القديس مقاريوس الكبير ع2 – عن ملكوت الظلمة – أي ملكوت الخطيئة
القديس مقاريوس الكبير ع2 - عن ملكوت الظلمة - أي ملكوت الخطيئة
القديس مقاريوس الكبير ع2 – عن ملكوت الظلمة – أي ملكوت الخطيئة
العظة الثانية
الإنسان العتيق والإنسان الجديد
“عن ملكوت الظلمة – أي ملكوت الخطيئة – وان الله هو القادر وحده أن ينزع منا الخطيئة ويخلصنا من عبودية رئيس الشر”.
القديس مقاريوس الكبير | العظة الثانية: عن ملكوت الظلمة – أي ملكوت الخطيئة – وان الله هو القادر وحده أن ينزع منا الخطيئة ويخلصنا من عبودية رئيس الشر
1- أن ملكوت الظلمة أي الرئيس الشرير، لما أسر الانسان في البدء، قد غمر النفس وكساها بقوة الظلمة كما يكسو الإنسان انساناً غيره. “لكيما يجعلوه ملكاً، ويلبسونه الملابس الملوكية من رأسه إلى قدمه” ([1]) وبنفس هذه الطريقة قد كسا الرئيس الشرير، النفس وكل جوهرها بالخطيئة. ولوثها بكليتها، وأخذها بكليتها أسيرة إلى ملكوته، ولم يدع عضواً واحداً منها حراً منه، – لا الأفكار، ولا القلب، ولا الجسد، بل كساها كلها بأرجوان الظلمة.
لأنه كما أن الجسد لا يتألم منه جزء أو عضو بمفرده، بل الجسد كله يتألم معاً، هكذا النفس بكليتها تألمت بأوجاع الشقاء والخطيئة. فالشرير كسا النفس كلها التي هي الجزء أو العضو الأساسي في الانسان، كساها بشقائه الخاص، الذي هو الخطيئة، ولذلك أصبح الجسد قابلاً للألم والفساد (الاضمحلال).
الإنسان العتيق:
2- لأنه عندما يقول الرسول: “اخلعوا الإنسان العتيق” ([2])، فهو يقصد انساناً بتمامه، فيه عيون مقابل عيون، وآذان مقابل آذان، وأيدي مقابل أيدي، وأرجل مقابل أرجل.
لأن الشرير قد لوث الإنسان كله، نفساً وجسداً، وأحدره، وكساه “بانسان عتيق”، أي انسان ملوث، نجس، في حالة عداوة مع الله، “وليس خاضعاً لناموس الله” ([3])، بل هو بكليته خطيئة، حتى أن الإنسان لا يعود ينظر كما يشاء هو بل ينظر بعين شريرة، ويسمع بأذن شريرة، وله أرجل تسرع إلى فعل الشر، ويديه تصنع الإثم، وقلبه يخترع شروراً. لذلك فلنتوسل إلى الله أن ينزع منا الإنسان العتيق، لأنه هو وحده القادر على نزع الخطيئة منا، لأن الذين قاموا بأسرنا ولا يزالون يستبقوننا في مملكتهم، هم أقوى منا.
ولكنه قد وعدنا بأن يحررنا من هذه العبودية المؤلمة. فعندما تكون هناك شمس ساخنة وتهب معها الريح فان كل من الشمس والريح لها كيان وطبيعة خاصة بها، ولكن لا يستطيع أحد أن يفصل بين الشمس والريح الا الله الذي يستطيع وحده أن يمنع الريح من الهبوب وبنفس المثال، فان الخطيئة ممتزجة بالنفس، مع أن كل منهما له طبيعته الخاصة.
3- فمن المستحيل الفصل بين النفس والخطيئة، أن لم يوقف الله ويسكت الريح الشرير، الذي يسكن في النفس وفي الجسد.
وكما أن الإنسان إذا رأى عصفوراً يطير، فانه يشتاق أن يطير هو ايضاً، ولكنه لا يستطيع، لأنه لا يملك أجنحة يطير بها. كذلك أيضاً فان ارادة الإنسان حاضرة ([4]) وقد يشتهي أن يكون نقياً، وبلا لوم، وبلا عيب، وان لا يكون في شيء من الشر، بل أن يكون دائماً مع الله، ولكنه لا يملك القوة ليكون كذلك. وقد تكون شهوته هي أن يطير إلى الجو الإلهي، وحرية الروح القدس ولكن لا يمكنه ذلك الا إذا اعطيت له أجنحة (لتحقيق هذه الغاية).
فلنلتمس من الله أن ينعم علينا “بأجنحة الحمامة” – أي الروح القدس لكيما نطير إليه “ونوجد في الراحة” ([5])، ولكي يفصل الريح الشرير ويقطعه من نفوسنا وأجسادنا، ذلك الريح الذي هو الخطية الساكنة في أعضاء نفوسنا وأجسادنا. ليس أحد إلا هو (الروح القدس) الذي يستطيع أن يفعل هذا الأمر.
