الله لا يريد أن يكون وجوده هو لنفسه فقط
الله كائن بذاته ولا يعتمد على شيء خارج ذاته
لقد تناولنا موضوع أن الله كان “آبًا” على الدوام ولكنه لم يكن على الدوام “خالقًا”، ولكن مع ذلك علينا أن نكون حريصين حتى لا نفهم عبارة “كان الله على الدوام” بشكل زمني، كما حذَّرنا القديس غريغوريوس النزينزي الذي قال “إن الله كان على الدوام ويكون على الدوام، أو بالأحرى هو كائنٌ على الدوام، لأن “كان” و “سيكون” هما أجزاء من زماننا و لهما طبيعة قابلة للتغيير، (أما الله) فهو كائن أزلي أبدي[1]“.
إن النقطة محل الاهتمام هنا، هي أن الله هو: الذي كائن في ذاته (أو بذاته)، وغير معتمد بتاتًا على أي حقيقة غير ذاته، ولذلك فهو مستقل تمامًا عن خليقته، ومتعالٍ بشكل لانهائي فوق كل زمان ومكان. وكما عبَّر عن ذلك القديس هيلاري بقوله: “إن الآب الذي تدين له كل الكائنات بوجودها… هو، بخلاف هذه الكائنات جميعها، كائن بذاته. هو لا يستمد وجوده من خارجه ولكنه يمتلك هذا الوجود من ذاته وفي ذاته.
وهو لانهائي، لأنه لا شيء يمكن أن يحتويه ولكنه هو يحتوي كل شيء؛ ولا يحده مكان لأنه غير محدود، وفي أزليته هو أقدم من الزمن لأنه هو خالق الزمن”.[2] إذن فإن الله له في ذاته حرية فائقة وهو لا يحتاج إلى شيء خارج ذاته، لأنه هو خالق و رب كل الكائنات الأخرى.
لا توجد علاقة إلزامية (ضرورية) بين الله والخليقة
بينما الله هو “الخالق” بفضل كونه “آبًا” منذ الأزل، فبالنسبة لنا الأمر عكس ذلك: لأن الله قد صار أبًا لنا ـ ليس بالطبيعة بل بالنعمة ـ بعدما صار خالقًا لنا[3]. وبالرغم من ذلك فهو معروف لنا من خلال الخليقة وفقًا لما هو في ذاته منذ الأزل كـ “آب”، كما أنه معروف بالحقيقة كـ “آب وابن وروح قدس” بمعزل عن الخليقة[4]. ولذلك لا توجد علاقة إلزامية (ضرورية) بين الله والعالم المخلوق، كما لو كان الله يحتاج إلى علاقة مع شيء غير ذاته لكي يكون ما هو أزليًّا في ذاته، أي الله الآب ضابط الكل[5].
ولهذا السبب كما قد ذكرنا سابقًا، لم يقبل الفكر اللاهوتي النيقي فكرة أن الله كان أيضًا “خالقًا” على الدوام بالاضافة إلى كونه “آبًا”، هذا بالرغم من أن آباء نيقية أقرّوا بأن فعل الخلق ينبع من طبيعة الله الأزلية “كآب” للابن الأزلي. إذن فمن منطلق كيان الله الذاتي الأزلي كآب ضابط الكل، يمكننا أن نتحدث كما ينبغي عن الخليقة وعن تفاعل الله المستمر معها.
الله أوجد الخليقة من العدم بسبب صلاحه وحبه الفائق
وكما اعتاد القديس هيلاري أن يقول، فإن الله في ذاته ليس “منعزلاً”[6]، لأنه كآب وابن وروح قدس هو في ذاته شركة أزلية للحب والوجود الشخصي. وقبل القديس هيلاري كان القديس إيرينيئوس قد قال إنه على الرغم من أن الله مكتفٍ ذاتيًّا تمامًا في الشركة الداخلية التي لكيانه، إلاّ إنه لا يريد أن يكون وجوده هو لذاته فقط، بل بتلقائية وحرية قد أحضر العالم إلى الوجود من العدم وأعطاه تكاملاً خاصًا به، ووضع فيه كائنات مخلوقة عاقلة يمكنه أن يهبها من نِعَمه ويشركها معه في شركة الحب الخاصة به.
ومع أن الله متعالٍ بصورة فائقة إلاّ أنه ليس بمعزل عن خليقته، بل هو حاضر وعامل فيها بلا عائق، كما أنه يتدخل شخصيًّا بعنايته الإلهية في أحداث العالم وفي شئون خليقته من البشر[7].
