آبائياتأبحاث

تدبير الخلاص بين آباء الكنيسة وتوما الأكويني – د. أنطون جرجس

تدبير الخلاص بين آباء الكنيسة وتوما الأكويني - د. أنطون جرجس

تدبير الخلاص بين آباء الكنيسة وتوما الأكويني – د. أنطون جرجس

تدبير الخلاص بين آباء الكنيسة وتوما الأكويني - د. أنطون جرجس
تدبير الخلاص بين آباء الكنيسة وتوما الأكويني – د. أنطون جرجس

 

كانت تراودني من فترة فكرة كتابة هذا المقال من أجل توضيح الفرق الهائل في المفاهيم الخاصة بتدبير الخلاص بين آباء الكنيسة ولاهوت العصر الوسيط وبالخصوص اللاهوت المدرسي، الذي خير من يمثله هو الأب توما الأكويني، الذي قرأته له كثيرًا، وهكذا وجدت اختلافات تكاد تكون جذرية بين مفاهيم تدبير الخلاص بين آباء الكنيسة وتوما الأكويني ممثلاً عن اللاهوت المدرسي في العصر الوسيط. لذا قررت أن أعرض نقاط الاختلاف بين الطرحين في هذا المقال.

سأبدأ بعرض أفكار توما الأكويني عن تدبير الخلاص، ثم سأقوم بعرض أفكار آباء الكنيسة، عاقدًا مقارنة بين الطرحين، من أجل إظهار الاختلافات الجذرية بين الطرحين الآبائي والأكويني.

 

يتحدث الأكويني أولاً عن آلام المسيح كترضية واستحقاق عن البشر، مقارنًا بين القدرة على الفعل وممارسة الفعل ذاته، حيث يقول التالي:

“لذا، من الواضح، كما نرى من هذه المناقشة، أخذ المسيح بعض نقائصنا في نفسه، ليس عن اضطرار، بل من أجل غرض محدد (أي من أجل خلاصنا). ولكن كل قوة، وكل عادة، أو قدرة معينة فهم من أجل فعل كنهايتهم. لذا القدرة على المعاناة لم تكف للترضية أو الاستحقاق بمعزل عن المعاناة الفعلية. حيث يُدعى الشخص صالحًا أو شريرًا، ليس لأنه قادر على ممارسة الأعمال الصالحة أو الشريرة، بل لأنه يمارسها، ويتم تقديم المدح أو اللوم كما ينبغي لا من أجل القدرة على العمل، بل لممارسة العمل”.

Aquinas, Thomas, Shorter Summa, Trans. By Cyril Vollert, (Manchester, New Hanpshire: Sophia Institue Press, 1993), p. 227- 228, 289.

يستطرد الأكويني في شرحه لسر الفداء من خلال مبدأ إيفاء مطالب خطايانا وخطية آدم الأب الأول، حيث يقول التالي:

“وبالتبعية، من أجل خلاصنا، لم يكن المسيح يقصد ببساطة أن يجعل قابليتنا للألم نصيبًا له، بل أراد حقًا أن يتألم لكي ما يوفي مطالب خطايانا. احتمل لأجلنا هذه الآلام التي نستحق أن نتألم بها نتيجة خطية أبينا الأول. وأول هذه الآلام هو الموت، الذي تؤول إليه جميع الآلام البشرية الأخرى كما إلى تعبيرهم النهائي. ‘لأن أجرة الخطية هي موت’ كما يقول الرسول في (رو٦: ٢٣)”.

Ibid.

كما يتحدث الأكويني عن البدلية العقابية في سياق شرحه لتدبير الخلاص كالتالي:

“ووفقًا لذلك، أراد المسيح أن يخضع للموت من أجل خطايانا، لذا في اتخاذه لنفسه من دون أي خطأ خاص به العقوبة الموجهة ضدنا، كي ما يحررنا من الموت المحكوم به علينا، بالطريقة التي سوف يصير بها كل شخص حرًا من دين العقوبة، إن أخذ شخص آخر على عاتقه أن يدفع العقوبة له”.

