بدعة أريوس عن علاقة الابن بالآب
مفهوم أريوس عن علاقة الابن بالآب
وباستخدامه هذه التعبيرات في صياغة قانون الإيمان، كان مجمع نيقية بلا شك يضع بدعة أريوس و”عدم تقواه” أمام عينيه.[1] فقد علَّم أريوس بأنه بسبب أن طبيعة الله فريدة تمامًا وأزلية وفائقة الإدراك، فإن جوهر الله الواحد لا يمكن معرفته أو تمييزه أو الاتصال معه، وهذا التعليم كان بالضرورة يتضمَّن رفض فكرة أن الابن أو الكلمة هو أقنوم آخر له منذ الأزل نفس طبيعة الله ذاتها، لأن هذا الأمر كان يعني بالنسبة لأريوس أن جوهر الله قابل للتقسيم أو التعددية.[2]
فوجود كيان آخر غير “الآب” المصدر غير المبتدئ لكل حقيقة كان مقبولاً عند أريوس، فقط بشرط أن يكون هذا الكيان قد أُحضر إلى الوجود من العدم. وهكذا علَّم أريوس بأن ابن الله أو كلمة الله ليس (بالطبيعة) من الآب، بل خُلق من العدم بإرادة الله، وبالرغم من تبني الله له كابن، فإنه لا يكون بأي شكل من الأشكال مكافئًا لكيان الله أو مساويًا له أو له ذات جوهر الله الواحد (μοούσιος)، بل على العكس اعتقد أريوس بأن الابن مثله مثل كل الأشياء الأخرى المخلوقة من العدم غريب تمامًا ومختلف عن جوهر الآب[3].
وهذا يعني (بالنسبة لأريوس) أن الآب غير معروف وغير مدرَك تمامًا للابن، وبالتالي فإن الابن لا يستطيع أن تكون له أو أن ينقل معرفة حقيقية أصيلة بالآب، لأنه (أي الابن) يمكن أن يعرف ويفهم فقط “بقدر ما يتناسب مع قدرته” كمخلوق[4]. وفوق ذلك اعتقد أريوس بأن الكلمة “مخلوق ولكن ليس كأحدٍ من المخلوقات، وأنه عمل ولكن ليس كأحد الأعمال، وأنه مولود ولكن ليس كأحد المواليد[5]“.
ومعنى هذا أن الكلمة كان في نظر أريوس مخلوقًا متوسطًا بين الله والإنسان، وقد اعتبر أنه ليس هو إلهًا تمامًا ولا هو مخلوقًا تمامًا[6]. هذا بالإضافة إلى أنه بحسب رأي كل من إبيفانيوس وثيئودوريت، فإن مفهوم أريوس لإنسانية المسيح كان مفهومًا معيبًا، وقد وضح ذلك في اعتقاده بأنه في التجسد اتخذ الكلمة جسدًا مجردًا من النفس الإنسانية العاقلة، وقد حلّ هو نفسه (أي الكلمة) محل النفس الإنسانية[7].
موقف الكنيسة من الفكر الهرطوقي الأريوسي
ولا عجب في أن آباء نيقية اعتبروا أن الأريوسية هي أخطر الهرطقات على الإطلاق، لأنها طعنت في صميم جذور إيمان الكنيسة: بإثارة الشكوك حول حقيقة ألوهية المسيح وعمله الخلاصي، ناهيك عن الأمور المتعلقة بحقيقة إنسانيته. وقد جاء رد فعل الآباء قويًّا وحاسمًا وبتعبيرات وتحديدات لا لبس فيها، مؤكدين إيمانهم في أن الرب يسوع المسيح ابن الله الوحيد هو: مولود من صميم جوهر الله، وهو غير مخلوق، إله حق من إله حق، وأن له ذات الجوهر الواحد مع الآب[8].
وكانت النقطة الحاسمة في مناقشات مجمع نيقية هي كيفية فهم التعبيرات الإنجيلية: “بواسطة الله”، “من عند الله”، “من الله”، التي استخدمت عند الحديث عن الابن المتجسد. هل ينبغي أن تُفهم كما ادعى الأريوسيون على أنها تعني أن الابن المتجسد هو ابن الآب، فقط بعمل إرادته بالنعمة؟ أم نفهمها على أنها تعني أنه ابن الآب، من صميم جوهره (κ τς οσίας)، أي من طبيعته الذاتية كإله؟ لأنه إذا كان الابن فعلاً من صميم جوهر الآب كما علَّم آباء نيقية فإن “كل كيان الآب يكون هو الابن بجملته”، لأن الآب والابن كل منهما خاص (διος) بالآخر.
