القديس مقاريوس الكبير ع1 – تفسير مجازي للرؤيا الموصوفة في سفر حزقيال النبي
العظة الأولى
النفس عرش الله وهو قائدها
“تفسير مجازي للرؤيا الموصوفة في سفر حزقيال النبي”
1- يقص حزقيال النبي المبارك الرؤيا المجيدة الملهمة التي رآها، ووصفه لهذه الرؤيا يبين أنها مليئة بالأسرار التي لا ينطق بها.
لقد رأى مركبة الشاروبيم وهي عبارة عن أربعة كائنات روحانية حية، لكل منها أربعة أوجه، واحد منها وجه أسد، وآخر وجه نسر، وآخر وجه ثور، والرابع وجه انسان. ولكل وجه أجنحه بحيث لا توجد أجزاء خلفية لي واحد منهم. وظهورهم مملؤة عيوناً، وكذلك بطونهم مشحونة ومزدحمة بالعيون، وليس فيهم أي جزء لم يكن مملوءاً عيوناً. وكان أيضاً لكل وجه بكرات، بكرة في وسط بكرة وكان الروح في البكرات.
ورأى حزقيال منظر شبه انسان قدميه كمنظر حجر العقيق (الياقوت) الأزرق. ومركبة ([1]) الشاروبيم والكائنات الحية كانت تحمل الرب الذي جلس فوقهم. وحيثما شاء أن يسير فإنه يسير والوجه إلى الأمام. ورأى تحت الشاروبيم كمثل يد انسان تسند وتحمل.
2- وهذا الذي رآه النبي كان في جوهره حقيقياً وأكيداً، ولكنه يشير كظل مسبق إلى شيء آخر، سري والهي – السر المكتوم بالحقيقة منذ الدهور ومنذ الأجيال ([2])، ولكنه أظهر في الأزمنة الأخيرة ([3]) بظهور المسيح. فإن السر الذي رآه هو سر النفس التي كانت ستستقبل ربها وتصير هي ذاتها عرشاً لمجده ([4]).
لأن النفس التي تتمتع بامتياز الاشتراك في روح ونور الله وتتشرب بأشعة جمال مجده غير الموصوف، وهو الذي هيأها لتكون كرسياً ومسكناً له، فإنها تصير كلها نوراً وكلها عيناً! ولا يكون فيها أي جزء غير مملوء بعيون النور الروحانية. أي ليس فيها جزء مظلم بل تصير بكليتها نوراً وروحاً، وتمتلئ كلها عيوناً، فلا يكون لها جزء خلفي بل في كل اتجاه يكون وجهها إلى الأمام بواسطة الجمال الذي يفوق التعبير الذي لمجد نور المسيح الجالس والراكب عليها.
وكما أن الشمس هي بكليتها ذات شبه واحد، بدون أي جزء من الخلف أو من أسفل، بل هي مكسوة بالنور من كل ناحية، وهي بالحقيقة كلها نور، بدون اختلاف بين اجزائها، أو كما ان النار، أي نفس نور النار، هي متشابهة كلها، وليس فيها أول أو آخر، أو أكبر وأصغر،
– هكذا أيضاً النفس التي تتشبع تماماً بالجمال الذي لا يوصف جمال مجد نور وجه المسيح وتكون في شركة تامة مع الروح القدس وتنال الامتياز بأن تكون محل سكن الله وعرشاً له، فانها تصير كلها عيناً، وكلها نوراً، وكلها وجهاً، وكلها مجداً، وكلها روحاً، والمسيح الذي يقودها، ويرشدها، ويحملها ويسندها، هو الذي يصنعها ويجعلها هكذا وينعم عليها ويزينها هكذا بالجمال الروحاني، لأن الكتاب يقول: ويد انسان كانت تحت الشاروبيم ([5]) لأنه هو ذاك الذي يركب عليها ويوجهها.
الشاروبيم رمز لقوى النفس:
3- والكائنات الحية الأربع التي حملت المركبة انما كانت رمزاً للملكات (أي القوى) الحاكمة للنفس. فكما ان النسر هو ملك الطيور والأسد ملك الوحوش الضارية، والثور ملك الحيوانات المستأنسة، والإنسان ملك المخلوقات عامة، هكذا فإن النفس أيضاً لها ملكاتها الحاكمة. وهذه الملكات هي الإرادة، والضمير، والعقل، وملكة الحب فهذه الملكات تضبط مركبة النفس، وعليها يستريح الله وبحسب تفسير آخر فإن الرمز يشير إلى كنيسة القديسين في السماء.
