القديس غريغوريوس اللاهوتي (النزينزي) – حياته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي
1 ـ حياة القديس غريغوريوس اللاهوتي (النزينزي):
وُلد القديس غريغوريوس اللاهوتي (النزينزي) في نزينزة بإقليم كبادوكية حوالي سنة 329/330م. وكان أبوه الممسمى غريغوريوس أبضًا أسقفًا للمدينة، وهو من الأغنياء ومالكي الأراضي، وربما كان من أصل يهودي، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنه كان في البداية من أتباع بدعة يهودية ـ وثنية يلقب أصحابها أنفسهم باسم “عبدة العلي”، وقد تخلى عن هذه البدعة بعد إصرار وصلوات زوجته المؤمنة نونا.
وقد تابع غريغوريوس الابن دراسته في نزينزة، وفي قيصرية بكبادوكية حيث التقى بالقديس باسيليوس الكبير (341/343م)، وفي قيصرية بفلسطين، وفي الأسكندرية، وأخيرًا في أثينا (350/357م) حيث تعلم على يد كبار الخطباء والمعلمين في ذلك العهد أمثال إيميريوس وبروئيريسيوس، وحيث وطد صداقته بباسيليوس. وخلال السنة الأخيررة من فترة إقامتته بأثينا (356/357م) قام هو بنفسه بتدريس فن الخطابة في مدارسها، مثلما فعل فور عودته إلى نزينزة استجابة منه لطلب أصدقائه الملح من أجل القدوم إلى بلده.
ومنذ الفترة التي قبل غريغوريوس خلالها المعمودية (358/359م)، أصبح على اتصال مستمر مع صديقه باسيليوس، حيث تبعه إلى منسكه في بنطس (بالقرب من نهر إيريس). وهناك مارسا معًا حياة التنسك، وتعاونا على وضع النص النهائي لمؤلفات كان كل واحد منهما قد ككتبها (عمل ريغوريوس على مؤلفه حول “محبة الخير Filokalia”.
وفي أواخر عام 361 أو قبل عيد الفصح بقليل لعام 362، استجاب غريغوريوس لضغوط والده فقبل أن يُرسم كاهنًا، لكنه التجأ لفترة قصيرة فيما بعد إلى منسك باسيليوس، إلاّ أنه عاد بعد ذلك لمعاونة أبيه المسن في العمل الرعوي، مبتدئًا بذلك عطاءه اللاهوتي.
في أواخر سنة 363 أو أوائل سنة 364، وجه أسقف فيصرية أوسبيوس دعوة إلى غريغوريوس من أجل القدوم إلى قيصرية والعمل معه كمعاون له، لكن غريغوريوس اقترح لهذا المنصب صديقه باسيليوس الذي قبل الاقتراح . وفي عام 368/369 تلقى غريغوريوس صدمة قاسية بوفاة كل من أخيه قيصاريوس الذي كان أحد كبار موظفي البلاط، وأخته غورغونيا.
وفي عام 370 بذل جهودًا حثيثة لمساعدة باسيليوس لكي يتم انتخابه أسقفًا لكنيسة قيصرية. هذا وقد رفض غريغوريوس دعوات متكررة له من باسيليوس لتسليمه مهام رعوية في الكنيسة ومسئولية مواجهة ومحاربة البدعغة الآريوسية، وذلك لأنه كان يفضل الابتعاد عن المشاكل والتفرغ لمسئولياته في أسقفية نزينزة (كان والده أسقف نزينزة قد أصبح في ذلك الحين شيخًا متقدمًا في السن، وتوفي عام 374 قبل فترة قصيرة من وفاة زوجته نونا).
في عام 3772 قام باسيليوس برسم غريغوريوس أسقفًا دون رضاه، لكنيسة مدينة سزيم، وهى مدينة صغيرة ليست ذات أهمية تذكر، وكان غرضه من ذلك دعم نفوذه في كبادوكية. لكنه بدلاً من الذهاب إليها، التجأ إلى مكان جبلي عالٍ، ولم يعد إلاّ بعد أن وعده أبوه بأنه لن يضغط عليه للذهاب إلى سزيم، التي قام فيما بعد بزيارتها فقط.
وظل غريغوريوس يعاتب باسيليوس على مبادرته هذه طول حياته، لكن دون أن يعني ذلك أنهما توقفا عن التعاون فيما بينهما، أو أن ذلك الحدث قد أثر على صداقتهما الوطيدة. بل بالعكس من ذلك، فقد ظل غريغوريوس يزور باسيليوس باستمرار، ليناقش معه المواضيع الكنسية واللاهوتية الهامة، مثل مسألة ألوهية الروح القدس، كما أنه كان يعظ في قيصرية.
بعد وفاة أبيه عام 374، تسلم مؤقتًا كل مسئوليات الأسقفية. لكنه عندما اتضح لديه أن مواطني المدينة كانوا يتأخرون عمدًا عن انتخاب أسقف جديد (لكي يحتفظوا به في ذلك المنصب)، ذهب إلى دير القديسة تقلا في منطقة إيزوريا على الضفة الجنوبية من أسية الصغرى، حيث مكث أربع سنوات، أى حتى سنة 378 قضاها في التقشف اليومي والتأمل الروحي والصلاة الدائمة ودراسة الكتاب المقدس ومراسلة الأصدقاء، محققًا بذلك حلمه القديم ليعيش حياة الرهبنة والطهارة والسكينة والتقرب من الله.
في سنة 378 أصيب بمرض شديد لدرجة أنه لم يستطع السفر إلى قيصرية حيث كان باسيليوس قد توفى، ودفن بتاريخ 1/1/379 فبكى عليه بكاءً مرًا. وقد هز هذا الحدث كيانه وترك أثارًا عميقة في نفسه الحساسة المرهفة. وأخيرًا، في عام 378 استجاب لرجاء الأرثوذكسيين في القسطنطينية وذهب إلى هناك حيث كانت أغلب الكنائس فيها تابعة للآريوسيين الذين كانوا يفرضون سيطرتهم المطلقة في المدينة.
واتخذ هناك من كنيسة أناستاسيا (أو القيامة) ـ وهى كنيسة صغيرة متواضعة ـ منطلقًا للعمل الرعوي وللكرازة والتعليم، وألقى فيها “خطبه اللاهوتية” الشهيرة، ووقف إلى جانب الأرثوذكسيين، وبتعاليمه المستنيرة بالإلهام الإلهي بعث الكنيسة الأرثوذكسية من جديد في القسطنطينية. وكان هناك تجاوب كبير من الشعب لتعاليمه لدرجة أن عددًا كبيرًا من اللاهوتيين المقتدرين كانوا يأتون من أمكنة بعيدة من مختلف أنحاء الإمبراطورية لأجل سماعه (أمثال يرونيموس، وإيواغريوس، وبونتيكوس، وغيرهم).
لكن رد فعل الآريوسيين كان عنيفًا، فهاجموه بشدة ولم يترددوا في محاولة قتله ولحسن الحظ، بمجرد أن القاتل وجد نفسه وجها لوجه أمام غريغوريوس، ذلك الناسك والأسقف اللاهوتيالفاضل، لم يتمالك نفسه وتراجع عما كان سيقدم عليه وقد ملأه الشعور بالندم، وطلب التوبة والغفران.
لكن أكبر درجات الحزن والألم تلقاها غريغوريوس من الفيلسوف الكلبي kunikoj ماكسيموس الذي كان قد ساعده في الماضي وحماه من أعدائه، إلا أن ماكسيموس غدره واستطاع أن يُنصب أسقفا في القسطنطينية بدلا عنه عند ذلك شعر غريغوريوس بالمرارة وخيبة الأمل ، فقرر الرحيل.
لكن الرعية الأرثوذكسية تدخلت ورجته بالبقاء، فاقتنع بذلك وبدأ بإرساء عمله المجيد. وفي 27 نوفمبر من عام 380، قام الإمبراطور الجديد ثيودوسيوس بتسليمه كنيسة الرسل القديسين، بعد أن أمر أسقف القسطنطينية ديموفيلوس التابع للمذهب الآريوسي بمغادرة المدينة.