وكان القديس إيرينيئوس قد وجَّه الانتباه إلى تعليم أفلاطون الذي في رده على سؤال: لماذا من الأساس خلق الله العالم؟ قد أشار إلى صلاح الله الذي بلا حسد، والذي بدلاً من أن يحتفظ بصلاحه لنفسه، كوَّن العالم لكي يعكس من خلاله صلاحه ونظامه الخاص[8]. وكذلك أرجع القديس أثناسيوس ـ وكلمات أفلاطون واضحة في ذهنه ـ سبب وجود العالم إلى حقيقة أن الله مصدر كل صلاح وكمال، وهو لا يضِنُّ بالوجود على أي شيء قد صنعه.
ولكن القديس أثناسيوس مثل القديس إيرينيئوس أعطى هذه الفكرة توضيحًا مسيحيًّا وذلك بالتأكيد على أن الله خلق كل الأشياء “من العدم” وأنه يريد للبشرية الوجود بسبب محبته للبشر (φιλανθρωπία)، تلك التي أظهرها للعالم في يسوع المسيح الكلمة الذاتي المتجسد، الذي به أُحضرت كل الأشياء إلى الوجود وأُعطيت كيانًا واقعيًّا. وبدلاً من أن يضِنَّ الله على الخليقة بالوجود ـ كواقع خارج عن ذاته ـ أحضرها بحريته إلى الوجود بواعز من كرمه المحض لكي ما يغدق عليها حبه[9].
الخليقة هي نتاج إرادة الله وفعل محبته
هذا المدخل إلى فهم سر الخليقة من خلال “مركزية المسيح”، كان هو الأساس الرئيس لكل الفكر اللاهوتي النيقي. وكان تنازل الله الواضح في تجسد الكلمة وإعلانه عن ذاته في يسوع المسيح ابنه الحبيب ـ الذي به خُلقت كل الأشياء ـ هو المنطلق الذي من خلاله تأمل آباء نيقية في الأصل المحيِّر للكون كواقع حقيقي خارجٍ عن الله.
وكان خلق العالم من العدم واستمرار وجوده، يُفهم على أنه نابع من ـ وقائم على ـ محبة الله غير المحدودة، هذه المحبة التي هي الله ذاته منذ الأزل كآب وابن وروح قدس، وهي التي يريد أن يشرك خليقته فيها[10]. فالخلق مثله مثل الفداء، كان عملاً من أعمال نعمة الله المحضة التي تعلو على الشرح، والتي ظهرت في ابنه المتجسد الذي “قناه الله أول طريقه لأجل أعماله”، حيث فيه وبواسطة عمله الخلاصي، نستطيع أن نستدل على السبب الخفي للخلق[11].
ولم تكن هناك أية محـاولة للإجابة على سـؤال: كيـــف خلـق الله الكون من العدم (κ το μή ντος)؟، فقد كان كافيًا اتباع تعليم الكتاب المقدس في الإيمـان بأن “جميع الأشياء هي من الله (κ το θεο)”[12]، ولكن هـذا “التكوين الـذي من الله” (γένεσις κ θεο) كما عبَّر عنه القديس غريغوريوس النيصي، يجب أن يُفهم على أنه ليس فيضًا من جوهر الله، وإنما نتاج من إرادة الله وفعل محبته[13]. وهكذا صارت محبة الله هي المبدأ والمصدر الأوّلي في كل الفكر المسيحي عن الخلق.
الخليقة لم تُحضَر إلى الوجود، لا بصورة جزافية (بالمصادفة) ولا بصورة إلزامية (وجوبية)
كيف إذن ينبغي أن ننظر إلى علاقة الله بالكون؟ إنها ليست علاقة ضرورة ولا هي علاقة اعتباطية. فالله كانت له الحرية في أن يخلق العالم وكانت له الحرية أيضًا في ألاّ يخلق العالم[14]. والكون لم يأتِ إلى الوجود بنفسه أو دون قصد (κατάσυμβεβηκός) كما لو كان نتاج مصادفة جزافية مضادة للعقل[15]، ولكن حقيقة أن الله قد خلق الكون بكلمته أو حكمته الأزلي إنما تعني أن العالم لم يتصوَّر ولم يُؤتى به إلى الوجود “بدون سبب”، ولكن على العكس كان نتاجًا مفهومًا للفكر الإلهي[16].
