الخطية الجدية عند القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد – د. أنطون جرجس
الخطية الجدية عند القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد - د. أنطون جرجس
الخطية الجدية عند القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد – د. أنطون جرجس
الخطية الجدية عند القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد
يُعد ق. يوستينوس أحد آباء الكنيسة المدافعين في القرن الثاني عن إيمان الكنيسة في مواجهة الفلاسفة الوثنيين، والغنوصيين الهراطقة، ولديه دفاعين عن المسيحية أرسلهما إلى للإمبراطور الروماني دفاعًا عن الإيمان المسيحي السليم، الذي كان يتم تشويهه عمدًا من قِبل الوثنيين.
سوف نفحص نصوص كتابات ق. يوستينوس الشهيد للوقوف على فكره بخصوص الخطية الجدية أي خطية آدم، وهل كان يؤمن بوراثة الخطية الأصلية بالتناسل والتزاوج كما هي في المفهوم اﻷوغسطيني اللاحق، أم مثله مثل جميع الآباء اليونانيين يؤمن بوراثة نتائج الخطية فقط أي الفساد الموت.
يتحدث ق. يوستينوس عن أن الخطية هي فعل إرادي شخصي لا يُورث من الأب إلى الابن، ولا يهلك الأب عوضًا عن خطية الابن، والعكس صحيح، بل كل واحد يهلك أو يخلص بأعماله الصالحة أو الشريرة، كما يرفض سبق التعيين والاختيار من الله للبشر ليكونوا أبرارًا أو خطأةً، بل يؤكد على أن كل شخص بإرادته يصير بارًا أو خاطئًا كالتالي:
“ولما قال حزقيال إنه لو طلب نوح، أو دانيال، أو أيوب، أن يخلّصوا أبناء أو بنات لا يُعطى لهم، ولا يهلك أب عوضًا عن ابن، ولا الابن عن الأب، بل كل واحد بخطيته* يهلك أو بأعماله الصالحة يخلُص. ويقول إشعياء أيضًا: ‘يرون جثث العصاة، فإن دودهم لا يموت، ونارهم لا تُطفأ، ويكونون منظرًا لكل ذي جسد’ (إش٦٦: ٢٤)، ولما قال ربنا بحسب مشيئة الآب ورب الكل الذي أرسله: ‘إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب يتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات، أما بنو الملكوت فيُطرحون إلى الظلمة الخارجية’ (مت٨: ١١-١٢)، وقد أوضحت لكم قبلاً أن الذين عرفهم الله بسابق علمه كخطأة سواء كانوا أناسًا أو ملائكةً فهم يصيرون هكذا ليس بسبب الله*، بل كُلّ بسبب خطيته*”.
القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد، ترجمة: أ. آمال فؤاد، (القاهرة: إصدار باناريون للتراث الآبائي، ٢٠١٢)، الحوار مع تريفون اليهودي، الفصل ١٤٠، ص ٣١٩.
ويؤكد ق. يوستينوس أيضًا على حرية إرادة الإنسان منذ خلقه الله في مقابل تعليم القدرية والجبرية عند الفلاسفة الرواقيين، وأن الخطية فعل إرادي محض يفعله الإنسان بحرية إرادته دون تدخل من الله، على الرغم من أن الله أراده أن يسير بحسب مشيئته الإلهية الصالحة، إلا أنه ترك له حرية الاختيار كالتالي:
“أود أن أقول إن الله على الرغم من أنه أراد للناس والملائكة أن يسيروا بحسب إرادته، إلا أنه سُر أن يخلقهم بإرادة حرة من ناحية ممارسة الفضيلة واستخدام العقل لكيما يعرفوا خالقهم – الذي به جاءوا من العدم إلى الوجود – والذي أعطاهم ناموسًا يُحاكمون به في حالة عمل أي شيء مناف للعقل. ولذا ما لم نتب سريعًا فإننا – سواء أناس أو ملائكة – سنُدان بسبب خطايانا.
وإذا كانت كلمة الله تنبئ بأن بعض الناس والملائكة ستقع عليهم عقوبةً، فذلك لأن الله يعلم مسبقًا بخطيتهم التي بلا توبة، وليس لأن الله خلقهم هكذا. ولذا فإن كل مَن يتوب بإرادته ينال رحمة من الله، ويُدعى مباركًا في الكتاب المقدس الذي يقول: ‘طوبى لمَّن لا يحسب الرب له خطية'”.
المرجع السابق، الفصل ١٤١، ص ٣١٩.
