تصحيح مفاهيم خاطئة في البدلية العقابية – ملمح الغضب – د. أنطون جرجس
نصيحتي لكل دارس وقارئ لكتابات الآباء، ينبغي توخي الدقة قبل البدء في اتخاذ أي رؤية عن أي تعبير يستخدمه آباء الكنيسة في كتاباتهم، فينبغي أن نفهم السياق العام لفكر الأب، واتساق الفكرة المطروحة عنه في هذا السياق العام، بدون اقتطاع أو انتقاء لأفكار وألفاظ معينة لإثبات أفكار ومفاهيم معينة تتناقض مع سياق فكر الأب العام.
سوف نستعرض معًا مفهوم الغضب الإلهي من خلال تعاليم الكتاب المقدس وآباء الكنيسة الجامعة عن مفهوم الغضب الإلهي في الكتاب المقدس.
يواجه العلامة أوريجينوس الغنوسيين الهراطقة مفسرًا ما جاء ذكره في العهد القديم بشأن الله، الذي يحنق ويندم، أو يبدر منه شكل عاطفة بشرية فيقول:
”أما نحن فحينما ننظر إلى العهد القديم أو الجديد وهو يتكلم عن غضب الله، لا نأخذ بالحرف ما يرد فيه، بل نجدّ في إثر فهم روحيّ حتى نفكّر على مقتضى إدراك خليق بالله“.
(في المبادئ 2: 4: 4).
ويتحدث العلامة أوريجينوس عن ماهية غضب الله في موضع آخر قائلاً:
”وبالتالي يبدو أحيانًا أن الغضب يشير إلى تلك القوة التي تحكم وتضبط الذين ينفذون العقوبات ويفرضون الجزاءات التي تحكم الخطاة. أنا أتبنى الرأي بأن هذا هو معنى النص الذي يسجل أن غضب الله أهاج داود ليأمر يوآب ليقوم بتعداد الشعب … كذلك أحيانًا وخزات الضمير تُسمى غضبًا، عندما نطهِّر “المنتقمين” و “المعاقبين”، … كذلك محنة الضيق والتجربة تُسمى غضب الله، كما يقول أيوب “غضب الله في جسدي”“.
(تفسير رومية 1: 16: 3).
ويستنكر العلامة أوريجينوس أن يكون في طبيعة الله غضب، حيث إن كان الرب قد نطق بمثل هذا التهديد ليس لأن الطبيعة الإلهية خاضعة للعواطف ولرذيلة الغضب، ولكن لكي تظهر محبة موسى للشعب، ولطف الله الذي لا نستطيع إن ندركه أو نفهمه نحو كل الخطاة.
مكتوب أن الله يغضب ويهدد الشعب بالموت. على الإنسان أن يتعلم من ذلك أن له مكانًا عند الله، وأنه يحظى باعتبار كبير لدى الله. إذا كان الله لديه أسباب للسخط ضد الإنسان، فإن هذا الغضب يهدأ بواسطة ابتهالات الإنسان وتضرعاته، ويستطيع الإنسان أيضًا أن يحصل من الله على تغيير الأحكام التي سبق وأصدرها، حيث إن اللطف الذي يتبع الغضب يبين مكانة موسى لدى الله، ويعرفنا أن الطبيعة الإلهية لا تتفق مع رذيلة الغضب.
(عظات على سفر العدد 8: 1).
كما يوضح الفيلسوف المسيحي لاكتانتيوس نقطة مهمة في مسألة الغضب الإلهي في سياق رده على الأبيقوريين منكري العناية الإلهية والتدبير الإلهي للخليقة، متبعين الفكر الأرسطي حول عدم اكتراث الله بالخليقة، بل هو يتحكم بها من خلال سلسلة من العلل الفاعلة، دون الدخول في علاقة شخصية وكيانية مع خليقته، كما جاء في المسيحية، حيث يقول:
”أول كل شيء، لم يقل أحد قط عن الله إنه يغضب فقط، ولا يتحرك بالرأفة، لأن هذا يتناقض مع فكرة عن الله تقول إنه يملك القوة ليؤذي ويمنع، لكنه لا يقدر على تقديم العون وفعل الخير. لذلك أية وسيلة وأي رجاء للخلاص أُعطِيَ للبشر إذا كان الله هو خالق الشرور فقط؟ […] لكن إن كان لا يمكن أن يوجد شيء بجوار الله، فمن العبث والحماقة أن نفكر أن القوة الإلهية، التي لا يوجد شيء أعظم منها، ولا أفضل منها، يمكن أن تؤذي، ولا يمكن أن تنفع. بالتالي لا يوجد مَن يجرؤ أن يقول هذا لأنه بلا معنى، ولا يمكن أن يُصدق بأي حالٍ من الأحوال“.