Ibid.

كما يتحدث الأكويني عن موت المسيح كمجرد نموذج ومثال لنا على الفضيلة الكاملة، وليس عن وجودنا الكياني في المسيح كما سنرى عند آباء الكنيسة كالتالي:

“كما أراد المسيح أيضًا أن يموت كي ما يكون موته مثالاً للفضيلة الكاملة لنا. لقد أعطى مثالاً للحب ‘لأنه ليس حب أعظم من هذا، أن يضع الإنسان ذاته لأجل أحبائه’ (يو١٥: ١٣). وكلما تكون الآلام كثيرة وبشعة، التي لا يرفض المرء أن يتحملها لأجل رفيقه، يظهر حبه على نحو مدهش”.

Ibid.

نلخص في نقاط بسيطة تعليم الأكويني عن سر الفداء، أولاً، فكرة القدرة على المعاناة وممارسة المعاناة الفعلية كترضية من أجل البشر، ثانيًا، فكرة إيفاء مطالب خطايا البشر وخطية آدم الأصلية، ثالثًا، فكرة الإبدال العقابي النيابي شخص يتم معاقبته عوضًا عن شخص آخر، رابعًا، آلام المسيح وموته مجرد نموذج ومثال لنا على الفضيلة الكاملة لكي نتمثل بها فقط.

نجد تعارض هذه الأفكار التي طرحها الأكويني مع تعاليم آباء الكنيسة السابقين عليه، وسوف نقوم باستعراض أفكارهم بشأن تدبير الخلاص كما فهموه.

نجد آباء الكنيسة يتحدثون عن وجودنا الكياني في المسيح أثناء تدبيره وعمله الخلاصي على العكس من نظرية البديل الذي يقوم بكل شيء من أجل البشر بمعزل عنهم.

 نبدأ بالقديس أثناسيوس الذي يتحدث عن وجودنا الكياني في المسيح عند موته كالتالي:

“كما أننا في المسيح متنا جميعًا بموته، هكذا في المسيح نفسه نرتفع أيضًا، إذ نقوم من الأموات ونصعد إلى السماوات”.

(ضد الاريوسيين ١: ١٤)

   كما يتحدث ق. أثناسيوس عن موت الجميع في المسيح مؤكدًا على وحدة الجنس البشري في المسيح آدم الجديد، حيث يقول التالي:

“لكي إذا كان الجميع قد ماتوا فيه، فإنه يبطل عن البشر ناموس الموت والفناء، ذلك لأن سلطان الموت قد استُنفذ في جسد الرب، فلا يعود للموت سلطان على أجساد البشر”.

(تجسد الكلمة ٨: ٤)

يتحدث ق. كيرلس في نفس السياق مؤكدًا على فكرة وجودنا الكياني في المسيح أثناء صلبه كالتالي:

“ونحن قد صُلبنا معه لما صُلب جسده الذي كانت فيه كل طبيعتنا”.

(تفسير رومية ٦: ٦)

    وهذا ما يؤكده ق. كيرلس في موضع آخر داحضًا فكرة البديل، ومؤكدًا على فكرة شركتنا مع المسيح بالطبيعة في عمله الخلاصي، حيث يقول:

“ومن أجل منفعتنا يقول إن الكلمة سكن فينا، لكي يرفع الحجاب عن السر العميق، لأننا نحن جميعًا في المسيح، والجماعة المشتركة في الطبيعة الإنسانية ارتفعت إلى شخصه، وهو ما جعله يُدعى ‘آدم الأخير’ (١كو١٥: ٤٥) واهبًا بغنى للطبيعة الإنسانية المشتركة كل ما يخص الفرح والمجد”.