وعلى هذا الأساس تكون علاقة الآب والابن كائنة في داخل جوهر الله الواحد، حيث إنهما متلازمان ويتواجد كل منهما في الآخر (يحتوي الآخر) بشكل كامل ومطلق منذ الأزل. فالله هو آب لأنه بالتحديد هو منذ الأزل أبو الابن، وبالمثل أيضًا الابن هو إله من إله لأنه بالتحديد هو منذ الأزل ابن الآب. وهناك تبادلية أزلية مطلقة بين الآب والابن دون أي فارق أو فاصل في الوجود أو الزمن أو المعرفة بينهما[9].
وقد عبَّر القديس غريغوريوس النزينزي عن ذلك بقوله: إن ولادة الابن من الآب هي ولادة “غير زمنية”، و”غير سببية”، و”غير مبتدأة” (χρνως, νατως, νρχως)[10]. أما بالنسبة للقديس أثناسيوس وآباء نيقية، فقد كانت ولادة الابن من الآب أمر يتخطى ويفوق إدراك البشر[11].
ولا يجب أن يتصور أحد أنها (أي ولادة الابن) قد حدثت في “لحظة ما” أو بواسطة “فعل إرادة” من قِبَل الله كما تصور ذلك بالفعل كل من أريوس ويوسابيوس[12] بل هي علاقة لا يُنطق بها بين الآب والابن، كائنة منذ الأزل في الله، ولذلك يقول القديس أثناسيوس: “والله فيما هو على الدوام، هو على الدوام آب للابن[13]“.
المنهج الذي اتبعه الآباء للتعبير عن علاقة الابن بالآب
لقد أدرك ق.أثناسيوس وآباء نيقية أنه لا مفر أمامهم من استخدام أمثلة وتشبيهات (صور) من الخليقة، في السعي للتعبير عن فهمهم لعلاقة الابن بالآب، لأن هذا الأسلوب هو الكيفيّة التي تم بها نقل الإعلان الإلهي لنا من خلال لغة البشر. ومع أن هذه الأمثلة والتشبيهات (الصور) في حد ذاتها لا تفي بالغرض حتى إنه لا ينبغي التمادي فيها[14] إلاّ أنها وعلى الرغم من ذلك قد استُخدمت في الإعلان الإلهي بدقة مبهرة، حيث كانت تشير إلى أبعد من محتواها المحدود، إلى ما يكشفه الله عن علاقاته الإلهية الداخلية[15]. وهذا يعني أننا لا بد وأن نفسِّر هذه الأمثلة والتشبيهات وفقًا للمعنى المُعطى لها في الكتب المقدسة، وفي نطاق النظرة الشاملة والإطار العام للرسالة الإنجيلية[16].
وعلى هذا النحو، كما يقول القديس أثناسيوس، استطاع آباء نيقية استخدام المثال الإنجيلي الخاص ب “النور” (φς) و”الشعاع” (παύγασμα) ليساعدهم في شرح علاقة المسيح كابن الله الآب وكلمته[17]، مما أدى إلى تفادي تطبيق المفهوم البشري أو الجسدي لكلمات مثل “أب”، “ابن”، “مولود”، “ولادة”، “كلمة”… وبالإضافة إلى ذلك، أوضح هذا المثال أيضًا أنه كما أن النور لا يكون أبدًا بدون شعاعه فهكذا الآب لا يكون أبدًا بدون ابنه أو كلمته[18].
وبالضبط كما أن النور والشعاع هما واحد وكل منهما غير مختلف أو غريب عن الآخر، فكذلك الآب والابن هما واحد وكل منهما غير مختلف أو غريب عن الآخر بل لهما ذات الجوهر الواحد. وحيث إن الله هو نور أزلي، فكذلك ابن الله بكونه البهاء (الشعاع) الأزلي لله فإنه هو نفسه نور أزلي بلا بداية أو نهاية[19].
ويضيف القديس أثناسيوس أن الآباء استطاعوا (باستخدام هذا المثال) وعلى أساس إنجيلي “أن يتحدثوا بثقة عن المسيح: بكونه ابن الآب الحقيقي والطبيعي، وبكونه خاص بجوهر الآب (διος τς οσίας ατο)، وأنه هو نفسه إله حقيقي وله ذات الجوهر الواحد (μοούσιος) مع الآب الحقيقي، لأنه “هو رسم* أقنوم (πόστασις) الآب”، وهو نور من نور، وهو صورة كيان الآب الحقيقية وقوته[20]“.
ومن هذا المنطلق، أدخل آباء نيقية في قانون الإيمان هذه العبارة على وجه التحديد: “إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق”، وذلك لكي يوضِّحوا ويحددوا طبيعة العلاقة الفريدة التي بين الابن المتجسد والآب[21].