فكما يقال هنا ان الكائنات الحية كانت مرتفعة جداً، ومملوءة عيوناً وانه لم يستطع احد ان يدرك عدد العيون أو الارتفاع، لأننا لم نعط عنها معرفة، وكما أنه – قد المعطي لجميع الناس – فيما يخص نجوم السماء، ان ينظروا النجوم ويتعجبوا منها، ولكن لم يعط لهم ان يعرفوها ويدركوا عددها، فهكذا أيضاً الحال فيما يخص كنيسة القديسيين في السماء، فالدخول اليها، والتمتع بها قد أعطي لكل الذين يرغبون ويجاهدون في طلبها، أما كيفية رؤية وإدراك العدد الذي فيها، فهذا خاص بمعرفة الله وحده.
فالراكب اذن تنقله وتحمله مركبة أو عرش الكائنات الحية التي كلها عيوناً، أو بمعنى آخر تحمله النفس التي أصبحت عرشاً له وكرسياً، وهي الآن عين ونور. أنه يصعد عليها ويحكمها بزمام الروح ويقودها بحسب فكره هو. وكما ان الكائنات الروحانية الحية، لم تذهب إلى حيث شائت بل إلى حيث يعرف ويشاء ذاك الذي يجلس عليه ويوجههم، هكذا الحال هنا، فإنه هو نفسه الذي يمسك الزمام ويقود قوى النفس بروحه، حينما تتجه للسير في السماء، فهي تسير حسب قيادته وليس بحسب مشيئتها الخاصة.
فأحياناً يطرح الجسد، ويقود النفس ويأخذها بالفكر إلى السماء، وأحياناً – حينما يشاء هو – يأتي بها للعمل في الجسد وشئونه، – وأحياناً – حينما يشاء هو – يأتي بها إلى أقاصي الأرض ويشكف للنفس أسراراً بلا حجاب. آه، يا لسموه وصلاحه، ذلك القائد الحقيقي الوحيد (للنفس)!. وبنفس الطريقة، فإن أجسادنا أيضاً ستنال الإمتياز في القيامة، بعد أن تكون النفس قد سبقت وتمجدت منذ الآن على الأرض وامتزجت مع الروح في الحياة الحاضرة.
أنتم نور العالم:
4- وأما ان نفوس الأبرار تصير نوراً سماوياً، فهذا هو ما أعلنه الرب للرسل، عندما قال “أنتم نور العالم” ([6]) لأنه صيرهم نوراً أولاً، ثم بعد ذلك أمر بأن يستنير بهم العالم إذ يقول “لا يوقدون سراجاً ويضعونه تحت الميكال، بل على المنارة فيضيء، لكل من في البيت. فليضيء نوركم هكذا قدام الناس”([7]).
وبمعنى آخر، لا تخفوا الموهبة التي قبلتموها مني، بل أعطوا لكل الذين يرغبون ان ينالوها. وقال أيضاً “سراج الجسد هو العين فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً. وان كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً. فإن كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كم يكون” ([8])، فكما ان العينين هما نور الجسد – وطالما هما بحالة جيدة – فالجسد كله يكون نيراً، ولكن ان حدث لهما حادث فاظلمتا، يصير الجسد كله في ظلمة، هكذا قد جعل الرسل ليكونوا عيوناً ونوراً للعالم كله.
لذلك فإن الرب أمرهم بهذا القول. فأنتم الذين هم نور الجسد، إن كنتم تثبتون ولا تنصرفون عني، فحينئذ يستنير جسد العالم كله، وأما أن كنتم وانتم النور تكونون مظلمين فما أعظم تلك الظلمة، التي هي ليست شيئاً أقل من العالم. وهكذا فإن الرسل إذ كانوا هم أنفسهم نوراً، فقد أعطوا النور لأولئك الذين آمنوا، إذا أناروا قلوبهم بذلك النور السماوي – نور الروح الذي كانوا هم أنفسهم مستنيرين به.
الملح والذبيحة والكاهن:
5- واذا كانوا هم أنفسهم ملحاً، فانهم حفظوا وملحوا كل نفس مؤمنة بملح الروح القدس، لأن الرب قال لهم “أنتم ملح الأرض” ([9]) ويقصد بالأرض قلوب الناس. انهم اعطوا لنفوس الناس من الداخل الملح السماوي – ملح الروح – فيملحونهم ويجعلونهم أحراراً من الفساد والتعفن، بدلاً من تلك الحالة الكريهة التي كانوا فيها.