لقد نال غريغوريوس قدرا كبيرا من الشرف والتعظيم، ولكنه أصيب بالمرارة أيضا، خلال المجمع المسكوني الثاني الذي انعقد في مايو سنة 381. لقد اعترف أعضاء المجمع، وعلى رأسهم ملاتيوس أسقف أنطاكية، بريغوريوس كرئيس أساقفة القسطنطينية. وبالموت المفاجئ لملاتيوس تم تسليم رئاسة المجمع إلى غريغوريوس، الذي اقترح بدون تفكير مسبق أن يكون بولينوس الخليفة الشرعي لملاتيوس.
ولم يرض هذا الاقتراح أبدًا الأساقفة الشرقيين، وكذلك أسقفي مقدونيا ومصر اللذين تمت دعوتهما، فحضرا متأخرين إلى المجمع. وقام هؤلاء كلهم بالتشكيك في شرعية كون غريغوريوس أسقفًا للقسطنطينية، بحجة أنه انتقل من أسقفية سزيم. وبالطبع فإن القانون الخامس عشر الصادر عن مجمع نيقية كان يحظر انتقال الأساقفة، ولكن ريغوريوس لم يتسلم قط مهامه الرعوية في أسقفية سزيم.
هكذا كان بالإمكان تجاوز هذه العقبة، لكن غريغوريوس كان رجلاً حساسًا للغاية وشعر بالمهانة، ولذلك استقال في أواسط شهر يونيو، بعد أن ألقى خطبته الشهيرة (Suntakthrioj Logoj أمام الأساقفة.
ورحل فورًا إلى وطنه واستقر في أرينزة واعتنى بصحته، ثم انتقل لفترة إلى نزينزة حيث قام بمساعدة كنيستها، وحارب عام 382 الهراطقة من أتباع أبوليناريوس الموجودين في المنطقة، وأنقذ المدينة من ويلات غضب رئيس الولاية أولمبيوس، وساهم في عام 383 في تنصيب ابن أخيه أولاليوس أسقفًا في نزينزة، ثم عاد بشكل نهائي إلى أرينزة، وأمضى فيها باقي حياته بالزهد والتنسك والكتابة (الأعمال الشعرية)، ورقد عام 390 (وليس عام 389 كما ذكر البعض). وتكرم الكنيسة ذكراه يوم 25 يناير (وكذلك يوم 30 يناير مع القديسين باسيليوس الكبير ويوحنا فم الذهب).
2 ـ سيرته الروحية:
يعتبر القديس غريغوريوس اللاهوتي (النزينزي) أو النزينزي واحدًا من أهم وأعظم علماء اللاهوت في الكنيسة بعد يوحنا الإنجيلي. لقد رفعه عمقه اللاهوتي وروحه الشاعرية القوية إلى أعلى مراتب الإبداع. لقد كان غريغوريوس الشاعر الذي صار لاهوتيًا عظيمًا. لقد سيطر الاحساس المرهف على وجدانه بشكل كامل، وهذا ما جعله يذوق طعم المرارة وخيبة الأمل في الكثير من الأحيان، فكان في حالة مستمرة من “الهروب” من أوضاع معينة كان يتورط فيها بسبب الضغوط التي كان يمارسها عليه الآخرون، حيث إنه كان يضطر في النهاية إلى الاستسلام إلى تلك الضغوط برضاه التام.
وكان “هروبه” هذا محصلة لإحساسه المرهف من جهة، ولميله للعيش في حياة النسك والطهارة. وكان يؤمن دائمًا أن ” أعظم فعل هو المحبة وحياة القداسة ومعرفة الله ” (رسائل 49).
كان غريغوريوس يتجنب دائمًا أن ينشط في مجال العمل الكنسي، لكنه في النهاية كان يأخذ على عاتقه مسئولية العناية الرعوية، وكان يواجه أيضًا المشاكل اللاهوتية الكبرى. إن إمكانيته لتقبل تعايش التناقضات في أعماق نفسه لم يكن فقط نتيجة لكونه شاعرًا وأبًا راهبًا وناسكًا من آباء الكنيسة، وإنما لكونه أيضًا لاهوتيًا عظيمًا، دستوره في الحياة هو أن من واجبه أن “يثمر” وأن “يفيد” الكنيسة وأن ” ينشر الضياء ” الذي يشعر به (خطاب Logoj IB 4. PG 35, 848AB ).
وفي حالة غريغوريوس حدث شئ يثير الاستعجاب: لقد اتحدت فيه بانسجام تام شخصية الشاعر، وشخصية الأب الكنسي الراهب المتنسك، وشخصية اللاهوتي. إن ثلاثية الأقطاب التي تتميز بها شخصيته تشكل أعظم صفة له، لكنها تشكل أيضًا السبب الرئيسي في صعوبة تفسير أعماله.
العوامل والأسس الرئيسية لأفكاره اللاهوتية:
لقد تركت الدراسات التي قام بها غريغوريوس في كل من قيصرية بكبادوكية، وقيصرية بفلسطين، والأسكندرية، وأثينا، بصماتها الرئيسية على طريقة تعبيره اللاهوتي. كما أثرت صداقته المتينة مع باسيليوس التي استمرت ثابتة طوال حياتهما، من الناحيتين الإيجابية والسلبية على أفكاره اللاهوتية. فالتأثير السلبي قد أتى من واقع أن غريغوريوس كان حتى فترة عام 378 ينتظر دائمًا ليطلع على وجهة نظر صديقه فيما يتعلق بمواجهة المشاكل اللاهوتية الكبيرة في عصره.
وبالرغم من أنه كان يكتب في المواضيع اللاهوتية، إلاّ أنه لم يكن يصل في كتاباته إلى ذروة مجده وعطائه. أما التأثير الإيجابيي فهو أن أعمال باسيليوس اللاهوتية قد شكلت الأساس والصرح الذي ارتكز عليه غريغوريوس، ودافعًا له للإنطلاق نحو الأمام. أى بمعنى آخر، أن شخصية باسيليوس وقفت إلى حد ما، سدًا مانعًا أمام الاندفاع القوي لدى غريغوريوس نحو اللاهوت. ولكن في نهاية الأمر، قام غريغوريوس بتوسيع آفاق باسيليوس.
لقد كانت تعاليم غريغوريوس اللاهوتي (النزينزي)ة حصيلة لما تأثر به من دراسته في المدرسة الإسكندرانية أو الأوريجينستية، وللاهوت كل من القديسين أغناطيوس، وإيريناؤس، وأثناسيوس الكبير. لقد كانت تجرب والده ـ الذي تتلمذ لسنوات طويلة على يد أتباع بدعة “عبدة العليّ” وقام عام 360 بالتوقيع على بيان “ريميني” الذي تضمن الكثير من الآراء الآريوسية ـ ذات آثار إيجابية وسلبية في آن واحد بالنسبة له.
فلقد ساعدته في تكوين معيار ومقياس للتقليد الأرثوذكسي. لقد كان هذا المعيار ثمرة لوحي الروح القدس قبل كل شئ، فأصبح أكثر المعايير كمالاً للكنيسة في أوائل عهودها (انظر الخطاب: Logoj KQ’ 32, KZ’ 5). وفي خطاباته تلك التي كررها مرارًا، عبر عن قناعته بأن لاهوت الكنيسة يمارس تبعًا لشروط معينة ووفقًا لمنظور محدد، وهذه الشروط وذلك المنظر تقوم الكنيسة ذاتها بوضعهم. ولذلك، فبالرغم من أن غريغوريوس كان أكثر العارفين والمتعمقين في الفلسفة اليونانية من بين كبار آباء الكنيسة، إلاّ أنه كان يفؤق بوضوح بين ممارسة الفلسفة وممارسة اللاهوت.
لقد كانت العلاقة التي تربطه بالثقافة الكلاسيكية القديمة التي كانت سائدة في عصره علاقة طبيعية من جهة، ولكنها كانت أيضًا علاقة تتصف بالحذر. فهذه العلاقة كانت علاقة طبيعية لأنه عاش في تلك الحقبة وتفاعل معها وكان واحدًا من كبار المثقفين في عهده، فكانت أعماله وكتاباته تتفق مع روح عصره.
