تصحيح مفاهيم خاطئة في البدلية العقابية – ملمح الدين ج1 – د. أنطون جرجس
كنت قد بدأت من فترة الحديث عن مفاهيم وملامح البدلية العقابية من منظور اللاهوت الغربي، وقدمت أيضًا تصحيحًا لتلك المفاهيم والملامح الخاطئة من منظور اللاهوت الشرقي الأرثوذكسي، وتحدثت عن ملامح العقوبة والغضب والفدية والعدواة ومفاهيمها المختلفة تمام الاختلاف عند آباء الأرثوذكسية خاصة الآباء اليونانيين.
وإنه حتى لو استخدموا نفس المصطلحات، لأنها مصطلحات كتابية بالأساس، إلا إنهم يفهمونها بصورة مختلفة وبعيدة تمامًا عن مفاهيم نفس المصطلحات في اللاهوت الغربي. وأستكمل الآن معكم أحبائي ملمحًا آخر من ملامح تدبير الخلاص وهو ملمح الدَّين.
تعبير “الدَّين” هو تعبير تجاري بالأساس وله بعد حضاري وتاريخي معروف سواء في البيئة الحضارية اليونانية والرومانية، حيث عندما يقترض أحد من شخص آخر، يصبح هذا القرض دينًا عليه إيفائه حسب المواعيد المحددة لسداده. ولكن استخدمه المسيح والرسل في العهد الجديد كتعبير عن الخطايا والزلات، ولكن سياق استخدامه مختلف تمامًا عن استخدامه التجاري الحضاري، فقد كان على سبيل المجاز والاستعارة لتقريب معاني روحية ولاهوتية غير منطورة وغير محسوسة.
كما أننا نجد في سياسة الديون إنه ينبغي تسديد الدين في موعده المحدد، ولا يسقط استحقاقه أبدًا في سياق استخدامه التجاري في البيئتين الحضاريتين اليونانية والرومانية، بل ينبغي أن يتم سداد الدين سواء من خلال الشخص المديون نفسه، أو آخر يدفع عنه ديونه. هذا هو المفهوم التجاري البحت.
ولكننا نجد هذا المفهوم مختلف في مثل العبد الشرير (مت١٨: ٢٣- ٣٤)، حيث نجد سيد هذا العبد يسامحه بلا مقابل عن سداد ديونه ويعفيه منها، وهنا يشير المثل بصورة رمزية إلى تعاملات الله الصالح المحب معنا، حيث إنه لا يطلب مقابل لكي يغفر لنا خطايانا، بل يسامحنا من دون أي مقابل، ويقدم غفران غير مشروط بأي شيء لنا.
ولكن هذا لم يفهمه لاهوتيو الغرب الذين كانوا في البيئتين الحضاريتين اليونانية والرومانية ومن بعدها في العصور الوسطى وعصر الإصلاح، بل رأوا إنه ينبغي سداد الدين عن طريق ابن الله بأن يقدم ذاته في مقابل خطايانا، لكي يصفح ويغفر الله لنا مقابل ابنه الوحيد، أي أن الله الذي يغفر بلا مقابل، صار في تدبير الخلاص بحسب اللاهوت الغربي فجاءةً يطالب بالمقابل، ويطالب بتسديد دين الخطية بمقابلٍ، وهذا المقابل كان ابنه الوحيد الذي تجسد لأجل خلاصنا.
وكأنه حدث تغير في طبيعة الله الصالحة التي تغفر بلا شروط أو مقابل، كما أوضح مثل العبد الشرير، الذي صفح عنه سيده بلا مقابل عن دينه الكبير. بل ويطالب الله بسداد الدين أي دين الخطية والثمن والمقابل هو ابنه الوحيد، يا له من تسطيح وتهميش للمفاهيم الإيمانية الخلاصية بشكل مؤسف.
نبحث الآن معًا أحبائي مفهوم الدين في اللاهوت الشرقي الأرثوذكسي، وكيف فهم الآباء اليونانيون مصطلح “الدين” الوارد في الكتاب المقدس.