16 Athanasius, Ad episc., 13; De decr., 1f; De syn., 3; Con. Ar., 1.7; Basil, Ep., 52.2, etc.
[2] انظر المقاطع التي ذُكرت من أقوال وخطابات أريوس في كتابات كل من القديس أثناسيوس والقديس إبيفانيوس والبابا ألكسندروس:
See the citations from Arius’ Thalia in Athanasius, De syn., 15-16; Con. Ar., 1.5ff; De decr., 16; Ad episc., 12; Arius’ Letters to Alexander, in Athanasius, De syn., 16, and to Eusebius, in Epiphanius, Haer., 69.6.Cf. also the first Encyclical of Alexander on the Arian heresy, Theodoret, Hist. eccl., 1.3; and Socrates, Hist. eccl., 1.6.
18 Athanasius, Con. Ar., 1.5-6; De syn., 15.
19 Athanasius, ibid., and cf. also Ad episc., 12.
20 See Athanasius, Con. Ar., 2.19, and De syn., 16, for this citation from Arius’ Letter to Alexander.
21 Athanasius, Con. Ar., 2.24-26, 30; De decr., 8, 24.
22 Epiphanius, Anc., 33; Theodoret, Haer., 5.11. Cf. Eustathius, De an. adv. Ar., MPG, 18.689B; Athanasius, Ad Ant., 7; Gregory Naz., Ep., 101, MPG, 37, 134A; Gregory Nyss., Con. Eun., 2.124, Jaeger, II, p.365; Athanasius, Con. Apol., 1.15; 2.3, 17; Theodoret, Ep., 103. See also the evidence adduced by V. Pheidas from the Colluthian schism, Τό Κολλουθιανόν Σχίσμα καί Άρχαί το Άρειανισμο, 1973.
[8] انظر تفسير القديس أثناسيوس لهذه العبارات في:
Athanasius, De decr., 6ff; Con. Ar., 1.9ff; De syn., 41ff.
24 Athanasius, Con. Ar., 1.1-29, 34; 2.22ff, 33; 3.1ff; 65f; 4.1ff; De syn., 41-54; De decr., 24, 27; Basil, Ep., 52.2; Hilary, De syn., 25.
25 Gregory Naz., Or., 30.11&19; cf. 29.3f; 31.14.
[11] يقول القديس باسيليوس: “إن طريقة الولادة الإلهية (للابن)، هي أمر لا ينطق به ويفوق كل تخيلات الفكر البشري” (Ep., 52.3). انظر كذلك:
Basil, Con. Eun., 2.16 & 24; Gregory Naz., Or., 29.8
27 Cf. C. Stead, Divine Substance, 1977, pp. 26 & 229.
28 Athanasius, De decr., 12; cf. 20. Also Ad Episc., 2;
إن هذا الفهم للأبوة والبنوة بكونها علاقات أزلية كائنة في الله، هو ما قد أيده بشده القديس غريغوريوس النزينزي ونفس الوضع ينطبق بالطبع على الروح القدس حيث نراه يشرح ذلك بوضوح في ’عظاته اللاهوتية‘، كما يمكننا أيضاً أن نجد نفس المعنى تقريباً عند بقية الآباء الكبادوك:
Gregory Naz., Or., 29.16 & 20; 31.9. Cf. Basil, (or his brother) Ep., 38.4; and Gregory Nyss., Con. Eun., 1.33; 8.5; 9.2; Or. Cat., 1.
29 Athanasius, In ill. om., 3.
30 Athanasius, In ill. om., 3-5.
ارجع إلى مفهوم القديس أثناسيوس عن الصور الإنجيلية بكونها ’أمثلة‘ (παραδείγματα):
De decr., 12; Con. Ar., 1.20; 2.30; 3.3, 10; De syn., 42; Ad Ser., 1.19f, etc.
[16] ارجع إلى كتاب المؤلف:
(Reality and Evangelical Theology, 1982, pp.100ff)
32 Athanasius, De decr., 21-24.
33 Athanasius, Con. Ar., 1.24; De decr., 27; In sent. Dion., 25.
34 Athanasius, De decr., 24; Con. Ar., 1.13, 25; 2.33; Ad episc. Aeg., 13; Ad Afr., 8.
* أي الصورة الكاملة المطابقة لأقنوم الآب. (المترجم)
35 Athanasius, Con. Ar., 1.9, with reference to Hebrews 1.3.
36 Jaroslav Pelikan, The Light of the World. A Basic Image in Early Christian Thought, 1962, pp.55ff.