هوموأووسيوس – كيف توصل الآباء للصياغة النهائية للفقرات المعبرة عن علاقة الابن بالآب في قانون الإيمان؟
هوموأووسيوس – كيف توصل الآباء للصياغة النهائية للفقرات المعبرة عن علاقة الابن بالآب في قانون الإيمان؟
يخبرنا القديس أثناسوس في العديد من أعماله[1]، أن مجمع نيقية قد جاهد جهادًا عنيفًا من أجل التوصل إلى الصياغة النهائية للفقرات الحاسمة في قانون الإيمان، وقد تم ذلك على مراحل متتالية. ففي أول الأمر، عندما وافق الأريوسيون على صيغة أن الابن هو “من الله” أو “من عند الله” كما جاء في “نور من نور”، أصرَّ آباء نيقية على تعريف “من الله” أو “من عند الله” على أنها تعني “من جوهر الآب” (κ τς οσίας το Πατρός)، وذلك لتوضيح وتحديد العلاقات في داخل الله. وكان هذا يعني أن الابن خاص بصميم جوهر الله، وأنه “من الله” الآب وهو الأمر الذي لا ينطبق على المخلوقات وأنه هو إله من إله.
ولكن عندما تظاهر أتباع أريوس ويوسابيوس وفي موقف مثير للدهشة بالموافقة على عبارة “من جوهر الآب”، أدرك آباء نيقية أن هؤلاء الهراطقة سيفسرون هذه العبارة على نحو يمكن فيه أن تُطبَّق أيضًا على البشر الذين خُلقوا ليس فقط ك “أولاد الله” بل على “صورة الله ومجده”.
ولذلك قرَّر الآباء قطع الشك باليقين وإزالة أية إمكانية لسوء الفهم، فأضافوا التعبير اللاهوتي الحاسم بأن الابن “له ذات الجوهر الواحد” مع الآب (ὁμοούσιος τῶ Πατρί)، والذي يعني أن كلاًّ من الابن والآب هو إله مساوٍ داخل جوهر الله الواحد[2]. وفي نفس الوقت أضاف الآباء ملحقًا لقانون الإيمان يدحض الاعتقاد بأن الابن “من جوهر آخر مختلف (عن الآب)”، وبذلك أعلن المجمع إدانته للهرطقتان السابيلية والأريوسية والتي كانت كل منهما تميل إلى التداخل في الأخرى[3].
وهكذا رفض الآباء أي تعليم يفيد أن الابن هو من جوهر آخر غير الله، أو أنه ابن الله من خلال فقط مشاركته في الله. وأقرَّوا بشكل واضح تمامًا وبدون أي لبس أن الابن من صميم جوهر الله، وأنه هو الله، على نفس النحو الذي به الآب هو الله، لأنه واحد معه بصورة كاملة وفريدة[4]. وهو (أي الابن) وفي اتحاد كامل مع الآب كان منذ الأزل هو الله القائل “أنا هو”[5].
وقد حاول بعض الأشخاص في مجمع نيقية وما بعده الاستعاضة عن مصطلح هوموأووسيوس (ὁμοούσιος) بمصطلح آخر وهو “هومي أووسيوس” (ὁμοιούσιος) والذي يعني أن الابن هو فقط “مشابه في الجوهر” للآب[6].
وفي الواقع، كان القديس أثناسيوس ذاته قد استخدم في بعض الأحيان تعبير أن الابن “يشبه الآب”[7] (وذلك حين كان يتكلَّم عن الابن بكونه صورة الآب ورسمه)، ولكن سرعان ما انصرف القديس أثناسيوس عن هذا المصطلح حتى لو كان يقصد بالمشابهة أن الابن هو الصورة الكيانية المطابقة (للآب)، لأن المشابهة تنطبق على الصفات والعادات وليس على الجوهر، وعلى أية حال فإن التشابه يعني ضمنيًّا أن هناك قدرًا من عدم التشابه*[8].
