عقيدة الروح القدس والفهم الثالوثي لله في الكنيسة
شهادة مجمع نيقية عن الروح القدس
لقد تكلَّم الآباء في مجمع نيقية عام 325م عن الروح القدس في جملة واحدة فقط وهي الجملة الأخيرة من قانون الإيمان: “نؤمن بالروح القدس”. ورغم قصر هذه العبارة إلاّ أنها أبرزت بوضوح تأكيد إنجيل العهد الجديد على طبيعة الروح القدس الإلهية والأقنومية، والذي مع الآب والابن هو موضوع وهدف الإيمان، ومن خلاله وفيه نؤمن بيسوع المسيح وننال الخلاص.
ففي الروح القدس، الله ذاته يكون حاضرًا مباشرة في وسطنا، وعاملاً بطريقة إعجازية من أجل خلاصنا، ومن خلال الروح القدس يعلن الله عن ذاته بكونه “ربًا”؛ إذ إن الله نفسه يكون هو محتوى (أو مضمون) كل ما يفعله الروح لنا أو ينقله إلينا. فالروح القدس ليس مجرد شيء إلهي، أو شيء شبيه بالله ينبعث منه، ولا هو عمل يتم بعيدًا عن الله أو عطية منفصلة عن نفسه، لأن في الروح القدس الله ذاته يعمل مباشرةً فينا، وعندما يعطينا الله روحه القدوس فهو لا يعطينا إلاّ ذاته، حيث إن مُعطي الروح وعطية الروح هما واحد[1]، ولذلك نجد في قانون الإيمان النيقي أن الإيمان بالروح القدس اقترن بالإيمان بالآب وبالابن باعتباره إيمانًا بإله واحد ورب واحد[2].
شهادة الكتاب المقدس عن الروح القدس
ولقد شهد الرسل بوضوح منذ البداية عن طبيعة الروح الإلهية والأقنومية بكونه “الرب”، وذلك من خلال تفرده بلقب “القدس” (γιος) أي (القدوس) كترجمة للكلمة العبرية “قادوش” (קָדוֹשׁ) التي كانت قد استخدمت في أسفار العهد القديم للتحدث عن طبيعة الله الفائقة الإدراك، وعن مجده وجلاله الذي لا يُدنى منه: “قدوس، قدوس، قدوس رب الجنود، مجده ملء كل الأرض[3]“.
ولذا نجد أن كلمة “قادوش” (קָדוֹשׁ) استخدمت في سفر إشعياء للإشارة إلى الرب باعتباره “قدوس إسرائيل”، وخاصةً في التعبير عن عمله الخلاصي في حياة وتاريخ شعبه[4]، كما اُستخدمت هذه الكلمة أيضًا في أحيان أخرى للإشارة إلى روح الله بوصفه “الروح القدس”[5]. ومما لا شك فيه أنه نظرًا لطبيعة الروح الفريدة والتي لا تُضَاهى، فإن كلاًّ من العهد القديم (في ترجمته السبعينية إلى اليونانية) والعهد الجديد لم يستخدما الكلمة اليونانية الأكثر شيوعًا “يروس” (ερός) بل فَضَّلا استخدام الكلمة النادرة نسبيًّا “أجيوس” (γιος) للتعبير عن القداسة والتميُّز الفائق الخاص بالألوهية، ولذلك فإن مصطلح “الروح القدس” كان يعبِّر عن الإدراك بأن حلول الروح هو حلول “للروح” في سموه وعلوه الفائق.
وعلاوة على ذلك، كانت الكلمة العبرية المستخدمة للتعبير عن الروح “رُوَح” (רוּחַ) تحمل معنى محدَّدًا وديناميكيًّا، وهو الأمر الذي لم يكن كذلك بالنسبة الكلمة اليونانية “بنفما” (πνεύμα) التي تُستخدم في الفكر والأدب اليوناني القديم[6]. ولذلك عندما ربط العهد القديم كلمتي “روح” (רוּחַ) و”قدس” (קָדוֹשׁ) معًا فقد قصد بذلك الإشارة بوضوح إلى الله الحي القدير، وإلى أن حضور روحه القدوس يجب أن يُفهم في الحال على أنه هو الحضور الشخصي الحقيقي والفعَّال لله.
