الروح القدس أقنوم حقيقي متمايز، وهو كائن على الدوام مع الآب والابن بغير انفصال
الروح القدس أقنوم حقيقي متمايز، وهو كائن على الدوام مع الآب والابن بغير انفصال
إقرأ أيضًا:
تطبيق مفهوم “هوموأووسيوس” مع الروح القدس هو دليل على إيمان الكنيسة بحقيقته الأقنومية
كان اعتراف مجمع نيقية بأن الابن المتجسد هو “هوموأووسيوس” (μοούσιος) مع الآب، قد أكَّد ليس فقط على ألوهية المسيح، بل أيضًا على الكينونة الأقنومية التي لله الآب ضابط الكل. وكما أوضحنا في حديثنا عن ال “هوموأووسيوس”، أن “ما هو” الله الآب في ذاته منذ الأزل هو نفس “ما هو” نحونا في يسوع المسيح. فالله ذاته هو نفس محتوى (أو مضمون) نعمته في شخص يسوع المسيح: أي أن المُعلِّن وما يعلِّنه، والمُعطي وما يعطيه، هما واحد تمامًا.
كما أن تعبير “أنا هو” الخاص بالآب، و “أنا هو” الخاص بالابن هما واحد تمامًا بغير انفصال، لأن الآب في الابن والابن في الآب، وبينما الآب والابن متمايزان أقنوميًّا عن بعضهما (حيث أن الآب غير الابن والابن غير الآب)، إلاّ أنهما واحد بغير انقسام في الجوهر الإلهي. ولذا كان التجسد في نظر مجمع نيقية يعتبر تجسيمًا دقيقًا للغاية لطبيعة وعمل الله[1].
وقد طبَّق القديس أثناسيوس نفس مفهوم ال “هوموأووسيوس” على علاقة الروح القدس بالمسيح وبالآب، وقد أدى ذلك إلى تأكيد تعليم الإنجيل عن حقيقة الروح القدس الأقنومية وتعميق هذا التعليم في إيمان الكنيسة[2]. وكان تطبيق مفهوم ال “هوموأووسيوس” على الروح القدس بالإضافة إلى تطبيقه على الابن، هو ما دعا القديس إبيفانيوس إلى تسمية مفهوم ال “هوموأووسيوس” بأنه “رباط الإيمان” (σύνδεσμος τς πίστεως)[3].
الروح القدس في تعليم القديس أثناسيوس
كان هدف القديس أثناسيوس في تأكيده الواضح والمحدَّد على وحدانية الروح القدس مع الابن والآب في ذات الجوهر والطبيعة والعمل، هو الرد على أنصاف الأريوسيين أو مَن أسماهم القديس أثناسيوس “التروبيكيين”* وغيرهم في ادعائهم بأن الروح القدس ليس إلهًا من إله، بل هو قوة لا أقنومية مخلوقة، صادرة من الله وقابلة للانفصال عنه[4]. وكما أوضح القديس أثناسيوس في رسائله إلى الأسقف سرابيون عن الروح القدس، فإن هذا المفهوم يمثل انتهاكًا خطيرًا لإيمان الكنيسة في وحدانية الثالوث القدوس الذي باسمه يتم سر المعمودية. ويقول القديس أثناسيوس في هذا الصدد:
– “إنه ثالوث ليس فقط في الاسم أو في صيغة الكلام، بل أيضًا في الحقيقة والوجود الفعلي، فكما أن الآب هو مَن يكون (بذاته)، فكذلك أيضًا كلمته هو مَن يكون (بذاته)، وهو الله الذي فوق الكل. وليس الروح القدس هو مَن بلا وجود حقيقي، بل هو كائن وله وجود فعلي[5]“.
– “وكما أن المعمودية التي تُعطى بالآب والابن والروح القدس هي واحدة، وكما أن هناك إيمان واحد بالثالوث (كما قال الرسول)، فهكذا الثالوث القدوس هو متطابق مع ذاته ومتحد في ذاته، وليس له شيء من التي للمخلوقات في نفسه. وهذه هي وحدانية الثالوث غير القابلة للانقسام، والإيمان به إيمان واحد[6]“.
