الله خلق الكون من العدم في الفكر المسيحي
الله خلق الكون من العدم في الفكر المسيحي
خلق الكون من العدم هو مفهوم عبري – مسيحي
لقد كان تركيزنا حتى الآن موجَّه إلى الله كخالقٍ للكون، ولكننا لا بد أيضًا أن نعطي قدرًا من الاهتمام إلى طبيعة الخليقة ذاتها، وعلى الأخص إلى المفهوم الصعب الخاص بالخلق من العدم (creatio ex nihilo)، والذي يعني أن الله خلق الكون كمادة وكشكل من العدم، وأعطاه بداية مطلقة (أي بداية لم يكن قبلها شيء) في الوجود والزمن. وهذا المفهوم هو في أساسه مفهوم عبري- مسيحي مصدره تعليم العهد القديم أن الله “صنع السماء والأرض، والبحر وكل ما فيها”[1]، وكان لهذا التعليم صدى قوي أيضًا في العهد الجديد[2].
إن الآية الافتتاحية من سفر التكوين “في البدء خلق الله السموات والأرض” لم يُذكر فيها مفهوم الخلق من العدم بصورة مُفصَّلة، ولكن في التفسير اليهودي كان هذا المعنى يُفهم ضمنيًّا[3]، لأن الفعل العبري المستخدم للحديث عن عمل الله في خلق السموات والأرض لم يكن “عاساه” (עָשָׂה) وهو الذي يُستخدم عادة للحديث عن عمل الإنسان أوعمل الله في صنع أو إنتاج أو تغيير الأشياء.
وإنما الفعل الذي استُخدم كان الفعل المميَّز “بارا” (בָּרָא) وهو الفعل المخصص فقط لما يصنعه الله ليقدم شيئًا جديدًا تمامًا لم يكن قد حدث من قبل ولم يكن من الممكن حدوثه إلاّ هكذا[4]، وهذا الفعل لم يكن يُستخدم إطلاقًا للحديث عما يصنعه الله بأشياء موجودة من قبل[5]. أي إن الفعل “خَلَقَ” (בָּרָא) وبخلاف الفعل “صَنَعَ” (עָשָׂה)، إنما يشير إلى عمل الله الفريد والأوّلي بواسطة كلمته، في إحضار ما لم يكن موجودًا من قبل إلى الوجود، وفي إعطائه إياه واقعًا وثباتًا أمامه “قال فكان. هو أَمَر فصار[6]“.
وكانت أول شهادة مسجَّلة في الكتابات اليهودية تذكر بوضوح موضوع الخلق من العدم تُنسب إلى أمٍّ مكابية قالت: “انظر يا ولدي إلى السماء والأرض وإذا رأيت كل ما فيها فاعلم أن الله خلق الجميع من العدم وبنفس الطريقة أوجد جنس البشر[7]“. وفي العهد الجديد كان الإيمان بأن الله خلق الكون من العدم قد ترسَّخ تمامًا وصار أمرًا بديهيًّا مُسلَّمًا به.
غير أن أول ذكر لهذا الأمر بوضوح في الكتابات المسيحية وُجد فقط في نهاية القرن الأول في كتاب “الراعي” لهرماس، وهذا النص كان له تأثيره الكبير على تطور الفكر المسيحي: “أول كل شيء، آمن بأن الله واحد الذي خلق كل الأشياء ورتبها وأحضرها إلى الوجود من العدم، وهو يضع حداً لكل الأشياء إلاّ أنه هو وحده لا يُحد[8]“. ومن هنا يبدو واضحاً أن الإيمان بأن الله خلق كل الأشياء من العدم قد صار أمراً مُعترفاً به ضمن “قانون الإيمان”[9].
وكانت فكرة الخلق من العدم (creatio ex nihilo) قد أُثيرت عدة مرات في تاريخ الفكر اليوناني كما يخبرنا بذلك أناس مختلفون أمثال أرسطو[10] وبلوتارخ[11] وديوجنيس لايرتيوس[12] وسِكستُس امبيريكوس[13]، ولكنها رُفضت كأمرٍ مستحيل ومناقض لذاته[14]. أما المفكرون المسيحيون الأوئل أمثال ثيؤفيلوس الأنطاكي[15] وأثيناغوراس الأثيني[16] وأرستيدِس[17] وتاتيان[18] فقد صمموا على فكرة خلق الكون من العدم من حيث المادة والشكل، واعتبروها أمرًا أساسيًّا للإيمان بالله الواحد الوحيد.
ومما كانت له دلالته الهامة بالنسبة لهؤلاء المفكرين، أن نقطة الانطلاق الحقيقية لعقيدة الخلق ـ كما أوضح أثيناغوراس بالأخص[19] ـ كانت هي عمل الله العظيم في إقامة يسوع المسيح من الأموات، لأن في هذا العمل ظهرت بشكل فريد قوة الله المطلقة وسلطانه على الحياة والموت، وعلى كل الموجود وغير الموجود. وكان هذا التركيز يتفق تمامًا مع شهادة العهد الجديد، ويكمل الصورة بالنسبة لعقيدة الخلق التي “مركزها المسيح” والتي ترسَّخت في كنيسة ما قبل نيقية[20].
