ) حتى يقترن بها فتصير معه روحاً واحداً ( كقول الرسول في 1 كورنثوس : 6: 17 ) ] ( عظات القديس مقاريوس الكبير عظة 44 و 46 )
[ الإنسان كائن عاقل ناطق ، وعلى هذا الأساس هو شبيه بالله ، مخلوق بإرادة حرة وسيِّد لنفسه ] ( القديس إيرينيئوس )
وبذلك أصبح للإنسان قدرة على إنشاء علاقة خاصة فريدة شخصية بينه هو المحبوب والله المحب، على أعلى مستوى، أي علاقة شركة ووحده، فمنذ بداية وعيه، مثل طفل مولود، قد تأسست علاقة شركة بمحبة حلوة، إذ أن له لقاء رائع مع الله المحب كل يوم: [ وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار ] ( تكوين 3: 8 )
وعلاقة المحبة عبارة عن عطاء دائم ومستمر بين المحب والمحبوب، فكل ما لله من حب مسكوب للإنسان، وكل ما للإنسان مُعطى لله في انفتاح متبادل، أي رد الحب بالحب، بمعنى أن الله يحب الإنسان جداً فيتحاور معه ويسكب حبه له ويعطيه كل شيء، والإنسان يرد على الحب بالحب وبتأكيد الاختيار للحياة مع الله بانسجام المحبين …
فالمحبة ليست كلمة تقال إنما هي فعل ذات سلطان يجعل من المحبين في حالة من الألفة الشديدة، وعلاقة المحبة على هذا المستوى هي اتجاه المحبوب نحو المحب كما أن المحب يتجه نحو المحبوب، أي أن المحبة هي عطاء متبادل وأخذ متبادل …
وطبيعة المحبة عطاء دائم يستحيل أن يتوقف، وهي نسيان الذات في سبيل الآخر، أي التخلي عن كل شيء من أجل الآخر، عطاء يستمر ويتزايد إلى أقصى درجة، وهل يوجد حب يُعَّبر عن هذه الحقيقة غير محبة الله للإنسان !!!
وهذا الحب بين المحب والمحبوب، يُحفظ في الحرية بالطاعة، أي طاعة المحبوب للمحب، فالله المحب أعطى لمحبوبة وصية تحفظ حريته وتبرهن حبه الأصيل ومعدنه: [ إن جردت الفضيلة من عنصر الاختيار فإنك تنتزع منها جوهرها ] ( العلامة أوريجانوس )
[ … لقد خُلق الإنسان في البداية بفهم يرتفع فوق الخطية والشهوات. ومع ذلك، فلم يكن على الإطلاق غير قادر على الانحراف نحو أي جانب يوافقه، لأن مبدع الكون العجيب رآه جيداً لأن يزوده بإمكانيات إرادته الخاصة، ويتركها لحركتها المتحكمة في ذاتها لتتمَّم كل ما كانت تريده. والسبب هو أن الفضيلة ينبغي أنتكون نابعة من اختيار حرّ وليس ثمرة الإجبار، ولا مرتبطة بقوانين الطبيعة التي لا يمكن للإنسان أن يعثر فيها، لأن هذا صحيح بالنسبة للجوهر الأسمى الفائق ( أي الله وحده فقط ) ] ( القديس كيرلس الكبير – De adoratione 1 PG 68, 145 )
بقول القديس كيرلس الأورشليمي : [ أعرف نفسك ، أعرف من أنت – فهذه هي حالتك: فأنت بشر مكون من نفس وجسد، والله نفسه هو المبدع لكل من النفس والجسد. واعلم أيضاً أن لك نفساً هي سيدة لنفسها، وهي أعجب إنجازات الله المصنوعة على صورة صانعها، غير قابلة للموت، من أجل الله الذي أعطاها الخلود، فهي كائن عاقل غير قابل للفساد بسبب ذلك الذي أعطى مجاناً كل هذه النعم، والذي له القدرة على أن يفعل ما يشاء] ( عظات القديس كيرلس الأورشليمي للموعوظين 4: 8 )
_______________
2- سقوط المحبوب
الله المحبة خلق محبوبة الإنسان في جو الحرية الكامل، حتى تكون المحبة من دافع شخصي حُرّ، فلا غصب في المحبة ولا إجبار، لأن أي إجبار هو خارج المحبة بل من واقع ذُل وقهر، وهذا يستحيل أن يحدث من الله المحبة…
وقد أعطى المحب لمحبوبة التشبه به منذ تكوينه الأصلي: [ حصلنا على التشبه بالله منذ أول تكويننا، وأصبحنا صورة الله. لأن طبيعة الإنسان كما قلت، قادرة على الصلاح والبرّ والقداسة، ولديها الشهية لهذه الأشياء المغروسة فيها من الله، ويمكن أن نرى ذلك من الحجة الآتية: عندما ينحرف ذهن الإنسان، فإنه لا ينحرف من الشرّ إلى الخير، بل من الخير للشرّ…
أما كون الشهية إلى الخير والرغبة إليه وإلى معرفة كل ما هو خير قد غُرست في نفس الإنسان منذ بدء تكوينه، فهذا ما أوضحه بولس العالي في حكمته قائلاً: [ لأن الأمم الذين ليس عندهم الناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس فهؤلاء إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم . الذين يُظهرون عمل الناموس مكتوباً في قلوبهم شاهداً أيضاً ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة ] (رو2: 14 و15) ] (القديس كيرلس الكبير De dogmatum Solutione 3 – Pusey, In Ioannem 3 , 555 – 6)
لقد أعطى المحب لمحبوبة وصية المحبة لتحفظ حريته واختياره، وأعطى في تكوينه الأصلي القدرة على معانقة الفضيلة – كما قال القديس كيرلس الكبير – والدافع إليها هو هذا الحب الذي له نحو الله حبيبه، فالإنسان بطبعه عاقل لأنه أيقونه حلوة لله مخلوق على صورته، كشبهه، تعكس بهائه وقداسته، وله أن يحيا بالحب وحفظ وصية المحب…
يقول القديس كيرلس الكبير : [ ليس كوننا أغنياء فنحن عاقلون وقادرون على كل عمل صالح، بل إن ذات طبيعتنا من البداية قد خُلقت بطريقة ملائمة لهذه الأشياء وقادرة عليها – هي لهذا الحدَّ تختص بالحق فينا، لذلك كتب القديس بولس يقول: مخلوقين … لأعمال صالحة… ” ( أف 2: 10 ) ] ( In Lucan, hom. 109 PG 72 , 816 )
رغم هذه العطية الحسنة البديعة التي وُهِبت للإنسان فقد أخطأ وسقط سقوطاً مروعاً، فقد أخطأ المحبوببحريته ولم يحفظ وصية المحب، أخطأ الإنسان المحبوب المخلوق على صورة الله المحب، فخسر شبه الله، وخسر التحرك نحو الله، واتجه اتجاه لآخر.