إن روح الله ليس هو انبعاث لبعض القوة الإلهية المنفصلةً عن الله، بل هو تقابل الله نفسه مع البشر ومع شئونهم، حيث يؤثر الله بقوته الإلهية وقداسته ويعمل بصورة مباشرة و”شخصية” في حياتهم. وقد تأكد جدًّا هذا المفهوم عن روح الله من خلال العلاقة الحميمة بين “كلمة” الله و “روح” الله في عمله الإعلاني والخلاصي[7]. وكانت هذه النظرة العبرية هي ما ميَّز تعليم إنجيل العهد الجديد عن الروح القدس، باعتباره وصول الله إلى البشر لتقديسهم وفدائهم وإعطائهم الحياة بواسطة كلمته، جاذبًا إياهم إلى الشركة وجهًا لوجه مع نفسه[8].
وكما يُنظر إلى القداسة والطبيعة الفائقة لكل من الله (الآب) في العهدين القديم والجديد والرب يسوع المسيح، وتُقدم لهما العبادة والسجود، فكذلك أيضًا روح الله، الذي بفضل طبيعته الذاتية المقدسة يستوجب نفس العبادة والسجود. لأن في الروح القدس لا يكون إلاّ الله ذاته القدوس الضابط الكل حاضرًا بصورة شخصية مع شعبه، يجتمع بهم ويتحدث معهم.
علاقة عقيدة الروح القدس بعقيدة الآب والابن في الكنيسة
لقد كان إيمان آباء نيقية بالروح القدس متمشيًا مع تعليم الكتاب المقدس حينما اعترفوا قائلين: “نؤمن بإله واحد … وبرب واحد يسوع المسيح … وبالروح القدس”، حيث قد أكدوا بذلك أن الإيمان بالروح القدس هو في داخل إطار الثالوث القدوس، طبقًا لطقس المعمودية المقدسة التي تتم بالاسم الواحد: الآب والابن والروح القدس، وطبقًا للإيمان المسلَّم لهم من الرسل. وكما عبَّر عن ذلك القديس باسيليوس: “إننا ملتزمون بأن نُعمِّد بالأحكام التي تسلَّمناها، وبأن نعلن إيماننا بالأحكام التي تعمَّدنا بها[9]“.
إذن فإن التأكيد الواضح على العبارة الخاصة بالروح القدس في قانون الإيمان، قد أظهر كمال فهم الكنيسة لله، كما أنه أعطى مركزية لعقيدة الثالوث القدوس. وحيث إن تعليم إنجيل العهد الجديد عن الله أنه روح، وأنه يُعرف بالحقيقة ويُسجد له بكونه روحًا لأن طبيعة جوهر الله الأزلي أنه روح: سواء آب أو ابن أو روح قدس فلذلك ينبغي علينا أن نفهم الآب والابن والروح القدس في ذاتهم وفي علاقاتهم الداخلية المتبادلة بطريقة روحية فقط.
ويمكننا أن نفهم تأثير عقيدة الروح القدس بالنسبة لعقيدة الآب والابن من العبارة التي قالها القديس أثناسيوس: “وبينما أن المسيح هو “الهيئة” (Εδος) الوحيدة أو “الشكل” الوحيد أو “الصورة” الوحيدة للاهوت الآب، فإن الروح هو “هيئة” (Εδος) أو “صورة” الابن[10]“. والقول بأن الروح هو “صورة” الابن قد يكون محيرًا بعض الشيء إلى أن ندرك أن الروح نفسه بلا صورة، وحيث إن الآب والابن والروح القدس لهم ذات الطبيعة الواحدة[11]، فيتعين أن يكون تفكيرنا فيهم وفي علاقاتهم المتبادلة داخل الثالوث القدوس بطريقة فائقة وروحية تمامًا ولا تصوير فيها (imageless)[12].