لكن علاقته هذه كانت أيضًا علاقة يشوبها الحذر، لأنه اكتشف لب وجوهر الحقيقة الإلهية، فعبر عنها من خلال الطرق والأساليب والأطر المتبعة في تلك الأيام. وهكذا، فكما في حالة القديس باسيليوس، فإن القديس غريغوريوس أيضًا قد أُسيء فهمه فيما يتعلق بما قاله عن حقيقة الكنيسة عندما استخدم أساليب الفلسفة الأفلاطونية أو الرواقية أو الأفلاطونية الحديثة، ففي عصره كان يتوجب عليه أن يتبع تلك الأساليب الفلسفية بشكل انتقائي.
لكن المشكلة ليست محصورة في تلك النقطة، بل تكمن في مسألة ما إذا كانت الحقيقة التي تكلم عنها غريغوريوس هى الحقيقة الإلهية، أم أنها من خلال الأساليب الفلسفية المختلفة، تتحول قليلاً أو كثيرًا إلى فلسفة أفلاطونية، أو رواقية، .. الخ. وقد انتبه غريغوريوس إلى هذا الخطر، ففي اللحظات الحاسمة التي كان يضطر فيها إلى التعبير عن الحقائق الإلهية بأسلوب ذلك العصر.
كان يوضح أن هناك فرقًا بين المضمون الفلسفي للمصطلحات من جهة، وبين الحقيقة نفسها التي يتم التعبير عنها بهذه المصطلحات من جهة أخرى (انظر المرجع: ستيليانوس باباذوبولوس، “غريغوريوس اللاهوتي (النزينزي)”، أثينا 1980، ص89ـ98). وبالرغم من أن غريغوريوس كان أكثر انتقادًا للفلسفة الكلاسيكية من باسيليوس، إلاّ أنه كان واضحًا في رأيه بأنه من المستحيل أن يكون هناك لاهوت بدون تلك الفلسفة (انظر: خطاب Logoj 43. PG 36, 508B/509A).
”رؤية الله” اللاهوتية لدى ”اللاهوتي المثالي”:
لقد كان غريغوريوس الأول من بين كبار آباء الكنيسة الذين تكلموا بشكل خاص عن اللاهوت، في ظل ظهور عدد كبير ممن أطلقوا على أنفسهم صفة اللاهوتيين في ذلك الحين، حيث لاقت هذه الظاهرة آنذاك تشجيعًا كبيرًا من أتباع المذهب الآريوسي. ولهذا السبب فإن كلامه يتميز هنا بأنه “سيرة ذاتية”. فعندما يتكلم عن اللاهوت، فهو يصف في نهاية المطاف تلك الإجراءات التي حدثت بداخله، عندما كان هو بنفسه يحاول حل المسائل اللاهوتية:
انظر Logoj KH 3
Logoj KH 2
Logoj LA 3
لقد كان الهدف الذي سعى وراءه غريغوريوس هو أن يتجاوز الآفاق الخارجية للعالم وأن “يكون مع الله”، أى مع الحقيقة، وهو الشئ الوحيد الذي سيؤمن له المعرفة لامؤكدة، وهذه المعرفة المؤكدة هى “الرؤيا الإلهية” التي تكلم عنها غريغوريوس بشكل خاص عندما تحدث عن “البحث عن اللاهوت”. فهو بالأساس لم يكن لاهوتيًا يبحث في الرؤيا بل في اللاهوت، لكن هذا اللاهوت كان مستحيلاً بدون الرؤيا الإلهية. فالرؤيا الإلهية، أى المعرفة الشخصية للحقيقة، ترتبط بشكل وثيق بالطهارة: (انظر Logoj K 12، انظر أيضًا:KZ 3).
وهو يُعبّر عن الواقع الحقيقي، وعن طريقة ممارسة التقشف والطهارة، مستخدمًا الأسلوب الرواقي الذي كان سائدًا في ذلك العصر، وهو طريقة للكتابة والتعبير يفهمها المؤمنون الذين لديهم درجة متوسطة من الثقافة.
لقد اضطر غريغوريوس إلى إيراد الكثير من التوضيحات على مختلف المستويات، بسبب الارتباك الذي خلقته تعاليم يونوميوس حول ما سماه “المعرفة المؤكدة للجوهر الإلهي”. وقد تم بحث ودراسة هذه التوضيحات فيما بعد بشكل مكثف، وأصبحت الآن أكثر دقة بعد مقارنتها بالكتابات المماثلة التي كتبها القديس باسيليوس الكبير. إن المعاني الزمنية التي نستخدمها عندما نشير إلى الله (كان دائمًا وأبدًا، يكون، سيكون)، تتعلق بالطبيعة البشرية لله المتججسد، وليس بالطبيعة الإلهية التي هى لامتناهية وتظل دائمًا غامضة وغير معروفة.
لكن أملنا بالله لا يرتبط بالطبيعة الإلهية ذاتها، (ذات الله)، وإنما يرتبط بما هو “حول الله”. ومعرفتنا لله لا تتعلق بطبيعته “الأولية والصافية” التي يعرفها الثالوث الأقدس فقط، وإنما تتعلق بطبيعته “النهائية”، أى “الطبيعة التي وصلت إلينا”. بهذه الطريقة يميز غريغوريوس بين طبيعة الله التي تبقى مجهولة، وبين إشعاعه الطبيعي الذي يكون وحده معروفًا بالنسبة لنا:
انظر: Logoj KH 17
Logoj KH 3
Logoj LH 7
إن الرؤيا الإلهية عند غريغوريوس تصبح شيئًا لاهوتيًا صرفًا. أى أنها تصبح تعاليم خبرة الحقيقة الإلهية، وتصبح بالذات عملية تقود إلى درجة أعلى من خبرة الحقيقة الإلهية، التي تكون منسجمة تمامًا مع الحقيقة الإلهية التي تعبر عنها تعاليم الكنيسة، وخاصةً تلك التعاليم النابعة من الكتاب المقدس. أى بمعنى آخر، فإن كل ما تقدمه لنا خبرة الحقيقة الإلهية لا يمكن أن يكون بالنسبة للكنيسة “غريبًا” أو “دخيلاً”، وإنما “المزيد” الذي يضاف على التعاليم الموجودة أصلاً.
إن الله يهب ذلك “المزيد” إلى “اللاهوتي المثالي”، وهو الوصف الذي يطلقه غريغوريوس على شخص الكنيسة المليء بالمواهب، الذي يصل إلى درجة الرؤيا الإلهية، ليس فقط لأنه يعيش لذة الحياة الروحية، إنما بفضل تبحره وعمق درايته ومعرفته لتلك الحقيقة التي يحتاج إليها المؤمنون من أجل خلاصهم. إن عمل “اللاهوتي المثالي” يتميز بمزايا عديدة في ذلك (انظر: Logoj L17).
فاللاهوتي المثالي إذًا هو فقط ذلك الذي ستكون لديه خبرة أعمق وأوسع بالحقيقة الإلهية، من تلك المتوفرة لدى باقي اللاهوتيين الذين سبقوه أو عاصروه. إنه ذلك الذي سيحقق “المزيد” و “الأكثر” من الحقيقة، ليس فيما يتعلق بالحقيقة بذاتها (التي لا تزيد ولا تنقص)، ولكن فيما يتعلق بباقي اللاهوتيين الذين عاشوا في الكنيسة، فهذا اللاهوتي سيتم اعتباره “لاهوتيًا مثاليًا”.
إن هذا اللاهوتي سوف يتعاون في فكره مع الروح القدس بنفسه للبحث في موضوع الحقيقة الإلهية والتعمق فيه، ليضيف إلى “ما كان الكلام عنه ناقصًا” (رسالة 102، 2) حتى تلك الساعة من أفكار كسبها، أو بالأحرى من الأفكار التي قدمها له الروح القدس بنفسه (Logoj KA 33-34. LA 26-27. MG 65). إن هذا اللاهوت الرائع الذي يتعلق بأعمق خبرات الحقيقة الإلهية يتطلب وجود الثالوث الأقدس “المتألق” الذي “يمتزج” في كيان الإنسان وعقله.
إن قوى الفكر لدى الإنسان لا تكون خلال تلك العملية في حالة استعداد وجاهزية فقط، وإنما يتم من خلالها التعبير عن الخبرة المتزايدة بالحقيقة الإلهية، مما يؤدي بنا في النتيجة إلى “الكلام حول الله” أو إلى “اللاهوت”. إن التعبير عن الخبرة أو التجربة هو من الصعوبة بمكان، لكن من الممكن تحقيقه. وبالطبع فإن ما يظهر من خلال العبارات لا يشكل سوى صورة باهتة وغير واضحة للخبرة (Logoj KH 4)، ولكن على الرغم من ذلك فإن هذه الصورة هى صورة “أصلية” وكافية من أجل الخلاص.