فقد الإنسان الشركة مع الله، بكسر وصية المحب لهُ وهو المحبوب لديه، كعروس تركت حبيبها وجرت وراء آخر مزدرية بوصية زوجها المحب.
عزل الإنسان نفسه – بحريته وإرادته – عن الحب الحقيقي والحضن الأبوي، حيث محبة الأنا أصبحت المحبة التي ارتكز عليها، وهي محبة الذات، لأنه سمع الإغراء تكونان كالله، فأراد أن يكون كالله بمعزل عن الله، فأشتهى المعرفة بعيداً عن المحب، فأصبح الحب المسيطر هو الأنا، وهذه محبة ذاتية منافية للمحبة الحقيقية التي تعطي كل شيء للمحب، فنزل للجحيم، أي أنقطع عن شركة المحبة، وصارت ذاته هي محور حبه المنحرف، فنشأ فيه الموت وظهر سلطانة على الإنسان الذي كان حياً بالله.
فالمحبة هي انفتاح على الآخر، وعطاء النفس والقلب والفكر له، هي نسيان كرامة الذات وكل رغبة لها، وبذلها، وعطاء الوجدان وانفتاحه على المحب بكل سرور وفرح…
وبذلك سقط الإنسان في حالة الموت في عزلة عن المحب، فدخل في حالة عذاب الجحيم وآلام النفس المجروحة من جراء كسر المحبة!!!
ويقول القديس باسيليوس الكبير : [ الله ليس مسبباً لعذابات الجحيم، بل نحن أنفسنا. لأن أصل الخطية وجذرها في حُريتنا وإرادتنا ]
ويقول الأب صفرونيوس عن الموت الروحي الذي أصاب الإنسان بسبب الخطية والعزلة عن المحب الله : [ الموت الروحي هو الجحيم، والجحيم هو حياة إنسانية أُسِرَت لغايات متباينة ومتفرقة، لا تنمو، ولا ترى، ولا تذوق ما هو أبعد من الجسد، أو أبعد من هذه الغايات المتفرقة التي تمزق الكيان الإنساني ] ( عن رسالة الأب صفرونيوس إلى تلميذه ثيؤدوروس – عن نص المخطوطة القبطية – الناشر أبناء القديس البابا أثناسيوس الرسولي – صفحة 10 و 11 )
ويقول القديس كيرلس الكبير : [ … الكائن البشري قد وُلِدَ بشهية طبيعية نحو الخير .. فالإنسان – كما ترى – يحكم نفسه بمحض اختياره بكل تروًّ، وقد زوَّد بقُوَى تدبير ذهنه الخاص، لكي يمكنه أن يتحرَّك بسرعة نحو أي اتجاه يستهويه، نحو الخير أو ضدَّه. والآن فقد غُرس في طبيعته الشهوة والرغبة نحو كل نوع من الخير والإرادة في تنمية الصلاح والبرّ، بالقدر الذي يكون فيه هذا الكائن البشري خيَّراً ومستقيماً بطبيعته ]
[ لكي ما تكون له العلامة المميزة للطبيعة الإلهية أكثر وضوحاً فيه، لذلك فقد نفخ فيه الله نسمة الحياة. هذا هو الروح الذي قد أُعطى للخليقة العاقلة من خلال الابن والذي به ينتقل إليه الطبع الأسمى الإلهي ] (De dogmatum Solutione 2 – Pusey, In Ioannem 3 , 552 – 553 )
_______________
3 – الموت الذي دخل إلى العالم
دعوة الإنسان وامتياز جنسنا هو: [ إن الله … بواسطة كلمته الخاصة مخلصنا يسوع قد خلق الجنس البشري على صورته وبسبب مماثلته للكلمة جعله يتأمل ويعرف الحقائق في أصالتها، ومنحه أن يدرك ويعرف حتى أزليته… وحيث أنه لا يوجد ما يعوق معرفته للاهوت، ففي إمكانه أن يتأمل بلا انقطاع من خلال طهارته في صورة الآب الإله الكلمة، الذي خُلق هو نفسه على صورته… فإنه قد رُفع فوق كل الأشياء الحسية، وفوق كل ما هو مجسَّم بالجسديات، وصار متصلاً بقوة عقله بالإلهيات وبالحقائق التي لا تُدرك حسيَّاً في السموات .
