آبائيات

الروح القدس في تعليم القديس كيرلس الأورشليمي

الروح القدس في تعليم القديس كيرلس الأورشليمي

الروح القدس في تعليم القديس كيرلس الأورشليمي
الروح القدس في تعليم القديس كيرلس الأورشليمي

وإذا انتقلنا إلى القديس كيرلس الأورشليمي، سنجد أنه في تواصل مع تعليم نيقية ـ وداخل إطار الفكر الكتابي ـ سعى لتقديم عقيدة الكنيسة عن الروح القدس لطالبي المعمودية. وقد رأى أنه بما أن الكتاب المقدس بعهديه مُوحى به من الروح القدس، فينبغي لنا أن نتمسك بما يقوله الكتاب عن الروح القدس حتى نستطيع أن نتكلَّم عنه بشكل صحيح يليق به[1] وبالحقيقة نحن فقط من خلال الروح القدس نفسه نستطيع أن نتحدث عنه بحكمة. ومن هنا رفض القديس كيرلس أن يقول أي شيء عن الروح القدس سوى ما قيل عنه في الكتب المقدسة.

ويعلل ذلك بقوله: “إن الروح القدس نفسه هو الناطق في الكتب المقدسة، كما أنه تحدَّث عن نفسه بالقدر الذي يريده، أو على قدر ما نستطيع أن نقبل. فلنتحدث إذن عن الأشياء التي قالها هو نفسه، لأن كل ما لم يقله لا نجرؤ نحن أن نقوله[2]“. ويضيف القديس كيرلس قائلاً، إن الرب يسوع نفسه قال لنا، إنه يوجد إله واحد: الآب والابن والروح القدس، ونحن “يكفينا أن نعرف هذا، فلا تبحثوا بطريقة تخمينية في طبيعته أو جوهره، لأنه لو كان قد كُتب شيء في هذا الشأن لكان يمكننا أن نتحدث عنه.

فلا ندع أنفسنا نتجاسر في أن نذهب إلى أبعد مما هو مكتوب، ويكفي لخلاصنا أن نعرف أنه يوجد آب وابن وروح قدس[3]“. وقد يفسِّر لنا هذا التوجه سبب عزوف القديس كيرلس ـ بخلاف الآباء الآخرين المعاصرين له ـ عن التحدث بوضوح عن كل من الروح القدس أو الابن بأنه “هوموأووسيوس” (μοούσιος)[4]، وذلك بالرغم من أنه كان يؤكد بصورة قاطعة أن كلاًّ من الروح القدس والابن هما بلا انفصال، واحد في ذات الجوهر والقدرة مع الآب.

وكان القديس كيرلس يرفض تمامًا بدعة سابليوس التي تنادي بأن الله أقنوم واحد، أو بدعة القائلين بأن الله ثلاثة آلهة ـ تلك البدع التي خلطت بين الثلاثة أقانيم أو التي فصلت بين بعضهم البعض[5].

وبرغم هذه القيود التي وضعها القديس كيرلس، إلاّ أنه شعر أنه يجب عليه أن يؤكد ويجزم بأن الروح القدس ليس قوة كونية غير أقنومية ـ مثل “الروح (πνεμα)” التي كان يتكلم عنها الرواقيِّون ـ بل هو أقنوم (شخص) حقيقي، حيّ، فاعل، عاقل، ناطق، وكائن جوهريًّا في اللاهوت غير المنقسم الذي للثالوث[6]. وقد صاغ القديس كيرلس العبارة تلو الأخرى، ليوضح حقيقة أن الروح القدس على الرغم من كونه قوة الله الفائقة وغير المفحوصة، إلاّ أنه ـ وبصورة أساسية وكاملة ـ أقنوم حقيقي في نمط وجوده الإلهي[7].

ويقول القديس كيرلس عن الروح القدس: “وهو مع الآب والابن ممجد بمجد اللاهوت… لأنه يوجد إله واحد، (الآب) أبو المسيح؛ ورب واحد يسوع المسيح، الابن الوحيد المولود من الله الوحيد؛ وروح قدس واحد*، الذي يقدس ويؤله الكل[8]“. ويضيف القديس كيرلس قائلاً: “الآب يهب كل الأشياء بالابن، وعطايا الآب ليست إلاّ هي بعينها عطايا الابن وعطايا الروح القدس، لأنه يوجد خلاص واحد وسلطان واحد وإيمان واحد؛ إله واحد الآب، ورب واحد ابنه الوحيد، وروح قدس واحد البراكليت[9]“.

وهذا الروح حيّ وفعَّال، وهو أقنوم حقيقي كائن جوهريًّا في الله، ومساوٍ في الكرامة للآب والابن، وحاضر معهما على الدوام. وهو بهذا ليس فقط كيانًا حيًّا وعاقلاً بذاته، بل هو مصدر الخلق والتقديس لكل الأشياء التي صنعها الله بالمسيح. إذن فالقديس كيرلس رأى أن الروح القدس هو مصدر الروحانية والاستنارة والعقلانية، ولذلك فهو الذي تدين له كل الطبائع الروحية والعاقلة الأخرى (بعقلانيتها وروحانيتها)[10].

