مفهوم الفدية عند ق. كيرلس الإسكندري – د. أنطون جرجس
استكمالاً لما قد بدأناه من سلسلة مقالات لتوضيح مفهوم الفدية عند آباء الكنيسة ردًا على المشككين والجهلاء من البعض، نستعرض الآن مفهوم الفدية عند ق. كيرلس الإسكندري.
وأود التنويه في البداية أن نصوص ق. كيرلس عن موضوع الفدية كثيرة ومتنوعة ومتعددة الجوانب في مفاهيمه حول موضوع الفدية، ولكن السمة الغالبة عند ق. كيرلس في موضوع الفدية هي أن الفدية هي موت المسيح للقضاء على الموت والفساد، وليس كما يدَّعي البعض عن جهل أنها تسديد لعقوبة الموت من الآب على البشرية، فالابن لم يكن في موضع المعاقب من الآب لأجل البشر.
كما أن الموت هو نتيجة سقوط الإنسان وتعديه، وليس الله هو علة الموت، أو يميت البشر، لأن الله حياة وليس موت. فالموت ليس أحد صفات جوهر الثالوث القدوس منذ الأزل، بل دخل الموت إلى العالم بحسد إبليس وبالخطية. الله لا يميت أحدًا، ولا يعاقب أحدًا بالموت، فالله لا يسره موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا، فهلاك الأحياء لا يسره كما نقرأ في الكتاب المقدس، ونصلي في الليتورجية، وفي الأجبية.
فعل الإماتة لم يكن في الله منذ الأزل، ولم يمارس الله صفة الموت أو الإماتة بين أقانيمه الثلاثة منذ الأزل، فلم نر الآب يميت الابن، والعكس صحيح، لم نر الابن يميت الآب، وهكذا لم نر الروح القدس روح الحياة، يمارس فعل الإماتة مع الأقنومين الأخرين، فهذا تجديف على الله! حاشا! الله الثالوث هو الحياة ومصدر وينبوع الحياة، ولم يكن في أي وقت من الأوقات موت أو ينبوع ومصدر الموت.
فلم يقل المسيح أبدًا في الإنجيل أنا هو الموت، ناسبًا صفة الموت أو الإماتة لنفسه، بل قال أنا هو القيامة والحياة، وأنا هو الطريق والحق والحياة. لذا إدعاء البعض عن جهل أن الله يُعاقب البشر بالموت هو محض تجديف على الله!
ننتقل إل مفهوم الفدية عند ق. كيرلس الإسكندري، حيث يؤكد ق. كيرلس – مثلما أكد الآباء السابقين عليه – على تقديم المسيح جسده كفدية للموت كالتالي:
“لذا كان من الضروري أن يقدم ابن الآب الحي جسده الخاص للموت كفدية* عن حياة كل البشر، لكي عن طريق جسده المتحد بالكلمة يمهد الطريق لأجسادنا المائتة حتى تستطيع أيضًا أن تنتصر على رباطات الموت”.
كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج ٢، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٥)، تعليق على (يو ١٨: ٧- ٩)، ص ٤٢٥.
ونجد هنا ق. كيرلس الإسكندري يتبع الآباء السابقين عليه في التأكيد على تقديم المسيح الفدية للموت كالتالي.
حيث يشير ق. أثناسيوس إلى تقديم المسيح الفدية للموت كالتالي:
“فإن مجيء المخلص متجسدًا، قد صار فديةً* للموت وخلاصًا لكل الخليقة”.
أثناسيوس (قديس)، المسيح في رسائل ق. أثناسيوس (الرسالة إلى أدلفيوس المعترف)، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد ود. صموئيل كامل، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٧)، الفصل ٦، ص ٢٩.
ويتحدث ق. باسيليوس الكبير أيضًا عن تقديم المسيح الفدية للموت في الليتورچية البيزنطية الخاصة به قائلاً:
“فطهّرنا بالماء وقدّسنا بالروح القدس، وبذل نفسه فديةً* للموت الذي كان مستوليًا علينا ارقاءً تحت الخطية”.
باسيليوس الكبير (قديس)، الأفخولوجي الكبير (ليتورجية ق. باسيليوس)، ترجمة: الأسقف رافائيل هواويني، (لبنان: بيرثوث وقلفاط، ١٩٥٥)، ص ١٤٢.
وهذا ما يؤكده أيضًا ق. كيرلس الأورشليمي أن المسيح قدم جسده كطُعم للموت قائلاً:
“لذلك صار جسده طُعمًا للموت*، وإذ صار موضع أمل للوحش [الشيطان] أن يقبض على المخلص، قبض المخلص عليه. لأنه ‘يبلع الموت إلى الأبد، ويمسح السيد المسيح الدموع عن كل الوجوه’ (إش ٢٥: ٨)”.