لأنه حينما يتحفظ العقل البشري من التعلّق بالأجساد، وحينما لا يكون له اختلاط مع الشهوات التي تسببها هذه الأجساد من الخارج، بل يظل مستقلاً بنفسه تماماً ومتسامياً، كما خُلق من البدء، فإنه بتساميه عن الحسيات وكل الأمور البشرية، فإنه يُرفع عالياً فوق هذا العالم؛ وإذ يرى الكلمة، فأنه يرى فيه أيضاً أبا ” الكلمة “، متلذذاً بالتأمل فيه، ومكتسباً التجديد من الانعطاف نحوه… لذلك فإن نقاوة النفس تؤهلها أن تعكس الله في داخلها كما في مرآة ] ( القديس أثناسيوس الرسولي – الرسالة إلى الوثنيين الفصل الثاني )
وبالرغم من هذا المجد الذي عاش فيه الإنسان في فردوس المحبة، وحالة التأمل المتسامي بلا عائق، إذ انه كان طاهراً وفي حالة نقاوة تسمح له للنظر لله والتفرس فيه في علاقة حب رائع، ولكن بإرادته الحُرة مال نحو الشر الذي تبعه الفساد، فتسرب إليه الخجل وخزي عار كَسَرَ نفسه، ولندقق في ما حدث :
قبل السقوط: [ وكانا كلاهما عريانين آدم وامرأته وهما لا يخجلان ] ( تك2: 25 )، وقال آدم عن امرأته : [ هذه عظم من عظمي ولحم من لحمي ]، ولم يخجلا من عريهما ، لأنهم في حالة نقاء ومصالحة تامة بين الجسد والنفس، نتيجة المساواة الجوهرية بينهما، التي جعلتهما لا ينظران لبعضهما البعض كائنين مختلفين، فكلاهما يرى الآخر معيناً نظيره، لا يربطهما سوى الحضور الإلهي الذي يشبع كل رغباتهما ويملأ حياتهما بالفرح والحب والسلام .
ويقول القديس مار أفرام السرياني باختصار : [ لقد كانا لا يخجلان ( من عريهما ) لأنهما مكتسيان بالمجد ] ( St. Ephraim, Commentary on Genesis 2, p. 316 )
وبعد السقوط: [ فانفتحت أعينهما وعَلِما أنهُما عُريانان. فخاطا أوراق تين وصَنَعا لأنفسهما مآزر ] ( تك3: 7) فعوض مجد الله وبساطة طبيعة آدم الأصلية صنعا لأنفسهما مآزر لأنهما تعروا من المجد كقول القديس مار أفرام
فمخالفة الوصية صارت بمثابة انفصام رباط الحب بين المحبوب والمحب، وتخلي النعمة عن الإنسان، لأن هذا الرباط (رباط الحب) هو الذي كان يدعم النعمة الحافظة للإنسان …
وبتخلي النعمة فقد الإنسان بساطته الأولى وميله الموحد نحو الخير، وسلمه لكل نسله، وانفتحت بصيرته على الشر، وفتح باب الاختيار بينهما، فانقسمت إرادته على ذاتها، وصار في حالة نزاع داخلي – دائم ومستمر – ينازع ما بين الخير والشر، أي بين طاعة الله ومخالفته !!! ووقع تحت وطأة الفساد الطبيعي الذي كان فيه بطبيعة تكوينه من تراب الأرض، وبدأ الصراع بين الروح والجسد فكلاهما يشتهي ضد الآخر…
وحينما أطاع مشورة الشيطان، تسلط عليه واستولى على إرادته واستعبده له، وأصبح مستحيلاً على الإنسانمهما جاهد وحده أن يتقدم خطوة واحدة نحو الحياة الأبدية ومعرفة الله وشركته الحلوة، نظراً لعجز النفس البشرية عن قيادة ذاتها نحو أمور أعلى من إمكانيتها وبدون معونة النعمة التي فقدتها بالسقوط، وصار البشر كلهم فاقدين النعمة وعراه من مجد الله، فمهما ما صنعوا من خير فهو ناقص لا يتعدى شكل قبر مبيضاً من الخارج وفي داخلة ما هو فاسد، لأن الإنسان يحاول أن يُمارس الفصيلة بدون نعمة الله …
وبالخطية أصبح الإنسان العاقل غير قادر أن ينفتح على الإلهيات بلا غيوم الشهوات كما كان، ومع ذلك مازال له القدرة على الفهم والإدراك، فخطية الإنسان لم تفقده إنسانيته ولم تجعل آدم غير عاقل، ولكنها عطلَّت قدرته الأولى الكاملة في التعقُّل التي كانت عاملة فيه بنعمة الله …
وصورة الله في الإنسان تشوهت وانطمست، ولكن تبقى ملامحها ذات سلطان، وهي عبارة عن طوق الإنسان واشتياقه إلى الله الحي، وسعيه المتواصل بكل قوته لاسترداد صورته الأولى !!!
