اعتمادية الخليقة على الله في الفكر المسيحي
التجسد أظهر حقيقة الطبيعة المخلوقة
كان القديس أثناسيوس في أول عمل له بعنوان “ضد الوثنيين”، قد تعرَّض بالفعل للسؤال الأساسي الذي يثيره التجسد من جهة علاقة كلمة الله المولود الواحد والوحيد الذي هو بلا تغيير وبلا حدود وبلا تركيب في كيانه وطبيعته بالأشياء المخلوقة من العدم والتي تتسم بالتغيير والمحدودية والتركيب في كيانها وطبيعتها.
وقد وجد القديس أثناسيوس الجواب على هذا السؤال في التجسد ذاته، لأن ذلك الاتحاد العجيب بين الكلمة والأشياء المخلوقة (في التجسد) هو الذي أظهر أن طبيعة الأشياء المخلوقة من العدم عند النظر إليها في حد ذاتها ليست فقط ضعيفة وقابلة للموت، ولكنها أيضًا متجهة إلى الزوال، أو في حالة تغير متواصل وعرضة للانحلال والفناء بحسب قوانينها الذاتية.
ومع ذلك، فعندما ننظر إلى الطبيعة المخلوقة من زاوية صلاح الله الكامل ومحبته وحنانه سنجد أن هذه الطبيعة قائمة بواسطة الفعل الخالق والمدبر لكلمة الله، وبالتالي فهي محفوظة بالنعمة الإلهية من الارتداد مرة أخرى إلى العدم. فبالحقيقة كما علَّمنا القديس بولس الرسول أنه في المسيح وبه يقوم الكل ما يرى وما لا يرى[1].
وقد تابع القديس أثناسيوس عرض ومناقشة هذه الأفكار في كتابه “تجسد الكلمة”، حيث أشار بصورة واضحة للآية الأولى من سفر التكوين “في البدء خلق الله السموات والأرض”. وقد أشار أيضًا لتعليم الرسالة إلى العبرانيين (3:11): “بالإيمان نفهم أن العالمين أُتقنت بكلمة الله حتى لم يتكون ما يُرى مما هو ظاهر” والتي فسَّرها القديس أثناسيوس على نفس النحو الذي جاء في النص الذي ذكرناه في كتاب “الراعي” لهرماس[2].
وكان القديس أثناسيوس واضحًا كل الوضوح بخصوص حقيقة أن خلق الكون من العدم لا تعني أن الله خَلَق الكون من “شيء ما” يُسمى “العدم”، وإنما ما خلقه الله لم يخلقه من أي شيء سابق بالمرة. فالخلق من العدم إنما يعني بالأحرى أن الخليقة تعتمد كلية في وجودها على إرادة الله وتفضله، وأنه ليس لها ثبات ولا استقرار على الإطلاق بدون ما يُمنح لها بسخاء بواسطة حضور كلمة الله وفعله المستمر.
وهذا الفكر يتفق تمامًا مع تعليم القديس إيرينيئوس بأن جوهر كل الأشياء المخلوقة ينبغي أن يُنسب إلى قوة الله وإرادته، لأن أساس هذه المخلوقات ليس في ذاتها بل هو قائم في كلمة الله[3].
ومن الواضح أن القديس أثناسيوس قد واجه بعض الصعوبة في إيجاد اللغة المناسبة السليمة لوصف الطبيعة المحيِّرة التي للمخلوقات، لأنه بينما مُنحت هذه المخلوقات حقيقة خاصة بها من الله، إلاّ أن استمرار وجودها ظل كما لو كان معلقًا فوق هاوية العدم، الذي كانت قد أُحضرت منه بواسطة نعمة الله. وقد استخدم القديس أثناسيوس كلمة (εστός)[4] ليعبِّر عن الطبيعة المتجهة للزوال وغير المستقرة داخليًّا، التي للأشياء المخلوقة (γενητά, τυγχάνοντα)، والتي بالرغم من هذا تبقى كمخلوقات حقيقية بواسطة الحضور الإلهي للكلمة[5].
