ستة أيام الخليقة بين لاهوت الكرازة الأولى وقضايا الإنسان المعاصر – القس أثناسيوس اسحق حنين
ستة أيام الخليقة بين لاهوت الكرازة الأولى وقضايا الإنسان المعاصر – القس أثناسيوس اسحق حنين
مقدمة:
المسيحية في انطلاقاتها الأولى هي رسالة مصالحة وبحث دائم عن القواسم المشتركة بين بني البشر في كل مكان وفى كل زمان، ولم تكن لتفتخر أبدًا أنها ديانة خلاص العالم لو لم تكن واعية برسالتها ” أن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعا فينا كلمة المصالحة ” (καταλαγής) (2كو19:5).
هذه المصالحة أسسها الرب وسلّمها لتلاميذه مع روحه القدوس لكي يسعوا بها في الأرض كسفراء المصالحة. وإذا كان الله قد خلق العالم بالكلمة وفداه بالكلمة المتجسد، فتكون رسالة المصالحة مع المؤمنين هي الشركة في الكلمة أي في عمل المسيح الخلاصي، كما يحدث اليوم بين كنيستنا القبطية الأرثوذكسية والكنائس الأرثوذكسية الأخرى، التي نعبّر عن سعادتنا بعودتها إلى حرية الكلمة والشهادة على يد آبائها وعلمائها الأوائل والمعاصرين لكي تأخذ دورها اللائق في العائلة الأرثوذكسية وتكون رائدة في دفع عجلات الحوار ليس فقط من أجل التقارب والوحدة بين المسيحيين بل التقارب بين الحضارات، والحوار بين الثقافات والحوار مع غير المؤمنين. يمكن تأسيس الحوار انطلاقًا من التعاليم اللاهوتية عن الخليقة الأولى وجمالها.
فالمسيحية الأولى شبعانة بالرؤية الكونية التي يشترك فيه كل البشر، والتي يمكن أن نجد فيها الأساس اللاهوتي والأنثروبولوجي للحوار حول قضايا الإنسان والبيئة وثقافة قبول الآخر، والتهديد النووي، والبطالة بين الشباب، وغيرها من القضايا التي تشغل العالم المعاصر في زمان صار فيه العالم قرية صغيرة بما يعرف بظاهرة Globalization والتي سنتناولها بالتفصيل لاحقًا.
وكذلك الكرازة التي تركز على التكامل في المسيح والدور الهام الذي يمكن أن تلعبه على المستوى اللاهوتي قضية جمع كل شيء في المسيح، والتي شغلت الفكر الآبائي في الكنيسة الأولى (Ανακεφαλιώσις). وأيضًا على أنه بالنعمة والحق يعود الإنسان إلى رتبته الأولى، لذا نصلي في القداس القبطي للقديس باسيليوس [غير المؤمنين ردهم لتنقضي افتراقات الكنيسة].
واستلم الآباء الأوائل خدمة المصالحة هذه، فأبدعوا في لغة الحوار والتواصل مع كل الثقافات، وغرسوا رسالة الإنجيل في تربة كل الحضارات حتى أن أحد آباء الكنيسة الأولى المؤسسين للكرازة الأولى ورسول الحب الأول لم يكتفِ أن يرى هذه المصالحة بين الأمم والشعوب في المسيح هنا على الأرض، بل رآها معلنة في السماء ” من كل الأمم من كل الشعوب من كل القبائل ” (رؤ9:7). وبالتأكيد فإن هذه الشعوب لن تأتِ فارغة أمام العرش بل ستحمل معها أعمالها وتراثها وثقافاتها وتواريخها التي عمدتها بدم الحمل ودموع التوبة والجهاد.
ما هو السبب في أن الآباء الأوائل يتوجهون بهذا القدر الكبير من التفاؤل والثقة إلى كل الأمم وكل القبائل؟ هل من أساس لاهوتي؟
كيف نجح علماء الكنيسة الأولى في تجاوز ما يسمونه اليوم (صدام الحضارات)، واستطاعوا التواصل والحوار مع الحضارتين العبرانية والهلّينية، وأن يقيموا حوارًا مع أعتى المدارس الفلسفية والحكام الفلاسفة مثل ماركوس أوريليوس وغيره[2]، والتعاطي الفكري والديني مع المؤسسات الدينية الراسخة في البيروقراطية مثل السنهدريم ومجمع علماء اليهود رؤساء الكهنة[3]، وحرفيَّة الكتبة وتعصب وانغلاق ذهن الفريسيين للديانة اليهودية بدون أن ننسى حوارات العلماء المسيحيين مع الفلاسفة.