تادرس يعقوب ملطي (قمص)، القديس كيرلس الأورشليمي (حياته – مقالاته لطالبي العماد – الأسرار)، (الإسكندرية: كنيسة مار جرجس اسبورتنج، ٢٠٠٦)، المقالة ١٢: ١٥، ص ١٧٢.
نعود مرة أخرى إلى مفهوم الفدية عند ق. كيرلس الإسكندري، حيث يؤكد ق. كيرلس على تقديم المسيح جسده كفدية لحياتنا جميعًا كالتالي:
“وعندما قدّم جسده كفدية لحياتنا جميعًا”.
كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير إنجيل لوقا، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٦)، عظة ١٥٣، ص ٧٥٠.
ويؤكد ق. كيرلس على تقديم المسيح ذاته فديةً للجميع كالتالي:
“لأنه هكذا خلص المسيح الكل باذلاً ذاته فديةً للصغير والكبير، للحكيم وغير الحكيم، وللغني والفقير، ولليهودي واليوناني”.
كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير سفر يونان، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٧)، تعليق على (يون ٤: ١٠- ١١)، ص ٤٧.
ويؤكد ق. كيرلس أيضًا على تقديم المسيح للفدية نفسه لأجل نفوسنا، وجسده لأجل أجسادنا كعطية ثمينة لأجلنا كالتالى:
“لقد أعطانا حقًا عطية ثمينة، جسده لأجل جسدنا، ونفسه فديةً* لأجل نفوسنا، ورغم ذلك قام، إذ إنه كإله بطبيعته هو الحياة ذاتها”.
كيرلس الإسكندري (قديس)، حوار حول تأنس الابن الوحيد، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٢)، الفصل ٧، ص ٧٧.
وهكذا يؤكد ق. كيرلس أن الفدية لأجل الجميع لإماتة الموت وإقامة طبيعة الإنسان الساقطة كالتالي:
“(يقول الرب): إني أموت من أجل الجميع لكي أُحيي بذاتي الجميع، وقد جعلت جسدي فديةً* لأجل الجميع، لأن الموت سيموت بموتي، ومعي سوف تقوم ثانيةً طبيعة الإنسان الساقطة”.
كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج ١، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدرسات الآبائية، ٢٠١٥)، ٤: ٢، تعليق على (يو ٦: ٥١)، ص ٤٠٣.
وهذا ما يؤكده ق. كيرلس أن المسيح أعطى جسده فديةً لأجلنا كالتالي:
“إذًا، فقد افتُدينا، طالما أنه أعطى جسده لأجلنا فديةً*، فإذا أعتقدنا أنه إنسان عادي، كيف يكون دمه كافيًا لحياة الكل؟ بينما لو أعتقدنا أنه هو الله بالجسد الأكثر جدراةً من الجميع، سيكون فداء كل العالم بدمه كافيًا للدَّين، وهذا صحيح جدًا”.
كيرلس الإسكندري (قديس)، الإيمان القويم إلى الملكات، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٩)، الرسالة التوضيحية الأولى، ص ١٦٢.
ويؤكد ق. كيرلس على أن المسيح افتدانا من إبليس الذي كان يأسرنا، وليس الآب. فلم يتحدث ق. كيرلس أبدًا عن أننا كنا مأسورين عند الآب، وتوجب دفع الفدية لديه ليطلقنا من الأسر، بل يؤكد ق. كيرلس مرارًا وتكرارًا – مثله مثل جميع الآباء- على أننا كنا مأسورين عند الشيطان قائلاً:
“ويعلن بالأثنين التالي: طالما أنه افتدانا* ربنا يسوع المسيح من مصر وأشور أي من استبداد أولئك الذين أسرونا (وهؤلاء هم الأشرار والشياطين الدنسة)، نقلنا إلى أرض مليئة بالأشجار والثمار، أي الكنيسة”.
كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح سفر زكريا، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدرسات الآبائية، ٢٠١٧)، الفصل ٧٣، تعليق على (زك ١٠: ١٠)، ص ١٥٢.
ويؤكد ق. كيرلس أيضًا أننا كنا مأسورين عند الشيطان وليس عند الآب قائلاً:
“وكانوا أسرى وفي قبضة الشيطان*، وذلك لأنهم قاوموا الله، لأجل هذا رُفضوا وفقدوا كل العناية السماوية”.
المرجع السابق، الفصل ٢، تعليق على (زك ١: ١- ٢)، ص ١٨.
