الروح القدس في تعليم ديديموس الضرير
وعلى غرار تعليم القديس إبيفانيوس، طبَّق ديديموس السكندري مفهوم الـ “هوموأووسيوس” النيقي على الثالوث بأكمله[1]، وقد تبنى ديــــديموس كـــذلك صيغــــــة “جـوهر واحد، ثلاثة أقانيم” (μία οσία, τρες ποστάσεις)[2]. ومثله مثل القديس إبيفانيوس، استخدم ديديموس مرارًا في الحديث عن الأقانيم، مفهوم الكيان “الأقنومي” الأساسي (νυπόστατος) في داخل جوهر الله[3]، ولكنه استخدم أيضًا مثل آباء كبادوكية وخلاف القديس إبيفانيوس، تعبير “نمط الوجود” (τρόπος πάρξεως) وذلك لوصف أنماط الوجود “الأقنومي” المميِّزة للأقانيم الإلهية[4].
وبنفس إصرار القديسين أثناسيوس وإبيفانيوس، أكَّد ديديموس على الوحدانية في الجوهر والربوبية للآب والابن والروح القدس؛ إذ إن كل أقنوم هو الله بالتمام والكمال، وهذا بفضل الطبيعة غير المنقسمة التي لجوهر الله[5]، فالآب في ذاته له الطبيعة الإلهية بكاملها، وهذا صحيح أيضًا بالنسبة للابن وبالنسبة للروح القدس.
لأن الآب ليس هو آبًا بعيدًا عن الابن، كما أن الابن ليس هو ابنًا بعيدًا عن الآب وهما بكونهما آبًا وابنًا ليسا كذلك بعيدًا عن الروح القدس، وأيضًا الروح القدس ليس هو روح قدس بعيدًا عن الآب والابن، لأنهم جميعًا وبغير انفصال متلازمون وفي تواجد (احتواء) متبادل في ذات جوهر الله الواحد. فاللاهوت في داخله ثالوثي، والثالوث في جوهره هو واحد ـ وِحدة في ثالوث وثالوث في وِحدة[6].
وقد حرص ديديموس في نفس الوقت، على دحض بدعة سابيليوس الذي علَّم بأن الله أقنوم واحد (unipersonalism)، ومثل الآباء الكبادوكيين وضع ديديموس دائمًا نصب عينيه، حقيقة وجود الأقانيم الثلاثة، وخصوصية وتميُّز كل منهم، وكذلك علاقاتهم (σχέσεις) الأقنومية المتبادلة مع بعضهم البعض داخل جوهر الله الواحد[7]. وقد طبَّق ديديموس مفهوم الـ “هوموأووسيوس” بكل أمانة حتى إنه تحدث عن الأقانيم (ποστάσεις) الثلاثة بكونها متماثلة بالكامل ومتساوية تمامًا في السلطان والكرامة، ولهذا فالآب ليس أعظم من الابن، كما أنه يمكن أن يُذكر أي من الأقانيم الإلهية أولاً في الترتيب، كما ورد في الكتب المقدسة[8].
وفي مجمل كتاباته ركَّز ديديموس بشكل أساسي على الروح القدس، وكان هذا متفقًا مع تقواه الإنجيلية وحياته الروحية العميقة التي تغذت على “التقليد السري (mystical tradition)” للأسفار المقدسة في العهدين القديم والجديد، والذي يتحدث فيها الروح القدس شخصيًّا إلى الكنيسة على الدوام[9]. وكان ديديموس ينظر إلى الروح القدس بكونه القدوس في ذاته، والمصدر المطلق والحقيقي لكل قداسة، وهكذا فهو يأتي ويسكن فينا في حين هو كائن في الله على الدوام، وهو حاضر في كل الأعمال الإلهية في الخلق والإعلان والفداء والتبرير والتقديس وذلك ليس بصورة جزئية بل بكامل لاهوته.