ان اللحم، ان لم يملح، يفسد ويمتلئ برائحة كريهة، حتى ان الناس كلهم يبتعدون من الرائحة العفنة، ويدب الدود في اللحم الفاسد ويسكن فيه ويتغذى عليه ويختبئ فيه، ولكن حينما يلقى عليه الملح يموت الدود الساكن فيه وتنتهي الرائحة الكريهة لأن هذه هي خاصية الملح ان يقتل الدود ويزيل الرائحة الرديئة.
وبنفس الطريقة فإن كل نفس لا تصلح وتملح بالروح القدس ولا تشترك في الملح السماوي الذي هو قوة الله فانها تفسد وتمتلئ برائحة الأفكار الرديئة الكريهة حتى ان وجه الله يتحول عن الرائحة المرعبة النتنة رائحة أفكار الظلمة الباطلة وعن الشهوات التي تسكن في مثل هذه النفس. والدود الشرير المرعب، الذي هو أرواح الشر وقوات الظلمة، تتمشى وتتجول فيها، وتسكن هناك، وتختبئ وتدب فيها وتأكلها وتأتي بها إلى التحلل والفساد. كما يقول المزمور “قد انتنت وقاحت جراحاتي” ([10]).
ولكن حينما تهرب النفس إلى الله لأجل الخلاص وتؤمن وتطلب ملح الحياة الذي هو الروح الصالح المحب للبشر، فحينئذ يأتي الملح السماوي ويقتل تلك الديدان المرعبة ويزيل الرائحة النتنة، ويطهر النفس بعمل قوته الفعال، وهكذا تصير النفس سليمة صحيحة وحرة من الاضمحلال بواسطة ذلك الملح الحقيقي وترد وتعاد لتكون نافعة لخدمة السيد السماوي وهذا هو السبب الذي من أجله أمر الله، في الناموس مستعملاً الرمز ان كل ذبيحة ينبغي ان تملح بملح([11]).
6- فالذبيحة ينبغي أولاً ان تذبح بواسطة الكاهن، وتموت، ثم تقطع قطعاً قطعاً وتملح، وبعد ذلك توضع على النار. فان لم يذبح الكاهن الخروف أولاً ويموت، فإنه لا يملح ولا يقرب كقربان محرقة للرب. هكذا نفسنا ايضاً ينبغي ان تأتي إلى المسيح رئيس الكهنة الحقيقي ليذبحها، وتموت عن هوى فكرها الخاص وعن حياة الخطية الشريرة التي كانت تعيشها قبلاً. يجب ان تخرج منها الحياة حياة الأهواء الشريرة.
كما ان الجسد اذا خرجت منه النفس يموت، ولا يعود يعيش بالحياة التي سبق ان عاشها، فلا يسمع ولا يمشي كذلك المسيح، رئيس كهنتنا السماوي – حينما يذبح نفسنا بنعمة قوته، ويميتها عن العالم فانها تموت عن حياة الشر التي كانت تعيشها قبلاً. يجب ان تخرج منها الحياة حياة الأهواء الشريرة.
كما ان الجسد اذا خرجت منه النفس يموت، ولا يعود يعيش بالحياة التي سبق ان عاشها، فلا يسمع ولا يمشي كذلك المسيح، رئيس كهنتنا السماوي – حينما يذبح نفسنا بنعمة قوته، ويميتها عن العالم فانها تموت عن حياة الشر التي كانت تعيشها، فلا تعود تسمع أو تتكلم أو يكون لها شركة وتوطن في ظلمة الخطيئة لأن حياتها – التي هي الأهواء الشريرة قد خرجت منها بواسطة النعمة. والرسول يصرح قائلاً “قد صلب العالم لي وأنا صلبت للعالم” ([12]).
فالنفس التي لا تزال تحيا في العالم وفي ظلام الخطيئة ولم تمات بواسطة المسيح ولا يزال روح الخبث في داخلها أعني نشاط ظلمة أهواء الشر، التي تتحكم فيها فإن هذه النفس لا تنتمي إلى جسد المسيح لا تنتمي إلى جسد النور، بل هي في الحقيقة جسد الظلمة ولا تزال جزءاً لا ينفصل من الظلمة، أما الذين لهم حياة روح النور، أعني قوة الروح القدس فإنهم جزء لا ينفصل من النور.