مراحل ظهور الحقيقة الإلهية:
نظرًا لأن غريغوريوس كان شخصًا يلم إلمامًا عميقًا بالتقليد، ولديه حس الفكر الثوري، وشعور بأن من واجبه أن يبرر أسباب عطائه اللاهوتي للأصدقاء والأعداء، فقد اضطر أن يتكلم عن فكره اللاهوتي من الزاوية التي تتعلق بمسألة التدبير الإلهي بشكل عام، وبالكتاب المقدس بشكل خاص. ولذلك فقد تطرق في تعاليمه اللاهوتية إلى موضوع مراحل ظهور الحقيقة الإلهية، واصفًا تلك المراحل بأنها “زلازل”، وأن هذه الزلازل تشكل العهود المختلفة للوحي الإلهي أى “العهد القديم”، و “العهد الجديد”، و “الكنيسة” (أى منذ حلول الروح القدس وما تلا ذلك).
إن “الزلزالين” الأولين، أى العهدين القديم والجديد، قد لحقهما “زلزال ثالث” هو عهد الكنيسة، وهو ما يسميه غريغوريوس “بالعهد الثالث”، مكررًا ما قاله غيره من اللاهوتيين. ولكن هناك فرق جوهري بين “الزلزالي الأولين” ـ أو المرحلتين الأوليتين من التدبير الإلهي ـ و “الزلزال الثالث”. فالزلزالان الأولان يتصفان بصفة “الانتزاع”، لأن الله خلال العهدين القديم والجديد “انتزع” في كل مرة شيئًا ما من عادات وتقاليد وأفكار البشر، فقادهم تدريجيًا نحو الكمال.
فهكذا “انتزع” الله في العهد القديم الأوثان، لكنه “غفر” (سمح) للبشر تقديم الذبائح. وكذلك في العهد الجديد “انتزع” عادة تقديم الذبائح، لكنه لم يمنع الختان، فأصبح الأمم يهودًا، واليهود مسيحيين. أما العهد الثالث، الذي بدأ بالعنصرة واستمر بعد ذلك إلى اليم، فهو يتحقق “بواسطة الإضافات” (Logoj LA 26)، باعتبار أن كل ما تم خلال العهد الجديد من أقوال وأعمال ابن الله هو “أصلي”.
ويعني غريغوريوس من مصطلح “إضافات” توسيع مجال معرفة الإنسان للحقيقة الإلهية باستنارة الروح القدس، ذلك التنوير الذي لا يقود إلى حقائق جديدة، وإنما إلى معرفة أكمل لما هو وارد بالأصل في الكتاب المقدس، وهذا يعني زيادة معرفتنا بالحقيقة وليس تحسينها. وهذا ما كان قد سبق ووضحه في القرن الثاني الميلادي كل من ثيوفوروس أغناطيوس، وإرينيؤس الليوني (Elegcoj D 11, 2. E 2,2).
عمل الروح القدس:
المرحلة الثالثة من التدبير الإلهي هى عمل الروح القدس ابتداءً بالعنصرة، وخلال العصر الذي جاء بعدها. ويمكن تمييز هذه المرحلة دون أن يتم فصلها عن المرحلتين السابقتين لها، أى العهدين القديم والجديد، بحيث تشكل المرحلة الثالثة استمرارًا للمرحلتين الأولى والثانية، ونتيجة لهما.
ويوضح غريغوريوس من خلال محاولته لشرح هذه الاستمرارية، ولنوعية عمل الروح القدس في كل مكان من المرحلتين السابقتين، قائلاً إنه عندما “اكتملت” مرحلة الحضور “الجسدي” للمسيح على الأرض، بدء “عمل الروح القدس”، الذي هو في الحقيقة “تكميل للأمل”، الأمر الذي تم عن طريق حلول الروح القدس على الأرض و “سكنه” فيها (Logoj MA 5).
ومن أجل أن يوضح لنا غريغوريوس عمل الروح القدس الذي بدأه بعد قيامة المسيح، فهو يضطر لاستعماال عبارات من الممكن أن يساء فهمها. فالروح القدس الآن قد أصبح حاضرًا بيننا يعمل فينا. فكما أن الابن قد اتحد بالبشر “جسديًا”، كذلك “وجب” على الروح القدس أن يظهر “جسديًا أيضًا. وعندما عاد الابن إلى الآب، جاء الروح القدس “بصورة واضحة”. ولكن بالطبع فإن الروح القدس كان يعمل منذ بداية التدبير الإلهي مع الآب والابن.
هكذا يعمل فيظهر تأثيره من خلال معجزات الله والملائكة وتعاليم الأنبياء في العهد القديم، ومن خلال تعاليم تلاميذ المسيح. وفيما يتعلق بهؤلاء الأخيرين كان عمله “ثلاثيًا”، أى على ثلاث مراحل، لأن الرسل لم يكن بوسهم منذ البداية أن يتفهموا كل شئ: المرحلة الأولى كانت قبل أن يتمجد المسيح بآلامه، والمرحلة الثانية أتت بعد القيامة، والمرحلة الثالثة بعد صعود الرب.
ففي المرحلة الأولى كان عمل الروح القدس “خافتًا”، وفي المرحلة الثانية كان أكثر وضوحًا. أما في المرحلة الثالثة فكان “أكثر كمالاً”، لأنه أصبح يعمل وهو حاضر “بشكل جوهري”، أى أنه الآن حاضر في عصر عمله ونشاطه المحض، في “زمان الروح” (Logoj MA 11).
وفي نص خطابه “حول العنصرة” الذي ألقاه في القسطنطينية عام 179، وردت العبارة: الروح القدس “بقدومه في صورة الرب”، من هذه العبارة قد تم بالتأكيد استخدام المصطلح “الرب” في القسم المتعلق بالروح القدس في دستور الإيمان الذي وضعه المجمع المسكوني الثاني (عام 381).
البحث عن ”الجمال المخزون” كمنهج نهائي للتفسير:
إن “مراتب اللاهوت” كما رأينا، هى الزيادة التدريجية للتعاليم، طالما كانت تلك ضرورية وطالما كانت هناك استنارة من الروح القدس، ولكن دون أن يعتبر ذلك تدرجًا وتطورًا للعقيدة، الذي يتطلب لحدوثه تحسينًا للعقيدة، وبالتالي وجود نقص ما يعيق في الوصول إلى الخلاص طوال فترات هذه الزيادة. واعتمادًا على مفهوم هذه “الدرجة”، تكلم غريغوريوس في اللاهوت حول الأقانيم الثلاثة والطبيعة الواحدة لله، وحول ألوهية الروح القدس، وحول الطبيعتين الإلهية والبشرية المتحدتين في شخص المسيح الواحد.
إن الخبرة المتزايدة للحقيقة الإلهية، التي يستطيع اللاهوتي “المثالي” أن يكتسبها وفقًا للشروط التي سبق ذكرها، تتجاوز حرفية الكتاب المقدس، وتعتبر جمالاً مخزونًا لهذه الحقيقة. إن هذه العبارات لدى غريغوريوس تتحول إلى مصطلحات ذات معانٍ متعددة، يحاول التعبير بها عن حقيقة أن اللاهوتي يمكنه أن يستوعب من المعاني ما يتجاوز “الحرف” في الكتاب المقدس، فهو ينحني تحت الحروف، ويدخل في أعماقها، ويتجاوزها، ولا يقتصر عليها، وينتقل من الأعماق إلى أعماق أخرى، مستنيرًا بالروح القدس، فيكتشف نورًا إضافيًا.
وبالرغم من أن الحقيقة التي يكتشفها بهذه الطريقة ليست واردة بشكل صريح في “حرف” الكتاب المقدس، إلاّ أنها تنتمي إلى مضمون “الجمال المخزون”، فهى الأوجه المتعددة للحقيقة الإلهية اللامتناهية. إن مصطلح “الجمال المرتبط بمعنى الألوهية والحقيقة، من الممكن أن تتم مقارنته بما ورد في كتاب أفلاطون: “الوليمة Symposium” (Sumposion).