وعندما تَجدَّد الهجوم على ألوهية الروح القدس من قِبل إفنوميوس وبعض أصحاب المفاهيم الأفنومية[7] في الكنيسة، أُدينت تعاليمهم رسميًّا في مجمع محلي رأَسه القديس أثناسيوس في الإسكندرية عام 362م، وأعلن المجمع الإيمان “بثالوث قدوس، ليس ثالوثًا بالاسم فقط بل ثالوث حقيقي كائن آب حقيقي كائن، وابن حقيقي كائن جوهريًّا، وروح قدس حقيقي كائن… وقد اعترفوا بثالوث قدوس ولكن بلاهوت واحد ومبدأ (رأس) واحد، وبأن الابن كما شهد الآباء له ذات الجوهر الواحد مع الآب، كما أن الروح القدس ليس مخلوقًا وليس “خارجًا” عن الله، بل هو بغير انفصال واحد في ذات الجوهر مع الآب والابن”.
وفي رفضهم لفكرة أن الابن ليس له ذات الجوهر الواحد مع الآب، وكذلك لفكرة أن الروح القدس ليس أقنومًا حقيقيًّا، أكَّد الآباء اعترافهم بالإيمان بقولهم: “نؤمن أنه يوجد إله واحد وأن له طبيعة واحدة، وأن ليس للآب طبيعة تختلف عن تلك التي للابن أو تلك التي للروح القدس”.
ومن هنا تم قبول صيغة “ثلاثة أقانيم (أشخاص)” (τρες ποστάσεις)، و”جوهر واحد” (μία οσία)، وصارت هذه الصيغة تُعبِّر عن الفهم الأرثوذكسي الصحيح للثالوث القدوس؛ إذ إنها من ناحية تتجنب فكرة أن الله أقنوم واحد (unipersonal)، كما أنها من الناحية الأخرى تتجنب فكرة تقسيم الله إلى ثلاثة آلهة (tritheistic)[8]. ومع هذا، سرعان ما بات واضحًا، أنه يتعين صياغة المزيد من العبارات اللاهوتية لدحض الحجج الفلسفية التي أثارها إفنوميوس وأتباعه.
وكان من عادة القديس أثناسيوس أن يستخدم المصطلحات اللاهوتية بأسلوب مرن ومنفتح، بحيث يسمح للحقائق الموضوعية المراد التعبير عنها أن تكون هي المتحكمة في استخدامات هذه المصطلحات وفي معانيها، ولذا حرص القديس أثناسيوس على تجنب التعريفات الشكلية والتحديدات المنطقية التحليلية التي لا أساس لها في الواقع[9].
ومن هنا كان القديس أثناسيوس يرى أن في مقدوره أن يتفق تمامًا مع من كان يختلف معهم لو كان هذا الاختلاف هو مجرد اختلاف لفظي، وطالما أن المعنى المقصود هو واحد. ولكن عندما استُغِّلت هذه الاختلافات اللفظية كستار للهرطقة، أصبح من الضروري استخدام مصطلحات لاهوتية أكثر تحديدًا وأكثر دقة. وفي هذا المنعطف، ساهم الآباء الكبادوكيون وعلى أساس تعاليم القديس أثناسيوس في دحض أراء إفنوميوس، وفي تنظيم استخدام المصطلحات اللاهوتية الملائمة بالنسبة لعقيدة الثالوث[10].
الروح القدس في تعليم الآباء الكبادوكيين
كان هذا هو الدافع الذي جعل القديس باسيليوس يكتب مؤلفه العظيم “عن الروح القدس” بناء على طلبٍ من أمفيلوخيوس[11]. وعلى الرغم من أن القديس باسيليوس كان مترددًا في استخدام مصطلح “هوموأووسيوس” (μοούσιος) بشكل مباشر في تعليمه عن الروح القدس، إلاّ أنه أكَّد على طبيعة الروح القدس الإلهية والأقنومية.
وهذا هو ما نراه جليًّا في كل عبادة الكنيسة؛ إذ كان الروح القدس يُمجَّد ويُسجد له بالتساوي مع الآب والابن في وحدانية الثالوث القدوس غير المنقسمة. وكان أيضًا قد استقر في فهم الكنيسة وخبرتها التي استلمتها، أن الروح القدس له نفس العمل الواحد غير المنقسم الذي للثالوث القدوس سواء في الخلق أو في التقديس.