(تفسير يوحنا ١: ٩ على آية يو ١: ١٤)

ويؤكد أيضًا ق. غريغوريوس اللاهوتي على نفس الفكرة حول وجودنا الكياني في المسيح في تدبيره الخلاصي، مؤكدًا على المبادلة الخلاصية الشفائية بيننا وبين المسيح، حيث يقول التالي:

“بالأمس صُلبت مع المسيح، واليوم أتمجد معه، بالأمس مت معه، واليوم نلت الحياة به، بالأمس دُفنت معه، واليوم أقوم معه…. وكما تشبه المسيح بنا، فلنتشبه نحن أيضًا به، صار إنسانًا لكي يؤلهنا، قَبِلَ كل ما هو قابل للفساد حتى يهبنا الأسمى، صار فقيرًا حتى نغتني نحن بفقره، أخذ شكل العبد كي نسترد حريتنا، أتضع كي يرفعنا، جاز التجربة كي نغلب نحن به، أُهين ليمجدنا، مات ليخلصنا، صعد إلى السماء ليجذبنا إلى نفسه، نحن الذين سقطنا في وهدة الخطية”.

(العظة الفصحية الأولى PG 35: 396-407)

ونفس الشيء نجده عند ق. غريغوريوس النيسي الذي يتحدث عن المبادلة الشفائية والتأله بالنعمة في المسيح، داحضًا فكرة البديل العقابي التي رأيناها عند الأكويني، كالتالي:

“ولم يترك الخطية واللعنة والضعف بلا شفاء، بل قد ‘ابتُلع المائت من الحياة’، ولقد ‘كان مصلوبًا في ضعف، ولكنه حي في قوة’، وتحولت اللعنة إلى بركة. حيث امتزج كل شيء ضعيف ومائت في طبيعتنا مع الألوهية، وصار ما تكونه الألوهية”.

(الرسالة إلى البابا ثيؤفيلوس السكندري ضد الأبوليناريين)

   يتحدث النيسي أيضًا في موضع آخر مؤكدًا وجودنا الكياني في المسيح أثناء عمله الخلاصي،والمبادلة الخلاصية بيننا وبينه، وكيف آله اللاهوت كياننا البشري فيه بالنعمة كالتالي:

“لأنه حتى إن كانت طريقة حضور الله فينا ليست هي نفسها كتلك الحالة السابقة، إلا أننا نعترف أن وجوده فينا الآن وآنئذاك هو متساوي. فالآن هو يختلط بنا، باعتباره حافظ الطبيعة في الوجود، ومن ثم قد اختلط بكياننا حتى من خلال شركة اللاهوت يصير كياننا متألهًا، منعتقًا من الموت، ومتحررًا من طغيان الخصم. لأن عودته من الموت صارت بداية عودة جنسنا من الفناء إلى الحياة غير المائتة”.

(العظة التعليمية الكبيرة ٣: ٢٥: ٢)

هكذا في الأخير أحبائي يتضح لنا اختلاف المفاهيم حول سر تدبير الخلاص بين توما الأكويني ممثلاً عن اللاهوت المدرسي في العصر الوسيط، وبين آباء الكنيسة الذين يرونا في تدبير الخلاص مبادلة خلاصية شفائية وليست عقابية، والذين يؤكدون على وجودنا الكياني في المسيح أثناء تدبيره الخلاصي، وإنه ليس مجرد مثال على فضيلة البذل والحب وكأنه منفصل عنا، بل نحن ندخل ونتحد معه في عمق السر الإلهي العجيب الذي صنعه لأجلنا. لم يكن المسيح مجرد ترضية أو إيفاء لدين خطية آدم وخطايانا كما يعلم البعض في أيامنا، بل هو متحد بنا وبطبيعتنا ليؤلهنا ويؤله طبيعتنا فيه، ويبدل الموت بالحياة، والظلمة بالنور، والغلبة بالنصرة، واللعنة بالبركة، والضعف بالقوة.

تدبير الخلاص بين آباء الكنيسة وتوما الأكويني – د. أنطون جرجس