نبدأ بالعلامة أوريجينوس أمير شراح الكتاب المقدس، حيث يرى أن الخطايا هي الديون، ولكنه لم يخطر بباله أبدًا أن يتم سداد هذه الديون بمقابل هو الابن الوحيد، بل يرى أن اجرة الخطية هي موت، ولكنه لم يجد أجرة البر هي حياة أبدية، لأن الله يمنح هذه الحياة الأبدية على سبيل الهبة والنعمة فقط بلا مقابل، بينما لم يفهم لاهوتيو الغرب ذلك، حيث يقول التالي:
“لهذا السبب أيضًا، يقول الرسول في نص آخر: ‘اجرة الخطية هي موت’ (رو٦: ٢٣). ولم يواصل القول على نفس النمط، لكن أجرة البر هي حياة أبدية. بل قال: ‘أما هبة الله فهي حياة أبدية’ (رو٦: ٢٣) لكي يعلمنا أن الأجرة، والتي من المؤكد أنها تُقارن بدينٍ أو مجازاة هي عقوبة وموت، لكن ليعلمنا أيضًا أن الحياة الأبدية تؤسس على النعمة فقط.
ووفقًا لهذا المعنى، أعتقد أنه يجدر بنا أن نفسر النص على أنه يشير إلى الأعمال الشريرة، وهو ما كُتب في الإنجيل: ‘بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم’ (مت٧: ٢؛ لو ٦: ٣٨). لأن الله لم يضع على نعمته أي مكيال، لأنه مكتوب: ‘لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح’ (يو٣: ٣٤)”. (تفسير رسالة رومية ٣: ١١: ١٥)
وهذا ما نجده أيضًا عند ق. أثناسيوس حين يستخدم مصطلح “الدَّين” في سياق سوتيرلوجي (خلاصي)، حيث يفهم” الدَّين” على أنه دَين الموت الذي كان الجميع مدينًا به لله مانح وواهب الحياة للجميع، فالإنسان بخطيته جلب الموت على نفسه، وبدد هبة الحياة التي أعطاها الله له، فصار مدينًا لله بحياته التي بددها بموته، فكان ينبغي أن يوفي أحد هذا الدين بأن يعيد الحياة المفقودة من الإنسان مرة أخرى بموته ليسدد دين الموت، ويهب الحياة للإنسان الذي فقد حياته بإرادته بالخطية والموت.
وهنا لم يطلب الله مقابل الدين، بل ساعد الله نفسه الإنسان بتجسده ليعيد ما فقده الإنسان من حياة بموته ليهب له الحياة، حيث يقول التالي:
“وهكذا تم في جسد المسيح فعلان متناقضان في نفس الوقت: الأول، هو أن موت الجميع قد تم في جسد الرب على الصليب، والثاني، هو أن الموت والفساد قد أُبيدا من الجسد بفضل اتحاد الكلمة به، فلقد كان الموت حتميًا، وكان لا بد أن يتم الموت نيابة عن الجميع لكي يوفي الدين المستحق على الجميع”.
(تجسد الكلمة ٢٠: ٥)
وهكذا يفهم ق. غريغوريوس النيسي مصطلح “الدَّين” بأنه الخطية، ولكننا كما نصلي في الصلاة الربانية: ‘أترك لنا ما علينا (أي ديوننا) كما نترك نحن أيضًا ما لنا عند الآخرين’، حيث يرى كما أننا نغفر أو نسامح أو نترك للذين يسيئون إلينا أو لنا عليهم ذنوب أو ديون من ناحيتنا، فبالأولى يسامحنا الله الصالح ومصدر كل صلاح بلا مقابل، حيث أننا بذلك العمل نتشبه بالله ونصير آلهة بالنعمة، لأننا نترك ما لنا عند الآخرين بلا مقابل مثله، حيث يقول التالي:
“وبالتالي فمَّن يمارس القساوة على مَن له عليه بسبب دينه المستحق، يحرم نفسه بتصرفه هذا من الصدقة الإلهية، إذ أنه ما هي العلاقة بين الصدقة والقساوة؟ وبين المحبة والضراوة؟ والأمر ينطبق أيضًا من جهة أخرى على كل الأشياء التي يمكن إدراكها من خلال الاختلاف بينها وبين الشر، حيث أنه هذا الاختلاف لا يمكن تجاوزه.