وعلاوة على ذلك أوضح القديس باسيليوس أن خصوصية علاقة الروح القدس بالابن* هي مثل خصوصية علاقة الابن بالآب، وهكذا تكون هناك هيئة واحدة للاهوت تُرى في الآب والابن والروح القدس. ولذلك فبينما الثلاثة متمايزون أقنوميًّا، إلاّ أنهم في الوحدانية التي لا تنفصل التي ل “أنا هو” الخاصة بالله في طبيعته البسيطة غير المركَّبة ولاهوته الواحد، وفي عمله الواحد تجاه العالم[12].
لذلك فالروح القدس ليس هو ذو طبيعة مخلوقة، وليس هو قوة غير أقنومية؛ بل هو “أقنوم حيّ”، هو الرب الذي يقدِّس الجميع. وهكذا نستطيع أن ندرك علاقته في جوهر اللاهوت (مع الآب والابن)، بينما يظل نمط وجوده (τρόπο πάρξεως) الأقنومي غير المدرك فوق القدرة على التعبير[13]“.
ومثل القديس أثناسيوس، أكَّد القديس باسيليوس على أن الروح القدس هو كيان أقنومي حقيقي في الله وذلك من جهة وجوده في الثالوث غير المنقسم وأن ما يعمله من أعمال إلهية إنما يعمله بأقنومه (بشخصه) الذاتي[14].
وفي رغبته ليكون أكثر تحديدًا، ميَّز القديس باسيليوس بين مصطلح “أوسيا” (οσία) باعتباره يشير إلى جوهر الله الواحد، وبين مصطلح “هيبوستاسيس” (ποστάσεις) باعتباره يشير إلى أقانيم الثالوث، وقد ساعد ذلك على تعميم استخدام صيغة “جوهر واحد، ثلاثة أقانيم” (μία οσία, τρες ποστάσεις)[15].
وبينما اُستخدم مصطلح “أوسيا” (οσία) للإشارة إلى جوهر اللاهوت الواحد الذي للأقانيم الإلهية الثلاثة على السواء، فإن مصطلح “هيبوستاسيس” (πόστασις) كان يشير إلى الأقانيم في تمايزهم عن بعضهم البعض وفي علاقاتهم ببعضهم البعض وفقًا لأنماط كيانهم الخاصة في شركة الجوهر الواحد كآب وابن وروح قدس[16].
ولهذا الغرض أضاف القديس باسيليوس للإشارة إلى “الأقنوم” (πόστασις) مصطلح “بروسوبون” (πρόσωπον) أي وجه أو شخص ومصطلح “أونوما” (νομα) أي اسم[17]، وذلك من أجل التعبير بصورة أوضح عن نمط الوجود (τρόπο πάρξεως) الأقنومي الفريد الذي للآب والابن والروح القدس في جوهر اللاهوت الواحد[18].
ويبدو أن مفهوم نمط الوجود (τρόπο πάρξεως) الأقنومي الذي قدَّم به القديس باسيليوس تعليمه عن الأقانيم، كان يعتمد على مفهوم القديس أثناسيوس عن الأقنوم بكونه “نمط الألوهة” (τρόπο Θεότητος) أي “نمط الألوهة الكائن جوهريًّا في اللاهوت (الله)”، وقد طبَّقه القديس باسيليوس على التمايزات الأقنومية في داخل الله ولكن بدون أن يتضمن ذلك أي شبهة تقسيم في وحدانية الجوهر[19].
وقد أيَّد هذه الإضافة التفسيرية التي قدمها القديس باسيليوس لتعليم القديس أثناسيوس ولاهوتي نيقية[20]، زملاؤه الآباء الكبادوكيون الآخرون وهم: القديس غريغوريوس أسقف نيصص والقديس غريغوريوس النزينزي وأمفيلوخيوس[21]، مما كان له أكبر الأثر في زيادة وتعميق الفهم لطبيعة الروح القدس الإلهية والأقنومية، ولنسمع ما يقوله القديس غريغوريوس النيصي في هذا الصدد: “نحن نعتبر روح الله ملازمًا للكلمة ومُظهرًا لفعله، وليس كمجرد تأثير أو نفخة… لكنه في قدرته هذه، له وجود حقيقي بذاته وفي أقنومه (πόστασις) الخاص المميَّز الذي لا يمكن أن ينفصل عن الله (الآب) الذي هو فيه ولا عن الكلمة الذي هو ملازم له.