ولهذا السبب كما قال القديس أثناسيوس، فإن الكون المخلوق، بدون الابن الكلمة، لا يُعتبر في ذاته كافيًا ليجعل الله معروفًا لنا. ولكن التأمل الصحيح في الكون إنما يكون في اللوغوس (Λόγος) ومن خلاله؛ إذ هو الذي أنشأ الكون وأعطاه نظامه المنطقي، وفيه (أي في الكلمة) يتماسك الكون بثباتٍ معًا[17].
ومن جهة أخرى، فإن الكون لم يأتِ إلى الوجود بسبب أي اضطرار داخلي في جوهر الله[18]. كلا، بل إن الكون صدر بحرية من المحبة الأزلية التي هي الله ذاته، وهو (أي الكون) مؤسس على الدوام على هذه المحبة. وعلى الرغم من أن الله في اكتفائه الذاتي الكامل غير محتاج للكون إلاّ أنه خلقه بحرية بسبب محبته ونعمته، ولذا يجب أن نعتبر أن للكون أساسًا أوليًّا منطقيًّا في طبيعة الله الخيّرة وفي محبته الفائقة.
ولقد كان ظهور هذا الحب الإلهي في يسوع المسيح اللوغوس وحكمة الله الذي صار جسدًا، هو الذي دعا الآباء إلى إدراك أن للكون سببًا لوجوده فائق للتصور، هذا السبب مؤسس ـ أبعد من نطاق الكون ذاته ـ في محبة الآب والابن والروح القدس.
ولذلك فقد سعى اللاهوتيون أن يدركوا الله الخالق وعمله في ضوء نشاطه وفعله الواحد غير المنقسم كآب وابن وروح قدس، إله واحد الذي منه وبه وفيه جميع الأشياء[19]. وهكذا أعلن القديس أثناسيوس: “أن الآب يخلق جميع الأشياء بالكلمة في الروح[20]” كما أكد القديس غريغوريوس النزينزي قائلاً “عندما أقول الله، أعني الآب والابن والروح القدس[21]“.
الكون مخلوق على مثال الثالوث القدوس
إن الكون قد أُحضر بالحقيقة إلى الوجود من الآب بالابن في الروح القدس، بحيث يكون على مثال الثالوث، وهذا ما أسماه كارل بارث في أيامنا “(الكون هو) نظير زمني ـ واقع خارج الله ـ لما هو في الله ذاته، والذي فيه الله هو آب للابن” أو بتعبير آخر أن الكون هو “مقابل (مماثل) مخلوق” للثالوث القدوس[22]. وهذا حقًّا ما نجده مرارًا وتكرارًا في كتابات آباء نيقية وما بعد نيقية، ومثال ذلك الإشارة التي وردت على لسان القديس غريغوريوس الصانع العجائب عن “التدبير المقدس للكون[23]“.
وكان القديس إيرينيئوس، على الأخص، هو الذي أوضح بجلاء تعليم الكتاب المقدس عن الكون باعتباره خليقة الله الصالحة، الذي يصونه الله على الدوام ويضبطه بتناغم في علاقة عهد مع نفسه، وهو الذي يعكس مجد الله ويشكِّل المجال الذي يظهر فيه قصد محبة الله للبشرية[24]. ومن جانبه استخدم القديس أثناسيوس تعبيرات من عالم الموسيقى مثل “تناغم” و “سيمفونية” من أجل التعبير عن الوحدة الرائعة وتناسق نظام الخليقة التي تعلن وتمجد الله باعتباره ربها وخالقها[25].
ومع إدراك اللاهوتيين أنه في تدبير التجسد جعل الخالق نفسه واحدًا مع خليقته، وأنه في حلول الروح القدس أصبح الله ذاته حاضرًا شخصيًّا في كل خليقته ـ محافظًا على كيانها ونظامها، وممارساً عنايته الإلهية بصورة مباشرة في أحداثها ـ أصبحت لهم القناعة بأن الكون كله بزمانه ومكانه قد أقيم على أساس جديد[26].
لقد شعروا بضرورة اعتبار أن نظام الخليقة قد تجدَّد وتقدَّس في المسيح على هذا النحو لكي يكون ـ حسب قصد الله ـ مقابلاً (مماثلاً) مخلوقًا للشركة والمودة والأمانة التي تظهر في الله ذاته، لأن الخليقة تقوم على ثبات الله ذاته كما أنها تعتمد في وجودها المستمر على الحضور الدائم لروحه القدوس[27].
إن كل المنطق في وجود الكون (raison d´être) هو في حقيقة أن الله لا يريد أن يكون وحده، وأنه لا يريد أن يكون بدوننا، ولكنه بقصد وحرية قد خلق الكون وربطه بذاته كمجال يسكب فيه محبته بلا تحفظ، وكمكان نتمتع نحن فيه بالشركة معه.