ومن هنا أصبح واضحًا أمام آباء نيقية أن مصطلح “مشابه للآب” لا يعتبر كافيًا لاهوتيًّا حتى ولو أضيفت إليه كلمة “تمامًا” أو كلمة “جوهريًّا”، لأنه لا يزال عندئذ يعطي مساحة لسوء التفسير. ورغم أن مصطلح “التشابه في الجوهر” (ὁμοιούσιος) يمكن أن يحمل في صورته المطلقة مفهوم “الوحدانية في ذات الجوهر” (ὁμοούσιος)[9]، إلاّ أن المجمع فضَّل استخدام الأخير[10].
فالابن مولود من الآب بالطبيعة (φύσει)، وهو خاص بجوهر الله الآب ومطابق له، وله ذات الطبيعة الواحدة (ὁμοφυής) مع الآب الذي وَلَدَه ذاتيًّا منذ الأزل. وهو (أي الابن) لا يشارك في الآب مجرد مشاركة، بل هو جوهريًّا وكليًّا واحد مع الآب في الجوهر وفي الكينونة[11]. ويقول القديس أثناسيوس: “إن كل ملء لاهوت الآب هو كيان الابن، والابن هو الله بأكمله[12]“.
المعاني المتضمَّنة في مصطلح هوموأووسيوس
وحيث إن مصطلح هوموأووسيوس لم يكن مأخوذًا من الكتاب المقدس، بل كان تعبيرًا جديدًا نسبيًّا، فقد تحتم على آباء نيقية تفسيره بمنتهى العناية والدقة كما قال القديس هيلاري[13]. وهذا هو ما شرع آباء نيقية في عمله بمجرد انتهاء أعمال المجمع[14].
وصار واضحًا تمامًا في الكنيسة، أن مصطلح هوموأووسيوس قد تمّ استخدامه على هذا النحو، كمصطلح لاهوتي “تقني” يحمل معنى “واحد في ذات الجوهر والطبيعة” (مع الآب). ومن هنا فقد تمّ الاعتماد عليه ليكون بمثابة إعلان محدد ودقيق للإيمان المسيحي في مواجهة الهرطقة الأريوسية[15].
وبالطبع كان القديس أثناسيوس في مقدمة مَن أدركوا أن مصطلح هوموأووسيوس، فيما هو يعبِّر عن مساواة الابن الكاملة للآب، فإنه يحمل معنى أن الابن له ذات الجوهر الواحد مع الآب، وأنه واحد معه في الطبيعة “هوموفيس” (μοφυής). إذن فالفهم الدقيق والصحيح للتعبير اللاهوتي النيقي “هوموأووسيوس” مع الآب (μοούσιος τ Πατρί)، إنما يعني: أن (الابن) “له ذات جوهر الآب تمامًا”.
وقد ذكر القديس أثناسيوس أن الله ذاته هو الذي أُعلن لنا كآب وابن وأن الابن المتجسد مثله مثل الله الآب هو نفس الجوهر ذاته.[16] ولم تكن هناك صياغة أقوى من تلك التي عبَّر بها القديس أثناسيوس عن ذلك المعنى حين قال “إن كيان الابن بأكمله هو مكافئ تمامًا لكيان الآب”، وأن “ملء لاهوت الآب هو كيان الابن[17]“. إذن فالابن والآب هما بالضرورة نفس الله الواحد تمامًا، لدرجة كما كان يردد القديس أثناسيوس أن الابن هو كل ما هو الآب ما عدا كونه “آبًا”[18].
وبما أن الأمر كذلك، فإن أي انتقاص للابن يكون بالضرورة هو انتقاص للآب، لأن أي إنكار لطبيعة الابن الإلهية يكون إنكارًا لكون الله “آب” منذ الأزل. ومن هذا المنطلق أيضًا، فإن أي إنكار لحقيقة “الكلمة” الإلهي يكون بمثابة القول بأن الله في داخله هو بدون كلمة (λογος)، أو بدون حكمة (σοφος)[19]. وكما علَّم الرب يسوع المسيح نفسه في الإنجيل، فإن مَن يكرم الابن يكرم الآب ومَن لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله. حيث إن الابن المتجسد له كل ما لله الآب ما عدا “الأبوة”[20].