وهنا يبرز حوار العلاّمة أوريجينوس مع الفيلسوف الوثني كلسوس ولعلنا نحتاج إلى التمعن في ما يسمى في تاريخ الكنيسة بظاهرة (الآباء المدافعين) الذين تصَّدوا للحوار مع فلاسفة وأباطرة العالم المثقفين، مما جعل رسالة الخلاص تتغلغل في شعوب لم يكن لها ماضي مع الله بل مع الأوثان ولم تكن أبدًا من “خاصته” (يو1:11). على هذه الأسئلة تحاول هذه الدراسة المتواضعة تقديم بعض الأفكار لهذا الحوار.
1 ـ منهج الكنيسة الأولى في الكرازة:
إن آباء المسيحية وعلمائها اتبعوا المنهج اللاهوتي الذي أعلنه الله أثناء تعامله مع البشرية، والذي أبرزه بولس الرسول حين قال: ” الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديمًا بطرق وأنواع كثيرة كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه ” (عب1:1). بين “قديمًا” و”الأيام الأخيرة”، بين “كلّم الآباء” و”كلّمنا”، بين “بالأنبياء” و”في ابنه”، وجد المسيحيون الأوائل مؤمنين وعلماء الفرصة لتنوع لاهوتي من أجل الرعاية، فلم يوجّهوا نفس الخطاب اللاهوتي لليهود، والوثنيين، والعلماء، والعامة. فهناك اختلافات لاهوتية كبيرة بين خطاب بطرس يوم الخمسين لليهود (أع3)، وخطاب بولس لليونانيين في الآريوس باغوس في أثينا (أع17).
والذي فرض هذا التعدد والتنوع وليس الاختلاف أو التناقض في الخطاب اللاهوتي، هو الاحتياجات الرعوية والرغبة في التواصل والحوار مع اليهود انطلاقًا من التراث اللاهوتي والروحي المشترك وهو النبوات وأحداث العهد القديم الكبيرة كالخروج من مصر (أع14:2). ونفس الأمر أيضًا مع الأمم انطلاقًا من التراث الروحي والثقافي المشترك وهو الدم الواحد وشهادة الشعراء ونظام الخليقة كما أكد ذلك الرسول بولس في الآريوس باغوس (أع22:17).
هذا التعدد الحضاري والثقافي والروحي في الخطاب اللاهوتي الواحد يعود إلى أن الآباء قد وازنوا بين التعليم عن السقوط والفداء الذي هو أساس تعاليم العهد الجديد، وبين التعليم عن الخليقة الذي هو أساس الخليقة التي سيفديها الله. فالتعليم عن الخليقة الأولى هو بمثابة روحانية لحظات الحب الأول بين الله والبشر، أيضًا هو العودة إلى ستة أيام الخليقة الأولى حيث خلق الله كل شيء ورأى أنه حسن.
وقد تعلّمنا في فصول مدارس الأحد حقيقة لاهوتية كبيرة وهي أن هذه الأيام ليست أيامًا كأيامنا أي أربعة وعشرين ساعة، بل هي حقبات من الزمن طويلة. وإذا كان العلماء يرون أن عمر الكون هو 20 مليار سنة وظهور الإنسان على الأرض عمره 4 مليار سنة فيكون العالم قد عاش في النعمة الأولى للخليقة حوالي 19 مليار سنة[4].
وهنا تأتي الضرورة اللاهوتية والإنسانية وراء التأمل في هذه الأيام الأولى لنشأة العالم، حتى نجد قواسم مشتركة مع الخليقة كلها والإنسانية جمعاء، مما يساعد على إفراز لاهوتي كرازي وحواري جديد يقوم على فهم آبائي للأبعاد الكونية للتجسد ليرد الإنسان والإنسانية والخليقة والطبيعة إلى رتبتها الأولى، بعد نقض الحاجز المتوسط وهدم العداوة القديمة بين الأمم[5]. ولعلّنا نجد في هذه الأبعاد اللاهوتية والإنسانية في التعليم عن الخلق، الأساس العلمي لإقامة حوار رصين مع حضارات وثقافات العالم.