ويقول القديس إيرينيئوس : [ أما آدم فلكونه فقد طبيعته الأصلية وذهنه النقي بشبه الأطفال، وأتى إلى معرفة الخير والشر، لذلك طوَّق نفسه وامرأته بلجام العفة مقاوماً نزوة الجسد الجامح، خائفاً من الله ومتوقعاً مجيئه، وكأنه يقول : بما أنني قد فقدتُ بالعصيان ثوب القداسة الذي كان لي من الروح، فهاأنذا أعترف بحاجتي إلى مثل هذا الغطاء (الذي صنعه لنفسه ليكسي عُريه) الذي لا يهب الراحة ولكنه يلسع الجسد ويلهبه ] ( The Father of the Early Fathers, W.A. Jurgens, vol 1,p.93. )
_______________
4 – مرض الإرادة المخدوعة
بالحب أعطى الله الوصية لآدم لتأكيد حريته، ولتحقيق ذاته بالحب بطاعة المُحب الذي خلقه على صورته، ولكي تظهر صورة الله في الإنسان التي تدعو للإعجاب عندما يوجد ممارساً للفضيلة طوعاً بحريته ورغبته وحده بغير إكراه أو غصب، إذ أن الوصية صارت رابطة المحبة بين آدم والله، فهو يحفظ الوصية من أجل الله، ودوام حفظة له هو دليل لثبوته في المحبة وخضوعه لله …
ولكن المأساة حدثت بحسد إبليس : [ ” بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم ” ( حكمة2: 24 )، وكان سبب الحسد هو السعادة التي وُضع فيها آدم في الفردوس، لأن إبليس لم يستطع أن يتحمل ما كان يتمتع به الإنسان من امتيازات. فقد أثار حسده أن الإنسان، رغم أنه مصنوع من الطين، إلا أنه قد أُختير لكي يسكن الفردوس. لقد بدأ إبليس يفكر ملياً في كون الإنسان وهو مخلوق أقل شأناً منه، إلا أنه صار يصبو إلى الحياة الأبدية، بينما هو، وهو مخلوق ذو طبيعة سامية، قد سقط وصار جزءاً من هذا الكيان الساقط ] ( القديس أمبروسيوس St. Ambrose, Paradise 12, pp. 332-333 )
· ورغم من أن آدم أخذ وصية من الله لتحفظ حريته واختياره، فاختار أن يخضع للغواية وأخطأ بكامل حريته وبإرادته، وهكذا من بعده كل إنسان فعل نفس ذات الفعل باختياره: ( أنا الذي اختطفت لي قضية الموت ) ( القداس الإلهي )
فالإنسان تلقى وصية الله في روح المحبة، وكان لابدَّ من أن يستجيب للوصية بطاعة المحبة والثقة في الله المحبة، وكان عليه أن يفصل نفسه – بكل اختيار حرّ بالمحبة – ليس فقط عن الثمرة حسب الأمر الإلهي، ولكن عن كل شيء خارجي لكي يحيا مع الله ولله، ويسعى لوحدة حقيقية مع الله في شركة المحبة حسب هدف خلقته على صورة الله ومثاله …
ووصية الله تظهر له طريق الشركة مع الله في انسجام المحبين، ولكن الإنسان بكامل إرادته أختار الطريق المُضاد، وانفصل بكامل حريته عن الله، وخضع لغواية عدو كل خير، واتجه بكل قلبه نحو الخير الغير موجود، متسلطاً عليه الموت…
فالخطية هي مرض الإرادة المخدوعة – كما يقول القديس غرغوريوس النيصي، فالإنسان كان ميالاً – بالطبيعة – إلى معرفة الله ومحبته، ولكنه استطاع بسبب إرادته المخدوعة الانحراف نحو الخير غير الموجود!!! مع أن الوصية أعطاها له الله لكي تحفظ إرادته من الخداع…
ونتيجة أتباع الضلال وعدم التمسك بوصية الله المحب: [ وسَمِعَا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط الجنة ] ( تك3: 8 )
فَقَدَ آدم – وكل إنسان – الدالة على مواجهة الله، فقد خالف آدم عهد المحبة ولم يحفظه باختياره الحرّ، وشعر بعريه فصار في خزي عظيم فلا يقدر على المواجهة !!!
وهذا ما يظهر عملياً في حياتنا على المستوى الشخصي: حينما نهرب من الصلاة وقراءة كلمة الله والتناول – بحجة عدم الاستعداد وأحياناً بعدم الاستحقاق كما يدَّعي البعض، وعدم وجود الوقت، وبحجج لا تنتهي وفي غاية الإقناع – ونهرب ببراهين وإثباتات وهمية، وحينما نحاول أن نقترب من كلمة الله الحية في الكتاب المقدس أو سماعها من فم الآباء محبي المسيح، قد نشعر بثقل كلمة الله..
ولا نريد أن نسمع كلمة الله في عمقها الحلو، وعمقها المؤدب للنفس، ونخضع لقوة فعلها وسلطانها المغير للنفس، لندخل في شركة حلوة مع الله بالحب وطاعة الوصية، وقد نهرب من الكلمة بالجدل العقلي والصراع على من هو على صواب ومن هو على خطأ (مين صح ومين غلط)، أو ندخل في نقاش فكري عقلي جدلي، لنهرب من طاعة الوصية ومعرفة الحق، لكي لا نحيا لله جدياً ونتلقف قوة النعمة، وأحياناً نتهور ونلتفت لموضوعات سطحية ونعلن احتياجنا عن الموضوعات الشبابية أو المسابقات أو الموضوعات الترفيهية … الخ ، وكأن الروحيات شيء والشبابيات شيء والنفسيات شيء واللاهوتيات شيء آخر، وهيهات أن جُمعنا لأننا منقسمون على أنفسنا !!!
وهذا كله – في واقع الأمر – انقسام في حياة الإنسان وتمزق مروع وانحراف رهيب وشلل لقدرات النفس الروحية والتحرك نحو الحسيات والنفسيات أي في النهاية كلها مجمل: الهروب من محضر الله والحياة معه، باختصار : ((((((( سمعت صوتك فخشيت )))))))
وهذه كله – بالطبع – نتاج رفض محبة الله وانفصال وعزلة عن الخير الحقيقي، أي هذه هي حالة الموت، أي حالة فساد تسرب للإنسان في داخله ولم يعد محضر الله ذات مسرة أو فرح لقاء الحب.
ولا ننسى أننا حينما نهرب من وجه الله نهرب من عُرينا، ليس الجسدي إنما من النعمة !!!
يقول القديس أثناسيوس الرسولي : [ 1- فالله لم يكتفِ بأن يخلقنا من العدم، ولكنه وهبنا أيضاً بنعمة الكلمةإمكانية أن نعيش حسب الله، ولكن البشر حَوَّلوا وجوههم عن الأمور الأبدية، وبمشورة الشيطان تحولوا إلى أعمال الفساد الطبيعي وصاروا هم أنفسهم السبب فيما حدث لهم من فساد بالموت. لأنهم كانوا – كما ذكرت سابقاً – بالطبيعة فاسدين لكنهم بنعمة اشتراكهم في الكلمة كان يمكنهم أن يفلتوا من الفساد الطبيعي لو أنهم بقوا صالحين.