وهنا ـ كما في كل تعليم الآباء الذين كتبوا باليونانية خلال القرن الرابع ـ كان الإيمان بأن حضور الله المباشر، لا يعني أن الله يطغى على (أو يكتسح) الكائنات المخلوقة، ولكنه يعني بالحقيقة أنه يبقيها ويحفظها. وهذا أيضًا صحيح ـ كما أشار القديس باسيليوس وديديموس ـ حتى بالنسبة للمذنبين الذين يقعون تحت حكم الله[11].

وكان تعليم القديس كيرلس الأورشليمي عن الروح القدس في هذا الصدد واضحًا أشد الوضوح؛ إذ تحدث عن حضور الله الذي يعطي الحياة للعالم، بأنه هو نعمة الروح القدس، التي هي مثل الأمطار، لا تتغير عندما تهبط إلى أسفل ولكنها تتكيف مع طبيعة كل مَن يستقبلها. وبينما الروح القدس هو واحد في طبيعته الخاصة، وغير منقسم في ذاته، إلاّ أنه يقسِّم لكل واحد نعمته، وحسب مشيئة الله وباسم المسيح يعمل عجائب كثيرة[12].

ولذا ينبغي علينا، أن ننظر إلى الروح القدس بكونه حضور الله: الخالق والفعّال والمنير، الذي يتفاعل مع مخلوقاته من البشر بالشكل الذي يُبقي على علاقتهم به كمصدر لحياتهم الروحية والشخصية والعقلانية. ويعبِّر القديس كيرلس الأورشليمي عن حضور الروح القدس المميَّز فينا بأنه في حين يأتي (الروح) إلينا ويعمل فينا بقوة الله غير المحدودة، إلاّ أنه لا يعصف بنا بجبروت وعنف، حيث إن حلوله يكون بشكل مختلف تمامًا.

ويقول القديس كيرلس: “هو يحل برقة، ونحن نشعر به كالعطر، وحمله خفيف للغاية، وفي حلوله تشع خفقات من نور. هو يأتي بحنو الوصيّ الحقيقي، لأنه يأتي ليخلِّص ويشفي، ليعلِّم ويوبِّخ ويقوي وينصح وينير العقل[13]“. وهذا الربط بين الروح القدس والنور كان شائعًا تمامًا عند آباء القرن الرابع، الذين كثيرًا ما كانوا يشيرون (في شرحهم) إلى النور المخلوق وسلوكه، حتى ما يتمكن الناس (من خلال هذا المثل) من إدراك شيء عن الطريقة الصامتة غير المحسوسة التي يعمل بها الله في خليقته[14].

إذن، فالروح القدس والكلمة الذي صار جسدًا يمكن وصفهما بأنهما “النور المعطي الحياة[15]“، فكما أن في يسوع المسيح “كانت الحياة” التي هي نور للناس، فهكذا أيضًا الروح القدس يعمل بهذا النوع من القوة الهادئة والفائقة السمو. وإذا كان (الله) ضابط الكل هو وحده القادر أن يكون لطيفًا للغاية، فالروح القدس يمكن وصفه بأنه هو لطف الله الآب ضابط الكل.

 

168  Cyril of Jer., Cat., 4.16, 33; 11.12; 16.1-4, 16ff, 24.

169  Cyril of Jer., Cat., 16.2 and 13.

170  Cyril of Jer., Cat., 16.24.

171  But cf. Sozomen, Hist. eccl., 7.7, for a reported change in Cyril’s views.

172  Cyril of Jer., Cat., 16.3-4; 17.34; cf. 17.4f, 34.

173 Cyril of Jer., Cat., 16.3f, 12, 24; 17.2, 5.

174 Cyril of Jer., Cat., 16.3, 13; 17.2, 5, 28, 33f.

*  إرجع إلى القداس الإلهي حيث نجد في كل من تقدمة الحمل والاعتراف تُذكر عبارة “واحد هو الآب القدوس، واحد هو الابن القدوس، واحد هو الروح القدس..” (المترجم)

175 Cyril of Jer., Cat., 4.16; cf. 6.1, 6f; 16.3.

176 Cyril of Jer., Cat., 16.24.

177 Cyril of Jer., Cat., 4.16; 16.3; 17.2, 5, 28, 33f.

178  Basil, De Sp. St., 38-40; Didymus, De Trin., 2.6.

179  Cyril of Jer., Cat., 16.11-13, with reference to 1Cor. 12.1-11.

180  Cyril of Jer., Cat., 16.16.

181  See, for example, Basil, Hex., 2.3-8; De Sp. St., 22f.

182  Gregory Naz., Or., 31.3, 29;41.9, 14.

الروح القدس في تعليم القديس كيرلس الأورشليمي