2 ـ الخليقة الأولى كمادة لاهوتية للكرازة والحوار:
القصد من وراء تعبير الخليقة الأولى هو خلق العالم والإنسان وأيام النعمة الأولى في حضرة الله قبل السقوط وجمال الخليقة الأولى ومشاركة آدم لله في الإشراف على الطبيعة وتسمية الكائنات. وهذه القضايا شكّلت عند كتّاب العهد الجديد والآباء الرسوليين والآباء المدافعين، مادة للحوار تناولوها بشجاعة وإقدام وإبداع وجرأة لاهوتية وإنسانية، لأنهم مثلهم مثل سيدهم ينشدون خلاص الإنسان.
إذ عرفوا ما في الإنسان من خير وتراث طيب، وما في الإنسان من صورة الله وإن تشوهت بالسقوط. والدليل هو الأخوان الأولان قايين وهابيل، منهم الشرير ومنهم الخيّر. وإبراهيم تبرّر بالإيمان قبل الناموس. أي أن السقوط شوّه أيقونة الله في الإنسان ولم يمحُ حرية الإرادة. وفي هذا رد على بعض الانتقادات المعاصرة حول ما هو ذنب الإنسان أن يرث خطية لم يفعلها. والآباء يرون أنه لم يرث إرادة الشر فهو حر أن يصنع الخير أو الشر، بل ورث حالة من الإحباط والغربة عن بيت الله.
ولعل التمعن والتأمل في حلاوة العِشرة الأولى بين الإنسان والله والطبيعة يجعلنا نتساءل، إذا كنا في آدم وحواء قد شاركنا في نعم وعطايا وبركات الخليقة الأولى، فهل نتركهم ولا نشاركهم في محنتهم التي هي محنتنا جميعًا. وهذه المحنة سماها التقليد الخطية الجدية. إلاّ أنها لم تمحُ من الإنسان صورة الله حسب التقليد الأرثوذكسي. وهذا يُعَّد مبدأ أنثروبولوجي عام جدًا عند الآباء.
فالقديس أثناسيوس مهّد لكتابه عن تجسد الابن الوحيد وإعادة الإنسان إلى صورته الأولى، بكتاب فتح فيه الحوار مع المثقفين اليونانيين. وهذه الرؤية اللاهوتية للأيام الستة الأولى للخليقة وضعت الأساس للآباء لكي يبشروا الإنسانية كلها ببشارة الخليقة الجديدة في المسيح. مما يفتح آفاقًا كبيرة للحوار بين المسيحيين أنفسهم على تعدد ثقافاتهم، وبين المسيحيين والذين هم من خارج على أساس ثقافي وحضاري.
لقد رأى الآباء في الأمم، كسيدهم، إيمانًا أعظم من بني إسرائيل. وبالتالي أسسوا التعليم عن الكرازة للأمم، وساهموا في حل المعضلات الفلسفية والأزمات الإنسانية والوجودية التي عاشها الناس في أواخر أمجاد وأزمات إمبراطوريات العالم القديم[6].
3 ـ بولس الرسول والتعليم عن الخليقة الأولى:
بالرغم من أن رسول الأمم هو أكثر مَن تكلّم عن أن المسيحية بعهدها الجديد هي الحل النهائي لكارثة السقوط، وأنها قسمت التاريخ إلى عهد النعمة، وعهد الناموس، وأن المسيح هو الكل في الكل (رسائل رومية وغلاطية وأفسس)، إلاّ أنه في تعامله مع غير المؤمنين من مثقفي عصره ينهج منهجًا آخرًا. وهذا النهج استمر عند الآباء الرسوليين والآباء الكبار إلى أن انقطعت أوصال هذا اللاهوت الوفاقي الكرازي مع العصور الوسطى، وظهور اللاهوت المدرسي الدفاعي الذي اعتمد على فلسفة أرسطو أكثر من تراث الآباء.
وما القطيعة بين اللاهوت الغربي في العصور الوسطى وبين العلم وقضايا الإنسان الحيوية إلاّ دليل على الفصام الذي حدث بين النظرة الصحيحة للخليقة الأولى وبين نظرة الإنسان لهذه الخليقة في العصر الوسيط. وربما هذه القطيعة تُفسّر العودة المبالغ فيها إلى احتضان العلوم الإنسانية والثقافات في الغرب المسيحي بصفة عامة، وفي المجمع الفاتيكان الثاني (1963) بصفة خاصة، والتي لم تخلو من تجاوزات. وهناك مثل فلسفي قد ينطبق في هذا الصدد Celui qui est (trop marrie avec age deviant veuf l,autre age) وهو يعني أن الذي (يتزوج) عصرًا ما أكثر من اللازم سوف يصير (أرمل) في العصر التالي!