ويقول القديس إبيفانيوس في هذا الصدد: (في تعاملنا مع الله) علينا أن نستخدم آذاننا بدلاً من أعيننا، لأننا نعرفه فقط من خلال كلمته ونراه فقط بالذهن[13]، لأن “الله روح” ويُعرف فقط بالمسيح، كلمة الله الحي و”الهيئة” الوحيدة أو “الصورة” الوحيدة لله غير المنظور[14]. وقد أشرنا في الفصل الثاني إلى أن الوحي الإلهي عندما يستخدم مصطلحي “آب” و”ابن الله”، فإننا يجب أن نفكر في هذين المصطلحين بكونهما يشيران إلى الآب والابن بطريقة لا تصوير فيها، وبدون إقحام أي نوعٍ من الصور (أو الأمثلة) المخلوقة أو أي شكل من أشكال الفكر المادي[15].
بل المقصود هو أن نربط معًا في أذهاننا صورة الآب بالابن، وصورة الابن بالروح القدس، وهكذا نستطيع أن نشير بصور مأخوذة من علاقاتنا البشرية إلى اللاهوت بطريقة روحية وليس بطريقة مادية بشرية[16].
وكان تطبيق مفهوم ال “هوموأووسيوس” (ὁμοούσιος) مع الروح القدس في خلال الفترة التي بين مجمعيّ نيقية والقسطنطينية[17] إنما يعني أن الابن له ذات جوهر الله بالضبط كما هو الحال بالنسبة للروح القدس، وكذلك أن الروح القدس له ذات جوهر الله بالضبط كما هو الحال بالنسبة للابن.
وكان تطبيق مفهوم ال “هوموأووسيوس” (ὁμοούσιος) مع الروح القدس بالطبع مع ما تضمَّنه ذلك من التأكيد التام على ألوهية الروح القدس قد ساعد الكنيسة على أن تدرك بشكل أعمق مفهوم “الوحدانية في ذات الجوهر” (ὁμοούσιος) التي للابن المتجسد مع الآب، وكذلك العلاقات الجوهرية داخل الثالوث القدوس. وهكذا اكتمل التعبير عن عقيدة الروح القدس بوضوح كامل من داخل إيمان الكنيسة بالثالوث، واحتلت هذه العقيدة مكانًا راسخًا في ذهن الكنيسة، بالضبط كما هو الحال بالنسبة لعقيدة الابن[18].
الهدف من وراء الاستخدام الثلاثي لفعل “نؤمن” في قانون الإيمان النّيقيّ
وكان القديس أثناسيوس قد أكد على هذه النقطة الأساسية في خطابه المجمعي عام 369م والذي سبق الإشارة إليه وذلك في تعرضه لتعاليم أنصاف الأريوسيين وإنكارهم لألوهية الروح القدس، حيث قال: “لأن مجمع نيقية هذا، قد فَضَح بالحقيقة كل هرطقة، كما أنه يحبط أولئك الذين يجدِّفون على الروح القدس ويدعونه مخلوقًا. لأن الآباء بعد حديثهم عن الإيمان بالابن أضافوا على الفور “ونؤمن بالروح القدس”، لكي باعترافهم الأمين والكامل بالثالوث القدوس يعلنون الشكل الدقيق لإيمان المسيح وتعليم الكنيسة الجامعة.