2- وبسبب أن الكلمة سكن فيهم، فإن فسادهم الطبيعي لم يَمَسَّهم كما يقول سفر الحكمة: [ الله خلق الإنسان لعدم الفساد وجعله على صورة أزليته لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم ] ( حك 2: 23 – 24 ) وبعدما حدث هذا بدأ البشر يموتون، هذا من جهة ومن جهة أخرى فمن ذلك الوقت فصاعداً بدأ الفساد يسود عليهم بل صار له سيادة على كل البشر أقوى من سيادته الطبيعية، وذلك لأنه حدث نتيجة عصيان الوصية التي حذرهم أن لا يخالفوها .
3- فالبشر لم يقفوا عند حد معين في خطاياهم بل تمادوا في الشرّ حتى أنهم شيئاً فشيئاً تجاوزوا كل الحدود، وصاروا يخترعون الشرّ حتى جلبوا على أنفسهم الموت والفساد، ثم توغلوا في الظلم والمخالفة ولم يتوقفوا عند شرّ واحد، بل كان كل الشرّ يقودهم لشرّ جديد حتى أصبحوا نهمين في فعل الشرّ ( لا يشبعون من فعل الشرّ ) .
1- لأجل هذا إذن ساد الموت أكثر وعم الفساد على البشر، وبالتالي كان الجنس البشري سائراً نحو الهلاك، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الإنسان العاقل المخلوق على صورة الله آخذاً في التلاشي، وكانت خليقة الله آخذةً في الانحلال. ] ( القديس أثناسيوس الرسولي – تجسد الكلمة ف 4: 1و 2و 3 + ف 5 : 1 )
_______________
5 – وعد المحبة
الله من البدء خلقني حراً، بمعنى أنه يريدني أن أختاره بكل حرية دون ضغط أو إكراه أو فرض، كما شرحنا سابقاً… ولقد سمح لي، وسمح لكل إنسان، لا أن يرفضه فقط بل أن يُنكر وجوده أيضاً ويفعل ما يشاء بكلحرية !!!
ومع ذلك – رغم جحود الإنسان – يستمر هو في محبته لي، من عمق صلاحه الذي لا يحد، يحبني محبة لا حدود لها، ولا تتغير أبداً بل حب أبدي لا يزول… فهو من يشرق شمسه على الشرار والأبرار دون تمييز، لأن الحب لا يميز بين من يقبله أو يرفضه، لأنه يحب الكل ويشفق على الكل ويتحنن على الكل دون أن يُفرق بين واحد وآخر كالبشر …
كارثة الإنسان وشقاؤه هو انقطاعه بإرادته الحرة عن شركة الله المحب، وتاه في جو لا يناسب أصله وطبيعة خلقته، فأصبح منساقاً إلى قوانين غريبة عن طبعه. وكما أن الولد التائه في الأدغال الموحشة، ويحيا وسط الحيوانات، مكتسباً منهم طريقه حياته في المأكل والمشرب، وحتى السلوك، ويتقيد بقانون الغابة، يعتقد أن هذه هي دنياه الطبيعية الأصيلة، وهكذا بالمثل الإنسان، أعتقد على مرَّ الأيام أن السقوط والخطية والعزلة عن الله هو جوه الخاص، فاعتاد عليه وأصبح قطعة منه لا يقدر أن ينفصل عنها، [ كالمدمن على الخمر الذي يتصور أن شرب الخمر أصبح طبيعة فيه لا تنفصل عنه ]، ويعتبرها عنصر أساسي في حياته لا يمكن أن يستغنى عنه، مع أن هذا دخيل يولد موتاً ينخر في جسده ويزداد موتاً يوماً بعد يوم [ بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس ] ( رو5: 12 )
وكعصفر يعيش في أَسرْ قفص له قضبان من الذهب، يُعجب بجمالها الباطل، ويستسلم لوضعه الذي يتمرد عليه أولاً، ثم يقنع به بلطف المستعبد تحت مذلة، هكذا الإنسان حينما يخضع لسلطان الخطية بإرادته المخدوعة، ويجبر نفسه على التناسي أنه تحت عبودية ذُل الموت بالخطية، ويحيا غريباً عن الله، ويظن أن هذا هو عالمة وجوه الخاص !!!
ولكن شكراً لله الذي أحبنا ولم يتركنا عنه إلى الانقضاء بل تعهدنا بأنبيائه القديسين ليفتح بصيرة الإنسان على حبه، فيستفيق ويعود لرشده ويحيا لله، وأعطاه الناموس الذي زيد بسبب التعديات ليؤدبنا كلنا إلى المسيح، فالله هو من بادر باللقاء وقال : ((( أين أنت )))
وفي ملء الزمان ونحن بعد خطاة عائشين تحت سلطان الموت، قد دوى صوت فرح من الأعالي لتحقيق وعد الخلاص لكل من هو تحت سلطان الموت: [ ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنه وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مُخلص هو المسيح الرب ] ( لو2: 10 و 11 ) ( أنظر للأهمية إشعياء 53: 1 – 12 )
سقط الإنسان من النعمة وصار عارياً منها، والله بصلاحه الطبيعي ومحبته التي لا تقاس أو توصف حسب عمق اتساعها الذي لا يُحد، لم يكن ممكناً أن يترك الإنسان – محبوبة الخاص – الذي خلقه على صورته يسقط من النعمة دون أن يدبر له سبيلاً للخلاص، وقطع وعداً منذ البدء أن يخلصه وينجيه ويرفعه لأعلى رتبه، إذ في ملئ الزمان أتخذ جسداً ( أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له فلنسبحه ونمجده وتزيده علواً على الأبد )…