7- ولكن قد يسألني أحدكم قائلاً: كيف تدعو النفس بلقب جسد الظلمة في حين انها لم تخلق من الظلمة؟ اصغ الي، وافهمني جيداً. كما ان ثوبك الذي تلبسه قد صنعه آخر غيرك، وانت تلبسه، وكما ان بيتك قد بناه آخر وأنت تسكن فيه، هكذا حينما تعدى آدم وصية الله وأطاع الحية الخبيثة، صار مباعاً أو باع نفسه للشيطان فاكتست النفس – تلك الخليقة الحسنة التي صورها الله على صورته الخاصة – اكتست بنفس الشرير مثل رداء.
لذلك يقول الرسول “اذ جرد الرياسات والسلاطين، ظفر بهم في الصليب” ([13])، وهذا هو الغرض الذي من أجله جاء الرب (الى العالم)، لكيما يطرحهم خارجاً ويسترجع بيته وهيكله، أي الانسان. لهذا السبب تسمى النفس جسد ظلمة الخبث طالما ان ظلمة الخطية موجودة فيها، لأنها تحيا لعالم الظلمة الشرير، وهي ممسوكة بشدة هناك.
لذلك يسميها الرسول جسد الخطيئة أو جسد الموت، قائلاً “ليبطل جسد الخطيئة” ([14])، وأيضاً: “من ينقذني من جسد هذا الموت” ([15])، ومن الجهة الأخرى فان النفس التي قد آمنت بالرب وانقذت من الخطية واميتت عن حياة الظلمة وقد نالت نور الروح القدس كحياة لها، وبهذه الطريقة قد انتقلت إلى الحياة حقاً، فانها تصرف زمانها بعد ذلك في نفس هذه الحياة، لأنها تكون هناك ممسوكة بشدة بقوة نور اللاهوت.
فان النفس في ذاتها لا هي من طبيعة اللاهوت، ولا هي من طبيعة ظلمة الخبث، بل هي خليقة عاقلة، جميلة، عظيمة، وحسنة كمثال وصورة الله. وانما عن طريق التعدي دخل فيها خبث أهواء الظلمة.
ضرورة المجيء إلى المسيح لنموت ونحيا:
8- اذن فما تختلط به النفس فانها تكون متحدة معه في حركات ارادتها، فإما يكون لها نور الله في داخلها، وبذلك، تعيش في النور، في كل الفضائل، وتنتسب إلى نور الراحة. وإما يكون لها ظلمة الخطيئة فستجد الدينونة. فالنفس التي تشتهي ان تعيش مع الله في الراحة والنور الأبدي يجب ان تأتي، – كما قلنا سابقاً – إلى المسيح رئيس الكهنة الحقيقي لتنذبح وتموت عن العالم وعن حياة ظلمة الخبث السابقة. وتنتقل إلى حياة أخرى والى سيرة الهية.
وكما يحدث عندما يموت انسان في مدينة ما فانه لا يسمع صوت الناس الساكنين فيها ولا أحاديثهم ولا الضوضاء التي يصنعونها، بل هو يصير ميتاً مرة واحدة، وينتقل إلى منطقة أخرى حيث لا يوجد أصوات ولا صرخات من تلك المدينة التي خرج منها…
كذلك النفس ايضاً حينما تنذبح مرة وتموت عن مدينة الأهواء الشريرة التي تسكن وتعيش فيها فانها لا تعود تسمع في داخلها صوت أفكار الظلمة، ولا يعود يسمع فيها حديث وصراخ المنازعات الباطلة الشريرة أو ضجيج أرواح الظلمة بل تنتقل إلى مدينة مملوءة بالصلاح والسلام، إلى مدينة نور اللاهوت وتعيش هناك، وتسمع وتستوطن وتتكلم وتشارك، وهناك تعمل اعمالها الروحانية التي تليق بالله.
فلنصل لكي ننذبح بقوته:
9- لذلك فلنصلي لكي ننذبح بواسطة قوته ونموت عن عالم الظلمة الخبيث ولكي تموت فينا روح الخطية، ولكيما نلبس وننال حياة الروح السماوي، وننتقل من حيث الظلمة إلى نور المسيح، ولكي نستريح في الحياة إلى مدى الدهور. فكما ان المركبات تتسابق في الميدان والمركبة التي تسبق الأخرى تصير لها مانعاً وحاجزاً وعائقاً، حتى انها لا تستطيع ان تتقدم وتصل إلى النصرة، وهكذا ايضاً سباق أفكار النفس والخطيئة في الانسان.