فمن الواضح لكم وللجميع ولا يمكن لأي مسيحي أن يساوره شك في هذا أننا لا نؤمن بمخلوقٍ بل بإله واحد؛ الآب ضابط الكل خالق كل شيء ما يُرى وما لا يُرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابنه الوحيد، وبروح قدس واحد: إله واحد يُعرف في الثالوث الكامل القدوس، الذي به (باسمه) نعتمد، وفيه نتحد بالإلوهة (بالله)[19]“. وقد ذكر القديس باسيليوس وق. إبيفانيوس[20] أنه في مجمع نيقية، لم يكن هناك أي جدال بالنسبة للروح القدس، لأنه على مدى حياة الكنيسة وتسبحتها وإيمانها: كان الروح القدس مرتبطًا بالآب والابن بغير انفصال في العبادة والتمجيد (الذي تقدِّمه الكنيسة) باعتبار أن الروح القدس هو المصدر الإلهي للخلاص والتجديد[21].
ولكن حينما تفجَّر الخلاف بعد عام 350م، رفض القديس أثناسيوس الادعاء القائل بأن الروح القدس مخلوق، واعتبر أن هذا الكلام يقوِّض أسس الإيمان لأنه يقسِّم الثالوث القدوس ويهدم سر المعمودية المقدسة. واستند القديس أثناسيوس في ذلك ليس فقط إلى تقليد الكنيسة الجامعة، بل أيضًا إلى التعليم الرسولي والكتابي المتضمَّن في هذا التقليد، والذي كان قد كرَّس نفسه (أي القديس أثناسيوس) لشرحه وتوضيحه[22].
وكما قال القديس غريغوريوس النزينزي في وقت لاحق، أنه فقط بعد أن أعطانا الله معرفة واضحة عن الآب وعن الابن، كان في تدبير إعلان الله عن ذاته أن تصبح معرفتنا عن ألوهية الروح القدس الساكن في الكنيسة معرفة جليّة، وأن يتضح أيضًا أن عبادتنا لله الآب والله الابن والله الروح القدس، هي مقدمة لثلاثة أقانيم ولاهوت واحد[23].
النصوص الكتابية التي ساهمت في فهم الكنيسة لعقيدة الثالوث
وكانت الوصية التي أعطاها المسيح القائم للكنيسة كلها والتي كانت ذات أهمية قصوى في تقليد الكنيسة هي أن تعمِّد باسم الآب والابن والروح القدس كما جاء في الإنجيل بحسب القديس متى وذلك استنادًا إلى ما حدث في معمودية المسيح نفسه في نهر الأردن عندما أعلن الآب أنه ابنه الحبيب، ونزل عليه الروح معلنًا أنه المسيح. وفي العهد الجديد، كانت هناك ثلاثة نصوص ذات أهمية لاهوتية خاصة، وقد دخلت تلك النصوص في صلب الإيمان الرسولي والتعليم والعبادة والتقليد، وتجلى مضمونها داخل الفكر اللاهوتي للكنيسة الأولى. وهذه النصوص هي:
- صيغة المعمودية كما وردت في (مت 19:28) “باسم الآب والابن والروح القدس”.
- البركة الرسولية كما وردت في (2كو 14:13) “نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم”.
- الفقرة المأخوذة من (1كو 4:12-6) والتي نوقشت كثيرًا في الكنيسة الأولى: “فأنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد. وأنواع خِدَم موجودة، ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد، الذي يعمل الكل في الكل”.
ويلفت نظرنا كارل لودويج شميدت في وقتنا المعاصر وقد سبقه في ذلك كل من القديس غريغوريوس النزينزي وديديموس في القرن الرابع إلى أنه في تلك النصوص الثلاثة، هناك تنوع في الترتيب الذي ذُكر به كل من “الآب” و”الابن” و”الروح القدس”[24]. وحقيقة أن كل من “الآب” و”الابن” و”الروح القدس” قد ذُكر أولاً (في الترتيب) في أحد هذه النصوص، إنما يشير إلى أن الترتيب الذي اُستخدم في أي منها لا ينتقص من المساواة الكاملة بين الثلاثة أقانيم الإلهية.
