دور القديس أثناسيوس في وضع أساس عقيدة الروح القدس
دور القديس أثناسيوس في وضع أساس عقيدة الروح القدس
إقرأ أيضًا:
- انبثاق الروح القدس في تعليم الآباء القديسين
- تعليم الآباء الكبادوكيين عن الثالوث وانبثاق الروح القدس
- الروح القدس في حياة الكنيسة
كان القديس أثناسيوس، هو الذي وضع الأساس الثابت لعقيدة الروح القدس؛ إذ أوضح أن معرفتنا للروح، في علاقته داخل الثالوث وفي طبيعته الذاتية الإلهية كروح الله، يجب أن تأتي من معرفتنا للابن. كما أنه استخدم مفهوم ال “هوموأووسيوس” (μοούσιος) في الحديث عن الروح القدس بالضبط كما استخدمه من قبل في الحديث عن الابن[1].
ويقول القديس اثناسيوس عن الروح القدس:
-“الروح القدس ينبثق من الآب (παρά το Πατρός κπορεύεται)؛ وإذ هو خاص* بالابن (καί το Υι̉ο διον ν) فإنه يُعطى منه (أي يُرسل من الابن) (παρ” ατο δίδοται) للتلاميذ ولكل الذين يؤمنون به[2]“.
-“الروح القدس ينبثق من الآب، ويأخذ# منه (من الابن) (καί κ το ατο λαμβάνει) ويعطي[3]“.
-“الروح القدس يأخذ من الابن (κ το Υο λαμβάνει)[4]“.
-“فإن كان الابن هو من (κ) الآب وخاص بجوهره (διος τς οσίας ατο)، فإن الروح القدس الذي هو من (κ) الله (الآب) لا بد أيضًا أن يكون خاصًّا بجوهر الابن من جهة كيانه* (διον εναι κατ” οσίαν το Υο)[5]“.
-“ولأن الروح واحد، بل ولأنه خاص بالكلمة الذي هو واحد، فهو خاص بالله الذي هو واحد وله ذات الجوهر الواحد (μοούσιον) معه … وفي الطبيعة والجوهر، (هو مختلف عن المخلوقات ولا يوجد شيء خاص أو مشترك بينه وبينها) ولكنه هو (أي الروح) خاص بلاهوت الابن وجوهره وليس غريبًا عنه، وكذلك بالنسبة للثالوث القدوس[6].”
وكان القديس أثناسيوس قد وضع أساس عقيدة الروح القدس وعلاقته الكيانية مع الآب والابن، في أثناء جداله مع الأريوسيين[7]، وأوضح أن الابن ليس مختلفًا في الجوهر (τερούσιος) عن الله (الآب)، ولا غريبًا (λλότριος) عن طبيعته، بل له ذات الجوهر الواحد (μοούσιος) والطبيعة الواحدة (μοφυής) معه. وبالمثل أيضًا لا بد أن ننظر إلى الروح القدس بكونه له ذات الجوهر الواحد (μοούσιος) مع الله (الآب)، ولا يمكن فصله عن الابن، لأن الثالوث القدوس غير قابل للانقسام وذو طبيعته واحدة (μοφυής)[8].
وبينما تردد القديس باسيليوس والقديس كيرلس الأورشليمي في استخدام مفهوم “الوحدانية في ذات الجوهر” في تعليمه عن الروح القدس، نجد القديس غريغوريوس النزينزي غير متردد بالمرة مقتفيًا في ذلك أثر القديس أثناسيوس في أن يقول: “هل الروح القدس هو الله؟ بكل يقين. إذن هل هو “هوموأووسيوس”(μοούσιος)؟ نعم، طالما هو الله[9]“. وعندما اجتمع مفهوم “الوحدانية في ذات الجوهر” (μοούσιος) مع مفهوم أن الأقانيم “كيان شخصي أساسي في داخل جوهر الله” (νυπόστατος) مثلما ظهر بقوة عند القديس إبيفانيوس صار الطريق مفتوحًا لفهم أعمق للثالوث، ولعقيدة انبثاق الروح القدس من جوهر الآب في توازٍ مع ما قد تم بالنسبة لعقيدة الابن التي أقرَّها مجمع نيقية.