ويعتبر غريغوريوس فيما يقوله هنا أن ما يبحث المرء عنه ويجده فيما بين السطور ووراء الحروف ضمن نصوص الكتاب المقدس ليس غريبًا عنه (أى عن الكتاب المقدس ذاته)، بل بالعكس فإنه يجب أن يكون متوافقًا ومتكافئًا مع مضمونه: (انظر Logoj LA 21. MG 63).
إن المعطيات المذكورة أعلاه تدلنا بشكل واضح على أن غريغوريوس يمارس اللاهوت التجريبي، فيحلل عملية الرؤيا الإلهية متجاوزًا منهج “الافتراض السلبي” (Apofatismoj) الأفلاطوني الحديث، ومزدريًا له، كأن يستخدم مثلاً اللاخوت بذاته لتجاوز المعضلة التالية: ” الرمزية أم التفسير التاريخي ـ الحرفي “؟ وذلك لأنه لا يتوخى بأفكاره اللاهوتية تلك ـ من الناحية الفلسفية ـ المعرفة البدائية (الأولية) لله عن طريق “الافتراض السلبي” بأن الله لا يمكن أن يكون إلهًا، ومن هذا الافتراض يتوصل في النتيجة إلى حقيقة الله.
فغريغوريوس بكونه مؤمنًا ولاهوتيًا، فهو لذلك يعيش الحقيقة الإلهية، ويحاول أن يتوسع أكثر من ذلك ليتوصل إلى اكتساب الخبرة ومعرفة المزيد من أوجه تلك الحقيقة. ففي سعيه المتواصل لتحقيق هدفه بالحصول على ما يسميه “المزيد”، فهو يستعين بالاستنارة من الروح القدس، وليس باستخدام مبدأ “الافتراض السلبي” الذي يعتمد على رفض الصفات التي لا تنتمي إلى صفات الله. وعندما يتجاوز “حرفية” الكتاب المقدس، ساعيًا إلى “الجمال المخزون” للحقيقة الإلهية، يصل مرة أخرى إلى الاستنارة.
وبالعكس فإن التفسير الرمزي الصارم سيجعله مضطرًا لاستنباط العديد من المعاني الخاصة به لكلمات الكتاب المقدس. أما التفسير التاريخي ـ الحرفي فسوف يحصره فقط بما هو وارد بشكل صريح (expressis verbis) من كلمات الكتاب المقدس.
وأخيرًا، فإن القلق الذي كان ظاهرًا على غريغوريوس في كل مرة كان يتكلم فيها عن اللاهوت، وعن تطبيق تلك التحليلات التي ذكرناها في أعماله، يدلنا على مدى رغبته في أن يصبح “لاهوتيًا مثاليًا”، كما أصبح كذلك بالفعل. وهذا ما اعترفت به الكنيسة، حيث إنها أطلقت عليه لقب “اللاهوتي”. وهذا هو التفسير الوحيد لتعدد ألقابه.
العلاقة بين أقانيم الثالوث القدوس وألوهية الروح القدس:
في الفترة التي لحقت عام 350 عصفت بالكنيسة خلافات حول مسألة تفسير “نوعية” العلاقة التي تربط بين أقانيم الثالوث الأقدس. هذا وقد قام القديس باسيليوس الكبير بوضع الأسس اللاهوتية من أجل التمييز بين الأقانيم الإلهية الثلاثة والتأكيد على الوحدة في طبيعتها. ولكنه عندما قام في آخر فترات حياته بالتفسير اللاهوتي معتمدًا على آراء يونوميوس Eunomioj فيما يتعلق بألوهية الابن، فإنه عند ذلك قد عبر عن آرائه حول الثالوث الأقدس، متخذًا من أقنوم الابن مركزًا لهذا الثالوث.
ومن الجدير بالذكر أن باسيليوس لا يصف مطلقًا الروح القدس بشكل صريح بصفة “المساوي في الجوهر”، ولا حتى في أهم أعماله وأكملها مثل كتاب “حلول الروح القدس”، الذي كتبه عام 375.
لقد تبنى غريغوريوس بشكل مطلق الأساس اللاهوتي للثالوث القدوس الذي وضعه باسيليوس وبنى أفكاره فوق هذا الأساس، موضحًا ومفسرًا بشكل نهائي تقريبًا، مسألة التمييز بين وظيفة وطبيعة الأقانيم الثلاثة، ليصل إلى فكرة “التساوي في الجوهر” بين الآب والابن والروح القدس. وقد كانت آراؤه المتعلقة بالروح القدس جريئة، حيث إنه بسبب الأفكار الضبابية التي كانت سائدة حول هذا الأقنوم بالذات، كان هو أول لاهوتي في الكنيسة يعبّر عن حقيقة أن الروح القدس هو الله، تمامًا كما أن الآب والابن هما الله (لقد حدث ذلك قبل عام 372: Logoj IG 4. PG 35, 856B).
وقد عبر في عام 372 عن احتجاجه (رسالة 58) لن باسيليوس لم يكن واضحًا في كلامه حول ألوهية الروح القدس وتساويه في الجوهر. وفي خطابه اللاهوتي الخامس تكلم بإسهاب عن ذلك (انظر: Logoj LA – LQ – MB – KQ).
منشأ الأقانيم الإلهية الثلاثة:
لقد فسر القديس باسيليوس الكبير بشكل خاص مسألتي “عدم ولادة الأب” و “ولادة الابن”، وترك تفسير “منشأ الروح القدس” إلى الدهر الآتي (انظر kata unomiou G7). لكن غريغوريوس فسر مصطلح “انبثاق الروح القدس. ولما كان غريغوريوس هو أول من أدخل هذا المصطلح في اللاهوت، فهو إذًا أول من أدخل هذا المصطلح في اللاهوت، فهو إذًا أول من طرح في اللاهوت مسألة منشأ الروح القدس: (انظر Logoj LQ 12, KQ 2, KE 16).
لقد أصر غريغوريوس على توضيح منشأ الروح القدس، وعلى التأكيد بأن منشأ كل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس خاص بالأقنوم نفسه، ولا يتعلق بالأقنوم الآخر. وأن أى تشويه لخصوصية منشأ كل من الأقانيم الثلاثة سيؤدي إلى الارتباك في الفهم، وبالتالي إلى إلغاء معنى الثالوث الأقدس. إن الآب كائن (موجود) وغير مولود. وهو المولَّد للابن (أى أن الابن مولود منه). وهو المشع للروح القدس (أى أن الروح القدس منبثق منه).
إذًا فإن عملية انبثاق الروح القدس تعود إلى الآب وليست متعلقة بتاتًا بلابن. وبالرغم من عملية التعمق اللاهوتي التي يقوم بها غريغوريوس هنا، فهو يعبر أيضًا عن رغبته التقليدية بتجنب أية ممارسة لاهوتية تتجاوز كل ما هو ضرورى فعلاً. فهو يصرح بأن أية محاولة إضافية لتحليل وتفسير مسألة انبثاق الروح القدس بحد ذاتها كمنشأ له تشكل أمرًا مستحيلاً، مثلما أنه من المستحيل أن يكون هناك أى تحليل أو تفسير إضافي لمسألة عدم ولادة الآب: (انظر: Logoj K 11).
وقام ريغوريوس بخطوة هامة أخرى في تحليله لموضوع الثالوث القدوس، عندما فسر منشأ الأقانيم الثلاثة موضحًا أن هذا المنشأ هو العلاقة التي تربط بين هذه الأقانيم. لقد تكلم باسيليوس من جهته عن “خواص” هذه الأقانيم وماهيتها (انظر: رسالة 214 فقرة 4) لكن غريغوريوس تعمق في هذا الموضوع وأعطى تعريفًا “للخاصة” على أنها علاقة بين هذه الأقانيم.
فالخاصة التي هى منشأ الأقنوم، تشكل علاقة وليس جوهرًا في الألوهية. وهكذا فإن الاسم الخاص بكل أقنوم (الآب ـ الابن ـ الروح القدس) يدل على العلاقة بين هذه الأقانيم وليس على جوهرها. وبالطبع، لو كانت هذه الأسماء الخاصة تدل على جوهر كل أقنوم، ففي تلك الحالة وجب أن يكون لكل أقنوم جوهره المختلف عن الأقنوم الآخر. ويتقدم غريغوريوس خطوة أخرى إلى الأمام قائلاً إن تلك الأسماء (الآب ـ الابن ـ الروح القدس).