واستعار القديس أثناسيوس من الفكر اليوناني كلمتيّ (συμβεβηκός)[6] و(νδεχόμενος)[7] ليعبِّر عن حقيقة عدم ضرورية الأشياء المخلوقة، ولكنه رفض فكرة أن وجود هذه المخلوقات كان بمحض الصدفة أو أنها أتت عن غير قصد[8]. وهذا المفهوم عن طبيعة المخلوقات يوضح بشكل كبير ما نقصده عندما نصفها “بالاعتمادية”[9]. وفي الحقيقة أن هذا ما كان يعنيه بالتأكيد القديس أثناسيوس، لأنه في ظل تأثير التجسد على الفكر المسيحي تولد مفهوم جديد تمامًا لم يكن من الممكن تفسيره وفقًا لمعطيات أنماط الفكر العلماني التقليدي.
مفهوم الاعتمادية في الفكر اليوناني
في الفلسفة أو العلوم اليونانية، كانت فكرة “الاعتمادية أو العرضيّة” تطابق في المعنى حدوث شيء بالمصادفة المحضة، أي إنه عكس الشيء الضروري أو المنطقي، ولذلك كان يُنظر إلى ذلك الشيء العرضي على أنه يفتقر إلى أي نظام عقلاني (منطقي) ولا يعدو أن يكون أكثر من مظهر مؤقت تنقصه الحقيقة، وبالتالي كان يعتبر أمرًا مستحيلاً وغير واردٍ تمامًا ولم يكن من الممكن إدراجه في أي حديث عقلاني أو تفسير علمي، بل كان في الواقع يعتبر نوعًا من الشر. ومن هنا جاءت المقاومة الشديدة للفكر المسيحي من جهة طبيعة الوجود “الاعتمادية”، نتيجة لما كان سائدًا من نماذج الفكر اليوناني الكلاسيكي[10].
اعتمادية الخليقة في المفهوم المسيحي
من المعترف به أن مفهوم “الاعتمادية” ليس بالمفهوم السهل أبدًا، لأنه كما رأينا فإن خلق الكون من العدم يعني أن الكون قد أُحضر إلى الوجود كشيء متميز تمامًا عن الله ولكن له حقيقة خاصة به وبالتالي له قدر من الاستقلال الحقيقي وهذا ما يتضمَّنه مفهوم “الاعتمادية”. وقد تأصل هذا الاتجاه الفكري وتقوّى بواسطة عقيدة تجسد الله الخالق داخل خليقته. فبينما من ناحية، قامت عقيدة التجسد على تمييز مطلق بين الكائن غير المخلوق والكائن المخلوق، إلاّ أنها من الناحية الأخرى أكدت على الحقيقة الكاملة للوجود المادي وأحداثه حتى بالنسبة لله.
غير أن صعوبة مفهوم “الاعتمادية” تكمن في حقيقة أن الاستقلالية التي أعطاها الله للخليقة هي ذاتها معتمدة على الله؛ إذ أن الله قد صنع الطبيعة بحيث تعمل بقدرٍ من “الحكم الذاتي”: فهي (أي الكائنات الحية) تأتي بنفس نوع ثمرها من ذاتها “تلقائيًّا” كما عبَّر عن ذلك العهد الجديد[11]. وهذا يعني أننا كلما سعَينا لاستكشاف وفهم الطبيعة، فإننا ينبغي أن نفعل ذلك فقط من خلال فحص الطبيعة كما هي فعليًّا في ذاتها، ومن خلال اكتشاف عملياتها وتكوينها وقوانينها الداخلية الخاصة بها.