والروح القدس ليس هو شيء عارض (أو اعتمادي)، بل هو كائن أقنوميًّا بحريته الذاتية في الاختيار والتحرك والعمل كما يشاء، وبقوته في تنفيذ كل غاية[22]“. كما أدرك القديس غريغوريوس النيصي أنه بسبب أن الروح القدس يأتينا ويعمل فينا من داخل شركة اللاهوت الواحد مع الآب والابن في الثالوث القدوس، فإننا نعرف أنه متعال وممجد في أقنومه الذاتي وفي قدرته على إعطاء الحياة[23].
118 See Athanasius, Con. Ar., 1.9, 46; 3.1-6; De syn., 41-53; Ad Ser., 1.27; 2.2, 5.
119 Athanasius, Ad Ser., 1.25-33; 3.1.
* أي المحرِّفون، وقد ظهروا في مصر وكانوا أولاً ضمن الجماعة التي حاربت قانون الإيمان النيقي فيما يخص ألوهية الابن، ثم انفصلوا عنها عام 358م معلنين إنكارهم لألوهية الروح القدس. (المترجم)
121 Athanasius, Ad Ser., 1.2, 9-10.
122 Athanasius, Ad Ser., 1.28.
123 Athanasius, Ad Ser., 1.30.
124 See especially Eunomius, Apologia 1 of 360, MPG, 30.835ff, and Apologia 2 of 378, preserved in the Con. Eun. Of Gregory Nyss., Jaeger, 1& 2.
126 See Theol. in Reconcil., pp. 242f. Thus also Gregory Naz., Or., 31.11& 43.68.
127 Basil, Con. Eun., 1-3, Athens ed., 52, pp. 157-227; Antir., pp. 143-156; Gregory Nyss., Con. Eun., Jaeger, 1 & 2. See also Didymus, Con. Eun. (Ps. Basil, Con. Eun., 4-5), Athens ed., 44, pp. 223-261.
* أي إن الروح القدس يخص الابن أو خاص بالابن. (المترجم)
129 Basil, De Sp. St., 16f, 37, 41-47; Ep., 159; 189.5-8.
130 Basil, De Sp. St., 46; Con. Sab., 6. Cf. Gregory Nyss., Con. Eun., 1, Jaeger, 1,p. 89; non tres dei, 3.1, p. 56.
132 Basil, De Sp. St., 7; Ep., 52, 69, 125, 210, 214, 236, 258; Hom., 111; cf. Athanasius, Ad Ant., 5-6, 11; In ill. om., 6; Epiphanius, Haer., 73.16; Gregory Naz., Or., 21.35; 3.7-16; 43.30; Gregory/Basil, Ep., 38; Ex comm.. not., Jaeger, 3.1, pp. 21-33.
133 Basil, Ep., 214.4; 236.6. See also Gregory Naz., Or., 25.16, 26.19, 29.2; 31.29; 32.21; Gregory Nyss., Or. Cat., 1f – G.L. Prestige, God in Patristic Thought, pp. 168f, 188f, 244ff.
134 See also Gregory Naz., Or., 20, MPG, 35, 1072; 39.11; 42.16, etc.
ولكن القديس غريغوريوس النزينزي كان يختلف عن القديس باسيليوس في كونه لم يستخدم مصطلح نمط الوجود (τρόπος υ̉πάρξεως) الأقنومي.
135 Basil, De Sp. St., 46; Ep., 38. 1-4; 9.2; 125.1; 236.6; cf. Con. Eun., 1.19; 2.29; Gregory Nyss., Con. Eun., 1, Jaeger, 1, p. 89; and Ex com. not., 3.1, pp. 19-33.
136 See Athanasius, Exp. fidei, 2; Con. Ar., 3.15; 4.2; De syn., 52;
ويبدو أن استخدام القديس أثناسيوس للكلمتين (υ̉́παρξις) و (υ̉πάρχειν) في رسالته إلى القديس سيرابيون (28:1) كان له تأثير مباشر على القديس باسيليوس.
137 Compare Basil, Ep., 52, with Athanasius, De syn., 45-51.
138 Cf. the statement attributed to Amphilochius (Fragment 15, MPG, 39.112)
139 Gregory Nyss., Or. Cat., 2.
140 Gregory Nyss., De Trin., Jaeger, 3.1, pp. 6-15; non tres dei, pp. 47-57; De Sp. St., pp. 99f, 105ff. Refer to D.B. Harned, op. cit., p. 87f.