التأله عند الآباء اللاتين – د. أنطون جرجس
نستكمل بحثنا في موضوع عقيدة التأله بالنعمة في تعاليم آباء الكنيسة الجامعة شرقًا وغربًا، وسوف نتحدث عن مفهوم التأله بالنعمة عند الآباء اللاتين في الغرب.
نبدأ من العلامة ترتليان الذي يُعتبر أبو اللاهوت اللاتيني، حيث يتحدث ترتليان في أكثر من موضع عن عقيدة التأله بالنعمة. حيث يرى أن التأله هو غاية خلق الإنسان، وإن الإنسان لو لم يسقط، كان سيؤخذ في المستقبل إلى الطبيعة الإلهية، حيث يقول التالي:
“والآن، على الرغم من أن آدم كان عرضةً للموت بسبب حالته تحت الناموس، إلا أن الرجاء كان محفوظًا له بقول الرب: ‘هوذا آدم يصير كواحد منا’ (تك٣: ٢٢)، أي نتيجة اتخاذ الإنسان إلى الطبيعة الإلهية* في المستقبل. إذًا، ما الذي يلي ذلك؟ والآن، لئلا يمد يده، ويأخذ أيضًا من شجرة الحياة، (ويأكل)، ويحيا إلى الأبد. وبالتالي يُظهر بإضافة الجزء عن الوقت الحاضر ‘والآن’، أنه قد خلقه للوقت، وللحاضر، ولاستمرار حياة الإنسان”.
Tertullian, ANF03 (Against Marcion), Trans. By Dr. Holmes, Edit. By Phillip Schaff, (Grand Rapids, MI: Christian Classics Ethereal Library, 1845- 1916), 2: 25, p. 444.
ويتحدث ترتليان عن أن البشر يُدعون آلهةً أيضًا، ولكنه ليس من ذواتهم، بل بالنعمة حسب استحقاق كل منا، حيث يقول التالي:
“لكنك ستقول: إنه – بهذه الطريقة – لا يوجد فينا أي شيء من الله، لكن بالحقيقة إن لنا شيئًا منه، بل وسيظل لنا، لكن هذا الشيء هو منه، وقد تسلمناه، وهو ليس من ذواتنا؛ لأننا سنكون آلهةً، إذا استحققنا أن نكون ضمن هؤلاء الذين قال لهم: ‘أنا قلت: أنكم آلهة’، و ‘الله في وسط الآلهة يقضي’، ولكن هذا يتأتى من نعمته*، وليس بسبب مزية فينا، لأنه هو وحده مَن يستطيع أن يصنع [منا] آلهةً”.
ترتليانوس الأفريقي، ضد هرماجانوس، ترجمة: أمجد رفعت رشدي، (القاهرة: مدرسة الإسكندرية للدراسات المسيحية، ٢٠١٧)، الفصل الخامس، ص ١٦٤، ١٦٥.
ويستخدم آية (مز٨٢: ١، ٦) أيضًا في موضع آخر مؤكدًا على عقيدة ألوهية السيد المسيح وعقيدة تأله الإنسان، لأن الكتاب المقدس دعا البشر آلهة بسبب التبني لله والإيمان، فكيف لا يكون الابن هو بالحقيقة ابن الله الوحيد بالطبيعة كالتالي:
“فلنتذكر أنت وأولئك هذا القائل: ‘أنا قلت: أنكم آلهة وبنو العلي كلكم’ (مز٨٢: ٦)، ومرة أخرى: ‘الله قائم في مجمع الله’ (مز٨٢: ١)، وإن كانت الأسفار لم تخش أن تدعو البشر آلهةً، وهم قد صاروا أبناء الله بالإيمان، فلنتأكد إذًا، أن نفس الأسفار بكل احتراس، تمنح لقب ‘الرب’ لمَّن هو بالحقيقة ابن الله الواحد والوحيد”.
المرجع السابق، ضد براكسياس، الفصل ١٣، ص ١٠٨.
ننتقل إلى ق. هيلاري أسقف بواتييه والملقب بـ’ أثناسيوس الغرب’، حيث يتحدث عن أن غاية التجسد هي تأليه الإنسان كالتالي:
“فالخطية الموجهة ضد الروح هي إنكار كمال قوة الله، ونقض للجوهر الأزلي في المسيح، الذي صار من خلاله الله في الإنسان، ليصير الإنسان إلهًا*”.
Hilary of Poitiers, The fathers of the church vol. 125 (Commentary on Mathew), Trans. By D. H. Williams, Edit. By David G. Hunter, (Washington DC: The catholic University of America Press, 2012), on Mt 5: 15, p. 84.
ثم يتحدث ق. هيلاري عن اقتناء البشر للروح القدس كعربون للخلود وشركة الطبيعة الإلهية مؤكدًا على ألوهية الروح القدس، حيث يقول التالي:
“لن يجرؤ الرجال فيما بعد، بقوة المنطق البشري المجرد، على أن يضيفوا الروح الإلهي بين المخلوقات، والذي نقبله كعربون الخلود وكمصدر للاشتراك مع الطبيعة الإلهية غير الآثمة”.
