أبحاث

عمل الروح القدس في تكميل وتقديس الكائنات العاقلة

عمل الروح القدس في تكميل وتقديس الكائنات العاقلة

عمل الروح القدس في تكميل وتقديس الكائنات العاقلة
عمل الروح القدس في تكميل وتقديس الكائنات العاقلة

ويمكننا ربط هذا الفهم الكيرلسي لصفات الروح القدس المميَّزة، بتعليم القديس باسيليوس عن الطريقة التي بها “يتمم الروح القدس كمال الكائنات العاقلة، ويكمِّل امتيازها[1]“.

فبما أن الروح القدس لا ينفصل قط في الجوهر أو القدرة عن الآب والابن، فهو متحد بهما في كونهم مصدر (πηγή) وعلَّة (ατία) كل الأشياء في خلقتها الأولى، غير أن القديس باسيليوس ميَّز بين عمل الآب بكونه “العلَّة الأصلية أو المصدرية” (τήν προκαταρκτικήν ατίαν) لكل المخلوقات، وبين عمل الابن بكونه “العلَّة الفعَّالة أو العـاملة” (τήν δημιουργικήν ατίαν)، وبين عمل الروح القدس بكونه “العلَّة المحقِّقة للكمال” (τήν τελειωτικήν ατίαν)[2].

ويقول القديس باسيليوس: “إن المبدأ الأول لكل الموجودات هو واحد، (الآب)، وهو يخلقها بالابن، ويكمِّلها (أي يُتمم كمالها) بالروح[3]“. وقد نظر القديس باسيليوس إلى عمل الروح القدس على أنه حضور الله مع مخلوقاته في العالم ـ بكامل حريته السيادية ـ ليحقق ويكمِّل قصده (من خلقتهم) في أن يكون البشر في علاقة دائمة ومستقرة مع قداسة الله وربوبيته[4].

واختار القديس باسيليوس أن يستخدم في هذا الصدد كلمتي (τελειον)، (τελειωτικός) والتي تحمل المعنى المزدوج للتكميل (أو الكمال) والتقديس معًا[5]. وكانت هذه الكلمات مناسبة جدًّا للتعبير عن إرادة الله في حضوره في البشر من أجل أن يثمر قصده الإلهي من جهة علاقتهم به.

ومن خلال حضوره الفائق الوصف في الروح القدس، فإن الله على الدوام يسند مخلوقاته في وجودهم وبقائهم، وبفضل حضوره في داخلهم يحقِّق علاقتهم مع نفسه وبالتالي يصبح هو أساس حياتهم ومصدر استنارتهم. وعلاوة على ذلك، فإن الروح القدس بحضوره يكون هو “المكان” (τόπος) الذي يلتقي فيه الناس مع الله، ويُعطَون إمكانية الشركة معه وقبول إعلانه والدخول في عبادته[6].

واستطاع القديس غريغوريوس النزينزي، صديق القديس باسيليوس، أن يعبِّر عن العلاقة التي يقيمها الله معنا من خلال روحه القدوس بقوله: إن الله، يُدخلنا بنفسه في علاقة مع نفسه[7]. إذن، ففي عملية رفع البشر من أسفل، والعمل داخلهم، والوصول بهم إلى هدفهم الحقيقي في الله، فإن الروح القدس يجعلهم يشاركون في حياة وقداسة الله ذاته، لأن “بلوغهم الكمال” (τελείωσις) هو هو “تقديسهم” (τελείωσις)[8].

وإذا تتبعنا هذا النضوج في فهم عقيدة الروح القدس كما ظهرت في تعليم آباء مثل القديس باسيليوس وق. كيرلس الأورشليمي، فلا يجب أن نغفل المنظور الخريستولوجي العميق الذي ظهر قبلاً عند القديس أثناسيوس، والذي أوضح فيه أنه في ضوء علاقة التلازم والتواجد (الاحتواء) المتبادل التي بين الروح القدس والابن المتجسد نستطيع أن ندرك بالحقيقة عمل الروح في البشر، حيث إنه يقدسهم من خلال علاقتهم مع الله (حيث يأخذ من الابن ويعطيهم). ومن هنا ندرك أن “العلَّة المحقِّقة للكمال” ينبغي أن تُفهم مقترنة بتجسد “علَّة الله الفعَّالة أو العاملة” الذي هو يسوع المسيح.

شفاء وتجديد وتكميل وجودنا “الشخصي”

لقد صار الابن الأزلي إنسانًا دون أي انتقاص للطبيعة الإنسانية (التي أخذها في تجسده)، بل على العكس كان لها وجود كامل وحقيقي. وهذا يعني في لغة القديس إبيفانيوس وق. كيرلس الأورشليمي أن طبيعة المسيح البشرية قد تشخصَنت أو أُعطيت حقيقة أقنومية في اتحادها بأقنوم ابن الله المتأنس، وقد حدث هذا في يسوع المسيح بطريقة فريدة للغاية.

وبالنسبة لنا، فمع أننا كلنا أشخاص في كياننا المخلوق، إلاّ أننا بفضل عمل كلمة الله وروح الله، صار لنا وجود متأقنم* حقيقي في علاقتنا بالله، وفي علاقة كل منا بالآخر. فنحن أشخاص، ولكن ليس بشكل مستقل أو مطلق (أي إن هذا ليس أمرًا نابعًا من ذواتنا)، وإنما بصورة اعتمادية وعرضية، وهذا يعني أننا أشخاص ليس بذواتنا ولكن بآخر أي “أشخاص مُشَخصَنين” والذي يعني باللاتينية (persona personata).