فبينما في الليتورجيا الكنسية وفي طقس المعمودية يُذكر الآب أولاً، نجد أنه في البركة الرسولية المذكورة في الإنجيل والتي سادت في عصر ما بعد الرسل كما أشار أوسكار كولمان[25] يأتي ذكر الابن أولاً لأن الإيمان بالله الآب والله الروح القدس كان متضمنًا في الإيمان بيسوع المسيح كرب ومخلِّص، بيد أنه في حياة أبناء الكنيسة وفي خدمتهم الروحية، كان التركيز المباشر على عمل ومواهب الروح القدس.
ورغم أن القديس أثناسيوس اعترف بهذا التنوع في ترتيب ذكر الأقانيم وفقًا لفهمه للإيمان المسيحي والحياة المسيحية، إلاّ أنه حذَّر من تغيير ترتيب أقانيم الثالوث عن الترتيب الذي ذُكر في صيغة المعمودية المقدسة، وذلك في مواجهة هرطقة سابليوس[26]. وهناك شواهد أخرى عن الثالوث القدوس في العهد الجديد كان لها قدر من التأثير على نمو الفكر اللاهوتي في فترة ما قبل نيقية وما بعد نيقية[27]، ومن أهم هذه الشواهد ما يلي:
- 1. (أع32:2-33): “فيسوع هذا أقامه الله، ونحن جميعًا شهود لذلك. وإذ ارتفع بيمين الله، وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه”.
- (1بط2:1): “إلى…. المختارين بمقتضى علم الله الآب السابق، في تقديس الروح للطاعة، ورش دم يسوع المسيح: لتكثر لكم النعمة والسلام”.
- (2تس13:2-14): “وأما نحن فينبغي لنا أن نشكر الله كل حين لأجلكم أيها الإخوة المحبوبون من الرب، أن الله اختاركم من البدء للخلاص، بتقديس الروح وتصديق الحق. الأمر الذي دعاكم إليه بإنجيلنا، لاقتناء مجد ربنا يسوع المسيح”.
- (أف18:2): “لأن به (يسوع المسيح) لنا كلينا قدومًا في روح واحد إلى الآب”.
- (أف4:4 7): “جسد واحد، وروح واحد، كما دعيتم أيضًا في رجاء دعوتكم الواحد. رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة، إله وآب واحد للكل، الذي على الكل وبالكل وفي كلكم. ولكن لكل واحد منا أعطيت النعمة حسب قياس هبة المسيح”.
الإيمان بالثالوث كان مستقرًّا في عبادة الكنيسة وخبرتها قبل صياغته في مجمعيّ نيقية والقسطنطينية
وتبين تلك النصوص أن تعاليم الإنجيل التي تسلَّمناها بواسطة التقليد الرسولي كانت تعلن الإيمان الراسخ بالآب والابن والروح القدس، وهو الإيمان الذي استقر في خبرة الكنيسة التي أسسها المسيح. ونجد الدليل على هذا، في التسابيح الأولى المتبقية لدينا من فترة ما بعد العصر الرسولي مثل: تسبحة باكر “المجد لله في الأعالي…” (Δόξα εν υψίστοις Θεώ) التي وُجدت في المخطوطة السكندرية للكتاب المقدس (Codex Alexandrinus)، وقد وُجدت ملحقة بسفر المزامير[28]، وكذلك تسبحة المساء “النور الساطع للمجد المقدس” (Φως ιλαρόν αγίας δόξης) التي ذكرها القديس باسيليوس في كتابه “عن الروح القدس”[29]. كما تتضح أيضًا عمومية هذه النظرة الثالوثية في الكنيسة من كتابات أخرى ترجع إلى العصور الأولى[30].
وقد وجد آباء نيقية أن الشهادة (التعاليم) الإنجيلية عن الآب والابن والروح القدس، تتضمَّن بالفعل فهمًا ثالوثيًّا لجوهر الله الواحد. وهذه الشهادة لا يمكن فهمها بعيدة عن عقيدة الثالوث، تلك العقيدة التي نشأت عن تفسير أمين وصادق للعهد الجديد ونمت في حياة الكنيسة الليتورجية وخبرتها الإنجيلية منذ البداية. ومن هنا يمكننا القول أنه قد تم بالفعل استجلاء ما كانت تتضمَّنه وديعة الإيمان الأساسية[31] من خلال صياغة مصطلح “هوموأووسيوس”؛ إذ قد تم توضيح وإظهار العلاقة الجوهرية بين الابن والآب والتي تقوم عليها رسالة الإنجيل.