ويؤكد ق. يوستينوس أيضًا على أن الخطية فعل إرادي يفعله الإنسان بمحض إرادته وليست خطية موروثة كالتالي:
“وتعلمنا أيضًا أن الله في صلاحه خلق كل شيء في البدء من مادة غير مهيأة لأجل الإنسان. وإذا أثبت المرء بأعماله أنه جدير بخطة الله فسيكون مستحقًا لأن يسكن معه ويملك معه ويتحرر من كل فساد وألم. وكما أنه في البدء خلقنا إذ لم نكن، هكذا نحن نؤمن أيضًا أن مَن يختار إرضاء الله فبسبب هذا الاختيار سيكون مستحقًا للحياة الأبدية في حضرة الله. إنه لم يكن في مقدورنا أن نخلق ذواتنا، ولكننا نؤمن أننا نستطيع أن نعمل الأعمال المرضية أمامه باختيارنا بحسب ما وهبنا من قدرات عقلية. هذه هي قناعتنا وهذا هو ما يقودنا إلى الإيمان به”.
المرجع السابق، الدفاع الأول، الفصل العاشر، ص ٣٦، ٣٧.
ويؤكد ق. يوستينوس في نفس السياق على حرية إرادة الإنسان في ارتكاب الفضيلة أو الرذيلة داحضًا التعليم بالإرادة المقيدة بالشر كالتالي:
“وعندما خلق الله الإنسان في البدء وهبه قوة الفهم، واختيار الحق، وعمل الصواب، ولذلك فإن كل الناس بلا عذر أمام الله، لأنهم وُلدوا قادرين على التفكير والتأمل*. وإذا كان أحد لا يؤمن أن الله يهتم بهذه الأمور، فكأنه يقول إما أن الله غير موجود، أو إنه موجود ولكنه يسعد بالشر*، أو إنه مثل الحجر [لا يتأثر] وعلى ذلك تكون أيضًا كل من الفضيلة والرذيلة أشياء غير حقيقية، بل إن الأمور تُعتبر فقط صالحة أو شريرة حسب وجهة نظر الناس*، وهذا هو أعظم الشرور وعدم التقوى”.
المرجع السابق، الفصل ٢٨، ص ٥٧.
ثم ينتقل ق. يوستينوس للحديث عن أسباب المعمودية وطقسها الذي يعود إلى الرسل. حيث يؤكد ق. يوستينوس على أن المعمودية باسم الثالوث القدوس هي تقليد رسولي من أجل الولادة الثانية من الماء والروح، ومن أجل استنارة العقول، ومن أجل غفران الخطايا السابقة للبالغين الذين أخطأوا قبل المعمودية، ولم يأت على ذكر أن المعمودية كانت لمغفرة الخطية الأصلية الموروثة من آدم بالتناسل، لأن هذا المفهوم بالنسبة للقديس يوستينوس هو مفهوم غنوصي حاربه ق. يوستينوس في جميع كتاباته بضراوة. حيث يقول التالي:
“ثم نقودهم إلى مكان به مياه فيُولدون من جديد* بنفس الطريقة التي قد وُلدنا بها ثانيةً* باسم الله أبي وسيد كل أحد ومخلصنا يسوع المسيح والروح القدس، ثم ينالون الاغتسال بالماء لأن المسيح قد قال: إن لم تُولدوا مرة ثانيةً فلن تدخلوا ملكوت السموات (يو٣: ٣) ، ومن الواضح للحميع أنه لا يمكن لأحد أن يدخل بطن أمه ويُولد ثانيةً […] وهذا هو السبب الذي علمنا إياه الرسل* لممارسة المعمودية بهذه الطريقة. فنحن لم ندرك ميلادنا الأول على الإطلاق، بل وُلدنا اضطرارًا من أصل سائل من خلال اتحاد أبوينا، ثم تمرسنا في عادات خاطئة وشريرة*.
ولكي لا نظل أبناءً للاضطرار والجهل، بل نصير ابناء الاختيار الحر والمعرفة* ولكي ننال مغفرة خطايانا السابقة*، ففي الماء يتم الدعاء باسم الله سيد وأبي الكل على الشخص الذي يريد أن يُولد من جديد*، وقد تاب عن خطاياه*، وهذه التسمية وحدها هي التي ينطق بها مَن يقود المعمد إلى جرن المعمودية، لأنه ليس لأحد أن يطلق أسماء على الله غير الموصوف، وإذا تجرأ أحد على ذلك فهو يُعتبر مختل العقل.
وهذا الاغتسال يُسمى استنارة* لأن الذين ينالون هذا السر تستنير عقولهم، وأيضًا الذي ينال الاستنارة* يعتمد باسم يسوع المسيح الذي صُلب في عهد بيلاطس البنطي، وباسم الروح القدس الذي سبق وبشر من خلال الأنبياء عن كل الأمور الخاصة بيسوع”.
المرجع السابق، الفصل ٦١، ص ٨٨، ٨٩.