“ما هو” الله الآب نحونا بابنه في الروح القدس، هو نفس “ما هو” الله أزليًّا في ذاته
وفي تطبيق ال “هوموأووسيوس” (μοούσιος) على علاقة الابن المتجسد بالله الآب، عبَّر آباء نيقية بدقة عن إيمانهم، بأن “ما هو” الله نحونا في إعلانه وعمله الخلاصي بيسوع المسيح هو نفس “ما هو” الله أزليًّا في ذاته. ولذا أكَّد الآباء أيضًا أن المسيح هو “من جوهر الآب (κ τς οσίας το Πατρός)، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق”.
وكان هذا الفكر ينطوي على تحركٍ في اتجاهين معًا وهو أن: “ما هو” الله نحونا (بابنه المتجسد) هو نفس “ما هو” الله في ذاته، و”ما هو” الله في ذاته هو نفس “ما هو” الله نحونا. فالآب والابن يتواجد كل منهما في الآخر (ويحتوي كل منهما الآخر) في جوهر الله الواحد، وكما عبَّر عن ذلك القديس إبيفانيوس وديديموس فإن كلاًّ منهما يتواجد “أقنوميًّا” في الآخر، أي إنه فيما يتعلق بحقيقتيهما الأقنومية المتمايزة فإن كلاًّ منهما هو “الله بالكامل” (λος Θεός).
وقد اتضح لنا كما رأينا أن عقيدة نيقية في الروح القدس، كما هي بالنسبة للآب والابن، كانت تنطوي على نفس الفكر “الثنائي الاتجاه “، وذلك بفضل علاقة التلازم والتواجد (الاحتواء) المتبادل بين الروح القدس وكل من الآب والابن.
وكان إيمان الكنيسة بالنسبة للروح القدس كما ظهر في كل خبرتها وتسبيحها هو أن أعمال الروح المميَّزة: في النطق على لسان أولاد الله (في الكتب المقدسة)، وفي الخلاص، والاستنارة، والتقديس، والتحرير، يُنظر إليها بكونها أعمالاً إلهية؛ لأنه في الروح القدس يكون كياننا البشري تحت التأثير المباشر لكيان الله الخالق والضابط الكل ومصدر كل وجود.
ومن هنا كان الاعتراف بأن الروح القدس، في طبيعته وكيانه الذاتي، يعمل فينا كل أعماله الإلهية بما يهبنا من بركة ونعمة*، لأن الروح وكما هو الحال بالنسبة للابن ينتمي إلى ويتدفق من الجوهر الداخلي للاهوت. ولذا يقول القديس إبيفانيوس: “عندما تنطق بال “هوموأووسيوس”، فإنك تؤكد بأن الابن إله من إله، وأن الروح القدس أيضًا هو إله من نفس اللاهوت[10]“.
وهنا أيضًا نجد تحركًا في اتجاهين معًا وهو أن: “ما هو” الروح القدس نحونا هو نفس “ما هو” الروح في ذاته، و “ما هو” الروح القدس في ذاته هو نفس “ما هو” الروح نحونا. فالروح القدس هو مع الآب والابن على الدوام، في علاقة تواجد (احتواء) متبادل معهما في جوهر الله الواحد، ولكن علاقة التواجد “الأقنومي” المتبادل هذه تكون بحيث إنه، في جوهر الله الواحد، الروح القدس يكون دائمًا هو روح قدس، كما أن الآب هو دائماً آب، والابن هو دائمًا ابن، وكل من الأقانيم الثلاثة هو بالحقيقة “الله بالتمام والكمال” كما كان القديس إبيفانيوس يحب أن يقول[11].