وبتطبيق نفس مفهوم “هوموأووسيوس” على الروح القدس للتعبير عن وحدانيته في ذات الجوهر مع الآب والابن فإن الفهم الثالوثي لله يكون قد اكتمل وترسَّخ بشدة في ذهن الكنيسة. وكان مفهوم الوحدانية في ذات الجوهر يحمل في طياته أيضًا مفهوم التواجد (الاحتواء) المتبادل للثلاثة أقانيم الإلهية داخل جوهر الله الواحد[32]. وهكذا بواسطة مفهوم ال “هوموأووسيوس” تم تتبع إعلان الله عن ذاته كآب وابن وروح قدس والذي حدث في التجسد ودخلت الكنيسة بالفعل من خلاله إلى معرفة الله وفقً “لما هو” الله أقنوميًّا في جوهره الذاتي الأزلي[33].
التلازم المتبادل بين عقيدة الابن وعقيدة الروح القدس
وفي أعقاب مجمع نيقية، وفي ظل الحرب المستمرة ضد الأريوسية والتي ظلت قائمة نتيجة وجود بعض التدخلات اللاهوتية للقادة السياسيين في تلك الفترة أصبح واضحًا أن إنكار إلوهية الابن يترتَّب عليه إنكار لإلوهية الروح القدس، لأن رسالة وتعاليم الإنجيل قدَّمت الابن والروح القدس معًا بشكل متلاحم جدًّا، حتى أن الاعتراف بإلوهية الابن الكاملة كان يحمل معه الاعتراف بإلوهية الروح القدس الكاملة.
ولذلك كان لا بد للإيمان التقليدي بالروح القدس بكونه “الرب” من أن يُعطَى الصياغة اللاهوتية المناسبة، أسوة بما حدث بالنسبة للابن، وهذا يفسر إلى حد ما السبب وراء تأكيد عقيدة الروح القدس انطلاقًا من عقيدة الابن[34]. وكانت الأولوية في هذا السياق أيضاً، لإيمان الكنيسة وصلاتها وعبادتها لله من خلال المسيح وفي الروح القدس*، والذي انعكس على شكل تسبيحها الدائم أي أن الأولوية كانت للدخول إلى الآب بالمسيح وفي روح واحد.
وقد أوضح لنا القديس باسيليوس هذا الجانب من عقيدة ما بعد نيقية في كتابه “عن الروح القدس”[35]، حيث قام اللاهوتيّون في الفترة التي تلت نيقية، بوضع صياغة قانونية لما كان مستقرًّا ومُتَفقًا عليه بالنسبة للروح القدس بالضبط مثلما فعل آباء نيقية بالنسبة للابن في علاقته بالله الآب إذ قد صار واضحًا أن حقيقة الإنجيل وفاعليته لا تعتمد فقط على الوحدانية في ذات الجوهر والفعل بين الابن المتجسد والله الآب، بل أيضًا على الوحدانية في ذات الجوهر والفعل بين الروح القدس وكل من الابن والآب.
ولذلك علَّم القديس كيرلس الأورشليمي طالبي العماد قائلاً: “آمنوا أيضًا بالروح القدس، وتمسكوا بالنسبة له بنفس التعليم الذي أخذتموه عن الآب والابن … فهو مع الآب والابن ممجد بمجد اللاهوت[36]“.
1 Athanasius, Ad Ser., 1.30; Epiphanius, Haer., 74.7.
[2] انظر تركيز القديس إبيفانيوس على الاستخدام الثلاثي لفعل ’نؤمن‘ مع كل من الآب والابن والروح القدس في قانون الإيمان: Haer., 73.25; 74.14; and Basil, Ep., 236.6 .