ليس فيها مدلول معنى “الطاقة” أو “الفعالية”، وذلك طالما أن تلك الفعاليات هى نفسها في الأقانيم الثلاثة، وطالما أن ذلك سيعني أيضًا بالنسبة لغريغوريوس أن الابن هو “فعل” أو “انفعال” وبالتالي فهو “بناء” من قبل الآب: (انظر Logoj KQ 16, LA 9).
رأس الكنيسة:
لقد كان رقاد القديس باسيليوس الكبير وجنازته التي تمت في 1/1/379، نقطة تحول هامة في مسيرة القديس غريغوريوس. فقد انتقلت المرتبة الأولى من الاحترام والأهمية والمرجعية الروحية التي كان باسيليوس يحتلها في أوساط الكنيسة المسكونية عامة إلى القديس غريغوريوس. ويدل قبول غريغوريوس سنة 379 بأن يأخذ على عاتقه تلك المسئولية الكبيرة، وأن يبدأ نشاطه الروحي في كنيسة القسطنطينية، بعد أن كان معروفًا عنه بأنه رجل “الابتعاد” و “عدم حب الظهور”، يدل هذا على شعور عالٍ منه بتحمل المسئولية.
لقد شعر غريغوريوس بالتقدير الكبير تجاه ثقة الكنيسة به لتولي مسئولية خوض الإمبراطورية الشرقية. لقد وضعه الأرثوذكسيون بشكل ما في أول مراتب الكنيسة واللاهوت، فكان تجاوبه عظيمًا، وانعكس ذلك على نتاجه اللاهوتي الذي وصل إلى ذروة الروحانية والكمال في مضمونه خلال الفترة بين عامي 379ـ381.
والآن، فإن أنظار الكنيسة الجامعة تتوجه إلى القسطنطينية بفضل غريغوريوس اللاهوتي (النزينزي)، كما كانت تتوجه من قبل إلى قيصرية بفضل باسيليوس الكبير، ومن قبله إلى الأسكندرية بفضل القديس أثناسيوس. وقد ظل فكر غريغوريوس اللاهوتي (النزينزي) مشعًا ومتألقًا حتى بعد انعقاد المجمع المسكوني الثاني (مايوـ يوليو 381)، بالرغم من أنه تخلى عن منصبي رئاسة الأساقفة ورئاسة المجمع، وهو الحدث الذي جرى بعد أن كان قد أمن مستقبل مسيرة الأرثوذكسية.
وبالرغم من أنه تم تبني المصطلحات المعتدلة التي وضعها باسيليوس الكبير بشكل عام في دستور الإيمان الذي أصدره المجمع المذكور، إلاّ أن الأساقفة أنفسهم قد استخدموا مصطلحات غريغوريوس حول “التساوي في الوهر” فيما يتعلق بالروح القدس، وحول “كمال” الطبيعتين الإلهية والبشرية المتحدتين[76] في شخص المسيح، في الرسالة التي كتبوها في العام التالي. هذا وقد سيطرت هذه المصطلحات بشكل تام، وبقيت في اللاهوت الكنسي.
الطبيعتين الإلهية والبشرية المتحدتين في شخص المسيح الواحد بير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير:
يمكننا تفسير السبب الذي دفع غريغوريوس إلى اتخاذ قراره لمواجهة الأزمة اللاهوتية التي سببتها تعاليم أبوليناريوس الخاطئة، بأن غريغوريوس كان لديه شعور كبير بمسئوليته اللاهوتية تجاه الثقة والاحترام اللذين كان يكنهما له الأرثوذكسيون بدرجة كبيرة، بحيث جعلوه على رأس لاهوتيي الكنيسة. وبالطبع فقد كان القديس أثناسيوس الكبير يارض هو أيضًا الأفكار الخاطئة التي صدرت عن أبوليناريوس (في كتابه “إلى أهل أنطاكية” عام 362)، وكرر ذلك القديس إبيفانيوس في الفترة 374 ـ 377.
لكن ردود الفعل هذه كانت ردود أولية، ولم تكن كافية لمواجهة المشكلة بسبب افتقارها إلى العمق اللاهوتي والحجة القوية. لقد بدأ غريغوريوس محاولته هذه عام 381، عندما لاحظ أن أبوليناريوس سوف لن يتراجع عن مواقفه، بل أنه قام بتنظيم جماعته الكنسية المؤيدة له في اللاذقية وأنطاكية وحتى في نزينزة. وفي الحقيقة، فإن غريغوريوس كان طوال فترة حياة باسيليوس ينتظر منه أن يقوم هو بنفسه بمهمة مواجهة هذه المشكلة الصعبة.
ولكن بعد موت باسيليوس أصبح هو المسئول عن هذا النضال. ولم تكن هذه المشكلة مجهولة بالنسبة له، بل كان في الفترة حتى العام 380 قد أبدى عدة مرات بآرائه الصحيحة والدقيقة حول حقيقة وحدة الطبيعتين الإلهية والبشرية في شخص المسيح الواحد، بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.
نحن لا نعرف تمامًا مدى متابعة غريغوريوس للمشاكل والصعوبات الخريستولوجية التي واجهتها الكنيسة في الفترة بين عامي 360 ـ 362، وذلك عندما كان القديس أثناسيوس الكبير يواجه مشاكل مماثلة. ولكن من المؤكد أن غريغوريوس عندما كتب “خطابه الثاني” عام 362، تكلم عن اتحاد اللاهوت والناسوت في شخص واحد هو المسيح، وتكلم عن روح بشرية قد تم تناولها أو احتواؤها مع الجسد: (انظر: Logoj B23. LH 13. LZ 2. M 45).
إن ظهور أبوليناريوس أسقف اللاذقية في مجال اللاهوت قبل فترة قصيرة من عام 360 قد حدث في فترة بدأت فيها البدع الخريستولوجية بالانتشار. وقد لاحظ غريغوريوس في تعاليم أبوليناريوس وجود تشويه كبير للإيمان المسيحي الذي وضع مجمع نيقية أسسه بأمانة خريستولوجية وإنسانية وخلاصية تامة. وبالفعل فقد شرح أبوليناريوس دستور مجمع نيقية، في كتابه “معرض الإيمان” الذي وجهه إلى الإمبراطور جوفيان عام 363، متجاهلاً كلمة “تأنس” (وهو المصطلح الذي يفترض تناول واحتواء الطبيعة البشرية روحًا وجسدًا من قبل أقنوم الابن)، واستخدم عبارة كيرلس الشهيرة “طبيعة واحدة لكلمة الإلهية المتجسدة”، وفسرها خطأ، من أجل التشديد على أن الكلمة تناولت واحتوت الجسد فقط (واحتوت روحًا غير عاقلة).
وكما وضح غريغوريوس، فإن موقفًا كهذا يشكك في صحة واكتمال الطبيعة البشرية لدى المسيح، ويدمر وحدة الإنسان (العقل أو الروح، والجسد)، ويقف عائقًا أما خلاصه، طالما أن “الكلمة” لم يتناول ولم يحتو العقل البشري أيضًا. ونلاحظ أنه بالرغم من كون أبوليناريوس قد انطلق من مبدأ أرسطو القائل بأنه من المستحيل أن يتواجد “اثنان كاملان” معًا في واحد (الكلمة الإلهية والإنسان)، فإن غريغوريوس قد انطلق من مبدأ الحقيقة اللاهوتية التجريبية القائل بأن ” ما لا يمكن تناوله واحتواؤه لا شفاء له، وأما الذي يتحد مع الله ينال الخلاص ” (رسالة 101، 32 وفي هذه الرسالة يشرح غريغوريوس أول آرائه الاهوتية المعارضة لأفكار أبوليناريوس). فلكي ينال الإنسان الخلاص كاملاً يجب أن يتم تناوله بالكامل (أى مع عقله وروحه) من قبل الكلمة الإلهية.