(الغضب الإلهي : 3).
كما يوضح لاكتانتيوس مفهوم الغضب الإلهي حيث هناك بعض الانفعالات التي لا توجد في الله، مثل الرغبة، والخوف، والطمع، والحزن، والحسد، فهو خالٍ تمامًا من كل هذه الانفعالات لأنها انفعالات الرذائل، لكن انفعالات الفضائل، أي الغضب تجاه الشر، والحب تجاه الخير، والشفقة على الذين في ضيقة، فلأنها تليق بقوته الإلهية، فهذه يختبرها الله كانفعالات خاصة به، وهي عادلة وصحيحة.
(الغضب الإلهي: 16).
كما يشرح ق. يوحنا ذهبي الفم ماهية غضب الله قائلاً:
”غضب الله ليس انفعالاً، وإلا كان يحق للإنسان أن ييأس لعدم قدرته على إطفاء لهيب غضب الله المشتعل بسبب أعماله (أي الإنسان) الشريرة. لكن الله بطبيعته خالٍ من الانفعال حتى إن عاقب وإن انتقم، فإنه لا يصنع ذلك حنقًا، بل عن اهتمام بنا فيه حنان وعفو عظيم. وهذا يدفعنا إلى أن تكون لنا شجاعة عظيمة صالحة، وأن نثق في قوة التوبة“.
(رسالة بعنوان “ستعود بقوة أعظم” إلى ثيؤدور).
يؤكد ق. يوحنا ذهبي الفم أيضًا أن غضب الله يمكن أن يُستعلن مرات كثيرة هنا في الحياة الحاضرة، مثلما يحدث في المجاعات، والأمراض، والحروب، حيث يُعاقب الجميع، بشكل فرديّ وجماعيّ أيضًا. وهل في هذا ما يدعو للدهشة؟
إن العقاب فيما بعد سيكون أكبر وأشمل، فما يحدث الآن يهدف إلى التصحيح والتقويم، لكن فيما بعد يكون العقاب، الأمر الذي عرضه بولس الرسول قائلاً:
“ولكن إذ قد حُكِمَ علينا نُؤدَّب من الرب لكيلا نُدان”. وإن كان بعض الناس الآن يعتقدون أن أمورًا كثيرة محزنة تحدث في الحياة، بسبب سلوك الناس السيء، وليس بسبب غضب الله. لكن في الدينونة الأخيرة سيكون عقاب الله علنيّ، عندما يأمر الديّان المخوف الجالس على عرشه، بطرح البعض في البحيرة المتقدة بالنار، والبعض إلى الظلمة الخارجية، وآخرين لعقوبات أخرى أشد وأصعب.
(تفسير رومية 4: 1).
يستنكر ق. يوحنا كاسيان محاولة البعض تبرير مرض الغضب البالغ الضرر الذي يلحق بالنفس، ملتجئين إلى طريقة مُنفّرة في تفسير الكتاب المقدس لهذا التبرير، كقولهم بأنه ليس من الضرر في شيء أن نغضب على اخوتنا الذين يخطئون، ما دام الله ذاته -على حد قولهم- قد ذُكِرَ عنه أنه يسخط ويغضب على أولئك الذين لم يعرفوه، أو عرفوه ثم رفضوه، غير مدركين أنهم إذ يريدون تلمس الأعذار لارتكاب خطية بالغة الأذية، ينسبون إلى العزة الإلهية، ومصدر كل نقاء إحدى وصمات الانفعال البشريّ.
لا يمكن -دون تجديف- تفسير تلك الأشياء حرفيًا عنه، وهو الذي أعلن، بنص الكتاب المقدس، أنه غير مرئيّ، لا يُعبّر عنه، غير مُدرَك، غير مفحوص، بسيط، غير مركب. إذًا، لا يمكن إسناد نزعة الغضب والسخط إلى تلك الطبيعة غير المتغيرة دون تجديف فظيع.