وكل مَن امتلأ بواحدة من هذه الصفات يكون بالتأكيد منعزلاً عن الصفة المعاكسة. هذا يعني أن مَن وصل إلى الموت، لا يكون موجودًا في الحياة. ومَن يشارك في الحياة، يكون مفصولاً عن الموت. هكذا فإن مَن يقترب من صدقة الله يجب أن يكون مجردًا من كل قسوة. ومَن يكون بعيدًا عن كل ما يعنيه الشر يصبح بطريقة ما إلهًا بسلوكه هذا، لأنه حقق لنفسه ذاك الذي يراه المنطق محيطًا بالطبيعة الإلهية”.
(شرح الصلاة الربانية ٥: ١)
ثم يعلق ق. يوحنا ذهبي الفم على مثل العبد الشرير في (مت ١٨: ٢١)، ويشرح كيف عفا الله مُمثَّلاً بالسيد في المثل عن كل دين العبد أي البشر بلا مقابل، وإن هذه كانت مشيئته منذ البدء، ولكنه أراد من العبد أي البشر أن يطلبوا ويتوسلوا لهذه المشيئة، كي ما يكون هذا سبب تكليل لهم، حيث يقول التالي:
“أرأيتم الإحسان الفائق مرة أخرى؟ لقد سأل العبد مجرد تمهل وإبطاء، لكن سيده أعطى أكثر مما سأل: الصفح وإعفاء كل الدين. فقد كانت مشيئته أن يمنحه هذا من البداية، لكنه لم يرغب أن تكون العطية عطيته فقط، بل أن تأتي أيضًا من توسل هذا الإنسان حتى لا يمضي غير مكلل، لأن كل شيء كان منه”.
(شرح إنجيل متى ١٩: ١١)
وهذا ما يشرحه ذهبي الفم في موضع آخر، ولكن لم يفهمه لاهوتيو الغرب المنظرين لنظرية “الدَّين” بمفهومها الخاطئ في سياق شرح تدبير الخلاص، حيث يقول:
“لهذا دعوني أضيف، لقد اورد السيد محبته للإنسان لكي بالمقارنة، كما يقول، تتعلم أنك ولو كنت تغفر سبعين مرة سبع مرات، ولو أنك تسامح قريبك دائمًا بكل خطاياه تمامًا، كمثل نقطة مياه في بحر لا نهاية له، هكذا كثيرًا، أو بالحري أكثر بكثير تقصر محبتك للإنسان بالمقارنة بصلاح الله غير المتناهي الذي تحتاج إليه، لأنك ستُحاكم وستقدم حسابًا”.
(شرح إنجيل متى ٦١: ١)
ويؤكد ذهبي الفم على الغفران بلا مقابل والصفح غير المشروط من قِبل الله، والذي ينبغي أن يكون لدى البشر أيضًا، حيث يقول في سياق شرحه لآية (مت٦: ١٤، ١٥) التالي:
“فكم فادح هو العقاب الذي يجب أن يستحقه الذين، بعد كل هذا، يتضرعون إلى إله طلبًا للثأر من أعدائهم؟ فبما أن المحبة هي أصل كل صلاح، فإن السيد يزيل كل ما يفسدها من جهة، ويجمعنا معًا، ويلصقنا الواحد بالآخر. فلا يوجد أحد -سواء كان أبًا أو أمًا أو صديقًا- قد أحبنا مثل الله الذي خلقنا”.
(شرح إنجيل متى ١٩: ١١)
بهذا أحبائي نجد اختلاف مفهوم الدَّين في سياق شرح تدبير الخلاص بين اللاهوت الشرقي واللاهوت الغربي، حيث يرى اللاهوت الشرقي أن الله قدم غفرانًا للخطايا بلا مقابل للبشر، بينما يرى اللاهوت الغربي أن الله أخذ دم ابنه الوحيد كمقابل وتعويض وبديل وثمن لدين الخطية التي اقترفها جميع البشر.