السعف والأغصان – الانبا مكاريوس
السعف والأغصان – الانبا مكاريوس
لدى الأقباط شغف لا يوصف بالخوص (السعف) لا سيما في أحد الشعانين، حيث يكاد لا يخلو بيت منه في تلك ا لمناسبة، وينتشر من ثَمّ باعة الخوص في الشوارع وينادون عليه مرتبطًا بالأقباط (قلبك يامسيحي.. قلبك أبيض)، مثل البلح في النيروز، والقصب في الغطاس وغيرها..
ويسهر الأقباط عادة في صنع قطع فنية من الخوص: الصلبان والحمير والخواتم والأكاليل والغويشات، وأكثر من ذلك ضفر الخوص حول الجريدة (ساق السعف) وعمل جيوب فيها لوضع القربانة، كما تُزيَّن الأغصان بالورود والرياحين وغيرها، ويندر أن يوجد قبطي يدخل الكنيسة دون الخوص. ولعل سبب حبهم فيه هو ظهوره مرتبطًا في الكتاب المقدس والتقليد بالاحتفالات المبهجة، لاسيما الشعانين والمظال واستقبال الملوك.
وأمّا عن النخلة التي يؤخذ منها السعف، فهي أشجار تمتاز بالشموخ والزهو والثمار وطول الحياة ولون الحياة، كما تكون أغصانها في وضع الأيادي المرتفعة للصلاة، حتى شُبِّه الصدِّيق بها: «الصِّدّيقُ كالنَّخلَةِ يَزهو، كالأرزِ في لُبنانَ يَنمو» (مزمور92: 12)، بينما شُبِّه الأولاد في البيت كغروس الزيتون الجدد حول مائدة الأسرة: «بَنوكَ مِثلُ أغراسِ الزَّيتونِ حَوْلَ مائدَتِكَ» (مزمور128: 3).
هذا ولم يكن سعف النخل يًستخدم وحده في مثل تلك المناسبات، وإنما أُستُخدٍم معه أغصان الزيتون والآس وهو نبات عطر، وأغصان التين وغيرها…
موكب المسيح:
كان الشراح اليهود قد أعطوا تصورًا لدخول المسيا ظافرًا إلى أورشليم، حيث سيقف الكهنة والشعب على الأسوار لاستقباله، ويبدأ الموكب من جبل الزيتون إلى أورشليم حتى الهيكل، ويرافقه تسبيح الأنتيفونا (التسبيح التبادلي). ورسخت الصورة في الأذهان، ولذلك ما أن أُذيع أن المسيح قادم إلى أورشليم، حتى حدث هذا الانفجار الشعبي التلقائي، ولم يكن قصد الرب أن يحشد الشعب في هذه المناسبة لتأييده، ولكن الناس خرجوا وطرحوا ثيابهم تحت قدميه دلالة الخضوع ليملك عليهم، وكما دفعوا الكثير من الأغصان والورود، بل وبحسب التقليد فإن الأطفال أنفسهم رفعوا أغصان الزيتون..
ولنا أن نتخيل أن أورشليم في ذلك الوقت كان بها ما لا يقل من مليونين من السائحين الحجاج، اشترك بالطبع منهم عدد كبير في هذا الاحتفال، وهم يلوّحون بآلاف الأغصان.
كان الاحتفال بعيد التجديد (1مكابين – يوحنا10) قد اُستُخدِم فيه مثل ذلك حيث يرد أنهم رَفَعوا مَزاريقَ، وأغصانًا خضرًا وسعفًا (2مكابيين10: 7)، والمزاريق عبارة عن غصن من أي شجر ينتهي بنهاية مخروطية ويُلَف بأوراق اللبلاب والورود، والكروم. كذلك اُستُخدِم مثل ذلك في عيد المظال، حيث يرد في سفر اللاويين: «وتأخُذونَ لأنفُسِكُمْ في اليومِ الأوَّلِ ثَمَرَ أشجارٍ بَهِجَةٍ وسَعَفَ النَّخلِ وأغصانَ أشجارٍ غَبياءَ وصَفصافَ الوادي، وتَفرَحونَ أمامَ الرَّبِّ إلهِكُمْ سبعَةَ أيّامٍ» (لاويين23: 40).