أي إن الروح القدس ينتمي إلى الجوهر الداخلي الذي لله الواحد، كما ينتمي إلى العلاقات الداخلية التي للاهوت كآب وابن وروح قدس. فالروح القدس ليس إضافة بالنسبة للثالوث، لأن الله الآب لا يكون الآب ولا الله الابن يكون الابن بدون الله الروح القدس. ولذلك هناك عمل إلهي واحد: الذي هو من الآب بالابن في الروح القدس، لأن كل ما هو للآب وللابن هو أيضًا للروح القدس ما عدا كونهما “آبًا” و”ابنًا”[12].
ومن هنا استطاع القديس غريغوريوس النزينزي أن يتحدث عن الروح القدس أنه في وسط الآب والابن[13]، كما استطاع القديس باسيليوس أن يتحدث عن الشركة (κοινωνία) التي للروح مع الآب والابن (في الطبيعة والجوهر)، وأن يجد في تلك الشركة (κοινωνία) وحدانية اللاهوت[14]. وبالمثل فإن القديس إبيفانيوس قد تحدث عن الروح القدس بأنه “في وسط الآب والابن”، بل واستطاع حتى أن يقول عنه إنه “رباط الثالوث[15]“.
غير أن أغسطينوس قد تمادى في هذا المفهوم عن الروح القدس لدرجة إنه قال عن الروح إنه (سبب) “شركة الآب والابن في ذات الجوهر الواحد”*، وأنه هو “الحب المتبادل الذي به يحب الآب والابن كل منهما الآخر[16]“. وكان النمو الذي حققه الفكر اللاهوتي النيقي قد أدرك أن علاقات التلازم والتواجد (الاحتواء) المتبادل بين الآب والابن والروح القدس والتي أُعلنت في أعمال الله الخلاصية بالمسيح وفي الروح القدس، ليست مجرد مظاهر وقتية لطبيعة الله بل هي ثابتة وأزلية في داخل الجوهر الواحد للثالوث[17].
ويقول القديس إبيفانيوس: “إن الله واحد، الآب في الابن والابن في الآب مع الروح القدس،… آب أقنوم حقيقي، وابن أقنوم حقيقي، وروح قدس أقنوم حقيقي، ثلاثة أشخاص (أقانيم) ولاهوت واحد، جوهر واحد، مجد واحد وإله واحد. وعندما تفكر في الله (الواحد) فأنت تفكر في الثالوث، ولكن دون أن تخلط في ذهنك بين الآب والابن والروح القدس. لأن الآب هو الآب، والابن هو الابن، والروح القدس هو الروح القدس، ولكن دون أن يكون في (هذا) الثالوث أي انحراف عن الوحدانية والتطابق[18]“.
وفي ضوء نضوج عقيدة الثالوث هذه، والتي تجمع بين مفهوم الجوهر الإلهي الواحد ومفهوم الوحدة الداخلية التي للأقانيم الإلهية الثلاثة، فإننا نستطيع أن نتطرق بشكل أفضل إلى موضوع انبثاق الروح القدس.
194 Athanasius, Ad Ser., 1.27; 3.1.
* خاص بالابن أي يخصه أو أنه خاصته (his own)، والكلمة اليونانية (ι̉́διος) تعني خاصًّا أو خصوصيًّا أو ذاتيًّا. (المترجم)
195 Athanasius, Ad Ser., 1.2; cf. 3.1; 4.3.
# على غير ما يحاول البعض خطأً الاستناد إلى الآية “يأخذ مما لي ويعطيكم” (يو14:16) لكي ما ينسبوا انبثاق الروح الأزلي إلى الابن مع الآب، فإننا نجد القديس أثناسيوس يشرحها (في رسائله إلى سرابيون 20:1) على أنها تشير فقط إلى مجرد إرسال الروح القدس من الابن، حيث يقارن بين ما سمعه الابن من الآب وتكلم به (يو 26:8) وبين ما يسمعه الروح القدس من الابن ويتكلم به “لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به…. لأنه يأخذ مما لي ويعطيكم”.(يو14:16). (المترجم)