وعلاوة على ذلك فإن مصطلح هوموأووسيوس ὁμοούσιος ينطوي على معنى آخر هام. لأنه إذا كان الابن مولودًا من الآب أزليًّا داخل جوهر اللاهوت، إذن فإن مصطلح هوموأووسيوس بالإضافة إلى كونه يعبِّر عن الوحدانية بين الآب والابن، فإنه يعبِّر أيضًا عن التمايز الذي بينهما داخل هذه الوحدانية. وكما يقول القديس باسيليوس: “لأنه لا يمكن لأي أحد أن يكون له ذات الجوهر الواحد “هوموأووسيوس” مع نفسه، بل يكون له ذات الجوهر الواحد “هوموأووسيوس” مع آخر[21]“.
وهكذا فقد كان هذا المصطلح هوموأووسيوس يحمل معنى أنه في حين أن الآب والابن هما واحد في ذات الجوهر، إلاّ أنهما أيضًا متمايزان أزليًّا، لأن الآب بغير تغيير هو الآب وليس الابن، وكذلك الابن بغير تغيير هو الابن وليس الآب. لذلك صار مصطلح هوموأووسيوس حصنًا منيعًا ضد كل من السابيلية والأريوسية على حَدٍّ سواء أي ضد مذهب التوحيد الذي ينكر الثالوث وضد مذهب “تعدد الآلهة”[22].
وهذه الإشارة إلى التمايز الأزلي داخل جوهر اللاهوت الواحد، والتي يتضمَّنها مصطلح هوموأووسيوس، سوف نقابلها ثانية عندما نأتي إلى تطبيق القديس أثناسيوس لنفس المصطلح مع الروح القدس، وهو ما مكَّنه ومعه الآباء الآخرون الذين دافعوا عن عقيدة الروح القدس من توضيح فهم الكنيسة للثالوث القدوس في القرن الرابع[23].
وقبل انعقاد مجمع القسطنطينية بسنتين، وصف القديس إبيفانيوس الوحدانية في ذات الجوهر بين الابن المتجسد والآب والتي تعتبر لب قانون الإيمان النيقي على أنها “رباط الإيمان” (σύνδεσμος τς πίστεως)[24]. وهذا بالحقيقة ما قد ثبت صحته في الكنيسة: حيث كان لهذا المفهوم (أي الوحدانية في ذات الجوهر) الدور الرئيسي في إرشاد المؤمنين في تفسيرهم للكتب المقدسة، وفي توضيح وتأمين فهمهم “للحق” الإنجيلي، وكذلك في تمكينهم من إدراك التركيب الداخلي المترابط للإيمان المسيحي.
وإذا نظرنا إلى مفهوم “الوحدانية في ذات الجوهر” في نطاق تلك الأهمية، سوف نستطيع أن ندرك بعمق أكثر مركزية المسيح (Christocentricity) في قانون الإيمان النيقي القسطنطيني.
37 Athanasius, De syn., 33ff, 46; De decr., 19ff; Ad Afr., 5f.
39 See Basil, Ep., 125.1; Ep., 214. See also Ep., 236.6; Gregory/Basil, Ep., 38.1ff, etc. Cf. Athanasius, Con. Ar., 3.65; 4.33; Ad Afr., 4ff & 8.
40 Athanasius, De syn., 48-54; Ad Afr., 8-9.
41 Athanasius, , Con. Ar., 1.11ff, 34, 46ff, 60; 2.12, 14, 18, 20, 53f, 56, 59, 61, 82; 3.1f, 5f, 9, 19, 22, 24f, 27, 33; 4.4; De decr., 22, 30; De syn., 34, 48f; Ad Afr., 4; Ad Ser., 1.28; 2.2; In ill. om., 4. See also Gregory Naz., Or., 30.18.