حين نقرأ عن غضب الرب وسخطه، ينبغي ألا نفهم اللفظ وفق معنى العاطفة البشرية غير الكريمة. إنما بمعنى يليق بالله، المنزَّه عن كل انفعال أو شائبة. ومن ثم ينبغي أن ندرك من هذا أنه الديّان المنتقم عن كل الأشياء الظالمة التي تُرتكَب في هذا العالم. وبمنطق هذه المصطلحات ومعناها ينبغي أن نخشاه بكونه المجازي المخوف عن أعمالنا، وأنْ نخشى عمل إي شيء ضد إرادته. لأنَّ الطبيعة البشرية قد ألِفَّت أن تخشى أولئك الذين تعرف أنهم ساخطون، وتفزع من الإساءة إليهم، كما هو الحال مع بعض القضاة البالغين ذروة العدالة.
(المؤسسات 8: 4).
يشرح ق. باسيليوس الكبير ماهية الغضب الإلهيّ وما فيه من دلالة شفائية لعلاج الشر الذي يشبه المرض الذي استفحل ولا بد من استئصاله بجراحة، كالتالي:
”عندما يقول النبي: إنّ هناك غضب في سخط الله، كما لو كان الغضب هو نفسه السخط، إلا أنَّ الفارق كبير. السخط إذًا، هو قرار الله أنْ تُفرض بعض العقوبات القاسية على مَنْ يستحق العقاب. أما الغضب فهو الألم، والعقاب الذي يقضي به الديَّان العادل، بقدر الظلم الذي أرتُكِبَ. هذا الذي أقوله سيصير مفهومًا بمثال واحد، فبعدما يحدّد الطبيب العضو المصاب بالالتهاب الصديديّ، يقرِّر ضرورة إجراء الجراحة للمريض.
هذا ما يدعوه الكتاب “سخط”، فبعد قرار الطبيب بالتدخل الجراحيّ، تتحوّل قراراته إلى عمل، ويبدأ في استخدام المشرط إجراء الجراحة، فيثير الألم لدى الخاضع للجراحة، هذا ما يُسمى “غضب الله”“.
(عظات على المزامير5: 4).
يرى ق. غريغوريوس النزينزي أن الطبيعة الإلهية منزّهة عن الأهواء البشرية كالحسد والغضب، فهي الطبيعة الصالحة وحدها، والمطلقة السلطة. (خطاب 28: 11)
كما يؤكد النزينزي في موضع آخر أن طبيعة الألوهة هي أسمى وفوق الأهواء وفوق الجسد. (خطاب 29: 18).
ويرى النزينزي إنه كان لابد لنا في الكلام عن الألوهة من اللجوء إلى ألفاظنا الأرضية على الوجه المجازيّ. (خطاب30: 7).
كما يشرح النزينزي حقيقة الانفعالات والأمور البشرية المنسوبة لله كالغضب والنوم والاستيقاظ والمشي والجلوس وغيرها في الكتاب المقدس قائلاً:
”لقد ورد في الكتابة الإلهية أنّ الله ينام، ويستيقظ، ويغضب، ويمشي، وأنه جالس على الكروبين. فهل أُخضِعَ لذلك كله في الحقيقة؟ هل بلغك يومًا أنّ لله جسمًا؟ إنها أشياء لا توجد إلا في المخيلة. وقد استعرنا ما لنا لندل بعض الدلالة على أمور الله. فبقولنا “ينام” نعبر عن أن الله يبتعد عنا، وكأنه يهملنا لأسباب يعرفها هو، إذ إنّ النوم يعني لدينا التوقف عن كل نشاط وكل عمل.
وبقولنا “يستيقظ” نشير إلى أنه عاد علينا بالخير، إذ أنّ الاستيقاظ هو النهوض من النوم، كما أنّ النظر إلى شخص ما هو عدم التحوّل عنه. وعندما يعاقبنا الله نتصوّر أنه غاضب، لأنّ العقوبة لدينا تصدر عن الغضب […] وخلاصة القول أنّ أعمال الله المختلفة قد عُبِّرَ لنا عنها بصورة مادية“.
(خطاب30: 22).
