الروح القدس في حياة الكنيسة
الروح القدس في حياة الكنيسة
الروح القدس في حياة الكنيسة
إقرأ أيضًا:
- دور القديس أثناسيوس في وضع أساس عقيدة الروح القدس
- انبثاق الروح القدس في تعليم الآباء القديسين
- تعليم الآباء الكبادوكيين عن الثالوث وانبثاق الروح القدس
الروح القدس الناطق في الأنبياء
إن المظهر الأول لعمل الروح القدس في حياة الكنيسة يمكن الاستدلال عليه من العبارات التي وردت في قانون الإيمان بنيقية والقسطنطينية عن الروح القدس بكونه “الرب” وبكونه هو “الناطق في الأنبياء”[1]. وهذا معناه أن الروح القدس يتقابل معنا باعتباره آتيًا من “أنا هو” (جوهر اللاهوت) الخاص بالرب الإله ضابط الكل[2]. والروح القدس هو “الرب الروح”[3]، الفاعل الإلهي ذو السيادة (Κύριος) الذي يكلِّمنا شخصيًّا ويدخل في شركة معنا.
وهو “الروح الناطق”، الروح ذاته الذي كلَّم شعب الله في أنبياء العهد القديم، وهو يكلِّمنا الآن أيضًا في العهد الجديد[4]. ولقد سبق لنا الحديث عن الوحدة الجوهرية التي بين “روح” و”كلمة” الله وأنهما في تواجد متبادل مع بعضهما البعض، ولكن ما يعنينا الآن هو أثر ذلك في موقفنا من احترام وتبجيل الأسفار المقدسة في العهدين القديم والجديد.
وقد جاء اعتراف الإيمان في نيقية بأن الروح القدس هو “الناطق في الأنبياء” ليؤكد الوحدة بين إعلان الله لذاته من خلال شعب إسرائيل وبين إعلانه لذاته من خلال التجسد، وبالتالي الوحدة بين الوحي الإلهي في جميع الأسفار المقدسة.
ولم يكن الاهتمام الأول للآباء هو عن كيفية حدوث الوحي الإلهي أو مظاهره الخارقة، وإنما كان اهتمامهم منصبًا على حقيقة أنه عبر كل هذه الأسفار لم يكن إلاّ الله نفسه وليس آخر هو الذي يتحدث في الروح “الرب”. وإذا استرشدنا هنا بديديموس كأحد الذين غاصوا في الأسفار المقدسة، نجده يأتي بتعبيرات متنوعة للتأكيد على حقيقة أن ما نسمعه في الكتاب المقدس ليس هو إلاّ كلمة الله المباشرة[5].
ولذا استطاع أن يتحدث عن كلمة الله في الأسفار المُوحى بها بكونها “الحضور الإلهي” للروح[6]، لأنه فيها يتحدث الروح الحيّ، الذي يفحص أعماق الله ويكشفها لنا[7]. أي إن كلمة الله التي نسمعها في الأسفار المقدسة ليست مجرد كلمة ساكنة (جامدة وخاملة أو بلا حياة)، بل هي كلمة آتية إلينا من فم الله الحيّ بواسطة روحه المحيي (أو نسمته المحييّة) أي كلمة من أنفاس الله (θεόπνευστος)[8].
الروح القدس يأخذ من الابن ويعطينا
ومما كان له أهمية قصوى في كل حديث عن الروح القدس، تلك الفقرات التي في إنجيل القديس يوحنا والتي تتحدث عن إرسالية الروح القدس من الابن والآب، حيث نجد فيها أن الروح لا يتكلَّم من نفسه بل مما يأخذه من الابن. وهذه العلاقة غير المنفصمة التي بين “الكلمة” و”الروح” كانت واضحة للغاية في خطابات القديس أثناسيوس لصديقه الأسقف سِرابيون.[9]
ولذا ليس غريبًا أن نرى أن هذه العلاقة الوثيقة التي بين “الكلمة” و”الروح” قد انعكست أيضًا في خولاجي سرابيون (Euchologion of Serapion)، والذي يظهر فيه أول شكل من أشكال صلوات الاستدعاء* (πίκλησις).