هيلاري أسقف بواتييه (قديس)، عن الثالوث، ترجمة: راهب من دير انبا أنطونيوس، مراجعة: د. سعيد حكيم، (البحر الأحمر: دير الانبا أنطونيوس، ٢٠١٧)، ١: ٣٦، ص ٢٣٢.
وهكذا يتحدث ق. هيلاري عن أن غاية التجسد الإلهي هي تأليه الإنسان، حيث يقول التالي:
“فإنه حينما وُلد الله ليكون إنسانًا، لم يكن الغرض هو فقدان الألوهية، بل ببقاء الألوهية يُولد إنسانًا كي يكون إلهًا*. فمن ثم إن اسمه هو عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا (مت١: ٢٣)، كي لا يقلل من شأن الله إلى مستوى الإنسان، بل يُرفع من شأن الإنسان إلى الاتحاد بالله. وعندما طلب (أي المسيح) أن يتمجد، لم يكن هذا تمجيدًا لطبيعته الإلهية بأي شكل، بل للطبيعة الأقل التي اتخذها؛ فإنه يطلب هذا المجد، الذي كان له قبل تأسيس العالم”.
المرجع السابق، ١٠: ٧، ص ٦٩٠.
ننتقل الآن إلى أوغسطينوس الذي يُعتبر من أكثر الآباء اللاتين حديثًا عن تأله الإنسان بالنعمة، حيث يتحدث مثله مثل العلامة ترتليان عن أن التأله هو غاية خلق الإنسان منذ البدء، وأنه كان سيصير إلهًا لو لم يسقط بالتعدي والعصيان كالتالي:
“هنالك في الراحة سوف ترى أنه هو الله، طبيعة سامية ادّعيناها لنا حينما هبطنا من أعالي عهده على صوت الشيطان الذي أغوانا قائلاً: ‘تصيران كآلهة’، لم نحفظ الأمانة لهذا الإله الذي كان قادرًا على أن يجعل منا آلهةً، لو لم نجحد نعمه، ونتخلف عن الاتحاد به”.
أوغسطينوس، مدينة الله ج٣، ترجمة: الخورأسقف يوحنا الحلو، (لبنان: دار المشرق، ٢٠١٤)، ٢٢: ٣٠، ص ٤١٣.
ثم يتحدث أوغسطينوس عن أن تأله الإنسان والشركة في اللاهوت هي غاية الإخلاء والتجسد الإلهي، مستخدمًا صيغة التأله التبادلية الشهيرة، حيث يقول التالي:
“لكن المسيح، معلم التواضع، الذي جعل نفسه شريكًا لنا في سقمنا، ليجعلنا شركاء في لاهوته، ونزل من السماء ليعلمنا الطريق، ويكون هو طريقنا (يو١٤: ٦)”.
أوغسطينوس، عظات في المزامير ج٢، ترجمة: سعد الله سميح جحا، (لبنان: دار المشرق، ٢٠١٤)، عظة ٥٨: ٧، ص ٥٥٨.
ثم يتعمق أوغسطينوس في شرح عقيدة التأله في موضع آخر في سياق تفسيره لآية (مز٨١: ١) كالتالي:
“فمَّن هم؟ وأين هم الآلهة الذين إلههم هو الإله الحق؟ يجيبنا مزمور آخر: ‘الله قائم في مجمع الآلهة، وهو في وسط الآلهة ليدينهم’ (مز٨١: ١). مازلنا نجهل إذا كان لا يوجد في السماء آلهة أخرى، يقوم الله وسط مجمعهم ليدينهم. أنظروا في المزمور نفسه، عمَّن يتكلم النبي: ‘قلت أنكم آلهة، وبنو العلي كلكم، إلا أنكم مثل البشر تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون’ (مز٨١: ٦). يتضح من هذا الكلام أن الذين يدعوهم الله آلهةً، هم بشر تألهوا بنعمته*، وليسوا مولودين من جوهره.
وحده يبرر مَن هو البر ذاته، ولم ينل بره من آخر. كذلك، وحده يؤله مَن هو الله بذاته، ولا يشاركه إله آخر. والحال، فإن الذي يبرر هو الذي يؤله*، لأن الذين بررهم، يجعلهم أبناء الله. يقول الإنجيلي: ‘أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله’ (يو١: ١٢). إن صرنا أبناء الله، صرنا آلهةً، لكن بنعمة التبني، لا بالطبيعة التي وُلدنا فيها. ليس لله سوى ابن أوحد هو مع أبيه إله واحد، أعني ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الكلمة الذي كان في البدء، كلمة الله، والكلمة التي في الله. أما الذين يصيرون آلهةً، فبنعمة الله يصيرون، ولا يُولدون من جوهره ليكونوا مثله آلهةً”.
المرجع السابق، ٤٩: ٢، ص ٣١٣، ٣١٤.
ونستنتج من هنا أن عقيدة تأليه الإنسان هي عقيدة راسخة وثابتة في تعاليم آباء الكنيسة الجامعة شرقًا وغربًا، وموجودة بقوة في جميع التقاليد المسيحية المبكرة، سواء التقليد اليوناني (سواء تقليد سكندري، أورشليمي، كبادوكي)، أو السرياني، أو اللاتيني. فالذي ينكر عقيدة التاله بالنعمة هو كمَّن ينكر نور الشمس في عز الظهيرة، لأن عقيدة التأله هي غاية المسيحية.