الردود على الشبهات

الدفاع عن القديس كيرلس الإسكندري في قضية مقتل هيباتيا الأنبا بيشوي

الدفاع عن القديس كيرلس الإسكندري في قضية مقتل هيباتيا الأنبا بيشوي

 

الدفاع عن القديس العظيم كيرلس الإسكندري

في قضية مقتل هيباتيا

نيافة الأنبا بيشوي

مطران دمياط  

 

 يُعتبر القديس كيرلس هو الأب المشتَرَك للكنيسة الجامعة, وصيغته اللاهوتية الخاصة بطبيعة السيد المسيح: “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة”                 

     mi,a fu,sij tou/ qeou/ logou/ sesarkwme,nh                                     

           mia  physis  tou Theou Logou sesarkomeny                                                 

 تُعد حجر الزاوية في جميع الحوارات المسكونية الخاصة بطبيعة السيد المسيح. وتعتبره الكنيسة اليونانية المرجع الأعظم في كل المشاكل الكريستولوجية. وقد دعاه أنسطاسيوس السينائي (بُعيد700م) بـ “خاتم الآباء” لأنه جمع تراث التقليد الآبائي في تعليمه الثالوثي لذلك فهو يختتم عهد الآبائية في العالم اليوناني. ولُقّب بـ “عالِم الكنيسة اللاهوتي” في 1882م, وتمجده الكنيسة اليونانية في مدائحها قائلة:                                                            

السلام لك أيها النجم اللامع المحارب المدافع عن العذراء القديسة، والذي ارتفع صوته على كل الرؤساء في أفسس بأنها والدة الإله.. ابتهج أيها المبارك كيرلس، ينبوع اللاهوتيات، ونهر معرفة الله. لا تتوقف عن أن تتشفّع عنّا أمام المسيح[1].

وتكرم الكنيسة السريانية أيضًا القديس كيرلس في ليتورجيتها في تذكار الآباء والمعلمين (الملافنة) فتقول:

وبالأخص مار قوريللس (القديس كيرلس) العظيم، البرج العالي الذي بثبات وبكل إخلاص برهن على تأنس كلمة الله، ربنا يسوع المسيح المتجسد[2].

وهكذا نلاحظ مدى تكريم الكنائس الأخرى (غير كنيسة الإسكندرية) لهذا القديس العظيم.

إنه لخطأ تاريخي بل واجحاف أن يُتهَم هذا القديس العظيم البابا كيرلس بطريرك الإسكندرية الـ24(412-444م) بالتحريض على قتل هيباتيا الفيلسوفة الوثنية (415م). حيث نتج عن ذلك زعم تاريخي قاصر ليس له أي أساس, ضد واحد من أعظم اللاهوتيين الأقباط الكبار الأكثر شهرة والذي تطلق عليه الكنيسة القبطية لقب “عمود الإيمان الأرثوذكسي”.

وتُعْرَف حياة القديس كيرلس بالتقوى والقداسة ومحبة الدفاع عن الحق. ولم تذكر سيرة حياته حدوث أي شيء أو فعل من جانبه يقودنا إلى الاعتقاد بأنه كان مسئولاً عن قتل الفيلسوفة. وحقيقةً إنه ليس فقط من السذاجة افتراض أن يُعد القديس كيرلس مسئولاً عن قتل هيباتيا، ولكن هذا الاستنتاج أيضًا يتجاهل بالضرورة تحليل سياق اجتماعي- ثقافي أكبر وأوسع للحياة الدينية في الإسكندرية في القرن الخامس.

إن الإصرار على نسبة هذا الفعل الوحشي إلى القديس كيرلس الكبير, يُقَوِض ما ينادي به من إيمان مستقيم وينال من صفاته الأخلاقية القوية, وهو الشخصية التي تُكرم ليس فقط بين المسيحيين الأرثوذكس الأقباط بل المسيحيين الأرثوذكس في العالم أجمع كما أشرنا.

من المعروف إن كتابة التاريخ لا تتصف أبدًا بالموضوعية الكاملة, لكنها عادةً ما تتمازج بسياسة السُلطة. والمؤرخ له دائمًا برنامج سياسي ديني أو اجتماعي ينشره بواسطة كتابته لنمط معين من التاريخ. وغالبًا ما توجد دوافع أكبر هي التي توجه قلم المؤرخ الذي عادة ما يتأثر سواء بالبيئة الثقافية أو الحضارية المحيطة والمعاصرة -بما فيها من ضغوط- أو بما يميل إليه هو شخصيًا من آراء أو أفكار أو اتجاهات معينة. وهذا يعني أنه يجب أن نسأل أنفسنا هذا السؤال الجوهري:

لماذا وضعت بعض المصادر اللوم على القديس كيرلس, وكيف حقق لهم ذلك تعزيزًا لأهدافهم السياسية الخاصة؟ وأخيرًا أيضًا يجب أن نسأل: ما الذي يضطرنا أن نقبل هذه الوثائق التاريخية التي تلقي اللوم على القديس كيرلس في قتل هيباتيا وكأنها نوع من الحقيقة الموضوعية؟ ولماذا يجب أن نقبل هذه الاتهامات بدون أن نتحرّى صدقها من عدمه.

هذه هي نفس الظاهرة التي حدثت مثلاً في تلقيب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية خطأً بلقب “مونوفيزايت” Monophysite أي “أصحاب الطبيعة الوحيدة”, مع أن الكنيسة القبطية تؤمن بطبيعة واحدة متحدة من طبيعتين للسيد المسيح استمر فيها الوجود الديناميكي للطبيعتين بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا انفصال. فتسمية “مونوفيزايت” هي بلا شك تسمية تاريخية سائدة تسعى أن تعزز نوعًا معينًا من التاريخ بدون أن توضع في الاعتبار التسمية المقابلة أو المضادة (أي أن الكنيسة القبطية ليست مونوفيزيتية).

والسؤال هنا: لماذا يُلقب كثير من المؤرخين الكنيسة القبطية بالمونوفيزيتية؟ ذلك لأنهم لم يرجعوا إلى المصادر ولم يدرسوها دراسة نقدية ولم يتعرفوا على الدوافع التي وراء تلك التسمية التاريخية الخاطئة. وهكذا نجد أنه من المهم أن تُراجع مثل هذه الوثائق التي تصنع هذه الادعاءات, والمؤرخ الجيّد يجب عليه أن يفعل ذلك بكل أمانة.

هذا البحث هو رد أو نوع من الرواية المقابلة في مواجهة بعض هذه الكتابات التاريخية السائدة والتي بسذاجة تضع لوم غير واجب على القديس كيرلس في مقتل هيباتيا.

 

السنوات الأولى لباباوية القديس كيرلس

كانت السنوات الأربع الأولى لباباوية القديس كيرلس سنوات عاصفة, حيث كان على عاتقه أن يدافع عن الإيمان الأرثوذكسي المقدس ضد الهراطقة النوفاتيين (الذين رفضوا توبة الذين أنكروا الإيمان أثناء الاضطهاد), وأن يرد على عنف ودسائس اليهود لكي يتمكن من إنقاذ قطيعه. وكان من واجبه أيضًا أن يوجّه شعبه ويبعدهم عن الفلسفة الوثنية. وهكذا نجد أنه كان على القديس كيرلس أن يحارب في عدة جبهات. بالإضافة إلى أن أوريستوس حاكم الإسكندرية (والذي كان يريد أن يعين الأرشيدياكون تيموثاوس بطريركًا بدلاً من القديس كيرلس قبل رسامته بطريركًا) خلق مشاكل كثيرة للقديس كيرلس منذ بداية أسقفيته.

 

وندلل على ذلك بالمقتطفات الآتية والمأخوذة من عدة أعمال تاريخية متنوعة:

يقول A. Louth:

انتُخب البطريرك في عام 412م لكي يخلف خاله, ولم يكن هذا هو الاختيار المفضّل للهيئات المدنية. وكانت السنوات الأولى لأسقفيته مضطربة[3].

  يكتب S. J. Davis:

منذ وقت انتخاب كيرلس في عام 412م وجد البطريرك نفسه في خلاف حاد مع القوات المدنية لحكومة الإسكندرية. وكان قد انُتخب بالرغم من المعارضة الشديدة للقيادات المحلية العسكرية[4].

 

يعلق F. Young:

كانت الإسكندرية في كل الأحوال مدينة عالمية تميل إلى الاضطرابات والشغب, مع وجود مشاحنات عِرْقية [عنصرية] لها طبيعة مستوطنة. وكان العنصر الثالث الذي هو عامة المسيحيين دائمًا محاصرًا من الوثنيين واليهود, ولكنه مع ذلك كان قويًا في تأثيره وأعداده. هل أثار كيرلس أية متاعب؟ وهل هي سلسلة من الصُدف وحدها أثارت الاختلافات كما يحدث غالبًا عندما ينقسم سكان المدن المزدحمة إلى أجناس وعقائد مختلفة؟[5]. 

يعلق J.A. McGuckin :

إن أفعال كيرلس المبكرة كبطريرك تبينه كمُصلح حاول أن ينظم إدارته االكنسية, ولكنه لم يتمكن تمامًا من السيطرة على القوات الشعبية التي اعتمدت عليها قاعدة سلطته[6].

 

أوريستوس: المتسبب في اندلاع العنف

هناك حقيقة يعرفها من يقرأ التاريخ بصدق, وهي أن أوريستوس حاكم الإسكندرية كان هو المتسبب في اندلاع العنف, عندما اعتقل أحد الأنصار المتحمسين للقديس كيرلس وعذّبه علانية لمجرد أنه شك -بوشاية من اليهود- في قيامه بالتجسس لحساب القديس كيرلس.

يكتب Young:

إن أول اندلاع للعنف كان عندما تم ضبط أحد الأنصار المتحمسين لكيرلس وهو يتصنّت في وقت كان فيه الحاكم يصدر تنظيمات ]أو قوانين رسمية[ بخصوص العروض اليهودية في السبت. واعتقل أوريستوس جاسوس كيرلس المزعوم وعذّبه علانية[7].

وكتب Davis:

إن خلافات كيرلس مع الحكومة وخصوصًا مع أوريستوس, تصاعدت بسرعة أثناء الشغب والاضطرابات التي حدثت بين المسيحيين واليهود في المدينة. وفي ليلة هذا الشغب كان أوريستوس قد اخضع أحد اتباع كيرلس-وهو معاونه الأكثر حماسًا- لتعذيب علني بسبب الاشتباه في تهمة التجسس[8].

واندلاع العنف -بصرف النظر عن الشكاوى المتكررة التي قدمها أوريستوس ضد القديس كيرلس للبلاط الإمبراطوري- يبرهن بقوة على أن أوريستوس أراد إثارة المتاعب ضد القديس كيرلس لكي يتخلص منه. وتخيل أوريستوس أن القديس كيرلس كان منافسًا له, بل أن شهرة البطريرك وسط قطيعه, وأيضًا معرفة الشعب القبطي ونظرته للبطريرك على أنه الراعي الصالح الذي يبذل نفسه لأجلهم, ربما جعلت أوريستوس يشعر أن سلطته على المدينة قد باتت في خطر.

 

تصاعد التوتر بين المسيحيين واليهود

يعطي Young نبذة قصيرة ولكنها دقيقة عن أحداث التوتر الذي حدث بين المسيحيين واليهود في الإسكندرية:

يقول Young:

اشتكى كيرلس لقادة اليهود الذين تآمروا حثيثًا ضد المسيحيين. ففي الليل أطلقوا صيحة عالية أن كنيسة معينة تحترق, ثم ذبحوا جميع المسيحيين الذين هبوا للمساعدة في إطفاء الحريق[9].

وهنا نلاحظ بوضوح كيف أن المسيحيين ذُبحوا ومع ذلك لم يتخذ أوريستوس الحاكم أي موقف. أما القديس كيرلس فكراعٍ صالح تحرك بأسرع ما يمكن لكي ينقذ قطيعه ولكي يمنع المزيد من نزف الدماء, ومع شعبه المسيحيين أخرجوا اليهود خارج المدينة. ولكنه لم يأمر بقتل ولا يهودي واحد منهم بالرغم من موت مسيحيين كثيرين في تلك الليلة. وكتب القديس كيرلس للإمبراطور قائلاً إنه “كان يدافع عن مصالح المسيحيين في المدينة في وجه هجمات قاسية”[10].

 

“البارابالاني” Parabalani

كتب Young إنه بعد حادثة اليهود, عندما أحسوا بالحاجة لمساعدتهم “أتى حوالي خمسمائة راهب إلى المدينة من صحراء نيتريا للدفاع عن بطريركهم”[11] وذلك يثبت من الوهلة الأولى أن الرهبان أتوا فقط بعد حادثة اليهود. سُمي هؤلاء الرهبان بالبارابالاني وقد أتوا من الصحراء للدفاع عن بطريركهم وشعبهم ضد الأفعال العنيفة مخاطرين بحياتهم من أجل الإيمان المسيحي الأرثوذكسي. وقد نشأت خدمة “البارابالاني” أصلاً في مصر مع خدمة دفن جثث آلاف الشهداء وكذلك دفن ضحايا الأوبئة.

 

ملحوظة على لقب أو تسمية “البارابالاني”

معناها باليونانية “يخاطر أو يغامر” أي “يُعَرِّض نفسه للخطر”, ويدل الاسم على أعضاء أخوية في الكنيسة الأولى, ظهرت أولاً في الإسكندرية ثم في القسطنطينية, كان عملهم العناية بالمرضى ودفن الموتى. وقد خاطروا بحياتهم بتعرضهم للأمراض المُعْدية والتي غالبًا ما تكون بدأت أثناء الأوبئة. كما أنهم كانوا على نوعٍ ما حراسًا للبطريرك وكانت أعدادهم صغيرة. حددتthe CodexTheodosianus عام 416م عدد الملتحقين بـ 500 فقط في الإسكندرية وزاد العدد فيما بعد إلى 600, بينما في القسطنطينية كان قد انخفض عددهم من 1100 إلى 950 وذلك تبعًا لـ the Codex Junstinianus.

يتم اختيارهم بواسطة البطريرك وتحت سيطرته… وكانوا يُعَدون ضمن رجال الإكليروس وتمتعوا بامتيازاتهم. شاركوا في الحياة العامة وإن كان حضورهم في الاجتماعات العامة أو في المسارح ممنوعًا قانونيًا. ويبدو أنهم لم يُذكروا بعد عصر جوستينيان[12].

ويجب التفريق بين “البارابالاني” ورعاع المسيحيين الذين قتلوا هيباتيا. فلم يكن “للبارابالاني” أي دور في قتلها[13], ولكن كما سنرى سيوضع اللوم كاملاً وبحق على رعاع المسيحيين.

 

الوثنية والوثنيون بالنسبة للأقباط

كتب Young أن “البارابالاني”

باغتوا أوريستوس في عربته. وإنه لمن الواضح أن الرهبان نظروا إلى أوريستوس على أنه ممثل للوثنية, بالرغم من اعتراضاته بأنه عُمد بواسطة بطريرك القسطنطينية. ثم أساءوا معاملته وقذف أحدهم حجرًا اصطدم برأس أوريستوس. واندفع كل شعب المدينة لانقاذه. وعُذب الراهب الذي أذى الحاكم عذابًا عنيفًا حتى مات[14].

ويلخص  Davis مسلسل الأحداث كما يلي:

بعد استبعاد كيرلس لليهود من أجزاء معينة في المدينة, أرسل أوريستوس خطابًا للإمبراطور يشكو من أنشطة كيرلس. وعندما رفض أوريستوس محاولات الصلح التي قام بها البطريرك, تحرش به مجموعة كبيرة من الرهبان أنصار كيرلس في شوارع الإسكندرية بينما كان في عربته, وصرخ عدد منهم بإهانته وسموه “وثنيًا”. وألقى أحد الرهبان المتحمسين بشدة ويدعى أمونيوس, حجرًا على أوريستوس وأصابه في رأسه. ومرة أخرى كان رد أوريستوس الرسمي سجن الطرف المهين وتعذيبه, ومات أمونيوس كنتيجة للتعذيب الشديد[15].

وفيما يتعلق بما سبق لابد أن يؤخذ في الحسبان مايلي:

أولا: إن أبرز نقطة تستحق الالتفات هي حقيقة أنه قبل هذا الحادث بين “البارابالاني” وأوريستوس وقبل قتل هيباتيا, حاول القديس كيرلس المصالحة مع أوريستوس ولكن بدون جدوى. وأنه لَمن المرجح جدًا إنه لو قبل أوريستوس الصلح لكان من الممكن فعلا أن يمنع ذلك سلسلة الأحداث التي انتهت بمقتل هيباتيا. وهكذا نجد أنه ليس من الدقة في شيء أن يوصف القديس كيرلس بالإجرام, بينما في الحقيقة كان أوريستوس هو الذي رفض السلام الذي عرضه القديس كيرلس.

ثانيا: لم يُعطَ أي اهتمام لمناصر القديس كيرلس المتحمس الذي عذبه أوريستوس علنًا, ولم يُلتفت أدنى التفات إلى الراهب الذي عُذب أيضًا حتى الموت كثاني فعل عنيف من جهة أوريستوس.

ثالثا: اتخذ أوريستوس الجانب المعادي للمسيحيين, وهذه الحقيقة تأكدت في سلسلة أحداث اليهود, وكما سنرى فيما بعد في قضية مقتل هيباتيا.

رابعا: إن الوثنية -التي تعتبر بحق قوة شيطانية- كانت ولازالت تُمارَس في الإسكندرية في ذلك الوقت. فأخذت الكنيسة على عاتقها مسئولية انقاذ مؤمنيها من تأثيرها المدمر على أرواحهم وحياتهم الأبدية.

 

مقتل هيباتيا

في بداية العام الرابع لبطريركية القديس كيرلس، كَمنَ بعض من رعاع المسيحيين لعربة فيلسوفة الأفلاطونية الحديثة الشهيرة هيباتيا وسحبوها داخل كنيسة وقتلوها. منذ زمن الفيلسوف الوثني Damascius وحتى يومنا هذا اعتاد أعداء القديس كيرلس أن يحمّلوه شخصيًا مسئولية هذه الجريمة.

يذكر يوحنا النيقيوسي John Bishop of Nikiu في كتابه Chronicleالذي كتبه عام 690م:     

ظهرت في تلك الأيام في الإسكندرية فيلسوفة وثنيّة اسمها هيباتيا كرّست نفسها في كل الأوقات للسحر… وأضلت أناس كثيرين بخداعاتها الشيطانية. وكان حاكم المدينة يكرمها إلى أبعد حد لأنها قد أضلته بسحرها, وقد توقف عن حضور الكنيسة كما كان معتادًا… وهو لم يفعل ذلك فقط بل قد جذب كثير من المؤمنين إليها, وهو نفسه استقبل غير المؤمنين في منزله[16].

 

ويقول Young عن هيباتيا:

هي أكثر الوثنيين شهرة في عصرها… فيلسوفة الأفلاطونية الحديثة التي تستطيع أن تثبت نفسها بجدارة في أي محفل أكاديمي. كان من الواضح انبهار أوريستوس بها, وكانا أحيانًا كثيرة في صحبة بعضهما البعض. قرر رعاع المسيحيين أنها هي التي أثّرت على أوريستوس ضد كيرلس, الصلة بالوثنية مرة أخرى![17]

وهكذا نرى, كما ذكر كل من يوحنا النيقيوسي و Young أعلاه, فإن المجتمع المسيحي الكبير (وليس “البارابالاني”) كان يكره هيباتيا مفترضًا أنها كانت تؤثّر على أوريستوس بفلسفتها حيث إنها كانت دائمًا في صحبته. وهذه الجمهرة من الرعاع المسيحيين -وليس من بينهم “البارابالاني”- اعتقدت أن هيباتيا كانت السبب في عداء الحاكم للكنيسة.

وبنظرة فاحصة إلى التاريخ المسيحي المبكر نرى أن أجيال المسيحيين الذين لم يستسلموا للوثنية (أو أي ممارسات دينية أخرى تتعارض مع معتقداتهم المسيحية) قد عُذِّبوا بقسوة بدون النظر إلى السن أو الجنس, وعُذِّبوا أحيانًا لسنوات, ثم قُتلوا ونالوا الشهادة على أيدي الأباطرة الوثنيين والحكام. ونجد أن أحداث عذاباتهم وموتهم لم يلتفت إليها أحد من المؤرخين الحديثين. وهنا يجب أن نسأل: لماذا إذن أثار مقتل فيلسوفة وثنية واحدة -هيباتيا- على أيدي رعاع المسيحيين كل هذا الاهتمام, بينما قَتْل الكثير من المسيحيين لم يُلاحَظ أو يُذكَر؟ ونجيب على هذا السؤال قائلين مرة أخرى:

إن للمؤرخ دائمًا برنامج سياسي أو ديني أو اجتماعي ينشره ويعلنه عن طريق كتابته لنوع معين من التاريخ, وتوجد دائمًا قوة أكبر هي التي توجه قلم المؤرخ. بالاضافة لذلك فإنه في حالة مقتل هيباتيا نستطيع أن نبرهن بوضوح على أن النظريات أو المفاهيم المعاصرة والساخرة جدًا التي تجانس جوهريًا التعددية والتنوع الاجتماعي [بمعنى تذويب الفوارق الاجتماعية وضمنًا بين الأديان]

كان لها تأثير كبير على كيفية فهم بعض المؤرخين الحديثين  لأحداث القرن الخامس. ليس فقط أن هذا النسق يُعد مفارقة تاريخية – حيث إنه يفرض تصورًا للانطباع الشخصي الغربي المعاصر لما يسمى بالمجتمع المساواتي, على موقف حدث في القرن الخامس – ولكنه أيضًا مخاطرة باعادة تأليف قصة تاريخية سائدة بطريقة غير عادلة. وبلا شك فإن قتل هيباتيا كان حدثًا مرعبًا تمامًا كما كان قتل آلاف الشهداء المسيحيين, ولكن في فهم الأحداث المحيطة بهذا الحادث المشئوم لا يجب علينا أن نكون متسرعين بزيادة في تطبيق تحليلاتنا المألوفة على موقف لا علاقة له بهذه التحليلات.

 

تحليل المؤرخين الحاليين في ضوء كتابات المؤرخين المعاصرين للحدث

بعد أن درسنا الأحداث المحيطة بمقتل هيباتيا, فإنه من المُلِّح أن ندرس كتابات بعض المؤرخين والكُتَّاب الذين قدموا تفسيرًا تحليليًا عادلاً لهذه الرواية التاريخية. ومن هذه المصادر سوف نرى بمنتهي الوضوح أنه من الخطأ تمامًا أن نفترض أن القديس كيرلس كان متورطًا في هذه الجريمة.

كتب McGuckin في كتابه “القديس كيرلس الإسكندري والجدل الكريستولوجي”

                        Saint Cyril of Alexandria and the Christological Controversy,

شرحًا مختصرًا لحادث هيباتيا, وبكل تعقل واتزان يشرح كيف أن هؤلاء المؤرخين الذين يتهمون القديس كيرلس بقتل هيباتيا قد جرّدوا الأحداث التاريخية تمامًا من كل ما أحاط بها من قرائن أو سياقات ووضعوا بالخطأ عبء مقتل هيباتيا على أكتاف القديس كيرلس مع أن سقراط (380/408-450م) المؤرخ الوحيد المعاصر للقديس كيرلس لم يوافقهم على هذا الرأي, فقد كان سقراط كان أكبر مؤرخ خلال عصر القديس كيرلس وقد وُلد في القسطنطينية ربما في أوائل حكم ثيئودوسيوس الصغير عام 408م[18] أو كما يقول البعض عام 380م[19]. وهو كمساند قوي للنوفاتيين كره القديس كيرلس. ولهذا السبب -ضمن أسباب أخرى- تسبب في إساءة سمعة القديس كيرلس وكنيسته. ولكن على الرغم من ذلك, من الواضح أنه لم يقل إن القديس كيرلس دفع الرعاع إلى قتل هيباتيا.

يذكر McGuckin:

يقول سقراط إن هذا الحادث لم يأتِ ولا بأقل ملامة على كيرلس أو كنيسة الإسكندرية. والبعض -وأشهرهم جيبون  Gibbon الذي يسمي الجريمة “عمل كيرلس البطولي”- يفسرون تفسيرًا خاطئًا وبوقاحة هذه الملحوظة عندما يعتبرون أن القتل هو فعل كان (كيرلس) متورطًا فيه شخصيًا… وقد أعاد الفيلسوف الوثني  Damascius سرد الحادث خصيصًا ناسبًا اللوم والاشتراك في الجريمة لكيرلس شخصيًا, ولكن ما كتبه كان بعد 130 عام من الأحداث, وكل ما كتبه هو اجحاف واضح من البداية ومملوء كرهًا شديدًا للطريقة التي استخدمتها المسيحية في قمع مهنته واسلوب حياته. وبعد جيبون جاء تشارلز كينجسلي Charles Kingsley معطيًا للرومانسية اعتبارً أكبر من اعتباره للحقيقة في روايته “هيباتيا”, ولم يضيع أي فرصة لتصوير كيرلس على أنه الوغد الشرير في الرواية. وذلك التصوير المغالىَ فيه والأسطوري الذي قدمه صار هو السائد حديثًا.

ومؤخرًا كان ويكهام Wickham أكثر عدلاً لكيرلس, بالتأكيد على أساس حكم أكاديمي دراسي أعمق, حيث إنه لخص الأزمات المبكرة لإدارته كما يلي: “الوقائع لا يمكن انكارها. الصورة التي قدموها ليست صورة قس متعصب متعطش للسلطة يقود رعاع غاضبين ولكنها كانت محاولة لقائد غير مجرب حاول, ولكنه فشل مبدئيًا في السيطرة على القوات الشعبية[20].

وعلى نفس نهج تحليل  J.A. McGuckin كتب   Wace and Piercy قائلين:

أما عن تأكيد Damascius أن كيرلس هو الذي شجع القتل… فإننا لا يمكننا أن نستند على شهادة فيلسوف وثني عاش 130 عامًا بعد الحدث وكان كارهًا بشدة للمسيحية. ولنا ما يبررنا -مع كانون روبرتسون- في اعتبار ما قاله إنه افتراء لتشويه السمعة وغير مستند على شيء[21].

ويقدم J.A. McGuckin أيضًا في كتابه “لاهوت القديس كيرلس الإسكندري” The Theology of St Cyril of Alexandria: A Critical Appreciation

تقييمًا حاسمًا للموقف:

كان كيرلس الإسكندري ضحية لقصر النظر العلمي الشديد الذي للأوروبيين في القرون الحديثة والذي كان معظمه بسبب اتجاهات امبريالية غير معروفة, والبعض لا يخلو من العنصرية… وفي أجزاء من دراساتي التاريخية لكيرلس والتي بالنسبة لي كانت ذات مغزى (وإن كانت جانبية بالنسبة للقصة الأساسية) حاولت أن أوضح كيف أنه سواء خطة جيبون Gibbon التي تُعَرِّف كيرلس على أنه أسوأ شخصية في القصة (ليدلل على كم أفسدت المسيحية الإمبراطورية الرومانية) أو البرنامج الفيكتوري  Victorian  agenda أثناء حكم الملكة فيكتوريا 1837-1901م, الذي انتقده أخلاقيًا بشدة (كجزء من محاولة خلع الكريستولوجيات الأنجلو-كاثوليكية السكندريةAnglo-Catholic Alexandrian Christologies في سبيل تحقيق كريستولوجية الإخلائية-الإنسانية السائدة حديثًا

    a newly ascendant Kenotic-Humanist Christology)

فكل منهما كان بقوة اعتبار غير متمشي مع العصر الذي حدث فيه [ينطوي بوضوح شديد على مفارقة تاريخية] وقد تصاعد بواسطة الدارسين الذين لهم مصالح [رغبات] راسخة… ويوجد الاتهام -الذي يعوزه حس المسئولية- لشخصية كيرلس الأخلاقية, خاصة في الهراء الرومانسي والذي اُستبدل ]اُعتبر[ كتاريخ في رواية تشارلز كينجسلي “هيباتيا”. وهذا قد كلَّف كيرلس عدم ترجمة كتاباته في السلسلة الفيكتورية للترجمات الآبائية إلى الإنجليزية مثل The Nicene and Post-Nicene Fathers…

ويمثل جور وريلتون H.M. ReltonC. Gore and أولئك الذين بينما هم قد تضلّعوا في العقيدة المسيحية المبكرة لكنهم يدافعون عن كريستولوجية الإخلائية-الإنسانية. ولذلك كان كيرلس أحد ضحايا التغيير الجذري [غير المتوقع] في مواجهة الكريستولوجية الأنجليكانية في العصر الذي تلى حركة اوكسفورد وفي وقت كانت فيه الكنيسة تزداد في الانحياز إلى البرنامج البروتستانتي الأوروبي التحرري[22].

وشهادة أخرى لـ Wickham في “موسوعة المسيحية المبكرة”  Encyclopedia of Early Christianity :                                       

أفسد العنف السنوات الأولى لأسقفيته [أي أسقفية القديس كيرلس الإسكندري] في مدينة تعاني من الشغب والإعدام بدون محاكمات قانونية. بلغ الشجار بين الوثنيين واليهود والمسيحيين, وبين كيرلس والحاكم أوريستوس إلى ذروته في القتل البشع للرعاع المسيحيين للفيلسوفة الشهيرة الوثنية هيباتيا عام 415م… وكون كيرلس مسئولاً عن العنف فهذا ليس إلا أسطورة ادُخرت في رواية تشارلز كينجسلي “هيباتيا”ودامت منذ ذلك الوقت. فكونه لم يكن مسيطرًا على شعبه لعدة سنوات هو استنتاج عادل, ولم تدنه الحكومة شخصيًا في ذلك الوقت[23].

 

كما كتب A. Louthالمؤرخ أيضًا:

عانى كيرلس هذا الإهمال في الأزمنة الحديثة، ففيما عدا رسائله المجمعية فهو غير مُمَثَل في الترجمة الفيكتورية الإنجليزية المتأخرة للآباء,  Library of Nicene and Post-Nicene Fathers مكتبة آباء نقية وما بعد نيقية. ومما تسبب في ذلك، هو بلا شك تصويره في رواية شارلز كينجسلي الشهيرة “هيباتيا” في عام 1853م كشخص شرير قاسٍ وعديم الضمير. ومع ذلك فكل هذا يعطي أساسًا فقيرًا لفهم شخص اعتبره المسيحيون على الأقل منذ القرن السابع فصاعدًا “خاتم الآباء”[24].

ويجب هنا أن نتساءل لماذا صور تشارلز كينجسلي بخبث القديس كيرلس بهذه الصورة, ولماذا يكتب روائي عن مقتل هيباتيا بعد 1438 عام من الحدث نفسه, مستحضرًا في ذهنه مثل هذا التخيل القدحي الزائف عن القديس كيرلس وبابويته؟! وحيث إننا قد لا يمكننا الرد المباشر على هذا السؤال فإنه من الضروري أن نؤكد حقيقة أن أعمال كينجسلي ليست تاريخًا, ولا يجب أن تُقرأ على أنها مقالة تاريخية عن الخلاف الديني والاجتماعي في القرن الخامس في الإسكندرية ولكن بالحري كقصة خيالية. ونفس الكلام نقوله بالنسبة لرواية زيدان التي نحن بصددها والمملوءة بالأخطاء التاريخية والتزييف والافتراءات على الكنيسة ورجالها وعلى رأسهم البابا كيرلس الكبير.

 يبرهن J.A. McGuckin بحق على أنها مجرد ثقافة غير مسئولة من جانب المؤرخين الذين اعتبروا أعمال كينجسلي تاريخًا أكثر منها خيالا. ونحن نكرر نفس الرأي بالنسبة لاعتبار رواية “عزازيل” تاريخًا وليس خيالاً, وهنا تكمن الخطورة, بالرغم من أنه يراوغ ويقول إنها مجرد رواية أدبية ثم يعود ليقول إن الأحداث التاريخية التي فيها هي أحداثًا صحيحة.

وعلى أساس ما قاله J.A. McGuckin فيما يخص انتقاد البرنامج الفيكتوري بقسوة للشخصية التاريخية للقديس كيرلس, فإننا نرى بوضوح أن هذا الوضع السياسي المتصلب يُعتبر بكل أسف ثقافة غير مسئولة أصبحت في النهاية تاريخًا يحكى بالخيال.

وفي   Hypatia of Alexandria[25] by M. Dzielska “هيباتيا الإسكندرية”, التي كتبتها م. دزيلسكا, تعرض الكاتبة مراجعة للتاريخ في قصة هيباتيا ونقد الادعاءات ضد القديس كيرلس. وفي خطاب إلكتروني [e-mail] مع دزيلسكا[26] قالت:

تاريخيًا لم يكن هناك ارتباط مباشر بين تحريض القديس كيرلس وقتل هيباتيا. بالرغم مما في كتابات دامسيوس  Damascius’ (Life of Isidorus)  من عبارات متحيزة تتهم كيرلس, فإن المصادر الباقية تجعل هذا العمل الإجرامي يظهر على أنه قتل له طابع سياسي وليس ديني, مرتبطًا بالضغوط الاجتماعية والصراعات المتضاربة التي حدثت في ذلك الوقت في الإسكندرية بين الجماعات المتنافسة داخل السلطات العلمانية والكنسية.

تقول سوزان ويسيلSusan Wessel في كتابها[27]”القديس كيرلس والجدل النسطوري”

 Cyril of Alexandria and the Nestorian Controversy: The Making of a Saint and of a Heretic 

لم يتورط “البارابالاني” أبدًا، رسميًا في الفعل الأكثر إرهابية لذلك الزمان وهو مقتل هيباتيا. لأنه لم يُشر أي قانون من القوانين أبدًا إلى الحادث.

وأضافت في نفس الكتاب قائلة:

يبدو أنه من غير المحتمل أن يكون البلاط الإمبراطوري قد صدّق أن القديس كيرلس ومسانديه كانوا مسئولين عن “أعمال الإرهاب” التي ارتكبها “البارابالاني”. لأنه في فبراير 418م، أصدر ثيئودوسيوس الثاني عدة قوانين جديدة استعادت سلطة كيرلس على “البارابالاني” مرة أخرى، ورفع عددهم إلى 600…

فلو كان القديس كيرلس و”البارابالاني” متورطين بغير التباس في مقتل هيباتيا، لَمَا كان الإمبراطور ثيئودوسيوس قد أعاد المجموعة لتكون تحت سلطة القديس كيرلس.

ربما يكون من المعقول ظاهريًا أن نخلص إلى أن مقتل هيباتيا يمكن أن يُعزى إلى مجموعة من المسيحيين المتوحشين، لم يكونوا من “البارابالاني”، ولكنهم اعتقدوا أن مقابلات هيباتيا الواضحة جدًا مع حاكم الإسكندرية هددت سلطة (أو قوة) القديس كيرلس في المدينة.  

كذلك فإن في كتاب س.ج. دافيز:

S. J. Davis’ book, The Early Coptic Papacy: The Egyptian Church and its Leaders in Late Antiquity[28]

 يشرح دافيز أن الاتهامات ضد القديس كيرلس كانت على غير أساس وكانت غير دقيقة تاريخيًا في اتهامه بالقتل. وهو يُقَوِّض كل الاتهامات ضد القديس كيرلس بأن وضّح كيف أن الوضع كله كان معقدًا ومتفجرًا. ويشير أيضًا إلى أن “قتل هيباتيا كان على ما يبدو -ولو جزئيًا- نتيجة صراع معقد بين كيرلس وأوريستوس بخصوص السلطة الكنسية-القضائية [الشرعية]”[29]. كذلك عندما نتحدث عن البيئة الاجتماعية غير المستقرة, في الإسكندرية بسبب  قتل هيباتيا نذكر ما كتبه McGuckin في كتابه

St Cyril of Alexandria: On the Unity of Christ

“القديس كيرلس الإسكندري: في وحدانية المسيح”: 

نسب بعض المعلقين -وبالأخص أولئك الذين أرادوا أن يسيئوا إلى سمعة ولاهوت كيرلس- هذه الاتهامات من العنصرية والفتن والقتل له وانتقدوه بقسوة كزعيم للدهماء [مهيج أو خطيب شعبي يستغل الاستياء الاجتماعي لاكتساب نفوذ سياسي] له قليل أو بدون أية مباديء, وهذا نتيجة لقراءة الأحداث بسذاجة.

فالحياة في القرن الخامس في أية مدينة بيزنطية كانت عنيفة بطريقة تبعد عن خيال وخبرة أغلب الحديثين. وعنف الرعاع كان تقريبًا جزءًا من نمط منظم للسلوك الاجتماعي راسخ الجذور في النظام الاجتماعي الروماني. كان على الأباطرة وحكام المقاطعات وبالفعل الأساقفة المسيحيين, الذين اتخذوا أكثر فأكثر قوة سياسية من القرن الرابع فصاعدًا, أن يعترفوا به ويعالجوه [يتعاملوا معه][30].

والمؤرخ الأنجليكاني  Canon W. Bright  في كتابه

A History of the Church from the Edict of Milan, A.D. 313, to the Council of Chalcedon, A.D. 451. يدافع بوضوح عنالقديسكيرلس قائلاً:

لم يكن كيرلس طرفًا [شريكًا] في هذا العمل الشنيع, ولكنه كان عمل الناس الذين صاح هو أصلاً بآلامهم. وإن لم يكن هناك هجوم [انقضاض] على الكنائس لم تكن هيباتيا قد قُتلت[31].

يقول كاتب سير القديسين الروماني الكاثوليكي المثقف Alan Butler في كتابه “سير القديسين” (Lives of theSaints, sub Jan. 28) إنه يعتبر كيرلس بريئًا, وقد احتكم إلى صمت أوريستوس وسقراط إزاء الجريمة. يميل كل من  Walch, Schröckh, Gibbon, and Milmanإلى أن يُحَمِّل كيرلس مسئولية قتل هيباتيا ولكن الدلائل ليست كافية[32].

لم ينسب سقراط أي دور معين لكيرلس في الأحداث التي أدت إلى مقتل هيباتيا. ورأى فقط أن العمل العنيف جلب فيما بعد الانتقاد الشديد سواء لكيرلس أو لكنيسته… لا يوجد أي دليل مباشر أو يُعَوَّل عليه يدل على أن القديس كيرلس أَمَر بحدوث ضربة مشابهة للمافيا على هيباتيا[33].

لا يوجد تقرير موثوق به يربط مباشرة بين كيرلس ومقتلها[34].

… من ثم يظهر أنه لا يوجد أي إثبات أن… (القديس كيرلس) كان مذنبًا في هذه الجريمة البشعة[35].

وفي الحقيقة أنه إذا كان القديس كيرلس مسئولاً عن مقتل هيباتيا فإن الشخص الأول الذي كان سيأخذ موقفًا ضده ويدينه هو أوريستوس, وأول من سيعلن أنه مذنب هو سقراط. وحقيقة أن أحدًا منهما لم يفعل ذلك لهي أوضح دليل على براءته.

 

الخلاف الكريستولوجي

بعد مقتل هيباتيا بثلاث عشرة سنة فقط كان القديس كيرلس مشغولاً في صراع عقائدي ملتهب مع نسطور بطريرك القسطنطينية عام 428-431م. لهذا فقد اعتبر نسطور القديس كيرلس عدوّه اللدود وبحث عن أي سبب لاستبعاده من المضمار الكنسي واللاهوتي. وكان ذلك دافعًا لبعض الإسكندريين الذين كان القديس كيرلس قد عاقبهم بسبب تجاوزات أخلاقية كبيرة, أن يذهبوا في ذلك الوقت إلى القسطنطينية ويقدموا شكاوي هناك ضد رئيس أساقفتهم.

من ضمنها عدم أمانته في وظيفته كمنقذ للفقراء, والثانية أنه كان يسيء معاملة والدته بطريقة فظيعة, والثالثة أنه سرق, وقد أولى نسطور أذنًا لهذه الاتهامات. فشكى كيرلس هذا الأمر في خطاب جديد إلى نسطور وأرفق معه طلباً -كشئ أساسي- بأن يصلح المظلمة التى أحدثها بعظاته”[36].

ونستنتج من ذلك أنه لو كانت هناك أدنى ملامة أو اتهام للقديس كيرلس بقتل هيباتيا لكان الأجدر بأولئك المعادين له أن يوجهوا له هذه التهمة بدلاً من تلك الاتهامات المضحكة.

وهكذا فمن الضروري أن نسأل: إذا كانت اتهامات القتل ضد القديس كيرلس بها أقل القليل من الحقيقة لماذا لم يستخدمها نسطور كسلاح قوي لكي يحطم سمعة القديس كيرلس تمامًا أو يعزله أو يسجنه؟

أثناء هذا الجدل اللاهوتي كان الإمبراطور ثيئودوسيوس الثاني يحكم الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية ومقره القسطنطينية. ولكونها الموقع الرئيسي لإدارة الإمبراطورية كان كل القضاء الإمبراطوري والمكاتب والسجلات الرسمية كائنة في هذه المدينة. فاذا كان هناك أي دليل على أن القديس كيرلس كان متهمًا بمقتل هيباتيا لوُجد بلا شك سجل [محضر] مكتوب عن القضية. ولكن لم توجد أية وثائق تتهم القديس كيرلس.

وبالإضافة إلى هذه النقطة يجب أن نأخذ الآتي في الحسبان: كان مقر بطريركية القسطنطينية بالطبع في القسطنطينية ولذا يكون من السهل جدًا بالنسبة لنسطور أن يحصل على كل ما يريده من معلومات من السجلات الرسمية.

فإذا كانت هناك حقًا أية اتهامات رسمية ضد القديس كيرلس لانتهز نسطور الفرصة لكي يستفيد من هذه الاتهامات في الازدراء بالبطريرك الإسكندري, وفي رفع دعوى رسمية ضده أمام المحكمة العليا في القسطنطينية حسبما ورد في قرارات الإمبراطور السابقة لانعقاد المجمع في أفسس[37].

ولكننا نعلم بكل تأكيد أن سجلات تحمل مثل هذه الاتهامات لم تكن موجودة بالمرة, وأن نسطور لم يحاول أبدًا أن يثير أو يذكر مثل هذه القضية. بل لقد وصل الأمر إلى طلب الإمبراطور ثيئودوسيوس الثاني من البابا كيرلس الإسكندري أن يرأس جلسات المجمع المسكوني الثالث في أفسس, كما أن كليستين بابا روما قد أرسل إلى البابا كيرلس رسالة يطلب منه فيها أن يستخدم سلطان كنيسة روما وكنيسة الإسكندرية في الحكم على نسطور[38].

وصل الصراع الكريستولوجي إلى قمته في مجمع أفسس عام 431م, ومع ذلك فنحن لا نجد في محاضر جلسات المجمع أية إشارة إلى قضية القديس كيرلس ومقتل هيباتيا. ولكن على العكس نجد تقدير الآباء الحاضرين المجمع -وعددهم مائتان- للدور الذي قام به القديس كيرلس ممثلاً فيما يلي: صاح الأسقف هيرموجينيس أسقف رينوكوروروس بتهليل في مجمع أفسس بعد قراءة كتابات القديس كيرلس ضد نسطور، قائلاً:

 إنه نفس الروح القدس الواحد الذي كان مع الآباء في نيقية عندما وضعوا تعريف الإيمان كان مع روح وصوت أبينا الجزيل القداسة والمبجل بطريرك الإسكندرية كيرلس عندما كتب ذلك من أجل تصحيح الأخطاء التي قدمها نسطور الموقّر إلى الكنيسة[39].

 (لقراءة صورة من محاضر جلسات المجمع  يمكن الرجوع إلى

C.J. Hefele, A History of the Councils of the Church: Volume III [40]. وأيضًا إلى كتابنا باللغة العربية “المجمع المسكوني الثالث في أفسس 431م والصراعات العقائدية في القرنين الرابع والخامس حول شخص وطبيعة السيد المسيح”).