ويدحض ق. يوستينوس مرة أخرى آراء الفلاسفة الرواقيين ومن ورائهم الغنوصيين بالقدرية والجبرية مؤكدًا على حرية إرادة الإنسان، وإنهم بقولهم ذلك إما يؤكدون على التحول والتغير الدائم لله أو وجود الله في كل خطية، فالتعليم بالشر الموروث أو الخطية الموروث، والإرادة المقيدة بالشر، وسبق تعيين الخطاة يرتد بالأساس على الله وهكذا يؤكد وجوده جزئيًا أو كليًا في كل خطية، حيث يقول التالي:
“فبقولهم إن أفعال البشر تخضع للقدر* هم يعترفون بأنه: إما أن الله ليس سوى تلك الأشياء التي تتحول وتتغير على الدوام*، وتذوب في العناصر ذاتها – ويبدو أنهم لا يدركون إلا الأمور الفانية – ويؤكدون أن الله ذاته جزئيًا أو كليًا يوجد في كل خطية*، وإنه لا يوجد ما يُسمى بالرذيلة والفضيلة على الإطلاق، وهذا ضد كل رأي، وعقل، ومنطق سليم”.
المرجع السابق، الدفاع الثاني، الفصل السابع، ص ١١٣.
ويؤكد ق. يوستينوس على أن البشر مثل آدم وحواء جلبوا على أنفسهم الموت بسبب تعديهم وصايا الله، ويؤكد على أن غاية الله من خلق الإنسان هو أن يمنحه التأله بالنعمة والتحرر من الألم والموت، حيث يقول التالي:
“ولكنني لا أنوي الخوض في هذه النقطة، بل أن أثبت لكم أن الروح القدس يوبخ الناس الذين خُلقوا على صورة الله متحررين من الألم والموت بشرط إطاعة وصاياه، وحُسبوا مستحقين أن يُدعوا أبناء الله ولكنهم مثل آدم وحواء جلبوا الموت على أنفسهم*، فلكم أن تفسروا المزمور السابق كما شئتم. لقد بيّن لنا المزمور أنهم حُسبوا مستحقين أن يصيروا آلهةً*، ويكون لهم السلطان أن يصيروا أبناء العلي، إلا أنهم سقطوا تحت الحكم والدينونة كما حدث مع آدم وحواء”.
المرجع السابق، الحوار مع تريفون اليهودي، الفصل ١٢٤، ص ٢٩٩.
ويؤكد ق. يوستينوس على أن المسيح لم يكن محتاجًا للتنازل والميلاد والصلب، بل فعل ذلك فقط من أجل الإنسان الساقط تحت سلطان الموت وغواية الحية، مؤكدًا على أن الخطية لا تُورث، بل هي فعل إرادي شخصي خاص بكل واحد من البشر حسب حرية إرادته كالتالي:
“كذلك فإن المسيح لم يتنازل ويُولد ويُصلب، لأنه كان محتاجًا للميلاد أو الصلب، بل فعل هذا فقط لأجل الإنسان الذي منذ وقت آدم هو ساقط تحت سلطان الموت وغواية الحية، إذ كان لكل إنسان تعدياته وشروره الخاصة*. وإذ أراد الله أن يفعل الملائكة والناس ما أعطاهم القدرة على فعله، وهبهم حرية الإرادة والقدرة على الاختيار* حتى إنهم إذا اختاروا أن يفعلوا ما يرضيه يحفظهم للحياة الأبدية بلا دينونة، ولكن إذا فضّلوا أن يفعلوا الشر فهو يعاقب كل واحد كما يشاء”.
المرجع السابق، الفصل ٨٨، ص ٢٥٤.
ويحذر ق. يوستينوس تحذيرًا شديدًا من مزاعم أن الجسد هو أصل الخطية، وإنه الذي يدفع النفس لارتكاب الخطية، بل العكس صحيح يأتي التحفيز على فعل الخطية من الإرادة في النفس، وهكذا يخطئ الاثنان معًا، وهنا يدحض مزاعم الغنوصية بانتقال الخطية بالتناسل والتزواج عن طريق الجسد، وهكذا يدحض تعليم الخطية الأصلية الموروثة بالتناسل والتزاوج كالتالي:
“إنهم يدّعون في مزاعمهم أن الجسد هو أصل الخطية*، وهو الذي يدفع الروح إلى السقوط معه، وبالتالي يلقون عليه وحده مسئولية سقوط كل من الروح والجسد معًا. ولكن هل يمكن للجسد أن يخطئ وحده بدون أن تحفزه الروح أولاً على الخطية*؟ […] كما أنه إذا كان الجسد وحده هو مصدر الخطية. إذًا، فقد جاء المخلص من أجله فقط*، حيث يقول الكتاب: ‘لم آت لأدعو أبرارًا، بل خطأةً إلى التوبة’ (مر٢: ١٧)، وقد أثبتنا قبلاً أن الجسد البشري ثمين في عيني الله* وهو أثمن مخلوقاته، لذا فقد جاء يسوع المسيح ليخلصه من الخطية”.
المرجع السابق، عن القيامة، الفصل ٨، ص ٤١٨.
نستنتج من هنا أن ق. يوستينوس الشهيد لم يعلم بوراثة الخطية الأصلية بالتناسل والتزاوج مثله مثل جميع الآباء اليونانيين قبله وبعده، ولم يأت أي ذكر لتعليم الخطية الموروثة، أو الإرادة المقيدة بالشر، أو سبق التعيين للأبرار والخطاة في كتاباته كما هي في المفهوم اﻷوغسطيني.