يحدِّد ق. كيرلس عمود الدين ما هو غضب الله، حيث يتحدث عن الحياة إنها الحياة الحقيقية في مجدٍ مع المسيح، أما “غضب الله” فهو عذابات الأشرار، حيث يقول:
”لكن إنْ كان من الممكن إدراك أنَّ غير المؤمن سوف يُحرم من الحياة في الجسد، لكنه بالتأكيد قد أضاف على الفور “بل يمكث عليه الموت” لكن حيث إنه يسميه “غضب الله”، فمن الجلي إنه يعقد مقارنة بين عقاب الأشرار وتنعمات القديسين، وأيضًا يصف تلك الحالة بكلمة “الحياة” التي هي الحياة الحقيقية في مجدٍ مع المسيح، أما عذابات الأشرار فيسميها “غضب الله”، وكثيرًا ما سُمِيَ ذلك العقاب في الكتاب المقدس إنه “غضب”، وسوف أقتبس من شاهدين، بولس ويوحنا المعمدان: إذ يقول الأول للمهتدين بين الأمم “وكنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضًا” (أف2: 3)، ويقول الآخر للكتبة والفريسيين: “يا أولاد الأفاعي، مَنْ أراكم أنْ تهربوا من الغضب الآتي؟” (مت3: 7)“.
(تفسير إنجيل يوحنا 2: 3: 4).
يشير الأب يوحنا الدمشقيّ إلى كون الله صالحًا، فهو فيَّاض بكل صلاح، دون أن يخضع البتة لبُخل أو انفعال ما. فما أبعد البُخل عن الطبيعة الإلهية الصالحة وحدها والمنزهة عن الانفعال! (المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي 1: 1).
كما يوضح سبب استخدام الكتاب المقدس للصفات الجسمانية عن الله موضحًا ماهية الغضب الإلهيّ كالتالي:
”ولما كنا نرى في الكتاب الإلهيّ الكثير من المقولات ترمز إلى الله بصورة جسمية أكثر منها روحية، فيجب أن نعلم، نحن البشر لابسي هذا الجسد الكثيف، أنه لا يمكننا أنْ نفهم أفعال اللاهوت الإلهية، السامية، اللامادية، ولا أن نعبر عنها إلا إذا استعملنا الصور والأمثال والرموز المختصة بنا. وعليه كل ما يُقال في الله بصورة جسمية إنما يُقال بصورة رمزية، ومعناه أسمى من ذلك؛ لأنّ الله بسيط ولا شكل له […] ويُراد بغضبه وغيظه (الله)، بغضه للشر ونفوره منه، لأننا نحن أيضًا نبغض ما يضادُّ رأينا فنغضب … إنّ كل ما يُقال في الله بطريقة جسمية يتضمن فكرة خفية ترشدنا مما فينا إلى ما يفوقنا“.
(المرجع السابق 11: 11).
كما يستنكر ق. كيرلس فكرة وراثة الغضب الإلهيّ من الآباء للأبناء بسبب خطايا الآباء، حيث إنهم لو كانوا حكماء، ألا يكون لائقًا بهم بالأحرى أنْ يعتنقوا الرأي الذي يقول: أن الله الذي هو مصدر البر ومصدر قوانيننا الأخلاقية لا يمكن أنْ يفعل شيئًا مخجلاً كهذا؛ لأنه حتى الناس يعاقبون العصاة بحسب القوانين، ولكنهم لا يوقعون هذه العقوبات على أولادهم، إلا لو كان هؤلاء الأولاد مشتركين مع آبائهم في الأفعال الشريرة. فذلك الذي وصف لنا قوانين كل عدل، كيف يمكن أنْ يُقال عنه أنه يوقّع عقوبات تعتبر مدانة عندنا بشدة (لأنها غير عادلة).
(شرح إنجيل يوحنا 6: 1).