التجسد كان هو مدخل الآباء لفهم عقيدة خلق الكون من العدم
في أوائل القرن الرابع، ظهر ضعف خطير في المفاهيم السائدة عن “الخلق”، وذلك نتيجة الخلط بين ولادة ابن الله الأزلية وبين عمل الله في الخلق بإحضار الكون إلى الوجود. وهذه هي المشكلة الأساسية التي كنا نبحث فيها بمساعدة تعاليم القديس أثناسيوس الذي ميَّز بوضوح بين كينونة الله المطلقة وبين وجود العالم، هذا الوجود الذي يعتمد اعتمادًا كليًّا على كلمة الله وإرادته الخالقة، وبذلك فكَّ القديس أثناسيوس للكنيسة، الاشتباك بين خطوط الفكر المتداخلة في تعاليم أوريجينوس وأريوس: عن الله والمسيح والعالم، وقد أدى ذلك إلى توضيح الفهم المسيحي لله كآب وكخالق في ضوء علاقة الابن المتجسد بالآب.
ولكن حقيقة أنه في يسوع المسيح، الله الخالق ذاته صار واحدًا مع خليقته لكي يفدي العالم، هذه الحقيقة أجبرت اللاهوتيين أن يفحصوا بأكثر عمق في مفهوم الخلق من العدم وفي طبيعة الوجود المخلوق. وكان القديس أثناسيوس هو الذي أدرك أكثر من غيره ماهية القضايا الحقيقية، وكان أول مَن أوضح الطبيعة والحالة الاعتمادية* للواقع المخلوق، وأيضًا نظامه المخلوق المُعطى له من الله.
ولذلك سوف نعتمد على القديس أثناسيوس ومعه بعض لاهوتيّ الكنيسة الأولى، لاستخراج المعاني العميقة لتجسد الكلمة، من أجل الوصول إلى فهم مسيحي لخليقة الله من جهة اعتماديتها وعقلانيتها وحريتها.
[1] خر 11:20؛ تك 1:1؛ مز 6:146، 4:148؛ إش 7:45؛ عا 13:4؛ أم 24:8؛ نح 6:9؛ يون 9:1.
[2] أع 24:4، 15:14؛ رو 17:4؛ رؤ 6:10؛ يو 1:1؛ كو 1:1؛ عب 1:1؛ وكذلك أع 28:17؛ رو 36:11؛ 2كو 6:8؛ أف 5:4؛ عب 10:2.
83 E.g., philo, De spec. leg., 4.187; De op. mundi, 26, 28, and 31; cf. Justin Martyr, Dial., 5.
[4] خر 10:34؛ عد 30:16.
[5] انظر التفريق الواضح بين عمل ’الخلق‘ عند الله و ’صنعه‘ للأشياء:
See Basil, Hex., 1.7, Cf. Athanasius, Con. Ar., 2.21f, 27, 31, 57ff.
[6] مز 9:33؛ مز 91:119؛ جا 36:43؛ حك 24:16.
[7] 2 مك 28:7، وقد اقتبسها أوريجينوس في (De prin., 2.1.5 and In Jn., 1.18). انظر:
Hilary, De Trin., 4.16; cf. Basil, Ep., 6.2. And see also Jubilees 12.4.
88 Hermas, Mand., 1.1. See also Vis., 1.1.6 and 2 Clement, 1.8.
89 Compare Mand., 1.1 with Irenaeus, Adv. haer., 1.15.1 and 4.34.2, vol.1, p.188f and vol. 2, p.213f; Dem., 4-6; Origen, De prin., praef., 3f; 3.3; and Tertullian, De praescr. Haer., 13.
90 Aristotle, De coelo, 1.10, 279f; 3.1, 298; cf. Met., 10.1075b; also Pseudo – Aristotle, cited by A. Ehrhardt, in ‘Creatio ex nihilo’, Studia Theologica, IV, 1950, p. 24.
91 Plutarch, De an. Procr., 5.
92 Diogenes Laertius, Vitae, 9.4.
93 Sextus Empiricus, Adv. Math., 1.53 and 60; cf. 7.66f
94 Cf. the Epistle of Epicurus cited by Diog. Laert., 10.38.
عن فكرة وجود ’البدء المطلق‘ في الفكر اليوناني، انظر:
Ehrhardt, The Beginning. A Study in the Greek Philosophical Concept of Creation from Anaximander to St John, 1968.
95 Theophilus, Ad Aut., 1.4; 1.8; 2.4; 11.4; 11.10; 11.13.
96 Athenagoras, Leg., 4.1f, 7-8.
97 Aristides, Apol., 1.4f, 13.
100 Thus, for example, Origen, De prin., praef., 4; Irenaeus, Adv. haer., 3.4.1, vol.2, p.15f; cf. 3.17.6, p.87; Apost. Const., 5.7; 7.33; 8.12.
* كائنات اعتمادية تعني أنها كائنات عرضية لا توجد بذاتها بل تعتمد في وجودها على غيرها. (المترجم)