42 Athanasius, De decr., 20; De syn., 8, 26, 29 (the Arian creed); 37f, 41, 46, 50, 52f. Cf. Theodoret, Hist. eccl., 1.3.
43 Athanasius, Con. Ar., 1.20f, 26, 40; 2.17f, 22, 34; 3.11, 20, 26, 67; Ad episc., 17; Ad Afr., 7; cf. Exp. Fidei, 1.
* إن لفظة ’مشابه‘ تعني أنه ليس هو تمامًا، ولكن يشبهه في بعض الأمور وبالتالي فإنه لا يشبهه في أمور أخرى. ونلاحظ أن الفرق بين المصطلحين اليونانيين هو حرف واحد (ι). (المترجم)
44 Athanasius, De syn., 41 & 53; De decr., 20; cf. Evagrius/Basil, Ep., 8.3.
45 Athanasius, Con. Ar., 1.21, 26, 40; 2.17f, 22, 33; 3.10f, 14, 26, 67; De syn., 26, 38, 41. 47-54; De decr., 20, 23; Ad episc., 17; Hilary, De syn., 89; Evagrius/Basil, Ep., 8.3; 9.3. Cf. Epiphanius, Haer., 73.22; and Cyril of Jerusalem, Cat., 4.7; 11.4, 18.
46 Athanasius, Cf. the stance taken by Basil of Ancyra, Athanasius, De syn., 41; Epiphanius, Haer., 73.22.
[11] كان القديس أثناسيوس يرى أن علاقة ’الكلية‘ التي بين الابن والآب متضمَّنة في تشبيه النور والشعاع. (Con. Ar., 2.33, 35; cf. De inc., 17; Con Ar., 3.6.)
وكان يرى أن هذا التشبيه يتضمَّن أيضاً علاقة التواجد المتبادل بينهما.(De decr., 25.)
48 Athanasius, Con. Ar., 3.3 Cf. Ad. Ser., 1.16 and Exp. Fidei, 1.
حيث قيل عن الابن أنه ’كلي من كل‘ (wholly from the whole).
50 Hilary, De Trin., 4.4-7; De syn., 84.
51 Cf. Archbishop Methodios, ‘The Homoousion’, op. cit., pp. 1-15.
52 Athanasius, De syn., 49-54; Ad Afr., 8.
53 Athanasius, Con. Ar., 3.3, 6; 4.1ff.
54 See Athanasius, Con. Ar., 3.4; De syn., 49; Ad Afr., 8, etc. Gregory Naz., Or., 30.11.
55 Athanasius, Con. Ar., 1.8, 14ff, 18ff, 24f; 2.2, 32f; 3.42, 61ff; 4.2f, 14; De decr., 15, 26; De sent. Dion., 16, 23; Ad Ser., 2.2.
56 Athanasius, Con. Ar., 1.8, 15ff, 33; 2.24f, 32; 3.4ff, 35f, 44; Ad episc., 17; Ad Afr., 8; Ad Ser., 1.30; 3.2; 4.6.
58 Athanasius, De decr., 23; Con. Ar., 3.4; 4.2; De syn., 34, 45; Basil, Ep., 52. 1ff; Epiphanius, Anc., 6.4; Haer., 65.8; 69.72; 76.7.
59 Cf. Athanasius, Ad Ser., 1.27; 3.2; and Ad Jov., 4; Ad Ant., 6; Con. Apol., 1.9.
60 Epiphanius, Anc., 6.4; cf. Haer., 69, 70; Ambrose, De fide, 3.15.
مدرسة الاسكندرية اللاهوتية – د. ميشيل بديع عبد الملك (1)
القديسة مريم العذراء – دراسة في الكتاب المقدس
انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان