Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

الخطية الجدية عند القديس يوحنا ذهبي الفم – د. أنطون جرجس

الخطية الجدية عند القديس يوحنا ذهبي الفم – د. أنطون جرجس

الخطية الجدية عند القديس يوحنا ذهبي الفم – د. أنطون جرجس

يُعتبر ق. يوحنا ذهبي الفم أحد أعلام مدرسة أنطاكية اللاهوتية، وخطيب الكنيسة الأعظم على مر العصور. لقد كانت سمات مدرسة أنطاكية مثلها مثل حال الشرق كله آنذاك، لا تؤمن بشيء اسمه “وراثة الخطية الأصلية” أو “خطية الطبيعة”، هذه التعبيرات التي أدخلها أوغسطينوس إلى اللاهوت الغربي في صراعه ضد البيلاجية. فنجد ق. يوحنا ذهبي الفم يحارب فكرة خطية الطبيعة ووراثة الذنب كما سنرى.

يرفض ق. يوحنا ذهبي الفم رفضًا تامًا فكرة أن الطبيعة البشرية تمارس الشر بطريقة تلقائية، مثلما تحدث أوغسطينوس عن الإرادة المقيدة بالشر والذنب الأصلي وخطية الطبيعة، حيث يقول التالي:

“لاحظ أيضًا أنه قال عنه: يحيد عن كل شر، وليس فقط عن شر دون شر. أين هم الذين يقولون أن الطبيعة البشرية مائلة بطريقة تلقائية نحو الشر؟ أية مخالفة وأية شرائع جعلت أيوب على ما هو عليه؟

فلأن الكتاب قال: لأنه لا إنسان صديق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ (جا٧: ٢٠)، لذلك وصف الكتاب أيوب بأنه بلا لوم (كاملاً). فليس فقط أنه لم يقترف أي عمل ملوث بالخطية، بل أنه لم يقترف ولا حتى ما هو ملوم ومذموم”.

(يوحنا ذهبي الفم (قديس)، تفسير سفر أيوب، ترجمة: نشأت مرجان، (القاهرة: مكتبة المحبة، ٢٠٠٨)، تعليق على (أي ١: ١ س)، ص ١٥.)

 

وينفي ق. يوحنا ذهبي الفم أيضًا موضوع خطية الطبيعة في موضع آخر قائلاً:

“إنه قال: ربما أخطأ بنيّ وجدفوا على الله في قلوبهم. وإن كان هذا شيئًا ليس في طبيعتهم، لكنهم على كل حال بشر معرضون للسقوط. ألم تكن له هو نفسه مثل هذه الأفكار أبدًا؟ لذلك مهم جدًا الخوف والحذر حتى من هذه الخطايا الخفية”.

(المرجع السابق، تعليق على (أي١: ٥ س)، ص ٢٠.)

 

وعندما فسر ذهبي الفم آية “لأنه مَنْ سيصير طاهرًا من النجاسة؟ لا أحد، حتى لو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض” (أي١٤: ٤- ٥ س)، لم يأت على ذكر موضوع وراثة الخطية الأصلية، بل تحدث عن ضعف وهشاشة الطبيعة البشرية كالتالي:

“أتنظر أيها القارئ كيف يُسارع أيوب من جديد إلى الاحتماء في طبيعته البشرية الضعيفة، إذ قال: لأنه من المستحيل للإنسان أن يكون طاهرًا بصفة دائمة. إنه يتوسل ليس فقط بسبب ضعفنا، أو بسبب صفتنا الزائلة، أو بسبب الإحباط الذي يملأ حياتنا، إنما بسبب أنه لا يمكننا أيضًا أن نكون طاهرين”.

(المرجع السابق، تعليق على آية (أي١٤: ٤، ٥ س)، ص ١٢٥، ١٢٦.)

 

ثم يؤكد ذهبي الفم على عدم مسئولية تركيب طبيعتنا البشرية عن أخطائنا، وهكذا يرفض الذنب الطبيعي وخطية الطبيعة، تلك التعبيرات التي استحدثها أوغسطينوس في خضم صراعه مع البيلاجية، والتي لم يعرفها آباء الشرق ولم يُعلموا بها، حيث يقول التالي:

“وكان ينبغي أيضًا تحديد أي نوع من الطين: من التراب الذي هو أكثر وضاعةً، والذي منه اشتُقَ اسم طبيعتنا. هذا صدق تمامًا إذ لم يقل فيما يختص بنا إن كان تركيب طبيعتنا مسئولاً عن أخطائنا، بالمثل بالنسبة للملائكة يوجد شيء يخصهم، يجعل الله يظن فيهم شيئًا يوضعهم ويخفضهم، وعلى ذلك فيما يختص بنا أيضًا يوجد ما يظنه الله؛ مريدًا إظهار حكمته بتعبير: أنه ظن، ليس للتشديد على أن الله يبذل جهدًا في التفكير، بل هو بهذا أظهر فكرة عبقرية وفذة”.

