تصحيح مفاهيم خاطئة في البدلية العقابية – ملمح الدين ج3 – د. أنطون جرجس
نستكمل معًا أحبائي سلسلة من المقالات كنت قد بدأتها عن ملمح الدَّين ومفهومه عند آباء الشرق الأرثوذكسي، مبينًا الاختلاف بين مفاهيم آباء الشرق والغرب عند استخدام نفس المصطلحات كمصطلح الدَّين في سياق شرح تدبير الخلاص.
نبدأ من عند ق.باسيليوس الكبير الذي يفهم الدَّين على أنه دَّين الموت، وإنه لو لم يتجسد الرب، ويسدد دَّين ابموت عنا، فلن يتم إبادة حكم الموت. وبالتالي معنى “إيفاء الدَّين” عند ق.باسيليوس الكبير مثله مثل ق.أثناسيوس الرسولي هو إبادة حكم الموت، وهكذا يختلف مفهوم الدَّين عند ق.باسيليوس وق.أثناسيوس عنه عند لاهوتي العصر الوسيط كأنسلم والأكويني وغيرهم، ولاهوتي عصر الإصلاح مثل لوثر وميلانكتون وكالفن وآخرين.
حيث يرى اللاهوت الغربي إنه الآب قَبِلَ ابنه كمقابل لديون البشر أي خطاياهم، بينما يقول ق.باسيليوس التالي:
“إن كان مجيء الرب في الجسد لم يحدث، فإن الفادي لن يسدد دَّين الموت عنا، ولن يبدد حكم الموت نفسه. لأنه إن كان الخاضع للموت شيئًا، والذي أخذه الرب شيئًا آخر، لما أوقف الموت أيًا منهما عاملاً أعماله الذاتية، ولما صارت آلام جسد الله ربحًا لنا، ولما أباد الخطية في الجسد، ونحن الذين مُتنا في آدم، ما صرنا أحياءً في المسيح، وما كان قد سقط لا يمكنه أن ينصلح، وما تبعثر ما تمت استعادته، وما اغترب عن الله بخداع الحية، قد جعله الله خاصته من جديد”.
(رسالة رقم ٢٦١ إلى شعب سوزوبوليس، PG 32, 969)
ننتقل إلى ق.كيرلس عمود الدين، ولنا معه وقفة، حيث يرى أن الله خلصنا وسدد عنا ديوننا مجانًا بلا مقابل بسبب إحسانه ومحبته، وذلك في سياق شرحه لشريعة تحرير العبيد وإيفاء الديون في السنة السابعة، فيما يعرف بشريعة سنة اليوبيل. ونرى بوضوح المنحى الشفائي الخلاصي عند ق.كيرلس، حيث يرى ق.كيرلس إنه غاية تدبير المخلص هو شركة الروح القدس، وشركة الطبيعة الإلهية أي التأله بالنعمة.
وبالتالي نجد مفهوم ق. كيرلس الكبير عن الدَّين في سياق شرح تدبير خلاص الرب بعيد تمامًا عن مفهومه عند اللاهوت الغربي بشقيه المدرسي والبروتستانتي، حيث يقول التالي:
“وقد خلصنا مجانًا بنعمة الله من دون أن نعطي أي مقابل لحياتنا واشترينا مجد الحرية، لكننا نلنا البر بسبب إحسان السيد ومحبته، وهذا ما عبَّر عنه في سفر التثنية قائلاً:
‘فِي آخِرِ سَبْعِ سِنِينَ تَعْمَلُ إِبْرَاءً. وَهذَا هُوَ حُكْمُ الإِبْرَاءِ: يُبْرِئُ كُلُّ صَاحِبِ دَيْنٍ يَدَهُ مِمَّا أَقْرَضَ صَاحِبَهُ. لاَ يُطَالِبُ صَاحِبَهُ وَلاَ أَخَاهُ، لأَنَّهُ قَدْ نُودِيَ بِإِبْرَاءٍ لِلرَّبِّ. الأَجْنَبِيَّ تُطَالِبُ، وَأَمَّا مَا كَانَ لَكَ عِنْدَ أَخِيكَ فَتُبْرِئُهُ يَدُكَ مِنْهُ. إِلاَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيكَ فَقِيرٌ. لأَنَّ الرَّبَّ إِنَّمَا يُبَارِكُكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا لِتَمْتَلِكَهَا’ (تث١٥: ١-٤).
هل رأيت كيف تشرق الحقيقة من داخل الظلال؟ وبوضوح تام سوف يظهر تدبير المخلص لأجلنا؛ بمعنى أنه حرر الذين اقتربوا إليه من ديونهم بواسطة الإيمان، وصرنا أخوةً بمشاركة الروح القدس. ولكي يصيروا شركاء الطبيعة الإلهية (أنظر ٢بط١: ٤)، حررهم دون أن يدفعوا شيئًا. حقًا، لم يفرض عليهم عقابًا بسبب عصيانهم، مع أنهم مديونون بإعطاء جواب عن أعمالهم”.
(السجود والعبادة بالروح والحق، المقالة السابعة)
كما يؤكد ق.كيرلس في سياق شرحه لتدبير الخلاص على وجودنا الكياني في المسيح أثناء صلبه وهكذا معموديتنا في اسمه بسبب احتوائنا في المسيح، حيث يقول التالي:
“إذًا، بما أن المسيح لم يُوزع، بل الكل ملكه، والجميع خاصون به، وبما أنه صُلب لأجلنا واعتمدنا في اسمه، فمن الواضح أننا أحتُوينا فيه، ولا ننتمي لإنسان مثلنا، بل إلى الله. بالتالي المسيح لنا هو الله”.
(الرسالة التوضيحية الأولى إلى الملكات، ص١٠٨)
وهكذا أحبائي كما قد رأينا التفاوت الواضح بين مفهوم الدَّين عند آباء اللاهوت الشرقي عنه عند آباء اللاهوت الغربي، حيث يرى آباء الأرثوذكسية أن الدَّين هو دَّين الموت، وإيفاء الدَّين هو إبادة الموت، ورد الحياة للإنسان الذي أضاعها بالخطية، فجلب على نفسه حكم الموت. ولما كان الإنسان المخلوق من العدم ليس له الحياة في ذاته، بحيث يستطيع أن يغلب الموت، لذا أقتضت حكمة الله أن يجوز مَن كان هو الحياة بطبيعته الموت بجسده، ويقوم من الموت، فيرد الحياة للمائتين.