أسس الرسول بولس المنهج الحواري مع الثقافات والحضارات، ففي قلب أثينا عاصمة الفكر والفلسفة في العالم القديم أجرى الرسول أرقى حوار للحضارات بين الإيمان المسيحي الجديد واليونانيين المثقفين الذين كانوا يبحثون عن كل أمر جديد. فقد أسس الحوار على أساس التعليم الكتابي عن الخليقة الأولى، أي رجع بنا إلى لحظات تأسيس العالم الأولى، والتي من حق كل إنسان أن يفتخر بها. لقد عاد بنا إلى الإله الذي خلق.
وهذا الإله هو مصدر الحياة (إذ هو يعطي الجميع حياة ونفسًا وكل شئ). ثم يأتي إلى الأساس الأنثروبولوجي بعد أن ذكر الأساس اللاهوتي للتعليم عن الخليقة. وهذا الأساس الأنثروبولوجي للحوار مع الوثنيين المثقفين هو “وصنع من دم واحد كل أمة يسكنون على الأرض” (أع26:17).
4 ـ الخليقة الأولى كوسيلة للكرازة في الكنيسة الأولى:
تعتبر عظات القديس باسيليوس حول (أيام الخليقة الست: الهيكساميرون) من أهم النصوص اللاهوتية التي تعد مصدرًا هامًا لكل حديث لاهوتي وأنثروبولوجي في الخليقة الأولى. وهي عبارة عن تسعة عظات، وقد كتب أمبروسيوس أيضًا عن أيام الخليقة الأولى ولم يأتِ بجديد لأنه اعتمد على باسيليوس. وقد وحّد باسيليوس في حياته بين نسك البرية القبطية وبين علوم أثينا اللاهوتية مع الحياة والخبرة الليتورجية، وهو واضع القداس الذي يحمل اسمه والذي تصلي به الكنيسة القبطية معظم أيام السنة.
فقد وحّد في شرحه لأيام الخليقة الأولى الستة (الهيكساميرون) بين السجود الخاشع والليتورجي أمام سر جمال الخليقة الأولى وعظمة الخالق وبين تأمل العقل الساجد والناسك في أسرار وجمالات أيام الخليقة الأولى، وبين الرجوع لعلوم عصره في الفلك وعلوم الطبيعة وآراء الفلاسفة في الخلق ودحضدها على أساس الرؤية اللاهوتية. ويقول عن الخليقة ” في البدء خلق الله الطبيعة الطوباوية والصلاح النقي والجمال الذي يشتاق إليه محبي الحكمة وينبوع الحياة ونور الصلاة العقلية “.
ويتساءل عن كلمة البدء Εν αρχή وسبب استعمالها في النص فيقول حتى لا يقولون عن الله إنه بلا بداية Ανάρχος. وعن الدور التربوي والروحاني للخليقة يقول ” إن هذا الكون بما فيه من مخلوقات مرئية وغير مرئية يقوم بدور . ولعلّنا نجد هنا الأساس الآبائي لما يُعرف في العصر الحديث بالإعلان الطبيعي Natural Theology. ويذهب باسيليوس أبعد من مجرد أن العالم هو بمثابة مدرسة ومربي للنفوس، فيقول إن الخليقة الأولى هي وسيلة لمعرفة الله، وهو هنا يلتقي مع الرسول بولس في (رو19:1) فالعالم ” كما خرج من يد الله هو مدرسة النفوس المفكرة ومعهد تربية معرفة الله “[7].
وهنا لا يمكن أن ننسى الناسك القبطي أبو الرهبنة شرقًا وغربًا أنطونيوس الكبير الذي حينما سأله الفلاسفة اليونانيون عن ماذا يقرأ في هذه البرية القاحلة، وعن كيف يتثقف فقال لهم ” أن الطبيعة هي كتابي”. ويتأمل القديس باسيليوس في لماذا لم يذكر الكتاب تفاصيل خلق السموات والأرض؟ ويرى باسيليوس أن هناك تفاصيلاً كثيرةً لم يتكلم عنها الوحي مثل الماء والنار والهواء وما ينتج عنها من ظواهر. ولم تذكر قصة الخلق هذه الظواهر لكي يدَّرب الإنسان عقله على التمعن في بقية أسرار الخليقة[8].