يقول القديس أثناسيوس الرسولي : [ 1- وكما أن المعلم الصالح الذي يعتني بتلاميذه، إذ يرى أن بعضاً منهم، لا يستفاد من العلوم التي تسمو فوق إدراكهم، فإنه يتنازل إلى مستواهم ويعلمهم أموراً ابسط، هكذا فعل كلمة الله كما يقول بولس ” إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يُخلّص المؤمنين بجهالة الكرازة ( 1كو1: 21 )
2- ولأن البشر قد تركوا التأمل في الله وانحطت نظراتهم إلى أسفل كأنهم قد غاصوا في الأعماق باحثين عن الله في عالم الحسيات، صانعين لأنفسهم آلهة من البشر المائتين، ومن الشياطين، لهذا فإن محب البشر ومخلّص الجميع كلمة الله أخذ لنفسه جسداً، ومشى كإنسان بين البشر ، وجذب أحاسيس كل البشر نحو نفسه… وعن طريقه يعرفون الآب ]
[ 5- لأن المخلّص تمم بتأنسه عمليتي المحبة :
( أولاً ) أنه أباد الموت من داخلنا وجددنا ثانية
( ثانياً ) أنه إذ هو غير ظاهر ولا منظور ، فقد أعلن نفسه وعرّف ذاته بأعماله في الجسد، بأنه كلمة الآب، ومدّبر وملك الكون . ] ( تجسد الكلمة ف15 : 1 و 2 + ف16 : 5 )
يقول القديس كيرلس الكبير، موضحاً موقف الرب يسوع من خطيتنا : [ أننا أخطأنا في آدم أولاً، ثم دسنا بعد ذلك الوصية المقدسة. ولكن المسيح يُهان لأجل خطايانا، لأنه حمل خطايانا في ذاته، كما يقول النبي، وتألم عوضاً عنا. وصار سبب خلاصنا من الموت بتقديم جسده للموت. ولذلك كانت الضربة التي تقبلها المسيح هي أتمام للعار الذي حمله، ولكنها كانت تحمل خلاصنا من عبئ تعدي آدم أبينا وخطيئته (الذي منها الموت)، ورغم أنه واحد إلا أنه الذبيحة الكاملة عن كل البشر وهو وحده الذي حمل عارنا ] ( عن شرح يوحنا 18 : 22 للقديس كيرلس الكبير )
ويقول أيضاً القديس اثناسيوس الرسولي: [ إن الإنسان مخلوق، وهو ليس خالداً بالطبيعة، أي غير مائتز ولكنه خُلق كي يمكن له فيما بعد أن ينمو إلى شركة غير مائتة مع اله، من خلال التأمل في الكلمة الإلهي.
+ لكن لناس بسقوطهم في الخطيئة سقطوا من مصيرهم الإلهي الذي قصده الله لهم. وكانت حصلة هذه الخطية ذات نتيجة مزدوجة : (1) العمى الروحي: فالإنسان فَقَدَ معرفة الله التي كانت مُتاحة له. حتى أن الخليقة صارت بالنسبة للإنسان وكأنها حجاب يحجب معرفة الله عن الإنسان مع أنها 0اي الخليقة) خُلقت لتستعلن الله للإنسان. (2) الفساد والموت: فقد أعادت الخطية الإنسان إلى الموت (بموجب الحكم الذي سبق أن وضعه الله كأجرة للخطية) وإلى الفساد، أي إلى العدم الذي سبق أن دعا الله الإنسان منه، في محبته له، وخلقه على صورته ] (تجسد الكلمة للقديس أثناسيوس الرسولي)
_______________
6 – خلاص الله الحلو
خلاصة ما قلنا سابقاً: رأينا آدم سقط في خداع عدو الخير واشتهى أن يكون كالله، بعيداً عن الله، والنتيجة الانفصال والهروب من محضر الله المحبب لديه، فطبع الخطية قد ساد عليه، وسرى الموت في أوصاله، وبدأ في تأمل ذاته خافضاً نظره من الإلهيات إلى الحسيات واشتهى الخير الغير موجود فالبشر:
[ كان طبيعياً أن يرجعوا إلى ما هو غير موجود ( أي العدم ) عندما فقدوا كل معرفة بالله؛ لأن كل ما هو شرّ فهو عدم، وكل ما هو خير فهو موجود، ولأنهم حصلوا على وجودهم من الله الكائن، لذلك كان لابد من أن يُحرموا، إلى الأبد، من الوجود. وهذا يعني انحلالهم وبقائهم في الموت والفساد.
فالإنسان فانِ بطبيعته لأنه خُلق من العدم إلا أنه بسبب خلقته على صورة الله الكائن كان ممكناً أن يقاوم قوة الفناء الطبيعي ويبقى في عدم فناء لو انه أبقى الله في معرفته كما تقول الحكمة ” حفظ الشرائع تُحقق عدم البَلَى” ( حكمة 6: 19 ) ، وبوجوده في حالة عدم الفساد (الخلود) كلن ممكناً أن يعيش منذ ذلك الحين كالله كما يُشير الكتاب المقدس على ذلك حينما يقول : ” أنا قلت إنكم آلهة ، وبنو العلي كلكم ، لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون ” ( مز81: 6-7 ) ] ( القديس أثناسيوس الرسولي – تجسد الكلمة 4 : 5 و 6 )
وبالرغم من أننا فقدنا شركتنا مع الله وسقطنا من النعمة وسرى الموت فينا فالله المحب : [ فلأجل قضيتنا تَجَسد لكي يخلصنا، وبسبب محبته للبشر قَبِلَ أن يـتأنس ويظهر في جسد بشري ] ( القديس أثناسيوس الرسولي – تجسد الكلمة 4: 3 )
_______________
1- طبيعة الخطية :
[ أن الخطية والموت والشيطان معاً طبيعة واحدة، لأنهم يشتركون في التعدي. الأول والثاني أي الخطية والموت، لا يمكن فصلهما عن بعضهما، والثالث هو المصدر ( أي الشيطان ).
الأولى ( الخطية ) لا وجود لها إلا في الخطاة. والثاني ( الموت ) هو النتيجة. والثالث ( الشيطان ) هو مصدر الغواية لترك الحق، أي الحدود التي تخص الطبيعة .