وهكذا يصل غريغوريوس إلى انطباق واتحاد الطبيعتين الكاملتين، الإلهية والبشرية، في شخص المسيح الواحد (رسالة 101، 37 و 41). ولهذا السبب تكون لدينا طبيعتان كاملتان وتامتان في شخص المسيح الواحد، فاللاهوت (الطبيعة الإلهية) لم يفارق الناسوت (الطبيعة الناسوتية)، وهو الأمر الذي يتحقق عن طريق تأله الطبيعة البشرية من خلال الطبيعة الإلهية: (انظر: رسالة 101، 36).
وهكذا فإنه بالرغم من الاختلاف التام بين الطبيعتين في شخص المسيح الواحد، فإن ذلك لا يعني وجود “أقنومين للابن” (101، 19). فكما ذكر ذيوذوروس الطرسوسي في تعاليمه أن ذلك لا يقود إلى كل من أشكال بدعة “الطبيعتين” (بدعة نسطوريوس)، لأن تلك الطبيعتين “تتطابقان في الجوهر”.
لو أن الكلمة الإلهية لم تتناول ولم تحتو العقل أيضًا، لما كان يمكننا القول عندئذٍ أنها قد تناولت واحتوت الإنسان بأكمله. لقد ركز غريغوريوس جهوده ليوضح أن “الكلمة” قد تناول واحتوى الإنسان بأكمله، ولذلك تكون لدينا طبيعتان حقيقيتان في شخص المسيح الواحد: الطبيعة الإلهية التي هى طبيعة حقيقية، والطبيعة البشرية التي هى أيضًا طبيعة حقيقية وتامة وكاملة. إن اتحاد هاتين الطبيعتين في شخص المسيح الواحد هو اتحاد حقيقي وواضح مثلما يكون اتحاد الروح والجسد في الإنسان حقيقيًا وواضحًا أيضًا.
فكما يكون لدينا الإنسان الواحد الذي يتألف من عنصرين: الروح والجسد، كذلك يكون لدينا المسيح الواحد أيضًا. إن إتحاد الطبيعتين هذا قد حدث بتدخل من الروح القدس (حدث بوسيلة إلهية من جهة إذ حدث بدون وساطة رجل)، ولكن مريم العذراء حملت بشكل طبيعي وحقيقي كما تحمل كل نساء البشر، أى أن الإله المتجسد قد نما في رحمها بشكل يكون من الصحيح اعتبارها وتسميتها “والدة الإله”. (انظر: رسالة 101، 16ـ22).
ويدعم غريغوريوس أفكاره اللاهوتية القائلة بأن الكلمة الإلهية تناولت واحتوت جسدًا وعقلاً بشريين بملاحظته التالية: في العقل تتركز صفة الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، تلك الصورة التي تشوهت بسبب الخطيئة الأصلية.
إن عملية إعادة إصلاح تلك الصورة ـ التي جاء كلمة الله إلى الأرض في سبيل تحقيقها ـ كانت من المستحيل أن تتم وتتحقق بدون تناول واحتواء العقل الذي تتركز فيه صفة “الخلق على صورة الله”. ومن جهة أخرى، لو أن المسيح قد احتوى جسدًا بشريًا فقط بدون العقل البشري، ففي تلك الحالة ستكون آلامه مرتبطة بألوهيته فقط، طالما أن الآلام ترتبط بالشعور الذي ينبع من العقل والروح البشريتين.
ويعطينا ريغوريوس صورة من بين أمثلة عديدة، يصور لنا فيها كيف يمكن للطبيعة البشرية أن تتحد بالطبيعة الإلهية دون أن تذوب فيها طالما أن الطبيعة البشرية تتحد في الطبيعة الإلهية كما يتحد ضوء النجوم في ضوء الشمس، وكما يتحد ضوء المشعل في ضوء الحريق. ففي فترة النهار لا تظهر النجوم لكنها في الحقيقة باقية بأكملها. والمشعل كذلك لا يمكن أن نلاحظه في ضوء حريق كبير ولكنه يكون موودًا (رسالة 101، 44ـ45) (انظر: رسالة 101، 32ـ52).
أقانيم متميزة ـ طبائع متحدة:
لقد استخدم غريغوريوس؛ ولأول مرة، وحدة أقانيم الثالوث الأقدس كنموذج لوحدة الطبيعتين الإلهية والبشرية في المسيح، لأنه كان يتوقع خطر أن يتم الاعتبار أن الطبيعة البشرية تذوب ضمن الطبيعة الإلهية (تعاليم أبوليناريوس)، وكذلك خطر اعتبار أن تناول الطبيعة الإلهية للطبيعة البشرية يكون بشكل ظاهري وخارجي فقط، وبالتالي لا يكون حقيقيًا.
إن ذلك الاحتمال لو كان صحيحًا لكان من الممكن أن يلغي إمكانية الخلاص، طالما أن تناول الطبيعة الإلهية للطبيعة البشرية وضمها إليها لو كان ظاهريًا وخارجيًا فقط، فإنه في تلك الحالة لن يضمن خلاص الإنسان، كما أنه سيكون مدمرًا لوحدة شخص المسيح. لكن غريغوريوس يوضح في تشبيهه للثالوث الأقدس بطبيعتي المسيح، أن الطبيعتين تكونان متحدتين في شخص واحد، بينما تكون أقانيم الثالوث الأقدس مستقلة فيما بينها.
وبهذه التعاليم اللاهوتية يكون غريغوريوس قد وضع أسس الخريستولوجيا، بالرغم من أن الحاجة كانت لا تزال موجودة لبذل جهود لاهوتية جبارة لإثبات طريقة اتحاد الطبيعتين الكاملتين والمثاليتين للمسيح. ولقد تمت عملية الإثبات هذه بشكل أساسي من خلال التعاليم اللاهوتية لكل من غريغوريوس النيسي، وكيرلس الأسكندري، وثيوذوريتوس القورشي (Qeodwrhtoj Kurou).
إن هذه الأفكار اللاهوتية الجريئة والمستوحاة من الله، التي تضمنتها تعاليم غريغوريوس، حول الطبيعتين المثاليتين في شخص المسيح الواحد، بالإضافة إلى إصرار هذا القديس واللاهوتي الكبير، على التركيز على فكرة استيعاب الإنسان بكامله في أقنوم “الابن”، يفسران يضيئان أيضًا الناحية “الإنسانية” (الأنثروبولوجية) من أفكاره.
إنه يوضح بشكل لا مثيل له عظمة الإنسان وآفاقه الواسعة، ذلك الإنسان الذي يكون مؤلفًا من عالمين مختلفين: المادي والروحاني (تراب، وعقل، وروح)، وهذا يعني وجود “عالم ثانٍ” (عالم ما وراء المادة)، كبير أو صغير … لنفس الروح والجسد” (خطاب 38، 11). إن الإنسان “الصغير” يكون “كبيرًا” حسب الروح، حيث يكون شاهدًا على “الطبيعة المنظورة”، و “متقبلاً لأسرار المعاني”، ومُعدًّا للخلاص، وللإتحاد مع الله بشكل فعلي (انظر: خطاب 45، 7). إن سقوط الإنسان الذي نتج عنه طرده من الفردوس وضلاله المرّ، يشبهه غريغوريوس بما سماه “الرداء الجلدي”، أى الجسد والألم.
فهذه الحقيقة لها جانب إيجابي: لقد جعلت الإنسان يشعر بالخزي والعار أمام الله وأدت به إلى الموت، وقد حدث ذلك على الأقل “لكي لا يخلد من كان شريرًا” (خطاب 45، 8)، ولكي لا تبقى الخطيئة حية. ولكن الإنسان في المسيح يعود للإتحاد مع الله من جديد، وبطريقة أسمى وأعلى مما سبق: (انظر: خطاب 45، 7 و 9).
غريغوريوس الشاعر:
لقد كان القديس غريغوريوس اللاهوتي (النزينزي) شاعرًا كبيرًا يتمتع بحس نادر وبلاغة عظيمة. ومن الغريب أنه كان بالرغم من معرفته لأصول الشعر الموزون والقافبة، إلاّ أنه كان يستخدمهمما بشكل عفوي وغير منظم (لقد نسبت إليه قصيدتان موزونتان لم يكن قد ألفهما)، ولقد كتب 19000 بيتًا من الشعر الغنائي المنشد منذ عام 371 وما تلاه.