[3] إش 3:6؛ انظر أيضاً لا 45:11؛ 2:19؛ 7:20؛ إلخ.
[4] إش 4:1؛ 19:5،24؛ 17:10،20؛ 6:12؛ 7:7؛ 19:29،23،23؛ 11:30؛1:31؛ 23:37؛ 25:40؛ 14:40،16،20؛ 3:43،14؛ 11:45؛ 4:47؛ 17:48؛ 7:49؛ 5:54؛ 9:60،15؛ مر 24:1؛ لو 34:4؛ يو 69:6؛ أع 14:3؛ 1يو 20:2.
[5] إش 10:63؛ مز 11:51.
[6] الكلمة اليونانية ’بنفما‘ (πνεμα) مثلها مثل العبرية، تعني حرفيًّا’ريح‘ أو ’نفس – نفخة‘، ولكن بينما خَفُتَ هذا الصدى الأصلي للكلمة في الأدب اليوناني، نجد أنه قد أُبقي عليه إلى حد كبير في العبرية وبالتالي في الاستخدام الإنجيلي للكلمة كما في يو 3: 8، أع 2: 1؛ انظر أيضًا: Gregory Nyss., Or. Cat., 2.
[7] إش 1:11؛ 1:42؛ 3:44؛ 16:48؛ 21:59؛ 61؛ 7:63.
8 Cf. K. L. Schmidt, ‘Das Pneuma Hagion als Person und als Charisma’, Eranos Jahrbuch, 1945 (XIII), pp. 190ff; and A. I. C. Heron, The Holy Spirit, 1983, pp. 1-60.
10 See Con. Ar., 3.6, 10; Ad Ser., 1.19f; cf. Didymus, De Trin., 2.5, 11, and John of Damascus, De Fide, 1. 13.
11 Cf. Cyril of Jer., Cat., 16.3:
“الآب الواحد، والابن الواحد، والروح القدس الواحد ينتمون جوهريًّا وبلا انفصال بعضهم إلى البعض الآخر (أو يخصون بعضهم البعض الآخر)”.
12 Cf. Eusebius, De eccl .theol., 1.12; Gregory Naz., Or., 24.4; 28.12; 29.2, 8; 30.17; 31.7, 33; Basil, Hom., 111; Cyril of Jer., Cat., 11.11, 19; Epiphanius, Haer., 70.5.
14 Cf. Ps. Athanasius, Con. Sabellianos, 5ff (MPG, 28.105f) which is evidently a variation on Basil’s Homily 111.
15 See Athanasius, Con. Ar., 1.15, 21; De decr., 24; De syn., 42& 51. See Basil, Con. Eun., 2.16; De Sp. St., 15, 84; Gregory Nyss., Con. Eun., 11.6, 4; Didymus, De Sp. St., 57.
إن عدم تصوير الله (imagelessness) كان متضمنًا في مفهوم أن الله ’نور‘ وأنه ’روح‘:
Athanasius, Ad Ser., 1.19, 30; Basil, De Sp. St., 47. 64; Epiphanius, Haer., 70.5, etc.
[16] وهذا قد يمنع أي تفكير سخيف عن وجود نوع للجنس (أي ذكر أو أنثى) في الله:
Gregory Naz., Or., 31.7.
17 Cf. Epiphanius, Anc., 7, 46, 69f; Haer., 69.17f, 32f; 74.6, etc.
18 See Didymus, De Trin., 2.6ff; Epiphanius, Haer., 73.15ff, 24f, 34f, and especially the long refutation of the ‘Pneumatomachians’, 74.1-14.