كما رأى ديديموس أن الروح القدس كائن بشخصه (بأقنومه) في كل عطايا الله، وحاضر حضورًا مباشرًا بكيانه الذاتي، حتى أن فيه يكون الله المُعطي والعطية هما واحد تمامًا[10]. وهذا المفهوم الأقنومي للروح القدس عند ديديموس كان يتعلق بعقيدته عن الروح القدس بكونه يصدر ـ بلا زمن وبلا بداية ـ من أقنوم الآب، وقد تحدث ديديموس أيضًا عن صدوره (إرساله) من أقنوم الابن[11]، ولكن هذا بالنسبة لديديموس كان يعني أن سكنى الروح القدس فينا، وعلاقة البنوة للآب التي ننالها من خلال الابن، كلاهما مرتبطان ومتصلان ببعضهما بلا انفصال*[12].
156 Didymus, De Trin., 1.16ff, 20, 24f, 27, 34; 2.1, 4ff, 6f, 13f, 18, 27; 3.7, 15; Con. Eun., Athens ed., 44, p. 238.
ولكن ديديموس كان عادة يفضل صيغة: “لاهوت واحد (μία Θεότης)، وثلاثة أشخاص”، مثل ما جاء في كتابه عن الثالوث (27:2).
158 Didymus, De Trin., 1.16, 26; 2, 1ff, 8, 10; 3.19, 37; Con. Eun., Athens ed., 44, pp. 239, 253.
159 Didymus, Con. Eun., Athens ed., 44, p. 226f; for cognate expressions see De Trin., 1.9; 2.1, 12.
[5] لاحظ التركيز المتكرر لديديموس على ’الجوهر الواحد‘ في كتابه عن الروح القدس والمحفوظ فقط في الترجمة اللاتينية لجيروم: (16-19, 21f, 24f, 32, 36f, 40, 53, 58)
161 Didymus, De Trin., 1.9f, 11, 15f, 18f, 25, 27; 2.1, 3f, 5ff, 15, 18, 26f; 3.2, 15f, 24, 47, 55; De Sp. St., 30-39; Con. Eun., Athens ed., 44, pp. 246f, 255ff.
162 Didymus, De Trin., 1.9, 11f, 15f, 18f, 21, 26f, 30, 34f; 2.1ff, 5ff, 8, 12, 19, 27; 3.1f, 18, 23f, 38, 40f, 45; De Sp. St., 27, 30. See Gregory Naz., Or., 29. 16; 31, 8-20.
163 Didymus, De Trin., 1.16, 18, 26f; cf. 3.1f, 13, 18; De Sp. St., 36.
وقد فسَّر ديديموس الآية “أبي أعظم مني” (يو 28:14) من جهة التواضع التدبيري للابن ’من أجلنا‘. انظر أيضاً في نفس الموضوع:
Hilary, De Trin., 9.51, 54f; cf. 3.65; De syn., 64; and Amphilochius, ap. Theodoret, Dial., 1, MPG 83.99; Epiphanius, Haer., 69.43, 53.
وبالنسبة للقديس أثناسيوس (في ضد الأريوسيين 58:1) كانت هذه الآية تشير إلى علاقة البنوّة التي للابن مع الآب (قانون البنوّة والأبوّة)، ولم تكن تعني بأي حال من الأحوال عدم التساوي في الطبيعة الإلهية (أو أن وحدة الرئاسة هي في الآب فقط كما سيأتي ذكره) أما بالنسبة للقديس باسيليوس وبقية الآباء الكبادوك فقد فسَّروا هذه الآية بأن الآب ’أعظم‘ في كونه هو ’المصدر‘ (πηγή) و’العلة‘ (αι̉τία) بالنسبة للابن:
Basil, Con. Eun., 1.25; Evagrius/Basil, Ep., 8.5f; Gregory Nyss., Ex comm., Jaeger ed., 3.1, p. 24f; cf. Gregory Naz., Or., 29.15; 30.7; and John of Damascus, De fide, 1.8.
164 See for example Didymus, De Trin., 1.36.
165 Didymus, De Trin., 2.1-3; De Sp. St., 3ff; 16-25; 32-40; 57-61.
166 Didymus, De Trin., 1.15, 18, 26, 36; 2.1ff, 5; 3.3, 5, 38; De Sp. St., 26, 37; cf. Con. Eun., Athens ed., 44, p. 251.
* لأن الروح القدس حين يسكن فينا، يجعلنا نتحد بالابن وبالتالي نشترك في بنوة الابن للآب: “أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا آبا الآب” (غل 6:4). (المترجم)
167 Didymus, De Sp. St., 34-37.