يقول الكتاب “هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” ([6]) انه هو وحده الذي أظهر هذه الرحمة لأولئك الأشخاص الذين يؤمنون به، إذ انه يخلصهم من الخطيئة، وهو يحقق هذا الخلاص الذي لا ينطق به لأولئك الذين ينتظرونه دائماً ويضعون رجاءهم فيه ويطلبونه بلا انقطاع.
4- وكما انه يحدث في أحد الليالي المظلمة الكئيبة أن تهب ريح عاصفة وتحرك وتفتش كل الزروع والنباتات وتهزها، هكذا حينما يسقط الإنسان تحت سلطة ظلام ليل الشيطان، ويصير في الليل والظلمة، فانه يتكدر بواسطة ذلك الريح المرعب ريح الخطيئة الذي يهب (عليه) فيهزه ويقلبه ويفتش أعماق طبيعته كلها: نفسه وأفكاره، وعقله، ويهز أيضاً كل أعضاء جسده، ولا ينجو عضو سواء من أعضاء النفس أو أعضاء الجسد ويبقى بمأمن من الخطية الساكنة فينا.
وبالمثل فهناك نهار النور والريح الالهي، ريح الروح القدس، الذي يهب وينعش النفوس التي تكون في نهار النور الالهي. والروح القدس ينفذ في جوهر النفس كلها وفي أفكارها وكل كيانها، وكذلك ينعش ويريح كل أعضاء الجسد براحة الهية تفوق الوصف. وهذا هو ما أعلن عنه الرسول عندما قال “لسنا أبناء ليل أو ظلمة، بل جميعنا أبناء نور وأبناء نهار”([7]).
الإنسان الجديد:
وكما انه هناك في الحالة الأولى – حالة الخطيئة والسقوط – فإن الإنسان القديم لبس انسان الفساد بكليته، أي لبس ثوب مملكة الظلمة، ورداء التجديف وعدم الايمان، وعدم المبالاة والمجد الباطل والكبرياء والجشع والشهوة، وكل الفخاخ الأخرى الوسخة غير الطاهرة البغيضة التي لمملكة الظلمة، هكذا يحدث هنا أن كل الذين خلعوا الإنسان العتيق، الذي هو من تحت – من الأرض – كل الذين خلع عنهم يسوع رداء مملكة الظلمة – قد لبسوا الإنسان الجديد السماوي – أي يسوع المسيح – بكل عضو مقابل (العتيق)، عيون مقابل عيون، آذان مقابل آذان، رأس مقابل رأس، ليكون الإنسان كله نقياً بارتدائه الصورة السماوية.
5- هؤلاء قد ألبسهم الرب لباس ملكوت النور الذي لا ينطق به، لبس الايمان والرجاء والمحبة، والفرح والسلام والصلاح واللطف وكل الملابس الأخرى الالهية الحية التي لنور الحياة، ملابس الراحة التي لا يعبر عنها، حتى كما أن الله نفسه هو محبة وفرح وسلام ولطف وصلاح، فكذلك يكون الإنسان الجديد بالنعمة.
وكما أن مملكة الظلمة والخطيئة تبقى خفية في النفس إلى يوم القيامة، الذي فيه سوف تغمر أجساد الخطاة أيضاً بالظلمة المختفية الآن في النفس، هكذا مملكة النور، والصورة السماوية – يسوع المسيح – يضيء الآن سراً داخل النفس، ويملك في نفوس القديسين ولكنه مخفي عن عيون الناس، وعيون النفس فقط هي التي ترى المسيح حقاً حتى يأتي يوم القيامة، الذي فيه سيغمر الجسد أيضاً بنور الرب ويتمجد به، ذلك النور المختفي الآن في نفس الانسان، ليملك الجسد أيضاً مع النفس التي تنال منذ الآن ملكوت المسيح وتستريح مستنيرة بالنور الأبدي.
فالمجد لمراحمه وحنانه وشفقته، لأنه هكذا يعطف على عبيده وينيرهم، وينقذهم من مملكة الظلمة ويمنحهم نوره الخاص وملكوته الخاص. له المجد والقدرة إلى الأبد آمين.
([1]) الاقتباس – لم يذكر مصدره – وهو ليس اقتباساً من الكتاب المقدس، والقصد منه – على أي حال، هو اعطاء فكرة التغطية الكلية بالملابس.
([2]) كو 3 : 9.
([3]) رو 9 : 7.
([4]) رو 7 : 8.
([5]) مز 55 : 6.
([6]) يو 1 : 29.
([7]) 1تس 5 : 5.