196 Athanasius, Ad Ser., 1.11.
197 Athanasius, Ad Ser., 1.20; 3.1; 4.1f.
* يتضح المعنى المقصود إذا بدأنا الجملة من نهايتها، أي بما أن الروح القدس هو أيضًا من الآب، فلا بد أن يكون خاصًّا بالابن الذي هو من الآب. (المترجم)
198 Athanasius, Ad Ser., 1.25; 3.1; 4.3f.
199 Athanasius, Ad Ser., 1.27; 3.1; 4.3.
200 Athanasius, Con. Ar., 1.15, 47f; 1.50, 56; 2.18; 3.15, 24, 25, 44; cf. also the addendum to the Ad Ser., 4.8-23, Athens ed., 33, pp. 133-149; and Con. Apol., 1.9.
201 Athanasius, Con. Ar., 1.58; Ad Ser., 1.17, 28; 3.1.
* استخدم القديس أثناسيوس هذا المدخل ليثبت ألوهية الروح القدس (انظر الرسائل إلى سرابيون 24:1) “فلو كان الروح القدس مخلوقًا، لما كان لنا اشتراك في الله بواسطته، فإن كنا قد اتحدنا بمخلوق، فإننا نكون غرباء عن الطبيعة الإلهية حيث إننا لم نشترك فيها”. (المترجم)
204 Epiphanius, Anc., 10, 81; Haer., 69.44, 56; 72.1; 76.21; Exp. Fidei, 18.
[12] يقول القديس غريغوريوس النزينزي: “كل ما لدى الآب هو لدى الابن أيضًا ماعدا كونه (أي الآب) غير مولود. وكل ما لدى الابن هو لدى الروح القدس أيضًا ما عدا كونه (أي الابن) مولودًا”.(خطبة 9:41)
207 Basil, De Sp. St., 30, 38, 45ff, 68; cf. Athanasius, Ad Ser., 1.20; 3.1; Gregory Nyss., Con. Eun., Jaeger, 2, p. 328; Hilary, De Trin., 2.33.
208 Epiphanius, Anc., 4, 7f; Haer., 62.4; 74.11.
* كان القديس أثناسيوس يرفض بشدة فكرة أن الروح القدس هو سبب وحدة الكلمة بالاب: “لأن الكلمة لا يشترك في الروح القدس حتى يصير في الآب،… فالروح لا يوحد الكلمة بالآب…، فالابن هو في الآب لأنه كلمته وشعاعه” (ضد الأريوسيين 25:3). (المترجم)
209 Augustine, De Trin., 6.7; 15.27, 50.
[17] من المؤكد أن مصطلح ’التواجد (الاحتواء) المتبادل‘ (περιχώρησις) قد بدأ استخدامه اللاهوتي من خلال القديس غريغوريوس النزينزي (Or., 18.42; 22.4; Ep., 101.6.). انظر:
Comments of G.S. Kirk and J.E. Raven (The Presocratic Philosophers, 1957, pp. 373, 380), with reference to the Scholia on Gregory’s Orationes, MPG, 36.991.
انظر أيضًا هذا المفهوم عند الآباء الذين سبقوا القديس غريغوريوس النزينزي:
Athenagoras, Suppl., 10; Irenaeus, Adv. haer., 3.6.2, vol. 2, p. 22f; Dionysius of Alex., ap. Athanasius, De decr., 26; Hilary, De Trin., 3.4; 4.10.
مدرسة الاسكندرية اللاهوتية – د. ميشيل بديع عبد الملك (1)
القديسة مريم العذراء – دراسة في الكتاب المقدس