وهكذا كان الاحتفال السنوي بالمظال يتم بهذه الطريقة، واليوم السابع منه يُسمّى “يوم هوشعنا”، وهو يقابل أحد الشعانين هنا (شعانين = هوشعنا). وفي ذلك العيد وهذا اليوم تحديدًا كان اليهود يتخذون أغصان زيتون تُسمّى الأريزيون، يُصنع العود من غصن الزيتون أو الغار (الفل)، ويُلفُّ بالصوف، وتتدلّى منه ثمار الفاكهة، وإلى جوار بقية الأغصان التي ذُكِرت استخدموا فاكهة تُسمّى “هاوار” أو فاكهة الموسم.
حدث ذلك أيضًا في احتفال اليهود بالدخول في القلعة التي بجوار الهيكل وهي التي احتلها الوثنيون زمانًا، حيث دخلوا «بالحمد (التسبيح) والسعف والكنّارات (القيثارات) والصنوج والعيدان والتسابيح والأناشيد» (1مكابيين13: 51).
وفي عصر المكابين أيضًا ظهرت عادة عمل هدايا تذكارية من سعف النخل حتى اُشتُهِرت، فتبادل ملوك السلوقيين مع رؤساء الكهنة هذه الهدايا، مثلما أهدى سمعان رئيس الكهنة مثل هذه الهدايا للملك ديمتريوس الثاني (1مكابيين13: 26-37)، وقد عُثِر لاحقًا على عملات معدنية ترجع إلى عصر سمعان المكابي مرسومًا عليها صورة السعفة.
ومن هنا جاء مصطلح السعفة Frond وشاع استخدامه، ويُقصَد به جريدة بها بعض السعفات وجميع ذلك من الذهب، وكانت تشير إلى الخير والسعادة، ومنها أهدى الملوك بعضًا ليُعلَّق في الهيكل أو يُحفَظ في الخزينة، مثلما كانوا يهدون عناقيد من العنب ورموزًا أخرى مثل الرمان والتين والزيتون.
وفي سفر الرؤيا يرى الآباء أن التحقيق النهائي لمشهد الشعانين سيتم في السماء، حيث سبق القديس يوحنا اللاهوتي فنقل له هذا الاحتفال الشعانيني «بَعدَ هذا نَظَرتُ وإذا جَمعٌ كثيرٌ لَمْ يَستَطِعْ أحَدٌ أنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ والقَبائلِ والشُّعوبِ والألسِنَةِ، واقِفونَ أمامَ العَرشِ وأمامَ الخَروفِ، مُتَسَربِلينَ بثيابٍ بيضٍ وفي أيديهِمْ سعَفُ النَّخلِ (رؤيا7: 9).
ومن هنا نرى أن العلامة الراسخة في الوعي الباطن من الكتاب المقدس والتقليد والأدب الرؤيوي للنصرة هي سعف النخل. وعند الاحتفال بمردخاي، زُيِّنت الشوارع بالرياحين أمام مردخاي (أستير10: 15)، وهو الاستقبال الملوكي الذي توقعه هامان لنفسه. ونقرأ كذلك عن “ياهو” وهو الملك الذي حالما سمع الشعب بمسحه ملكًا على إسرائيل حتى ألقوا ثيابهم تحته وقد هتفوا: “قد مَلَكَ ياهو”، ولا شك أن ذلك يرافقه رفع الأغصان (2ملوك9: 13). وهو الأمر الذي أراد اليهود ان يتمموه مع السيد المسيح عقب معجزة إشباع الجموع حيث اعتبروها معجزة مسيانية، كانوا ينوون إركابه على الحمارة والهتاف له ومعهم الأغصان قائلين:” قد مَلَكَ يسوع”.
بل ربما كان في رفع اليد فيما يُسمّى “علامة النصر” إشارة إلى سعف النخل، لاسيما إذا علمنا أن كف اليد بالأصبع يُسمّى Palm، وهي نفس الكلمة التي تعني نخلة أو سعف.
وإن كان البعض يرى أن علامة V التي يكوّنها رفع أصبعين (السبابة والوسطى) هي فيكتور = بقطر = نصر، وهي مأخوذة من الحرف اليوناني (ن) وشكله n وهو أول حرف في كلمة “ني كا= Nika” والتي تعني الغالب، وتقابلها في القبطية “بي اتشرو pisro”، وهما العبارتان اللتان كانتا توضعان تحت أيقونة الصليب.