ورغم ذلك فإن استقلال الطبيعة هذا في صميم حقيقته، هو ذاته اعتماد الطبيعة على الله أو توقفها عليه. وكان هذا التداخل المحيِّر بين الاعتماد والاستقلال هو الذي جعل فكرة “الاعتمادية” عسرة علينا جدًّا في فهمها وفي التعبير عنها. فالكون لا يعول نفسه بنفسه أو يفسِّر نفسه بنفسه كما لو كان له مبدأ داخلي في ذاته، كما أنه أيضًا ليس مجرد مظهر خارجي، لأنه من جهة وجوده فهو يعتمد على الله وليس على ذاته، وقد أعطاه الله واقعًا حقيقيًّا وشرعية خاصة به وهو يدعمها على الدوام بواسطة حضور كلمته الخالق وروحه القدوس.
ولو فُرض أن الله سحب ذلك الحضور من الخليقة، لتلاشت وصارت عدمًا[12]. ولذا ففي نهاية الأمر فإن معنى الكون وحقيقته الجوهرية تكمن فيما وراء حدود هذا الكون، أي في الله الذي يحبه ويحفظه ويطوقه بحقيقته الإلهية الخاصة. إذن فبالمعنى الحقيقي، هذا الكون يمكن أن يُنظر إليه على أنه “في الله”، وأنه محاط بقوة وحضور الكلمة الخالق والروح القدس.
كيف شرح القديس أثناسيوس عقيدة “الخلق من العدم”؟
لقد لعبت عقيدة التجسد دورًا إضافيًّا في عقيدة “الخلق من العدم” عند الآباء؛ إذ كشفت أن العالم كان في وضع غير مستقر وغير ثابت تمامًا، مما استدعى من الله الابن أن يوحده بذاته لكي يحفظه وينقذه.
وكان هذا الأمر من الموضوعات الرئيسية في كتاب القديس أثناسيوس عن “تجسد الكلمة”، حيث ظهر فيه أن موضوع طبيعة البشر “الاعتمادية” كان في ذهنه أثناء كتابته لهذا العمل. فمن جهة، أشار القديس أثناسيوس إلى القصور الطبيعي في الوجود لدى البشر (τ μ εναι ποτέ)، ولكن من الجهة الأخرى أشار إلى دعوتهم إلى الوجود (ες τ εναι) بواسطة “حضور الكلمة ومحبته للبشر” (παρουσία κα φιλανθρωπία).
وبما أن البشر قد أُحضروا إلى الوجود من حالة عدم الوجود بنعمة الله، فإنهم بحسب طبيعتهم يفنون ويعودون إلى حالة عدم الوجود عندما يبتعدون عن الله، ويقعون عندئذ تحت قانون الموت (العودة إلى العدم أو الفساد الطبيعي). كما قد كشف تجسد الكلمة في داخل هذا الوجود العرضي (الاعتمادي) أن المخلوقات البشرية قد أصبحت مُصابة بفسادٍ (φθορά) آخر ضارب في العمق، أكثر من الفساد الطبيعي الناتج عن طبيعتهم العرضية “الاعتمادية”، وهذا الفساد الأعمق يؤدي بهم إلى الفناء التام[13].
ولم يكن هذا الفساد (الإضافي) الذي أصاب البشر هو ذلك الفساد الطبيعي الذي في جميع الكائنات التي لها بداية ونهاية محددة بسبب قابليتها للفناء والموت ولكنه هو فساد الشر والذي كان هناك حكم إلهي ضده، وهذا الفساد لا يمكن التغلب عليه إلاّ من خلال العمل الكفاري والفدائي لله نفسه[14].
وكانت عملية استعادة وتجديد الخليقة هي السبب وراء تجسد كلمة الله وابنه الأزلي، الذي بأخذه طبيعتنا الضعيفة “العرضية الاعتمادية” لنفسه وهو الأصل والمصدر الواحد لكل الكائنات المخلوقة فإنه نقل أصلنا إلى ذاته لكي يحفظ وجودنا من الفناء والعدم (قانون الموت)، وفي نفس الوقت أخذ لنفسه طبيعتنا المنحرفة والفاسدة بما في ذلك لعنة الخطية حتى يفدينا (من حكم الموت) ويجدِّد كياننا في ذاته*.