والقديس باسيليوس يسير على نهج القديس بولس في وضع الخليقة الأولى في مكانها اللاهوتي الذي جعلها عند بولس موضوع الكرازة الأول للأمم، كما نرى في الإصحاح الأول من الرسالة إلى أهل رومية حيث يعتبر بولس أن الخليقة الأولى بما فيها من جمالات وإبداعات كافية لمعرفة الله ” لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر ” (رو20:1).
ويذكر الرسول ما بنى عليه باسيليوس أن التمعن في الخليقة الأولى كمرحلة أولى في الكرازة كفيلة بمعرفة الله لأن معرفة الله ظاهرة فيهم، ولابد أن تؤدي بالنفوس الصادقة إلى التمجيد والشكر. وهنا تتحول الخليقة إلى ليتورجيا كونية كما يرى اللاهوتي الروسي الراحل الكسندر شميمان في مؤلفه المعروف (For The Life of World).
وتتميز النظرة الآبائية للخليقة الأولى بقدر كبير من التفاؤل والإيجابية ويتضح ذلك من رؤية القديس باسيليوس لسبب ظهور الظلمة على وجه الأرض “وعلى وجه الغمر ظلمة”، فيرى أن الظلمة ليست في جوهر الخليقة الأولى لأن الله خلق كل شيء حسنًا وحسنًا جدًا، ولكنه جزء من الخواء بسبب طبيعي لم يصله النور[9]. وأما عن ” روح الله الذي يرف على وجه المياه “، فهو الروح القدس الأقنوم الثالث في الثالوث الطوباوي الإلهي، و”يرف” عند باسيليوس أي يمارس دوره الإبداعي في تشكيل الأرض، أي ليعطيها حياة وهو يرّف عليها حتى لا ينقص الأرض شيء من فعل الروح الخلاّق[10].
ويشارك القديس كيرلس الكبير في الحوار حول الخليقة الأولى فيخصص فصلاً في كتابه (العبادة بالروح والحق) للحديث عن الظلال والرموز اللاهوتية في خلق العالم والإنسان[11].
5 ـ الخليقة الأولى ومشاكل الإنسان المعاصر:
يجمع علماء الأنثروبولوجي وعلم الإجتماع بل والسياسيين ورجال المال والاقتصاد على أن أزمات الإنسان المعاصر كبيرة ولعل هذه الأزمات تظهر بشكل قوي في العالم الغربي. فالإنسان المعاصر يجد نفسه وحده في مواجهة أزمات الوجود، ولم يعد الخطاب الديني التقليدي يشبع جوعه إلى الله، بل وصار الدين والخطاب الديني المتشنج والغاضب سببًا من أسباب الصدام بين الحضارات. وأهم معالم أو لِنَقُل أزمات الإنسان المعاصر هي:
أولاً: أزمة البيئة Ecological Crisis
فهناك خطر يهدد عالمنا اليوم ويرعب الإنسان، كل إنسان بغض النظر عن لونه أو جنسه أو ديانته أو عمره أو وضعه الاجتماعي، هو أزمة البيئة، فالعلماء اليوم يرون أن الإنسان يحصد بالشح من الطبيعة ما سبق وزرعه بالشح من تلويث للبيئة. وهذا التلوث يؤثر على قدرات الإنسان وطاقاته، ويرى عالِم الجيولوجيا توماس بيري أن الإنسان بما ألقاه في الطبيعة من منتجات كيمياوية لم يعد محتاجًا لحرب نووية لإفساد الأرض.
ويقول عالِم الفيزياء أينشتاين ” أننا بقدرتنا على تفتيت الذرّة إستطعنا تغيير كل شيء إلاّ طريقتنا في التفكير “[12]. والبشرية تسير نحو كارثة كونية، ولابد من تغيير طريقة التفكير بشكل جذري. ويرى الباحث الأب فوكس أن العودة إلى التراث الكتابي والآبائي للخليقة الأولى يمكن أن يشجع العلماء والفنانين واللاهوتيين على العمل من أجل عالم أفضل بدون حروب[13].
ثانيًا: قضية البطالة في العالم:
الأزمة الثانية التي يتعرض لها العالم المعاصر هي قضية البطالة، فبلاد العالم الأول لديها اليوم 54 مليون عاطل عن العمل أغلبهم من الشباب، بينما دول العالم الثالث لديه 150 مليون عاطل عن العمل. وهل ينكر أحد أثر البطالة على الأوضاع الاجتماعية اليومية، ومن المعروف أن الكثير من العاطلين الشباب ينخرطون في أعمال عنف وإرهاب لكي يعولوا أسرهم. فقد اعترف بعض الشباب القادمين من العراق أثناء الحرب مع إيران أنهم كانوا يعملون في الجيش نظير مرتب كبير! وفي دراسة حديثة تمت في 1982 أظهرت أن كل مليار دولار تنفق على التسلح يقابلها خسارة 81 ألف فرصة عمل[14].