ولكن الله هو وحده الشخص الحقيقي في ذاته، وبكونه هو الكمال المطلق للوجود “الشخصي” (الأقنومي)، فإن الله هو المصدر (πηγή) والمُسبب (ατιος) لكل واقع “شخصي” آخر، لأنه وحده هو “الشخص المُشخصِن” (persona personans). وبالتحديد من منطلق هذا العمل المُشخصِن، فإن ابن الله “نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنس”.

ولم تحل ألوهية الابن محل الطبيعة البشرية أو تطغى عليها ـ وينطبق هذا أيضًا بالنسبة للعقل البشري والروح البشرية (في المسيح) ـ وإنما ما حدث كان هو العكس تمامًا، ولذلك ينبغي علينا أن نقول إنه لا يوجد إنسان له مثل كمال الطبيعة البشرية المتأقنمة التي للمسيح.

ومن هذه الزاوية يتعين علينا بالحقيقة أن ننظر إلى عمل الله في الخلاص والتجديد بالمسيح وفي الروح القدس كما أعلنه لنا الإنجيل، فبدلاً من أن يكتسح طبيعتنا البشرية أو يدمر وجودنا الشخصي، كان حلول الله فينا بالمسيح يسوع وفي الروح القدس هو ما أدى إلى شفاء وتجديد واستعادة وجودنا البشري الشخصي[9]*. وهذا العمل المُشخصِن الذي للروح القدس لا يجب فهمه بمعزلٍ عن فعله التقديسي في المعمودية (والمرتبط باسمه الخاص).

وحيث إن روح الله يُدعى “الروح القدس” إعلانًا لهويته الشخصية المميَّزة، فلذلك فإنه في المعمودية المقدسة، يختمنا الروح باسم الله ليتبنانا أبناءً له، ومن خلال حضوره السري فينا كروح الابن وروح الآب فإنه يعطينا أن نصرخ “يا أبا الآب”[10]، وهذا ما يعنيه أن نكون “في المسيح” و “في الروح” في وقت واحد، لأنه بالمسيح وفي الروح القدس نكون باليقين في شركة شخصية مع الله الحي المثلث الأقانيم[11].

183 Basil, De Sp. St., 61.

184 Basil, De Sp. St., 38; see also 48-56.

185 Basil, ibid., 38. Cf. Gregory Nyss., non tres dei, Jaeger, 3.1, p.47ff;

انظر تمييز القديس غريغوريوس النزينزي بين كل من ’المسبب‘ (αι̉́τιος) و’الفاعل‘ (δημιουργός) و’المكمِّل‘ (τελειοποιός).

186 Basil, De Sp. St., 49, 51f, 55ff, 61f.

187 Basil, ibid., 38-40.

188 Basil, ibid., 46-49, 55, 61-64.

189 Gregory Naz., Or., 31.12.

190 Basil, Con. Eun., 3.5; In Ps., 48. 1f; also Athanasius, Con. Ar., 2.41f, 46; 3.22; Ad Ser., 1.6, 9, 22f, 29; 2.7; 4.7, etc.

* ’الشخص‘ (الأقنوم) له مدلول يختلف تمامًا عن مدلول ’الفرد‘. فالشخص هو من لا يوجد أو يحيا إلاّ في شركة واتحاد الحب مع آخر، وهو يحقق ذاته (بكونه شخصًا) في حبه الحر الكامل للآخر، وفي تقديمه للآخر على نفسه، وفي اختفائه هو وإظهار الآخر، وفي اتحاده الكامل مع الآخر.

والاتحاد لا يحدث إلاّ بين أشخاص (أقانيم) بكل ما تعنيه الكلمة، أي بين من يحيون على صورة أقانيم الثالوث. إذن الوجود المتأقنم (الذي خُلقنا لنحياه) هو الوجود في شركة واتحاد ـ وليس الوجود الفردي ـ سواء مع الله أو مع بعضنا البعض. (المترجم)

191 Cf. Epiphanius on this, Anc., 68; Haer., 74.4.

* كانت غاية خلقة الإنسان هي أن يحيا في شركة واتحاد الحب مع الله ومع الآخرين، ولكن الخطية أخرجت الإنسان عن صورة أقنوميته (أي عن صورة الله) وعن غاية خلقته، وظهر أثر الخطية في الفردية التي أصبح الإنسان عليها. ولذلك كان الخلاص الذي من الآب بالمسيح في الروح القدس ليعيد الإنسان مرة أخرى إلى صورته الأولى ويعيده شخصًا ـ لا فردًا ـ قادرًا أن يحيا في اتحاد مع الله ومع الآخرين. ومن هنا كان عمل الله الخلاصي في حياة الإنسان هو عمل مُشخصِن (مؤقنِم) بالمسيح وفي الروح القدس. (المترجم)

[10] رو 15:8؛ غل 6:4؛ انظر:

Cyril of Jer., Procat., 1ff; Cat., 1.1ff; 3.1ff; 7.14; 17.4, 6; 21.1ff; 23.5.

[11] هذا كان باليقين جزءًا من المعنى الذي يتضمنه مفهوم ’التأليه‘ (θεοποίησις)في الفكر اللاهوتي الآبائي اليوناني (المدوَّن باليونانية). انظر:

Athanasius, De decr., 14, 31; Con. Ar., 1.9, 39, 78; 2.59,70; 3.19, 33, 53; 4.21f; Ad Ser., 1.23 ff; De syn., 51; Ad Adel., 4; Ad Max., 2, etc. 

عمل الروح القدس في تكميل وتقديس الكائنات العاقلة