نقرأ في بعض الوثائق التاريخية[41] أن نسطور وصل إلى أفسس محاطًا بعدد كبير من الحراس المسلحين برئاسة الكونت إيريناوس. وهؤلاء الجنود كانوا في صف نسطور ويوحنا الأنطاكي وكانوا معادين للقديس كيرلس ومجمع أفسس المسكوني الكبير. وعندما وصل يوحنا الأنطاكي متأخرًا إلى أفسس حاول الأساقفة الممثلون للمجمع أن يخبروا يوحنا بقرارات المجمع, ولكن الجنود منعوهم ثم أهانوهم وضربوهم. هذه الأحداث كانت بمعرفة وموافقة الكونت إيريناوس.

فلو اعتقد الجنود أن القديس كيرلس كان مسئولاً عن مقتل هيباتيا لكانت هذه فرصة لتعييره بذلك خارج المجمع, إلا أن حقيقة أنهم لم يتهموه تثبت مرة أخرى أن القديس كيرلس لم يكن له بأي حال أي دور في الاغتيال.

إنه ليس من العدل أن نتهم أو ندين بطريرك أية كنيسة بسبب أعمال غير قانونية قام بها بعض من شعبه الذين يتأثرون بدوافع مختلفة، أغلبها سياسية واجتماعية أو عرقية. فالبطريرك يمكنه فقط أن يوجه أتباعه ويرشدهم إلى الطريق الصحيح, ولكنه لا يمكن أن يكون مسئولاً عن أعمال كل مجموعة وكل فرد.

 

 

[1] St. Cyril of Alexandria, On the Unity of Christ, trans., John Anthony McGuckin, (New York: St Vladimir’s Seminary Press, 1995), p. 32.

 

[2]  نيافة المطران مارثاوفيلوس جورج صليبا، خبز الحياة: كتاب القداس الإلهي حسب طقس        كنيسة إنطاكية السريانية الأرثوذكسية، جبل لبنان 2002م , صـ 230، 298، 369. 

[3] Frances Young, Lewis Ayres, and Andrew Louth, eds, The Cambridge History of Early Christian Literature: First Edition (Cambridge University Press, 2004), p. 353.

[4] Stephen J. Davis, The Early Coptic Papacy: The Egyptian Church and its Leaders in Late Antiquity (Cairo: American University in Cairo Press, 2004), p. 72.

[5] Frances Young, From Nicaea to Chalcedon (London: SCM Press, 1983), p. 243.

[6] John Anthony McGuckin, St. Cyril of Alexandria: The Christological Controversy: Its History, Theology & Texts, (Leiden: E.J. Brill, 1994), p. 7.

[7] Young, From Nicaea to Chalcedon, p. 243.

[8] Davis, The Early Coptic Papacy, p. 72.

[9] Young, From Nicaea to Chalcedon, p. 243.

[10] McGuckin, St. Cyril of Alexandria: The Christological Controversy, p. 15.

[11] Young, From Nicaea to Chalcedon, p. 243.

[12] James Dixon Douglas, ed., The New International Dictionary of the Christian Church: Revised Edition (Michigan: Zondervan 1978), p. 747.

[13]Susan Wessel, Cyrill of Alexandria and the Nestorian Controversy: The Making of a Saint and of a Heretic (New York: Oxford University Press, 2004), p. 56.

[14] Young, From Nicaea to Chalcedon, p. 243.

[15] Davis, The Early Coptic Papacy, p. 72.

[16]John Bishop of Nikiu. The Chronicle, 84. 87-103, trans., R. H. Charles and D. Litt (Oxford University Press, 1916).

[17] Young, From Nicaea to Chalcedon, pp. 243-244.  

[18] Wace and Piercy, p. 912.

[19]Encyclopedia of the Early Church, s.v. “Socrates Scholasticus” p. 785; Quasten, vol. 3, p. 532; Encyclopedia of Early Christianity, 2nd ed., s.v. “Socrates Scholasticus (ca. 380-450)” p. 1076.

[20] McGuckin, St. Cyril of Alexandria: The Christological Controversy, pp. 14-15.

[21] Wace and Piercy, p. 236.

[22] Thomas G. Weinandy and  Daniel A. Keating, eds, The Theology of St Cyril of Alexandria: A Critical Appreciation (London: T&T Clark, 2003), pp. 205, 207-208.

[23] Encyclopedia of Early Christianity, 2nd ed., s.v. “Cyril of Alexandria (ca. 375-444)” pp. 310-11.

[24] Young, Ayres, and Louth, The Cambridge History of Early Christian Literature, p. 353.

[25] Maria Dzielska, Hypatia of Alexandria (Cambridge: Harvard University Press, 1995).

 [26]Excerpt from email correspondence with Maria Dzielska on Thursday, 2 March, 2006.       

أرسلته دزيلسكا مؤلفة الكتاب المذكور, ردًا على رسالة إلكترونية منا (عن طريق إحدى معارف الدير وهي   Harvard Divinity School scholarship holder) للحصول على معلومات بخصوص اتهام القديس كيرلس في مقتل هيباتيا فأجابت بهذا الرد المفيد جدًا.

[27]SusanWessel, Cyrill of Alexandria and the Nestorian Controversy: The Making of a Saint and of a Heretic, pp. 56, 57.

[28] (Cairo: American University in Cairo Press, 2004).

[29] Davis, The Early Coptic Papacy, p. 72.

[30] St. Cyril of Alexandria, On the Unity of Christ, trans., McGuckin, p. 14.

[31] Canon W. Bright, A History of the Church from the Edict of Milan, A.D. 313, to the Council of Chalcedon, A.D. 451 (Oxford: Parker, 1860), pp. 274-275.

[32] Phillip Schaff,  vol. 3,  p. 943.

[33] Davis, The Early Coptic Papacy, p. 71.

[34] Wace and Piercy, p. 504.

[35] Quasten, Patrology, vol. 3, p. 117.

[36]Charles Joseph Hefele, A History of the Councils of the Church: A.D. 431 to A.D. 451, vol. 3 (Edinburgh: T. & T. Clark, 1883), pp. 20-21.

[37]Hefele, vol. 3, p.43.

[38] St. Cyril of Alexandria, Letters 1-50, vol. 76 of The Fathers of the Church, trans, John I. McEnerney(Washington D.C: CUA Press, 1987), Letter 12, p. 69.

[39]St. Cyril of Alexandria, On the Unity of Christ, trans., McGuckin, p. 7.              

[40] Hefele, vol. 3, pp. 44-52, 61-72.

[41] Soc. vii. 34., quoted in Hefele, A History of the Councils of the Church, vol. 3, p. 44.

 

الدفاع عن العظيم كيرلس الإسكندري في قضية مقتل هيباتيا الأنبا بيشوي