وقد جاء الرب يسوع المسيح ، فأباد الخطية والموت معاً؛ لأنه عندما أباد الموت، فصل الموت عن الخطية، وجرد الشيطان الذي به سلطان الموت من سلطانه ( كولوسي2 : 15 )
وهناك فرق بين من يشرح الخطية كتعدًّ، ومن يشرح الخطية في نور إنجيل ابن الله، لأن المسيح يسوع ربنا كشف لنا عن طبيعة الخطية, وعندما نتكلم عن الخطية، فإن الموت والشيطان معاً هما مصدر الظلمة والفساد والتعدَّي والموت.
… هل تريد أن تعرف جذور الخطية ؟
تأمل حب الرئاسة. هو من الشيطان الذي أراد أن يكون مثل الله، وأغرى آدم لكي يسلك في ذات الطريق ، فوقع في فخ الموت الروحي الذي أدى إلى موته الجسداني بعد ذلك ؛ لأنه لم يمت بعد السقوط ، بل عاش كل حياته خارج الفردوس . ولأن بذرة الموت في الروح الإنسانية ، لذلك زرع الرب بذرة الحياة في القلب لكي تنمو بمياه روح الحياة الذي أقام ربنا يسوع من الأموات .
* هل مات الرب يسوع المسيح على الصليب بنفس موت آدم ؟
لقد مات لأنه أخذ ” الحكم ” الذي كان يخصنا ، ولكنه مزق ” الصك ” ورفعه من الوسط ، أي أزاله من علاقة الشركة بين الله والإنسان ، فقد مزقه بالصليب عندما سمره في الصليب . هذا حدث لأجلنا . فهو ، إذن ، لم يمت موت آدم . ولذلك السبب يقول الرسول بطرس في يوم العنصرة إن الموت عجز عن أن ” يمسكه ” ( أع2: 24 ) …
ومات الرب يسوع فعلاً لأن نفسه انفصلت عن جسده ، وهو ذات موت آدم ، ولكن له سلطان الحياة ، فموته ليس كموت آدم ، ولكن لأن الرب له سلطان الحياة ، فموته ليس كموت آدم فقط ، لأننا لا يجب أن ننسى أن الرب نزل إلى الجحيم ، ليس كميت تحت سلطان الموت أي الشيطان ( عب2: 14 ) ، بل نزل وشتت قوات الظلمة ، وأباد قوات الجحيم ، وكسر شوكة الموت ، ومزق الصك ن لأن له سلطان الحياة .
… آدم خَلُصَ بموت الرب وتواضعه . والصليب وحده هو الذي يكشف عن ضعف القوة وعجزها ، فهوميزان القوة الحقيقية ، أي قوة المحبة والتواضع التي أعلنها الرب .] ( رسالة الأب صفرونيوس إلى تلميذه ثيؤدوروس : 1 و 2 و3 و 4 )
_______________
2- الموت الروحي :
[ الموت الروحي والجحيم هما وجهان لعملة واحدة ، لأن الجحيم هو الحياة المحصورة التي لا نمو فيها والتي فقدت الهدف أو غاية الوجود ؛ لأن الإنسان إذ خُلق على صورة الله فهو بدون الله يصبح صورة لنفسه ، وبذلك يحدد وجوده ويحصره في الوجود غير النامي والمحدود ، بصورة الإنسان التي خلقها لنفسه ، ولذلك يعجز الإنسان عن أن يرتفع إلى ما هو أعلى من صورته الإنسانية ، لأن محاربة صورة الله فينا تجعلنا غرباء عن وجودنا الحقيقي ، وأسرى وجودنا الكاذب الذي صنعناه لأنفسنا .
وعندما قال الرسول عن ربنا له المجد أنه ” أدان الخطية في الجسد ” ( رو8: 3 ) ، فقد قَبِلَ موت الجسد الذي يشتهي الخلود ، ويسعى للبقاء بقوة الحياة الداخلية بدون الله ، أي بدون نعمة الله المصدر الحقيقي للحياة .
أما الرب يسوع فقد أخذ جسدنا وردَّه إلى الحياة التي لا تموت بالشركة في أُقنومه الإلهي ( سرّ التجسد ) ، وهي شركة في الآب والابن والروح القدس .
وعندما ذاق الرب الموت بالجسد على الصليب ، حكم على فساد الخطية كأسلوب ( أو وسيلة ) للحياة ، فقد رفض الحياة التي لا تعرف الله ولا تقبله بعكس آدم .
فعندما ذاق الموت ، وضع نهاية لاغتراب الجسد عن الله وعن الحياة الداخلية ؛ لأن الجسد يغترب عن الروح الإنسانية عندما يصبح وسيلة وأداة للخطية ، فيترك الحياة الطبيعية ويتشكل بكل صور الخطية ويقع أسيراً للموت ؛ لأن موت الخطية نابع من الخطية التي يصفها الرسول بأنها ” أعمال الجسد الميتة ” ، أي تلك التي لا حياة فيها ، والتي تجعلنا غرباء عن أنفسنا ، وعن أجسادنا ، وعن مصدر الحياة . ] ( رسالة الأب صفرونيوس إلى تلميذه ثيؤدوروس : 5)
_______________
7- ميلادنا الروحي
ملخص لما قلناه سابقاً : [ أن آدم بتعدية الوصية، حدثت له كارثة مزدوجة.. فهو فقد نقاوة طبيعته التي كان حاصلاً عليها، والتي كانت جميلة على صورة الله ومثاله، ومن الجهة الأخرى فقد أيضاً تلك الصورة عينها التي كان سيرث بها كل الميراث السماوي بحسب الوعد ..