ففي هذا الخولاجي نجد صلاة تُرفع من أجل عطية الروح القدس، لكيما يتحدث الرب يسوع والروح القدس في المصلين ليمكِّناهم من قبول استعلانات الأسرار المقدسة والاشتراك في تمجيد الثالوث؛ غير أنه في صلاة الاستدعاء نفسها كانت الصلاة موجهة للكلمة دون ذكر الروح القدس.[10] إلاّ أن الأمر يختلف في الطقس الأورشليمي بالنسبة لصلاة الاستدعاء، حيث نجد الصلاة توجه للروح القدس، ولكن كما رأينا فإن الروح القدس عند القديس كيرلس الأورشليمي هو “الروح الناطق” الذي ينقل المسيح وكلمته إلى المؤمنين.[11]
وحيث إن الكلمة والروح القدس في تلازم وتواجد (احتواء) متبادل مع بعضهما البعض، فإن الروح ليس صامتًا بل متحدث بليغ عن المسيح الكلمة المتجسد. وهو روح الله الواحد، الحاضر والعامل في العهد القديم والعهد الجديد على حد سواء لأنه هو “الناطق في الأنبياء”.
الروح القدس الباراكليت
وإذا تأملنا العبارات التي تقول إن الروح القدس هو “الرب المحييّ المنبثق من الآب”، وأيضًا الإضافة التي أضافها القديس أثناسيوس والقديس إبيفانيوس عن الروح القدس أنه “يأخذ من الابن”، فسوف نقترب من اللقب الذي أطلقه السيد المسيح على الروح القدس أنه “الباراكليت” الذي يرسله هو إلى العالم. وصِلة الروح القدس بكيان وفعل الابن المتجسد هي صلة وثيقة للغاية، فالابن المتجسد يرسل الروح القدس من عند الآب والروح القدس يأخذ من الابن المتجسد ويعطينا، وهذا يعني أنه هو “المعزي الآخر” (Alter Advocatus) الذي يمجِّد المسيح ويحقِّق (يكمِّل) عمله[12].
إن الباراكليت هو روح الله الحيّ والمحييّ، الذي يعطينا الشركة في حياة الله، والذي يمجد المسيح بكونه ابن الله؛ إذ يلقي بضوئه على شخص المسيح ليستعلنه لنا، وهو الذي يحقِّق فينا إعطاء الله ذاته لنا في ابنه، وهو أيضًا ينقل إلينا عمل المسيح الخلاصي من أجلنا، ويجعله يثمر فينا. ووفقًا لهذا التعليم الكتابي، عبّّر هيبوليتس عن الروح القدس بأنه “الروح الكهنوتي الأسمى[13]“.
وكان هذا العمل المعزي والشفاعي للباراكليت موضوعًا محببًا في تعليم آباء نيقية وما بعد نيقية[14]، ويعد هذا التعليم الآبائي وبخاصة المدوَّن باليونانية نموًّا مباشرًا للتعليم الذي قدمه القديس بولس في رسالته إلى أهل رومية (الإصحاح الثامن)، حين تحدث عن الروح القدس بكونه يشفع فينا.
ومما يثير الانتباه أن القديس بولس استخدم في نفس الإصحاح مع الروح القدس الفعل (περεντυγχάνει) * وهو أقوى حتى من ذاك الذي استُخدم مع المسيح (ντυγχνει) #، وذلك لكي ما يؤكد بشدة ما قاله عن العمل الشفاعي الذي يقوم به الروح القدس. وهذا ما يحدث على حد قول بولس الرسول عندما نصلي، لأن صلوات الخليقة كلها تُقدم بتدخل وبفعل الروح القدس الشفاعي[15].
وفي هذا الصدد يرى القديس غريغوريوس النزينزي أن وظيفة الباراكليت مرتبطة بصفة خاصة بالصلاة والعبادة، لأنه من خلال الروح القدس تصل شفاعة المسيح رئيس كهنتنا الأعظم إلى داخل قلوبنا، ومن ثم تُحمل صلواتنا وعبادتنا في الروح إلى أعلى وتصبح فعَّالة بواسطته وكأن الله بنفسه (من خلال الروح) يُدخلنا في علاقة مع نفسه[16]. أما بالنسبة للقديس إبيفانيوس، فإن الصلة بين عمل المسيح الخلاصي وبين سكنى الروح القدس فينا، تظهر بوضوح في صلوات الاستدعاء، وبوجه عام في تقديس وتكميل حياة المؤمنين في المسيح[17].
الروح القدس هو روح الشركة
وفي كل عمله، يأتي إلينا الروح القدس من الشركة الداخلية التي بين الآب والابن والروح القدس (في الجوهر وفي الطبيعة). وهو الرب المحييّ، وهذا معناه أنه هو المحتوى الحي لإعطاء الله ذاته لنا بالابن وفي الروح القدس[18]. إذن، ففي الروح القدس نحن نُعطى الشركة (κοινωνία) في سر المسيح، ونصير أعضاءً في جسده.