ولقد أظهرت إحصائية أخرى أن احتياجات كل سكان الأرض من الغذاء والماء والتعليم والتأمين الصحي والسكن لا تتعدى 16 مليار دولار سنويًا، وهذا المبلغ يتم صرفه على التسلح في أسبوعين. ولقد آن الأوان ليحمل المعلّمون الكنسيون قضية الإنسان المعاصر على عاتقهم، ويعتبروا أن مشاكله اليومية هي مشاكل تهم الكنيسة بالدرجة الأولى، ونحن نكلمه عن الخبز السماوي لابد أن نجاهد معه لتأمين الخبز الأرضي حتى يكون لكلامنا مصداقية.
ثالثًا: النهضة العلمية بدون الله:
من أكبر أزمات الإنسان المعاصر أنه ظن أنه بالعلم وحده سيحيا، ولقد كتب أحد علماء الفيزياء يقول [إن أكبر أمراض عصرنا هو هذا الفصام المريع بين الحكمة اللاهوتية وبين المعارف العلمية]. وهنا نجد أن التراث الروحي الكبير للآباء مثل “الهيكساميرون” لباسيليوس وغيره يمكن أن يساهم في إذابة الفجوات والمصالحة الآبائية بين العلوم الوضعية والروحيات السماوية، وبين الفلسفة واللاهوت، أي بين فكر الإنسان وفكر الله؛ بين بذرة اللوغوس الكامن والناطق في الفلاسفة الوثنيين (كليمندس الإسكندري ـ الاستروماتا والمربي) وفي الخليقة، وبين الكلمة المخلص للعالم والناطق في الأنبياء بالروح القدس (يو14:1).
وما عقيدة التجسد ذاتها إلاّ دعوة إلى حب الأرض التي مشى عليها المخلّص، واحترامها والفرح بها لأنه لا يوجد “كما في السماء” بدون “كذلك على الأرض” كما تعلمنا الصلاة الربانية. وكنيستنا القبطية تخصص تسابيح طويلة في صلواتها اليومية تدعو فيها الكون والطبيعة والكائنات إلى تمجيد الرب[15]. ليتورجية القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس تفيض في تسبيح الرب لأنه ” أقام السماء لي سقفًا وثبت لي الأرض لأمشي عليها … لم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك “، وكل هذا يؤكد الدور التربوي الكبير الذي للخليقة الأولى.
[1] كاهن كنيسة مار مرقس بأثينا باليونان.
2 رسائل يوستينوس الشهيد إلى الإمبراطور يصف له في قالب لاهوتي روحي ولغوي رائع أدق تفاصيل حياة المسيحيين الأوائل.
3 الحوار بين يوستينوس العالِم المسيحي وتريفون العالِم اليهودي.
[4]Matthew Fox, La Grace Oiginelle Paris 1995 page 53.
5 صلاة الصُلح في القداس الغريغوري وهى تتكلم عن الفداء تتناول الخلق وهى صلاة موجهة للابن الوحيد (الخالق مع الآب) ويذكر الدافع اللاهوتي وراء خلق الإنسان (من أجل الصلاح وحده) وهذا يؤكد على أن التقليد الليتورجي يعطى للتعليم عن الخليقة الأولى مكانة كبيرة. انظر الخولاجي المقدس، إصدار دير البارموس ص317.
6 انظر Andre Piganiol, L, Empire Chretien. Paris 1972 الفصل الخاص بمصر ص 22.
7 باترولوجيا جريكا طوموس 29 باسيليوس الكبير عظات على الهيكساميرون، أثينا 2002 ص14.
11 انظر المرجع الهام للعالِم والمؤرخ مونيير ديورانت Le Christ du Cyrille D, Alexandrie والصادر في باريس عام 1997 في السلسلة الشهيرة (دراسات لاهوتية وتاريخية رقم 104).
12 انظر المرجع الهام Le Grace Originelle للعالِم الأمريكي والكاهن ماتيو فوكس والصادر في باريس 1995 ص12ـ35.
14 الذي قام بالدراسة هو Employment Research Associates de Lancing, Michigan 1982
15 انظر الإبصلمودية السنوية المقدسة ـ الهوس الرابع، إصدار دير البراموس العامر ص164ـ173.