ويناقش ق. كيرلس عمود الدين موضوع الانفعالات البشرية المنسوبة لله في الكتاب المقدس من الغضب والندم والسخط، ويعلل ذلك بأن السبب الحقيقيّ الذي جعل الكتاب المقدس يحدثنا عن الله بأقوال تخص الأعضاء الجسدية، هو ضعف عقلنا ولغتنا. بدون شك الأمور المتعلقة بالله هي أبعد من أنْ تُوصَف. وبالتأكيد لا يمكننا أنْ ندرك الأمور الهامة عن الله، نحن الذين نحيا في أجساد مادية وسميكة، إلا فقط، إذا قَبِلنا أمثلة ونماذج تتناسب مع نوعية طبيعتنا. بمثل هذه الطريقة فقط، يكون لدينا المقدرة أنْ نرتفع نحو مفاهيم سامية عن الله.
(ضد الذين يتصورون أن لله هيئة بشرية : 1).
كما يتحدث ق. كيرلس عن انذرات الله لأولئك الذين يُغضِبونه ويسببون له حزنًا، حيث يعلن الله لهم الأمور التي سوف تحدث لهم أحيانًا، ولكن بطرق ملائمة، على الأقل برسالة الملائكة إلى العقل البشريّ، وعندما يُعلِم بها أولئك، يذوبون خوفًا من الحزن، ويصير هذا الإعلان بالنسبة لهم بمثابة إنذارٍ كبداية للغضب والعقاب الذي يتهدّدهم. ولأنه يستريح في الأنبياء القديسين، ففي مرات كثيرة يعلن لهم، ليس فقط الأمور المحزنة والأمور التي سوف يضايقون بها شخصًا لتجعله يجلس ويبكي، لكن أيضًا يذكر لهم الأمور المفرحة حقًا لرفاهية البعض، أمَّا الفُجَّار وأتبارع المنجمين فيكشف لهم الأمور الشريرة التي سوف تحدث لهم.
(السجود والعبادة بالروح والحق : 6).
يؤكد ديونيسيوس الأريوباغي (أو المنحول) أن الصور الإلهية التي نتخيلها عن الطبيعة الإلهية سواء أشكالها الإلهية، أو أجزائها، أو أعضائها، أو أماكنها الإلهية وعوالمها، أو غضبها، أو أسفها وحنقها، أو سُّكرها وثملها، أو قسمها، أو لعناتها، أو نومها ويقظتها، وكل الصور التشبيهية والتصورات المقدسة ما هي إلا صور استعارية ورمزية عن الطبيعة الإلهية تمثل تصوراتنا عن الله فيما يخص تلك الصفات البشرية، وهي مجرد تعبيرات مجازية وصور تشبيهية كمحاولة من الإنسان لفهم الله بتجسيده في صور بشرية.
(اللاهوت الباطني: 3).
يتحدث ق. أوغسطينوس عن ماهية الغضب الإلهي من خلال عدة مفاهيم، قد تبدو بعض الأحيان متناقضة، لأنه أحيانًا ينسب الغضب لله، وفي أحيان أخرى للبشر، حيث يرى أنه صوت العدالة الإلهية وهو الحركة في الروح التي تعرف الشريعة الإلهية، وغضب الأرواح البارة الذي يقضي على الذنوب الكثيرة، وهي ظلمات النفس المنتهكة للشريعة الإلهية كالتالي:
”فيكون غضب الله مماثلاً لسخطه. لكن غضب الرب الإله، ينبغي ألا يُفهم بأنه صادر عن اضطراب الروح، إنه صوت العدالة الهادر في كل خليقة خاضعة لتكون في خدمته. لأن علينا أن نتذكر ما كتب سليمان ونؤمن به: «لكنك أيها السلطان القدير تحكم بالرفق وتدبرنا بإشفاق» (حك12: 18).
غضب الله، إذًا، هو تلك الحركة التي تختلج في روح تعرف شريعة الله، عندما ترى الخاطئ ينتهك تلك الشريعة؛ إنه غضب الأرواح البارة الذي يقضي مسبقًا على ذنوب كثيرة. وغضب الله هذا يمكن أن يقال عنه أيضًا إنه الظلمات التي تطبق على نفس كل مَن ينتهك شريعة الله“. (عظات في المزامير 2: 4).
ويتحدث أوغسطينوس في موضع آخر عن مفهوم جديد للغضب الإلهي كالتالي:
”فإن النبي يسمي «غضب الله» ذلك القصاص الذي يرشق الله به الشيطان، بانتزاعه منه مَن يمتلكهم“.
(المرجع السابق 7: 5).