أي إن الفكر اللاهوتي المسيحي أدرك أن الكيان العرضي (غير الثابت) للخليقة قد فسد نتيجة اتجاه الخليقة نحو تدمير وجودها (بالخطية)، وهو ما كان لا بد من التغلب عليه من أجل إنقاذ الخليقة وتوجيهها ثانية نحو الهدف الذي قد صوَّرها خالقها لأجله. وبنقل وجودنا “الاعتمادي” (العرضي) إلى ذاته وهو الذي اتحد فيه بغير انفصال؛ الإلهي مع البشري، غير المخلوق مع المخلوق فقد حفظ يسوع المسيح الابن المتجسد أصل وجودنا وغاية وجودنا في كيانه الذاتي الأزلي.
وهكذا بالنظر إلى التجسد بهذه الطريقة، فإنه ينبغي أن يُفهم على أنه (أي التجسد) يُكمِّل عمل الخلق ويُتمِّم علاقة الخليقة “الاعتمادية” بالله#. إذن فبصورة ما، يجب اعتبار أن الخليقة من البداية كانت متوقفة على (أو مشروطة ب) التجسد[15].
101 Athanasius, Con. gent., 41- the reference is to Col. 1.15-18.
102 Athanasius, De inc., 3.Cf. De decr., 18.
103 Irenaeus, Adv. haer., 1.15, vol. 1, p. 188f; 2.1; p. 251; 2.10.2, p. 274f; 2.47.2, p. 367f; 3.8.3, vol. 2, p. 29f; Athanasius, Con. Ar., 2.24; 2.31; Ep., 11.4.
104 Athanasius, Con. gent., 41; De decr., 11; Con. Ar., 1.23 and 28. Cf Basil, Con. Eun., 2.23; Gregory Naz., Or., 28.22.
105 Cf. Athanasius, Con. gent., 39 and 41; De decr., 11, etc.
106 Athanasius, De decr., 22; Con. Ar., 1.20; 1.36; 4.2; cf. 3.65. See also Gregory Nyss., Con. Eun., 1.26.
107 Athanasius, Con. Ar., 1.51; 3.62; In Ps., 88.36-37.
108 Athanasius, De inc., 2; cf. De decr., 19; De syn., 35.
[9] في اللغة اليونانية الحديثة، تستخدم الكلمة: (ε̉νδεχόμενος) لتعني ’الإعتمادية‘ أما الكلمة: (ε̉νδέχεται) فهي المقابل اليوناني للكلمة اللاتينية: (contingit).
110 See John Philoponos, De aetern. Mundi con. Proclum, 9.11-13; In physica, apud Simplicius, Comm. in Artist. Gr., vol. 10, p.189.
[11] مر 28:4.
112 Aristides, Ad Aut., 1.7; Basil, Hex., 3.1f; 4.1f; 5.1f; 8.1; De Sp. St., 16.37-38; 19.49.
114 Athanasius, De inc., 3-10.
* أي إن الإنسان بعد السقوط كما يؤكد ق. أثناسيوس كان تحت سلطان الموت بصورة مزدوجة: أولاً، قانون الموت والفساد الذي بسبب الطبيعة العرضية للإنسان، وثانياً، حكم الموت الذي قرره الله بسبب الشر وخطية الإنسان. (المترجم)
# لقد كان التجسد في ذهن الله من قبل إنشاء العالم، وذلك لتكميل الخلق وتحويل أصل الخليقة ’الاعتمادي‘ إليه، لتحقيق هدف خلقة الإنسان وهو التبني لله من خلال اتحادنا بالابن: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لومٍ قدامه في المحبة؛ إذ سبق فعيّننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئته…الذي فيه لنا الفداء بدمه، غفران الخطايا، حسب غنى نعمته” (أف 1: 3-10). (المترجم)
115 See Athanasius, Con. Ar., 2.65-72, 74ff, 77; 3.33, 38; 4.33; cf. Con. gent., 40ff; De inc., 2ff & 44f .