وهذا العمل المُشخصِن (المُؤقنِم)* الذي يقوم به الروح القدس لا يخلق فقط شركة اتحاد بين المسيح وبيننا كمؤمنين، بل أيضًا شركة اتحاد بين بعضنا البعض، وهذا لا يكون إلاّ انعكاسًا لعلاقات الثالوث في الله ذاته، وهكذا تقوم الكنيسة وتوجد على الدوام بفضل اتحادها بالمسيح بكونها جسده. هذه هي كنيسة الله مثلث الأقانيم، الحاملة في داخلها قوة الروح القدس الرب المحييّ، وإذا كانت الكنيسة “في الروح” خلال وجودها على الأرض فهي بالتالي تكون “في الله”.
ومن صميم طبيعة الكنيسة وحياتها أن تشترك في الحياة والنور والحب الذي هو الله ذاته، ولذا فمن الضروري لحياة الكنيسة أن تحافظ دائمًا على وحدانية الروح ورباط السلام وبهذا تكون مرآة تعكس في ذاتها وحدانية الثالوث القدوس المبارك.
264 See Epiphanius, Haer., 66.72f, 84; 74.7; Anc., 119f.
265 See Didymus, Con. Eun., Athens ed., 44, pp. 253, 255, 277; cf. Athanasius, De decr., 22; De syn., 35; Con. Ar., 1.46; 3.6f; Ad Afr., 4; Epiphanius, Anc., 70; Haer., 58. 10; 62.4; 63.7; 74.7; 76. Ref. Aet., 29.etc.
[3] 2كو 17:3. انظر:
Athanasius, Ad ser., 1.4ff; Con. Ar., 1.11; Ep., 1.8f; Basil, De Sp. St., 52f.
267 E.g., Cyril of Jer., Cat., 4.16, 33; 11.12; 16.1ff, 16f, 24, 26ff; 17.5.
268 Didymus, De Trin., 1.15-18, 25f; 2.2, 6, 21f; Con. Eun., Athens ed., p. 242, etc.
269 Didymus, De Trin., 1.18, 26, 35.
270 Didymus, De Trin., 1.18; 2.3, 5, 16; 3.37; De Sp. St., 15, 32, 55, etc.
271 Didymus, De Trin., 1.18; 2.11; Con. Eun., Athens ed., 44, p. 242; In Ps., 17.16; 39.8; 41.2; 64. 10; 92.1, etc.; see also Epiphanius, Anc., 72, 75; Haer., 74.9.
272 Athanasius, Ad Ser., 1.2f, 6, 11, 33; 3.2; 4.3f.
* أي صلوات التوسل لله من أجل تقديس القربان. (المترجم)
273 Serapion, Euch., 13, Athens ed., 43, p. 76f.
274 Cyril of Jer., Cat., 23.7. Cf. also Apost. Const., 8.12; The Liturgy of St Mark, xvii, Brightman, op. cit., p. 134.
275 Gregory Naz., Or., 30. 14; 31.3, 30; 34.13; 41.12.
276 Hippolytus, Apost. Trad., 3.5. Cf. Hilary, De Trin., 8.19; 12.55;
Desyn., 11, 29, 54f; Cyril of Jer., Cat., 16.20; 17.4, 9; and Tertullian,
De praescr. Haer., 13.
277 Thus Basil, De Sp. St., 23, 44, 46; Con. Eun., 2.32f; 3.1ff; Gregory Nyss., Ref. Eun., Jaeger, 2, pp. 389ff; Gregory Naz., Or., 30.14; 31.3, 12, 26ff; Epiphanius, Haer., 66. 19; 73.15, 25; 74. 12f; Anc., 8, 67; Didymus, De Trin., 2.2, 6, 16, 19; 3.38; De Sp. St., 25-37, etc.
* رو 26:8 “لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي. ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها” (المترجم)
# رو 34:8 “المسيح هو الذي مات ، بل بالحري قام أيضًا ، الذي هو أيضًا عن يمين الله، الذي أيضا يشفع فينا“ (المترجم)
279 Gregory Naz., Or., 30.14; 31.12; Basil, De Sp. St., 50.
280 Epiphanius, Anc., 68.72; cf. Haer., 55.5; and Basil, De Sp. St., 66f.
281 Epiphanius, Anc., 5-8; Haer., 62.4; 73.36; 74.11; cf. 70.1.
* ارجع للحاشية صفحة 275، 276. (المترجم)