وهكذا يؤكد ق. كيرلس على أن المسيح قام بأسر الشياطين – الذين كنا مأسورين عندهم، وليس عند الآب – باذلاً دمه لأجلنا لإبعاد الموت، وإبطال الهلاك، ومنح الحياة لنا كالتالي:
“نفس الأمر أيضًا، ربنا يسوع المسيح الذي انتصر على جميع الشياطين النجسين، وقام بأسرهم باذلاً دمه* لأجلنا، هكذا أبعد الموت، وأبطل الهلاك، وجعلنا خاصته، إذ لا نحيا بعد حياتنا، بل حياته؛ لأنه لو لم يمت لأجلنا لما خلُصنا، ولو لم يُحسب من بين الأموات، لما انهدمت حصون مملكة الموت”.
كيرلس الإسكندري (قديس)، الجلافيرا على سفر الخروج، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٨)، المقالة ٢، ص ١٦٣.
ويؤكد ق. كيرلس أيضًا على أن المسيح افتدانا من الموت ومن يدي الهاوية، إذ قدم ذاته فديةً للموت كالتالي:
“لأنه افتدانا* من يدي الهاوية، أي من بطش الموت، وأن موت المسيح يُدرك كطريقة للفداء*. لأنه تعرض لأجلنا للموت فوق الصليب، وانتصر على الرؤساء والسلاطين مسمرًا عليه الصك الذي علينا (أنظر كو ٢: ١٤، ١٥) […] يسوع المسيح الذي مات لأجلنا، أو الأفضل ‘الذي بذل نفسه فديةً* لأجل الجميع، الشهادة في أوقاتها الخاصة’ (١تي ٢: ٦)، الأكثر استحقاقًا من الكل، بواسطته وبه* صرنا أغنياء (أنظر ١كو ١: ٥)، لكي نرجع ثانيةً إلى عدم الفساد”.
كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير سفر هوشع، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠٢٠)، تعليق على (هو ١٣: ١٤)، ص ٣١٤، ٣١٥.
ويؤكد ق. كيرلس على أن الآب نفسه هو الذي بذل وقدّم ابنه كفدية وثمن لأجل خلاصنا كالتالي:
“وإنه حق وقد تم التيقن من الحقائق ذاتها أن الآب بذل ابنه لأجل خلاصنا. وبالتالي، كما يقول بولس: ‘قد اشتُريتم بثمن* فمجّدوا الله’ (١كو ٦: ٢٠)، فنحن لسنا ملكًا لذواتنا. ويقول أيضًا: ‘وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام”.
كيرلس الإسكندري (قديس)، الجلافيرا على سفر الخروج، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٨)، المقالة ٢، ص ١٦١، ١٦٢.
كما يؤكد ق. كيرلس على دفع الفدية من أجل الإنسان لكي ما يحيا، لأن الله لم يُسر بهلاك الإنسان مثلما يحدث مع الشياطين قائلاً:
“فلا يُسر بأن يحدث للإنسان كما يحدث للشياطين الدنسة التي هلكت (أنظر مت ٨: ٢٨- ٣٤)، فأمر بأن تُدفع الفدية* لأجله [أي للإنسان]، ونحن نعترف بأننا مديونون له بحياتنا. […] بينما الفدية الحقيقية المقدمة عن الجميع هي المسيح، الذي بواسطته انتصرنا على الموت، لأنه قدم ذاته لأجلنا”.
المرجع السابق، ص ١٦٥، ١٦٦.
لذلك، إن كان الآب هو مقدِّم الابن وباذله لأجل خلاصنا، فكيف يكون الآب هو نفسه المقدِّم للفدية والمقدَّم إليه الفدية، هل الآب يقدم ابنه فديةً لنفسه؟ هل هذا معقول؟ لو لم يكن مفهوم تقديم الابن الفدية للآب له مفهوم آخر عند ق. كيرلس، غير مفهوم لاهوت العصر الوسيط، ومفهوم الإبدال العقابي البروتستانتي، الذي ينسبه البعض عن جهل ودون وعي خطاءً للأرثوذكسية ولتعاليم آباء الكنيسة الشرقيين عامةً، وق. كيرلس الإسكندري خاصةً. هذا ما يوضحه ق. كيرلس كالتالي:
“والمسيح قدم نفسه رائحة طيبة لله، لكي يقدمنا نحن بواسطة نفسه وفي ذاته لله الآب، وهكذا يلاشي العداوة الناشئة من عصيان آدم، ويُبطل الخطية التي استعبدتنا جميعًا، لأننا نحن الذين كنا نصرخ منذ زمن طويل قائلين: ‘التفت إليَّ وارحمني’ (مز ٢٥: ١٦)”.
كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير إنجيل لوقا، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٦)، عظة ٣، ص ٤٦.
أخيرًا، نستنتج أحبائي أن الفدية تم تقديمها للموت من أجل تطويق الموت والقضاء عليه نهائيًا ليقدم المسيح للآب الجنس البشري جنسًا مقدسًا، وطاهرًا، وحيًا، فيه وبه.
مفهوم الفدية عند ق. كيرلس الإسكندري – د. أنطون جرجس