19 Athanasius, Ad Afr., 11; see Ad Ant., 3; and Epiphanius, Haer., 73.34.
20 Basil, Ep., 125, 159.2, 226.3; Ep. ad Epiph., 258.2; Epiphanius, Haer., 74.14.
[21] ومن هنا كان هذا التركيز على التمجيد الواحد (μία δοξολογία) الذي يُقدم للثالوث:
Epiphanius, Anc., 24; Haer., 62.3, 8; 69.29, 33, 56, 75; 74.14; 76. Ref. Aet., 10, 21, 30; Exp. fidei, 17, etc.
22 Athanasius, Ad Ser., 1.1-33; cf. Epiphanius, Anc., 65ff & Haer., 74.2ff.
23 Gregory Naz., Or., 34.26-28.
24 K.L. Schmidt, op. cit., pp. 215f. See Gregory Naz., Or., 36.15; and Didymus, De Trin., 1.18.
25 O. Cullmann, Early Christian Confessions.
26 Athanasius, Ad Ser., 4.5. Also Basil, Ep., 125.3.
27 See K.L. Schmidt, op. cit., pp. 209f, 216ff.
[28] انظر أيضًا التسبحة التي وردت في (Apost. Const., 7.47): “المجد لله في الأعالي… الله الآب ضابط الكل، وابنه الوحيد ربنا يسوع المسيح، والروح القدس الرب الإله”. ارجع كذلك إلى القديس إبيفانيوس في (Haer., 74.10.).
30 See Didache, 7.1; Ignatius, Magn., 13. 1; Polc. martyr., 14.3; Justin Martyr, Apol., 1.6, 13, 61, 65; Athenagoras, Leg., 6, 10, 12, 24; Irenaeus, Adv. haer., 1.2ff, vol. 1, p.90ff; 3.1f, 4, vol. 2, pp. 22ff; 4.1f, pp. 146ff; 4.53.1, p. 261f; 5.20.1f, pp. 377f; Dem., 5f; Hippolytus, Apost. Trad., 3, 8, 21; Novatian, De Trin., 7, 16, 29f; Tertullian, Adv. Prax., 2-5, 8f, 11ff, 25, 30, etc.; Origen, De prin., 1.3.5, 7f; 4.2f; 6.2; 2.2.2; 3.5.8; 4.3.14f; 4.1, 3; In Jn., 2.6; 6.17, etc.
[31] هذا بالتأكيد كان هو القصد وراء الحاشية التي وُجدت في ’الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس والمعروفة ب الفولجاتا‘ على 1يو 7:5-8 وهي: “فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح، والماء، والدم. والثلاثة هم في واحد”.
32 See Athanasius, Ad Ser., 1.27; 2.3, 5; 3.1; Epiphanius, Haer., 63.6; 65.1ff; 74.12; 76.2; 76.35; Exp. fidei, 14.
33 Athanasius, Con. Ar., 3.1ff; Epiphanius, Anc., 2-7, 10, 67, 72, 81; Haer., 62.1ff; 64.9; 72.11; 73.20; 74.9, 11ff; 76.30; 77.22; Gregory Naz., Or., 29.16, 20; 31.10; Schol., MPG, 36. 911; Ep., 58; Or., 43.68.
34 Athanasius, Ad Ser., 3.1ff.
* أي إن الاعتراف بالروح القدس بكونه ’الرب‘ بدأ في عبادة الكنيسة وتسبيحها قبل أن يظهر في صورة صياغة رسمية قانونية. (المترجم)
[35] وقد لجأ القديس باسيليوس لتعضيد آرائه إلى كل من إيرينيئوس وكليمندس وأوريجانوس وديونيسيوس السكندري انظر: (De Sp. St., 72.).
36 Cyril of Jer., Cat., 4.16. Thus also Amphilochius, Ep. Syn., 2.
انظر أيضًا الليتورجيا البيزنطية (F.E. Brightman, Eastern Liturgies, p.382): “هلّم نحب بعضنا بعضًا حتى ما نعترف بذهن واحد بالآب والابن والروح القدس، الثالوث غير المنقسم والواحد في ذات الجوهر”.