وبالطبع لم يكن هناك احتمال كبير لأن تتم قراءة شعره على نطاق واسع، أو أن تصبح قصائده أناشيد للكنيسة. إن تفسير تلك الظاهرة لا يتعلق بقدر كبير بضرورة الرد على قانون الإمبراطور جوليان (عام 362)، الذي حرّم على المعلّمين المسيحيين التعليم في المدارس الوطنية، وإنما بدوافع شخصية. وفي الوقت ذاته ان هناك دافع آخر وهو غزارة الشعر الذي أنتجه أبوليناريوس الخارج عن الأرثوذكسية. فقد أعطى غريغوريوس بنفسه تفسيرًا لهذه التساؤلات التي بدرت عن أصدقائه وأعدائه حول شعره الغزير، في قصيدته “منظومات” (قصائد 37).
لقد شرح يقول بأنه قرر أن يكتب أفكاره في أبيات شعرية ليحدّ من المبالغة والإطالة في الكلام، ولكي يفيد الشباب الذي يجد متعة أكبر في قراءة الشعر، وكذلك لكي لا يظهر المسيحيون بمظهر من تنقصه الثقافة أمام الأمم. كما ذكر أنه كتب الشعر ليفرج عن نفسه من الضيق الذي سببه له مرضه الذي دام لسنين طويلة. لكن هذه الأسباب يمكنها أن تبرر فقط الاهتمام بالشعر بشكل عرضي، ولا تبرر صفات غزارة الإنتاج، والبلاغة والترتيب، التي تميز بها شعر غريغوريوس. إذًا لقد كان غريغوريوس شاعرًا موهوبًا كتب الشعر بدوافع وأسباب متنوعة.
إن مجموعة غريغوريوس الشعرية تتميز “بالعقائدية”، حيث يعرض من خلالها تعاليمه المتعلقة بالثالوث الأقدس والخريستولوجيا. فهى قصائد رثاء جنائزية، وقصائد حول الأخلاق، وقصائد تعليمية، وقصائد تذكر وقائع تاريخية، أى تحكي سيرته الذاتية. وفي الكثير من أشعاره يصادف القارئ وحيًا وإلهامًا حقيقيين، وفكرًا جريئًا صائبًا، وكلامًا له وقع صارخ في النفوس والآذان، وغنى في الشاعرية والموسيقى، واستعدادًا للاعتراف بالذنوب وطلب الغفران، وشعورًا عميقًا بالحزن والاكتئاب وخيبة الأمل، بالإضافة إلى البلاغة اللامتناهية. لكن كتابته للشعر اتصفت بعدم تقيده بالوزن في عدد كبير من آلاف القصائد التي كتبها (وهى صفة أعطاها الباحثون والنقاد خطأ وبشكل عام على شعره).
على أية حال، فبالرغم من الأهمية الكبيرة لما كتبه من شعر، فإن غريغوريوس يعد شاعرًا كبيرًا بسبب الحس الشاعري الذي تتصف به نصوصه النثرية في المرتبة الأولى، أما أهمية آلاف القصائد والأشعار التي كتبها فتأتي في الدرجة الثانية. لكن هذه النصوص النثرية لم تلق صدى كبيرًا في عصره، إذ أن القليلين قد اهتموا بها أو قلدوها، بينما لاقت أشعاره إقبالاً كبيرًا، وأصبحت قصائده أناشيد تنشد في الكنيسة، إما كما هى أو بإجراء تحوير عليها، وذلك منذ القرن السادس الميلادي أو في مرحلة أبكر من تلك الفترة.
ونعرض هنا مقتطفات صغيرة من “خطابات” غريغوريوس التي ترد كأناشيد في مختلف أعياد الكنيسة. وهكذا يمكننا رؤية عظمة الحس الشاعري لهذا القديس وتأثيره الكبير في مؤلفي الأناشيد الكنسية الذين أتوا من بعده، ومن بينهم الشعراء الكبار يوحنا الدمشقي وكوزماس الملحن. ولقد كان من المعروف لدى آباء الكنيسة الذين جاءوا من بعده أن الأناشيد الكنسية قد صيغت على أساس العديد من نصوص خطاباته، لذلك كانوا يتابعون هم أيضًا كتابة الأناشيد المستوحاة من خطاباته.
وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن ما يدلنا بشكل واضح إلى الحس الشاعري المرهف الذي كان يتمتع به غريغوريوس هو أنه كتب خطابه الخامس والأربعين في عيد الفصح المقدس مستخدمًا بضعة عناصر من خطاب آخخر له (الخطاب الثالث على الأرجح) وهو بالتأكيد نص شعري أيضًا:
أنظر:
(خطاب 34، 14: PG 36, 232)
(خطاب 38 في الميلاد: BEP 60, 64. PG 36, 312A-313B)
(كوزماس الملحن، “قانون في الميلاد”: Wdh a . Eirmoj)
(خطاب 21 في أثناسيوس الكبير: BEP 59, 148. PG 35, 1081-1084)
(خطاب 1 في الفصح: BEP 58, 243-244. PG 35, 396-397)
(خطاب 45 في الفصح المقدس: BEP60, 187-202. PG 36, 664. Qeofanouj Graptou, Kanwn eij Aqanasion: (P. Trempela, Eklogh ellhn. Orqodoxou umnografiaj, 6. 324)
يوحنا الدمشقي “قانون في القيامة” (Wdh a, Eirmoj: P. Trempela, s. 302), (Wdh g), (Wdh h, Eirmoj), (Wdh q)
وهناك العديد من النصوص النثرية التي كتبها غريغوريوس، يتحقق القارئ من أنها كلام منظوم وموزون ويتبع القافية. كما أنه اعتاد إيراد أزواج من الأبيات بحيث يكون المعنى فيها متوازيًا أو متعاكسًا. كما نرى تشابهًا في أسلوبه مع أسلوب القديس افرام السرياني. لكن هذه الظاهرة الشعرية كانت أقدم من افرام، وهى عامة في الشرق الأسيوي، ونصادفها في العديد من خطابات الآباء الذين سبقوا غريغوريوس. ويمكن التحقق من ذلك باستعراض الخطاب 38 لغريغوريوس.
وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى نصين من نصوص غريغوريوس، منظومين في أبيات ذات وزن شعري ثابت. وهما:
قصيدة “نشيد صلاة العصر” المؤلفة من 25 بيتًا: (انظر PG 37, 511-514).
وقصيدة “تشجيع للعذارى” المؤلفة من 100 بيت: (انظر PG 37, 632-640).
وقد دار الكثير من الجدل حول هذه القصائد التي لا يمكن اعتبارها من بين قصائده الهامة، فيما إذا كانت فعلاً من مؤلفاته. لكنها تتضمن العديد من الأفكار والصور التي جاءت في القصائد الأصلية التي كتبها غريغوريوس وتم التأكد من صحة نسبها إليه (مثل: “ميراث للعذراوات”، شعر “أخلاقيات” ـ 2). إذًا، فإن القصيدتين المذكورتين من المرجح أنهما قد تمت كتابتهما من قبل أحد الكتّاب في أواخر القرن الرابع أو أوائل القرن الخامس، ومن المؤكد أنهما تشكلان نموذجًا لانحطاط الشعر الغنائي المنشد، لأنهما تعتمدان على أوزان وطرق النظم الشعري للغة اليونانية العامية المشكلة التي كانت سائدة في تلك الفترة.
أما غريغوريوس فقد كتب 19000 بيتًا شعريًا معتمدًا أوزان الشعر البليغ في اللغة اليونانية الكلاسيكية والقديمة، فقد اعتمد بشكل خاص على أوزان شعر هوميروس وهزيود ومؤلفي التراجيديا والمسرح القديمين، وعلى نمط الشعر البطولي السداسي الوزن وغيرها.
وكمثال على ذلك نذكر قصيدته ذات الوزن الثماني: ” نشيد إلى الله”: (انظر: PG 37, 508-509).
وكذلك نذكر أيضًا خاتمة قصيدته التي يكتب فيها سيرته الذاتية: ” في سيرتي الذاتية”، المنظومة وفقًا للوزن الثلاثي، حيث عبر من خلالها عن مرارته وخيبة امله تجاه ما حدث في المجمع المسكوني الثاني (عام 381): (انظر: PG 37, 1163-1166).
[76] فلاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرف عين.