فاذا حدث ان سبق فكر الخطيئة فانه يعوق النفس ويحجزها ويمنعها، حتى انها لا تستطيع ان تقترب إلى الله وتنال النصرة منه. ولكن حيث يركب الرب ويمسك بزمام النفس بيديه فانه دائماً يغلب لأنه بمهارة يدير ويقود مركبة النفس إلى ذهن سماوي ملهم كل حين.
وهو – أي الرب – لا يحارب ضد الخبث اذ له دائماً القوة الفائقة والسلطان في نفسه، بل هو يصنع النصرة بنفسه. فالكاروبيم اذن لا تسير حيث تشاء من نفسها ان تسير بل إلى حيث يقودها ويوجهها الراكب عليها. وهي تسير حيث يريد هو، وهو يسندها لأن الكتاب يقول “ويد انسان كانت تحتها” ([16]).
فهذه النفوس المقدسة تنقاد وتسير بروح المسيح الذي يمسك بزمامها ويقودها إلى حيث يشاء – فاحياناً يشاء ان تقيم في التأملات السماوية، واحياناً يشاء ان تلبث في الجسد، وهكذا حيثما يشاء هو فانها تقوم بالخدمة.
وكما ان أجنحة الطائر هي له بمثابة الرجلين كذلك فان النور السماوي أي نور الروح يحمل اجنحة افكار النفوس المستحقة، ويقودها ويدبرها كما يعرف هو انه الأحسن لها.
أنظر إلى نفسك جيداً:
10- لذلك فحينما تسمع بهذه الأشياء أنظر إلى نفسك جيداً، هل انت حاصل على هذه الاشياء ومالك لها بالفعل والحق في داخل نفسك أم لا؟ فانها ليست مجرد كلمات تقال بل هي فعل الحق الذي يحدث في داخل نفسك. فان لم تكن مالكاً لها بل انت معدم من مثل هذه الخيرات الروحانية، ينبغي لك ان تكتئب وتحزن وتسعى بلهفة كانسان لا يزال ميتاً ومنفصلاً عن الملكوت وكانسان مجروح اصرخ دائماً إلى الرب واطلب منه بايمان ان يمنحك انت شخصياً هذه الحياة الحقيقية.
وحينما صنع الله جسدنا هذا فانه لم يمنحه ان تكون له حياة لا من طبيعة الله الخاصة ولا ان يحيا الجسد بذاته، وهكذا دبر له الطعام والشراب واللباس والأحذية، وهكذا عين الله له ان يأخذ كل حاجات الحياة من الخارج اذ انه صنع الجسد نفسه عرياناً ولا يمكن للجسد ان يعيش بدون الاشياء الخارجة عنه أي بدون الطعام والشراب واللباس فان حاول ان يعتمد على طبيعته وحدها دون ان يأخذ شيئاً من الخارج فانه يضمحل ويموت.
وهذا هو نفس الحال بالنسبة للنفس ايضاً فهي لا تملك النور الالهي رغم انها مخلوقة على صورة الله وهكذا نظم الله احوالها وقد سر بأن لا تحصل على الحياة الأبدية من طبيعتها الخاصة، ولكن من لاهوته، أي من روحه ومن نوره. تنال طعاماً وشراباً روحانياً، ولباساً سماوياً وهذه هي حياة النفس، أي الحياة بالحقيقة.
11- وكما رأينا ان حياة الجسد ليست من ذاته، ولكن من خارجه، أي في الأرض، وبدون الأشياء التي من خارجه لا يمكنه ان يعيش هكذا أيضاً النفس أن لم تولد الآن إلى “أرض الأحياء” ([17]) وتستمد غذاء روحياً منها وتنمو نمواً روحياً أمام الرب وتكتسي من اللاهوت بحلل الجمال السماوي التي تفوق الوصف، فانها بدون ذلك القوت لا يمكنها أن تعيش من نفسها في فرح وراحة.
أن الطبيعة الالهية فيها خبز الحياة الذي قال “أنا هو خبز الحياة”([18])، “والماء الحي”([19])، “والخمر التي تفرح قلب الانسان”([20])، “وزيت الابتهاج”([21]) وجميع أصناف طعام الروح السماوي ولباس النور السماوي تلك التي تأتي من الله. وفي هذه الأشياء تكون حياة النفس الأبدية.