القديسة مريم العذراء – دراسة في الكتاب المقدس
1 Gregory Naz., Or., 38.7 and 45.3.
3 Athanasius, Con. Ar., 2.59ff.
4 Athenagoras, Leg., 8-10, 13, 16.24; De res., 12-14.
5 Gregory Thaumaturgos, In Origenem, 8; Athanasius, De decr., 22; De syn., 34; Hilary, De Trin., 2.6ff; 9.72; 11.44ff.
6 Hilary, De syn., 37; De Trin., 4.21; 6.12, 19; 7.3, 8, 39; 8.52.
7 Irenaeus, Adv. haer., 2.47.2, vol. 1, pp. 367f; 2.56. 1f, p. 382f; 4.25.1f, vol 2, pp. 184f; 4.34.1f, pp. 212ff; 4.63.1f, pp. 294ff; Dem., 3ff, 11f.
8 Irenaeus, Adv. haer., 3. Praef. And 41, vol.2, pp. 1ff; 4.25.1f, pp. 184ff; 4.63.1, p. 294f; Plato, Timaeus, 29e-30b. Cf. philo, De migr. Abr., 32.
9 Athanasius, Con. gent., 41; De inc., 3; cf. Con. Ar., 2.29.
10 Basil, Hex., 1.2; Gregory Nyss., Or. cat., 5; De an. et res., MPG 46.9Bff; Gregory Naz., Or., 38.9; 45.5. See also Athenagoras, De res., 12-13.
11 Athanasius, De inc., 1.1ff; Con. Ar., 2.14, 44-65; 3.43, 67; 4.33.
[12] 1كو 12:11.
13 Gregory Nyss., De op. hom., 23f; De an. et res., MPG 46.94-125; Or. cat., 5. Cf. Evagrius/ Basil, Ep., 8.11.
14 1Clement 27.4; Tatian, Or., 7.3; Aristides, Apol., 13; Athanasius, Con. Ar., 2.31; Gregory Naz., Or., 29.6.
15 Athenagoras, Leg., 6-9, 16, 20, 22, 25; De res., 12-13; Basil, Hex., 1.5-7; Gregory Nyss., Con. Eun., 1.20.
16 Theophilus, Ad Aut., 1.7; 11.4, 10, 13; Athenagoras, Leg., 10, 13-16; Irenaeus, Adv. haer, 2.2.1ff, vol. 1, pp. 254ff; 2.8f, pp. 271ff; 2.47.2, p. 367f; 3.41, vol.2, p.135f; 4.25.1f, pp.184f; 4.83.1, p.295; 5.3.2, p. 326; 5.18.1f, pp. 372ff; Basil, Hex., 1.5-10; 2.2; 4.6; 5.5.
17 Athanasius, De inc., passim; Con. Ar., 1.11-12- a comment on Romans 1.19f.
18 Athanasius, Con. Ar., 3.59-62.
[19] 2كو 6:8، رو 36:11. انظر:
Irenaeus, Adv. haer., 4.34.1f, vol.2, pp. 212ff; Dem., 3; Hilary, De Trin., 8.36f; Gregory Naz., Or., 39.12; Basil, De Sp. St., 4.6
21 Gregory Naz., Or., 38.8 and 45.4.
22 Karl Barth, Dogmatics in Outline, p.52; Church Dogmatics, III.1, pp. 13ff.
23 Gregory Thaum., In Origenem, 8.
24 Irenaeus, Adv. haer., 2.2.3f, vol.1, pp. 255f; 2.37.1f, pp.342f; 2.43.2f, pp. 356f; 2.47.2, p. 367f; 3.11.2ff, pp. 35ff; 3.12.14f, vol. 2, pp. 66ff; 4.6, p.152; 4.18-19, pp.168-172; 4.27.3-30, pp.189-200; 4.34.1ff, pp.212ff; 5.18.1f, pp. 372ff.
وهذا الأمر لا ينبغي أن يختلط مع أفكار البدعة الغنوسية عن ’النماذج الإلهية‘:
Adv. haer., 2.7.1ff, pp.270ff, etc.
25 Athanasius, Con. gent., 34ff. Cf. Con. Ar., 2.20: ‘The whole earth hymns the Creator’.
26 Irenaeus, Adv. haer., 3.11.2, vol.2,p.35.
27 See also Athenagoras, Leg., 4.2; 6.2; 10.2-5; 12.3; 18.2; and Theophilus, Ad Aut., 1.4, 7; 11.13.