ثم يعطي ق. أوغسطينوس مفهوم آخر عن ماهية الغضب الإلهي موضحًا الفرق بين السخط والغضب الإلهي كالتالي:
”تلك هي الدينونة التي ترهبها الكنيسة، التي تصرخ في هذا المزمور: «يارب لا توبخني بغضبك» (مز6: 2). والقديس بولس يتكلم أيضًا عن الغضب يوم الدينونة، فيقول: «تذخر لك غضبًا ليوم الغضب، ولقضاء الله العادل» (رو2: 5). في هذا اليوم لا يرغب في أن يقف متهمًا مَن يطلب الشفاء في هذه الحياة.
«ولا تؤدبني بسخطك». كلمة ”تؤدبني“ أخف وطأةً من كلمة ”توبخني“، لأنها تؤدي إلى الإصلاح، فبدل أن نُتهم ونُدان، علينا أن نخشى الإدانة. غير أن السخط يبدو أشد من الغضب، ويمكن أن نعجب من أن التأديب، وهو الأخف، يترافق مع السخط، وهو الأشد. أما أنا فأرى أن العبارتين تحملان المعنى نفسه، لأن اللفظة اليونانية Θυμός غضب في المقطع الأول، لها معنى لفظة όργήسخط في المقطع الثاني.
ولما رأت الترجمة اللاتينية أن تستعمل العبارتين أيضًا، بحثت عن كلمة مرادفة لـ ”غضب“ فوضعت سخط. من هنا التنوع في الترجمات. في هذه يأتي الغضب قبل السخط، وفي تلك بعده. ومهما يكن من أمر، فإن هاتين الكلمتين تعبران عن حركة في النفس تبغي الانتقام، حركة لا نستطيع أن نعزوها إلى الله بالمعنى الذي نعزوها فيه لأنفسنا، من حيث أنه قيل: «لكنك أيها السلطان القدير تحكم بالرفق» (حك12: 18).
وما كان بالرفق، يتعارض مع ما هو بالشدة. والله في حكمه لا ترقى إليه شدة، لكننا دعونا غضبه ذاك الشعور الذي سببته شرائعه عند خدامه. والحال، فإن النفس التي تتوسل في هذا المزمور تخشى أن تكون متهمة بسبب هذا الغضب، حتى أنها لا تريد التأديب الذي قد يصلحها أو يعلّمها“.
(المرجع السابق 6: 3).
كما يرى ق. أوغسطينوس أن غضب الله لا يعني أي شيء آخر سوى العقاب العادل، وغضب الله ليس مثل غضب الإنسان اضطراب في الذهن، ولكن غضبه هو ما تحدث عنه الكتاب المقدس في موضع آخر قائلاً: “لكنك أيها السلطان القدير تحكم بالرفق” (حك12: 18). وبالتالي إن كان عقاب الله العادل قد قَبِلَ هذا الاسم، فماذا يكون الفهم الصحيح للمصالحة مع الله إلا نهاية هذا الغضب.
(الثالوث 13: 16: 21).
ويشرح أيضًا ق. أوغسطينوس ماهية الغضب الإلهي في موضع آخر قائلاً:
”ولا يعني غضب الله اضطرابًا في فكره، بل إنه حكم يُعاقِب على الخطيئة. إن فكرته وتفكيره يبقيان السبب الثابت اللامتغير للتغييرات التي حدّدها لأنّ الله لا يندم كالإنسان على أعماله؛ وفي كل شيء قصده ثابت وعلمه المسبق أكيد؛ ولكن إن لم يستعمل الكتاب تلك التعابير فكيف يمكنه وهو يحرّض على التجاوب مع مصلحة الناس أجمعين أنْ يختلط بهم دون تكلف، فيبدّد الكبرياء، ويوقظ الإنسان من خموله وكسله، ويحفّزه على السعي والجّد ويغذي العلم؟“
(مدينة الله 15: 25).
ونلاحظ أن آباء الكنيسة يعتبرون الغضب المنسوب لله هو إسقاط على حالة الإنسان المبتعد والمنفصل عن شركة الله، فهو الغاضب والناقم وغير المكترث بالله، وليس الله الذي لا يريد هلاك الخاطئ، مثلما يرجع ويحيا، ويسعى في طلب الضال والهالك دائمًا ليخلصه ويعود به إلى الشركة معه.