(المرجع السابق، تعليق على (أي٤: ١٩ س)، ص ٧٥.)

 

كما يؤكد ق. يوحنا ذهبي الفم في سياق تفسيره لحادثة قتل أطفال بيت لحم على خلو الأطفال من أية خطية موروثة أو فعلية، كما يؤكد على دخولهم الملكوت ونوالهم المكافآت – بخلاف أوغسطينوس الذي يؤكد على أن مصير الأطفال غير المعمدين هو جهنم والهلاك الأبدي- بالرغم من أنهم كانوا قبل تدبير خلاص الرب، ولم يكونوا معمدين للخلاص من الخطية الأصلية الموروثة بحسب المفهوم اﻷوغسطيني، حيث يقول التالي:

“قد يُقال: أي نوع من الخطايا كان لهؤلاء الأطفال بحيث كان يجب أن يمحوه؟ حتى لو لم توجد خطايا، فإنه توجد مجازاة بمكافآت للذين يقاسون الشر هنا. فبأي شيء تضرر به الأطفال الصغار لدى ذبحهم لسبب مثل هذا؟ تقولون: لأنهم كانوا سيحققون أعمالاً عظيمةً وكثيرةً من البر لو عاشوا. . . لهذا السبب يدخر الله لهم بشكل مبكر مكافأة ليست بصغيرة بإنهاء حياتهم لسبب كهذا. ولو كان الأطفال سيصيرون أشخاصًا عظامًا لما كان الله قد سمح لهم بأن يُختطفوا قبلاً لأنه إن كان الله يحتمل بآلام عظيمة جدًا الذين سوف يعيشون في الشر على الدوام، فبالحري أكثر ألا يأذن لهؤلاء الأطفال بالرحيل، لو سبق وعرف أنهم سيحرزون أمورًا عظيمةً”.

(يوحنا ذهبي الفم (قديس)، شرح إنجيل متى ج١، ترجمة: د. عدنان طرابلسي، (لبنان، ١٩٩٦)، عظة ١: ٣، ص ١٠٧، ١٠٨.)

 

كما ينفي ق. يوحنا ذهبي الفم بجلاء موضوع وراثة الخطية الأصلية مستشهدًا بوجود أبرار في العهد القديم أمثال: نوح، وإبراهيم، ويعقوب، لم يكونوا وارثين للخطية الأصلية كالتالي:

“ماذا إذًا، أخبرني، هل مات الجميع في آدم موت الخطية؟ إذًا كيف كان نوح بارًا في جيله؟ وكيف كان إبراهيم أيضًا؟ وكيف كان يعقوب بارًا؟ وكيف كان الآخرين؟ وأخبرني أيضًا كيف سيحيا الجميع في المسيح؟ وأين هم الذين سيُلقون في جهنم؟ إذا كان هذا الكلام يخص الجسد فقط، فإنه يكون كلامًا صحيحًا، أما إذا كان قد قيل عن القداسة والخطية؟ فلن يُقبل على الإطلاق”.

(يوحنا ذهبي الفم (قديس)، تفسير رسالة كورنثوس الأولى ج٢، ترجمة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٧)، عظة ٣٩: ٥ على (١كو١٥: ٢٢)، ص ٣٧١.)

 

يتضح من هنا أن ق. يوحنا ذهبي الفم لم يعلم بشيء اسمه وراثة الخطية الأصلية، ولا بخطية الطبيعة، ولا بالذنب الطبيعي، كما علم به بعد ذلك أوغسطينوس في صراعه مع البيلاجية، كما يؤكد على براءة وطهارة الأطفال من أية خطية موروثة أو فعلية، وأن مصير الأطفال المختطفين غير المعمدين هو المكافآت العظيمة جدًا.

أود التنويه في الأخير إن هذه الأقوال والاقتباسات الآبائية هي قليل من كثير عند آباء الكنيسة تنفي فكرة وراثة الذنب والخطية الأصلية كما علم بها أوغسطينوس.

الخطية الجدية عند القديس يوحنا ذهبي الفم – د. أنطون جرجس

Exit mobile version