ويل للجسد حينما يعتمد على طبيعته الخاصة لأنه حينئذ يضمحل ويموت، وأيضاً ويل للنفس أن استندت على طبيعتها الخاصة ولم تضع ثقتها في شيء سوى أعمالها الخاصة، ولم تنل شركة روح الله، فانها تموت اذ انها لم تحصل على حياة اللاهوت الأبدية الممنوحة لها. ففي حالة المرضى بالجسد، بمجرد أن يفقد الجسد القدرة على تقبل الغذاءن لا يعود هناك أمل في هؤلاء المرضى ويبدأ أصدقاؤهم الحقيقيون وأقرباؤهم ومحبيهم في البكاء وذرف الدموع.
وبنفس الطريقة فان الله والملائكة يبكون على النفوس التي لا تتغذى بطعام الروح السماوي، ولم تأت إلى الحياة في عدم الفساد. ومرة أخرى أقول: أن هذه الأشياء ليست مجرد كلمات تقال، بل هي عمل الحياة الروحانية، عمل الحق الذي يتحقق في النفس الأمينة المستحقة.
ليكن لنا حس سريع:
12- فاذا كنت قد صرت عرشاً لله، وجلس فوقك الراكب السماوي، ونفسك كلها قد صارت عيناً روحانية، وصارت نفسك كلها نوراً، واذا كنت قد تغذيت بذلك الغذاء، غذاء الروح القدس، وان كنت قد سقيت من ماء الحياة، وان كنت قد لبست ملابس النور الذي لا يوصف، وثبت انسانك الداخلي في اختبار هذه الأمور بملء الثقة واليقين، فانك بذلك تكون حياً، انك تحيا الحياة الأبدية بالحقيقة، وان نفسك هي في الراحة مع الرب منذ الآن فصاعداً.
انظر فها أنت قد قبلت هذه الأشياء من الرب وامتلكتها بالحق، لكيما تحيا الحياة الحقيقية. ولكن اذا وعيت نفسك ووجدت انه ليس عندك شيء من هذه الأشياء (التي سبق ذكرها) فحينئذ يلزم أن تبكي وتنوح وتحزن لأنك حتى الآن لم تجد الغنى السماوي الأبدي.
لذلك ينبغي أن تتوجع بسبب فقرك المدقع، وتتضرع إلى الرب ليلاً ونهاراً لأنك قد سقطت في فقر الخطيئة المرعب.
يا ليت كل انسان يصير له احساس سريع وتوجع بسبب فقره، ولا نسير في الحياة بلا مبالاة، مكتفين كأننا قد امتلأنا!، لأن الذي يحس بشدة فقره، ويأتي إلى الرب ويسأله بالصلاة باستمرار، فانه حالاً يحصل على الفداء والكنوز السماوية، كما قال الرب في ختام حديثه عن القاضي الظالم والأرملة “أفلا ينصف الله الذين يصرخون إليه ليلاً ونهاراً، نعم أقول لكم انه ينصفهم سريعاً” () الذي له المجد والقوة إلى الأبد آمين.
([1]) حزقيال النبي لم يستعمل كلمة “مركبة” في الأصحاح الأول ولكن الكلمة استعملت في النسخة السبعينية في سفر حزقيال اصحاح 43 عدد 3.
([2]) كولوسي 1 : 26.
([3]) 1 بطرس 1 : 10.
([4]) مت 25 : 31.
([5]) حزقيال 1 : 8 يفسر القديس مقاريوس “الإنسان” هنا بأنه المسيح ويد انسان كانت تحت الشاروبيم لأنه هو الذي يركبها ويوجهها.
([6]) مت 5 : 14.
([7]) مت 5 : 15، 16.
([8]) مت 6 : 22، 23، لو 11 : 34.
([9]) مت 5 : 13.
([10]) مز 38 : 5.
([11]) لا 2 : 13، انظر مرقس 9 : 49.
([12]) غلاطية 6 : 14.
([13]) كولوسي 2 : 15.
([14]) رومية 6 : 6.
([15]) رومية 7 : 24.
([16]) حزقيال 1 : 8.
([17]) مز 27 : 13.
([18]) يو 6 : 35.
([19]) يو 4 : 10.
([20]) مز 104 : 15.
([21]) مز 45 : 7.