فإذا افترضنا أن عملة ذهبية، عليها صورة الملك، قد خُتمت بختم مُزيف، فإن العملة الذهبية تُعَدّ زائفة، والصورة التي كانت عليها تصبح بلا قيمة. هكذا كانت الكارثة التي حلت بآدم .. وإذا تصورنا ضيعة كبيرة تدرّ خيرات كثيرة: في أحد أركانها كرم مزدهر، وفي مكان آخر منها حقول مثمرة، وفي غيره مواشي وقطعان غنم، وفي موضع آخر ذهب وفضة، هكذا كانت ضيعة آدم ثمينة جداً قبل العصيان، وأقصد بالضيعة، إناء آدم الخاص.. ولكنه حينما قبل مقاصد وأفكار الشرّ ورحب بها، هلك من أمام الله..
ولكننا مع ذلك لا نقول إن كل شيء قد ضاع وتلاشى ومات.. بل أنه مات عن الله، ولكنه ظل حياً بالنسبة إلى طبيعته.. فها عالم البشر كله كما نراه، يسعى في الأرض، يشتغل ويعمل.. ولكن الله ينظر إلى أفكارهم وتصرفاتهم فيصرف النظر عنهم وليس له شركة معهم، لأنهم لا يفكرون فينما يُرضي الله، وكما أن الأتقياء إذا مروا أمام البيوت ذات السمعة القبيحة، والأماكن التي تُرتكب فيها الفحشاء والفسق، فإنهم ينفرون منها ويرفضون مجرد النظر ناحيتها – لأن هذه الأمور هي موت في نظرهم – هكذا فإن الله يغض النظر عن أولئك الذين تمردوا على كلمته وعصوا وصيته فتعبر عينيه عليهم ولكنه لا يكون في شركة معهم .. ولا يستطيع الرب أن يجد راحة في داخل أفكارهم.. ] ( القديس مكاريوس الكبير – العظة 12 : 1 – 2 ، صفحة 114 و 115 )
_______________
* خلاص الله وغفرانه لنا – ميلادنا الروحي:
[ عندما قام الرب من بين الأموات ، وصار ” باكورة الراقدين ” ، حَفِظَ جراحات الصليب في جسده، أي المسامير وطعنة الحربة، وهي تلك التي عاينها توما الرسول وهتف ” ربي وإلهي “. لقد أقام الرب جسده بدون فساد، ولكن كعلامة على محبته الأزلية لنا أبقى على جراحات الصليب، تلك التي قبلها بإرادته وحسب محبته للبشر . ] ( رسالة الأب صفرونيوس إلى تلميذه ثيؤدوروس : 15 – صفحة 14 )
[ نحن نولد روحياً من جراح الرب ولادة تؤكد لنا أن المغفرة ليست إعلاناً بالكلمة فقط، بل بحياة تُعطى لنا وتغلب الحياة القديمة البالية. هكذا عندما نتأمل جراح الرب، نُعاين ما يحدث للنفس، وكذلك التحول الداخلي في القلب، ذلك التحول الخفي، يؤكد لنا أننا ننال علامات القيامة ونحن هنا في ” جسد الموت “، أي الجسد الذي يفنى حسب أصله الترابي الذي أُخذ منه، لأن فناء الجسد الطبيعي هو مقدمة قيامته؛ لأن شكله الطبيعي يفنى بالموت لكي يقوم حسب شكل المسيح. وتركيب الأعضاء البالي ينحلَّ، لأنه زُرع في هوان ويقام في مجد حسب كلمات الرسول ( 1كو15: 42 – 44 )، وهو ما نحسه روحياً حسب روح يسوع أي الروح القدس الذي أقامه من الأموات .
… انحلال الجسد وعودته إلى التراب هو بداية القيامة؛ لأنه يعود إلى التراب ليس بلعنة الموت ، بل بقوة القيامة، لأن لعنة الموت معناها عدم القيامة، أما نعمة الرب، نعمة القيامة، فهي حياة أبدية في يسوع المسيح ابن إلهنا الآب السماوي.
وبسبب تجسد الرب وموته وقيامته، ثَّبت لنا وأعلن لنا سرّ اتحاد النفس بالجسد؛ لأنه جاء لكي يخلصنا ويحملنا مثل خراف صغار في أحضانه، معلناً لنا:
أن النفس هي الأصل ، وهي قاعدة ( جوهر ) الوجود الإنساني، وأن الجسد هو صورتها الخارجية المنظورة، ذلك لأنه جدَّد النفس وردَّها إلى صورته السماوية التي حُددت في بشارة الإنجيل. فقد أعلن أن التجديد هو روحي، وأنه يكمل في يوم القيامة.
وأعلن لنا مراحل التجديد مؤكداً لنا أولوية النفس بالميلاد الجديد في مياه المعمودية التي يغتسل فيها الجسد أيضاً من لعنة الموت منتظراً قيامته لمجد ابن الله.
وأعلن لنا أيضاً سُكنى الروح القدس في النفس والجسد معطياً للنفس الدور الأول مقدَّساً الجسد في مسحة الميرون التي لا تفنى رغم انحلال الجسد، ولذلك نحن نكرم أجساد الشهداء والقديسين الذين أعلنوا لنا الرب يسوع بالتعاليم والشهادة والسلوك الصالح المقدس، وهم بذلك آنية حية للرب وهيكل الروح القدس الذي لا يفارق حتى ما يبقى من عظام، بل لأن الكل خُتم بالروح القدس، أي بشكل الرب يسوع المجيد، يبقى الكل مثل بذرة تنتظر يوم مجد الرب يسوع الذي سوف يٌغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة مجده، لأنه استطاع أن يُخضع له كل الأشياء ( فيلبي 3: 21 )
وماذا يُمكننا أن نقول عن السرّ الفائق المجيد ، سرّ بذل محبته … لكن العبرة هي تذوُّق صلاح الرب وإحسانه لنا ، وإعلان شفاء الجسد وتجديد كل كياننا بالإتحاد به في سرّ مجد محبته ، سرّ جسده ودمه ] (رسالة الأب صفرونيوس إلى تلميذه ثيؤدوروس : 15 – صفحة 15و16)